الفصل الأول

مفهوم السعادة

قليلة هي التجارب التي يقدِّرها الناس ويسعَون إليها اليوم سَعْيهم إلى السعادة. في الواقع، طالما كانت تلك الحالة المحمودة بشتَّى أشكالها ونظائرها شاغلًا رئيسيًّا للبشر على مدار التاريخ المُدوَّن. لكن قليلة هي الظواهر التي تماثلها في استعصائها على الفهم أو إبهامها. وإننا نرى الاحتفاء بوعد السعادة ودراستها في شتَّى مجالات السعي البشري، من الدراسات الأكاديمية للدعاية. ولكنها ما زالت مفهومًا مستغلقًا مختلفًا عليه، لا يوجد إجماع كبير حول ماهيَّتها أو السبيل للعثور عليها. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن تصوُّرها دائمًا ما يكون من خلال مفاهيمَ تُعادلها في الغموض والخلاف، مثل الرفاه. من ثَم فإنني لا أستطيع أن أكون بالِغ الدقة في تعريف السعادة هنا في البداية، بما أن الكتاب بأكمله مُكرَّس لاستكشاف ظلالها المختلفة.

بَيْد أنه لا بد من الْتِماس مدخل نبتدئ منه النقاش من الأساس. لذلك، فإن هذه المقدمة الوجيزة تقدِّم بعض التعريفات التوجيهية الأساسية التي سيتناولها الكتاب فيما بعدُ بتفاصيل أعقَد. والبيان الآتي ليس بأيِّ شكل من الأشكال الطريقةَ الوحيدة للتمهيد، وهو متأثِّر حتمًا بخلفيتي بصفتي عالِم نفس متخصِّصًا في مجال علم النفس الإيجابي. ولكنه متفق مع أغلب الأدبيات المَعنيَّة التي لديَّ دراية بها.

قليلة هي التجارب التي يقدِّرها الناس ويسعَون إليها اليوم سَعْيهم إلى السعادة، لكن قليلة كذلك التجارب التي تماثلها في استعصائها على الفهم وإبهامها. ويلخِّص هذا الكتاب آخِر الأبحاث عن السعادة، مُقدِّمًا تحليلًا متعدِّد التخصصات لهذه التجارب الأعز لدى البشر.

سنبدأ باستعراض الرفاه، الذي يعُدُّه أغلب الدارسين مفهومًا جامعًا يشمل بداخله السعادة.1 بوجه عام، يمكن تعريف الرفاه بأنه يشمل كلَّ الطرق المتعدِّدة التي يمكن للبشر بها أن يكونوا على ما يُرام فيما يفعلونه وفي حياتهم (وإن كنتُ سأقدِّم تعريفًا أوسَع وأكثر تخصُّصًا في موضع لاحق من الفصل). ثَمَّة طُرق متعدِّدة لتصوُّر هذا القطاع الواسع، لكن إحدى الطرق الفعَّالة هي تمييز أربعة أبعاد «أنطولوجية» له (الأنطولوجيا أو علم الوجود هو المبحث الفلسفي الذي يدرس طبيعة الوجود): الجسدي والذهني والاجتماعي والروحي.

إذَن، يمكننا أولًا التمييز بين الرفاه الجسدي والذهني، إشارةً إلى حالة الجسم والذهن على التوالي. لكن لا بد أن أذكر أن هذا التمييز لا يوازي مثنوية «الموضوعي» مقابل «الذاتي» الأنطولوجية. تلك المثنوية هي طريقة مختلفة اختلافًا دقيقًا لتقسيم الوجود؛ إذ تميِّز بين الظواهر القائمة موضوعيًّا (أي باعتبارها كِيانات مادية ملموسة) وتلك الموجودة ذاتيًّا (أي باعتبارها كواليا (كيفيات محسوسة)، وهو مصطلح جامع لكل التجارب الواعية). من هذه الناحية، لكلٍّ من الرفاه الجسدي والذهني جوانب فسيولوجية موضوعية (كيفية عمل الجسم والعقل) وجوانب ظاهراتية ذاتية (كيف يشعر الشخص بالجسد والذهن).

بالإضافة إلى هذا، يشدِّد العديد من الباحثين النظريين على أهمية الرفاه الاجتماعي، الذي يشير بالأساس إلى جودة علاقات الفرد بباقي الأفراد والمجتمعات. وتنعكس أهميته في تعريف منظمة الصحة العالَمية للصحة — الذي لم يتغير منذ ١٩٤٨ — بأنها «حالة من اكتمال السلامة بدنيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا، لا مجرَّد انعدام المرض أو العجز.» وعلاوةً على ذلك، يرى بعض العلماء أنه لا بد من الاعتراف بالرفاه الروحاني، ليعكس مستوى علاقة الفرد مع الظواهر التي يعُدُّها مُقدَّسة (لتكُن إلهًا مثلًا).2 من المُعترَف به أن ليس كل الناس يُعطون اعتبارًا لتلك الممكِنات أو حتى يؤمنون بوجودها؛ من ثَم قد يكون هذا البُعد أكثر خضوعًا للتخمين وأقل عمومية من الأبعاد الأخرى (التي تنطبق قطعًا على الكل وتعنيهم). بَيْد أنه جدير بالاهتمام رغم ذلك.
في الواقع، يُحتمل ألَّا تكون هذه وحدها الأبعاد المهمة. فقد شهدَت السنوات الأخيرة جدالًا مُذهِلًا عن الطبيعة الأنطولوجية للعالَم الافتراضي أو الرقمي أو الشبكي، على سبيل المثال، من حيث وجود البشر ونشاطهم في هذه المساحات (تفاعلهم في هيئة صور رمزية مثلًا)، والظواهر الموجودة هناك (النقود والأدوات الافتراضية مثلًا).3 ربما يحتاج هذا التصنيف المبدئي إلى إعادة النظر لاحقًا بحيث يضم الرفاه الافتراضي، لا سيَّما مع تزايد الوقت الذي يقضيه الناس على الإنترنت، ومع الوصول لفَهمٍ أفضل لحالة هذه العوالم الرقمية — التي تُسمَّى حاليًّا أحيانًا «ميتافيرس» — وتأثيرها. أو لنتأمل البيئة الطبيعية: فالبشر لا يتأثرون بالطبيعة فحسب، إنما هم أيضًا «جزء» منها. من ثَم فإنه من الممكن أن نَسُوق حُجة قوية لإفراد بُعد بيئي لوجودنا؛ ومن ثَم إقرار أهمية الرفاه البيئي. وقد تنشأ الحاجةُ يومًا ما إلى إضافته هو الآخَر لهذا لإطار.

لكن في الوقت الراهن قد يكون الأسلَم أن نحصر تركيزنا في الأبعاد الأربعة الرئيسية التي عرضناها آنفًا: الجسدي والذهني والاجتماعي والروحاني. ويمكننا إذَن أن ننظر إلى كلٍّ من الأربعة باعتباره يقع على مقياس أو مدرَّج له قطبان؛ سالب وموجب، وينتصفه صفرٌ محايد اعتباري. سأضيف إلى هذا التشبيه تعديلًا بسيطًا في موضع لاحق؛ إذ إن تصوُّر أن كلًّا من هذه الجوانب مقياس متصل «منفرد»، ومن ثَم «مستقل»، هو تصوُّر مُضلِّل بعض الشيء؛ لكنني رغم ذلك سأستخدمه مبدئيًّا الآن بشكل مؤقَّت.

والآن لنُدخِل إلى النِّقاش مفهومَين إضافيَّين: الاعتلال والصحة. يمكننا أن نسمِّي الحيِّز السالب من كلِّ مقياسٍ الاعتلال، والحيِّز الموجب الصحة. بذلك يمكننا الإشارة إلى الاعتلال والصحة البدنية والذهنية، بل وحتى الاعتلال والصحة الاجتماعية والروحانية (وإن كان الاستخدامان الأخيران أقل شيوعًا). دعونا أيضًا نستخدم كلمة معاناة للدلالة على الحيِّز السلبي لمقاييس تلك الأبعاد إجمالًا، والنمو والازدهار للحيِّز الإيجابي، لا سيَّما الأجزاء المتطرِّفة (أي إنه كلما اقتربنا من طرف ذلك الحيِّز في أيٍّ من هذه المقاييس، كنا أكثر نموًّا وازدهارًا).

وإذا ما وسَّعنا النِّطاق أكثر، فسيمكن استخدام الازدهار كذلك لوصف السياق الشامل الذي تقع ضمنه هذه الأبعاد. فأنا أميل إلى استخدام الرفاه، والمصطلحات المتفرِّعة عنها مثل الصحة والسعادة، مع الكائنات الحية المتفردة (أي التي تقع الإحساسية والفاعلية منها موقعًا محوريًّا). لكن من الممكن أيضًا توسيع نطاق الازدهار ليشمل الأنظمة التي يستقر فيها البشر وتصوغ رفاههم؛ أنظمة حية (مثل مجتمعهم) وغير حية (مثل الاقتصاد). هذا المشهد الديناميكي برُمَّته — كل أبعاد الرفاه، والأنظمة والعوامل التي تؤثر عليها — يمثل الازدهار.

أبعاد الرفاه الأربعة تغطي مساحات شاسعة. ولما كانت كذلك، فقد ظهرت مجالات منفصلة لمعالجة مناطقها المتنوعة. وكان التركيز أقوى على حيِّزها السلبي، على علاج الاعتلال أو التخفيف منه على الأقل. هذه هي اختصاصات مجالات مثل الطب والعلاج الطبيعي بالنسبة للاعتلال الجسدي، والطب النفسي والعلاج النفسي بالنسبة للاعتلال الذهني، والعمل الاجتماعي بالنسبة للاعتلال الاجتماعي، والدين والفلسفة بالنسبة للاعتلال الروحاني. من الممكن أن نعُد هذه المجالات عامةً مُنصبَّة، على التوالي، على الألم والكرب والنزاع واللامعيارية، وإن كانت لا تقتصر عليها (فالطب يختص حتى بالحالات التي لا يختبر الناس فيها الألم المباشر).

قد تدفع هذه المجالات الناس إلى الحيِّز الإيجابي في الوضع الأمثل، لكن أولويَّتها هي مساعدتهم على الوصول إلى الحياد النسبي عند الصفر (غياب الاعتلال). ينعكس هذا الهدف في ملاحظة سيجموند فرويد التي تقول بأن الهدف من العلاج النفسي يقتصر في الأساس على تحويل «البؤس الهستيري إلى حزن عادي».4 الهروب من الحيِّز السلبي مهم قطعًا. لكن هل ينبغي أن نتوقف هناك، أم إن بإمكاننا أن نسعى إلى التقدم أكثر؟ في الأساس، لا يستلزم غياب الاعتلال بالضرورة توفُّر الصحة. فقد يكون الشخص سليمًا نسبيًّا من المعاناة، لكنه ليس في حالة ازدهار. فمن الممكن أن يكون بدلًا من ذلك قابعًا عند الصفر، لا هو يعاني اعتلالًا فعليًّا، ولا هو في أوج الصحة الجسدية أو الذهنية أو الاجتماعية أو الروحانية.

من ثَم يوجد اهتمام متزايد بهذا الحيِّز الإيجابي المفيد. الرفاه الجسدي هو اختصاص مجالات مثل علوم الرياضة، التي تبحث الحدود القصوى لأداء البشر والقدرة السلوكية. والرفاه الاجتماعي هو محور اهتمام بعض جوانب مجالات على مثل السياسة العامة والتعليم وتنظيم المجتمعات، التي تشتمل على جهود لتحسين المجتمع. والرفاه الروحاني هو مرةً أخرى اختصاص الديانات والفلسفة، التي تساعد الناس على تنمية علاقاتها مع المقدسات. يجوز عامةً أن نعُد هذه المجالات مهتمة على التوالي بتعزيز الحيوية والتآلف الاجتماعي والتسامي؛ وإن كانت هي الأخرى مثل المجالات السالفة الذِّكر، ليست مُنصبَّة على هذه النتائج وحدها.

أكثر ما يعنينا هنا هو أن الرفاه الذهني بحثَته مجالاتٌ مثل علم النفس الإنساني والإيجابي. والآن صار بإمكاننا إعادة السعادة إلى نقاشنا. أقترح من الأساس أن ننظر إلى أغلب ذلك الحيِّز الذهني الإيجابي برُمَّته باعتباره عالم السعادة — مع استثناءات مُعيَّنة، كما سأوضِّح بعد قليل — الذي يمكننا أن نمنحه تعريفًا بسيطًا وإن كان شاملًا، وهو أنه تجربة ذهنية حسنة مستحبة.

وهذا تعريف سوف أخوض أكثر في شرح معناه على مدار الكتاب، لكن قد تفيدنا بعض الملحوظات التفسيرية الآن. المقصود بكَوْنها «مُستحَبة» أن هذه الحالة في العموم مرغوبة، ويسعى الناس لبلوغها، ويثمِّنونها ويقدِّرونها (وإن كانت بعض أشكال السعادة قد لا تستوفي كل هذه المعايير لدى كل الناس). أما كلمة «ذهنية» فهي مستخدَمة بمعناها الشامل لكل التجارب والعمليات النفسية، بما فيها المشاعر على سبيل المثال لا الحصر. وتشير كلمة «تجربة» لحالة من الوجود لها مكوِّن ذاتي (أي كيفيات محسوسة)، ومن الممكن أن تتنوَّع تنوُّعًا عريضًا في مدة دوامها، بدءًا من كونها شعورًا عابرًا يستمر ثوانيَ، وانتهاءً بكونها أسلوبَ حياة دائمًا، من الممكن أن يستمر لسنوات. وأخيرًا، تشير كلمة «حسنة» لمسألة جودة الحياة، وهو مفهوم شائع يُستخدم في الدراسات التي تُعنى بالرفاه. علاوةً على ذلك، مبدأ الجودة نفسه كانت لدراسة الفيلسوف روبرت بيرسيج له أهمية وتأثير بالغان؛ إذ عدَّه معنًى أساسيًّا وغير قابل للاختزال لكَوْن ظاهرة ما جيدة أو قيِّمة بطريقة ما.5

لا بد أن أذكر أن السعادة قد لا تشمل كل جوانب الرفاه الذهني — ومن هنا جاءت كلمة «أغلب» في الفقرة قبل السابقة — بما أن هذا الحيِّز سيشمل «كفاءة عمل» الذهن في العموم أيضًا. وفقًا لاستعارة المقاييس، نستطيع أن نرى كيف بإمكان ملكاته المتنوِّعة — الانتباه، والإدراك، والذاكرة، وغيرها — أن تكون خالية نسبيًّا من المشكلات (عند درجة صفر على المقياس)، بل تنمو بدرجات مختلفة. بَيْد أنه فيما يخص «تجربة» الرفاه الذهني، يمكن القول بأن السعادة تشمل أغلب الحيِّز.

علاوةً على ذلك، بإمكاننا استغلال هذا التعريف لوضع مفاهيم للأبعاد الأخرى للرفاه أيضًا. أولًا: بناءً على النِّقاش السابق، يمكن أن نعرِّف الرفاه من الناحية الإجرائية الفنية بأنه ظاهرة متعدِّدة الأبعاد، تمتد بين الاعتلال والصحة، وتشمل الأبعاد الجسدية والذهنية والاجتماعية والروحانية للوجود. من ثَم يمكن تعريف الصحة — التي يمكن وصفها كذلك بأنها بلوغ الرفاه — بأنها حالة حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بكل أبعاد الوجود في أحسن الأحوال وكل بُعد منها (حيث تشمل «الحالة» «التجربة» وإن كانت لا تقتصر عليها). في المقابل، يمكن تعريف «الاعتلال» — أي انعدام الرفاه — بأنه حالة رديئة غير مُستحَبة فيما يتعلق بأيٍّ من أبعاد الوجود وربما كلها في أسوأ الأحوال. ثم يمكن تعديل هذين التعريفَين ليتلاءما مع أيٍّ من أبعاد الرفاه المذكورة تحديدًا. فالصحة الروحانية، على سبيل المثال — أو بلوغ الرفاه الروحاني، الذي يُشار إليه أيضًا بلفظ التسامي — هي حالة حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بالوجود الروحاني للمرء. وعلى النقيض، الاعتلال الروحاني — أو انعدام الرفاه الروحاني، الذي يُشار إليه أيضًا بمصطلح اللامعيارية أو الأنوميا — هو حالة رديئة غير مُستحَبة فيما يتصل بالوجود الروحاني للمرء. وهكذا دوالَيك.

fig1
شكل ١-١: أبعاد الرفاه والتخصصات المَعنيَّة به.
يوضِّح الشكل ١-١ الظواهر والتخصصات المتصلة بالرفاه. لا بد أن أؤكد أن المسمَّيات المُستخدَمة إنما هي للتوضيح لا الحصر. فالعوالم المَعنيَّة لا تغطِّيها المجالات المُدرَجة وحدها، ولا المجالات مُقتصِرة بالضرورة على هذه العوالم؛ فالاعتلال الذهني، على سبيل المثال، لا يُعنى به الطب النفسي والعلاج النفسي فقط، ولا هما مختصان بالاعتلال الذهني فقط. بالمثل، كما ذُكر آنفًا فيما يتصل بالسعادة، لا تعبر التسميات الوصفية عن العوالم تعبيرًا كاملًا، ولا تقتصر هذه التسميات الوصفية على هذه العوالم؛ فعلى سبيل المثال، لا يقتصر المرض الذهني على الكرب وحده، ولا الكرب محصور في العالم الذهني. بَيْد أن هذا الشكل، من حيث هو دليل تقريبي، يشير إشارةً عامة إلى الدوائر المَعنيَّة.
لكن لا بد من ذكر أن استعارة المقاييس منقوصة. إذ إنه مبدئيًّا، كما سبقت الإشارة، قد يكون من المضلِّل أن نعُد كلَّ مقياس منها خطًّا أو مدًى متصلًا طرفاه الاعتلال والصحة، فكأن التقدم «يمينًا» على امتداد المقياس يعني أن الاعتلال سيتضاءل حتى يصل إلى نقطة ينتقل باجتيازها إلى حيِّز الصحة. في الواقع، يفضِّل بعض العلماء اعتبار حيِّزَي الاعتلال والصحة مقياسَين مُنفصِلَين. في حالة الرفاه الذهني، يشير النموذج الثنائي المقياس إلى أن الاعتلال والصحة الذهنيين قد يكونان مُنفصِلَين نسبيًّا — فسيولوجيًّا ووظيفيًّا وتجريبيًّا — وأن الناس من الممكن أن تختبر جوانب من الاعتلال والصحة في آنٍ واحد.6 يمكن تمثيل ذلك المنظور بيانيًّا بخطَّين مُتصلَين يتعامدان مُكوِّنَين فضاءً ثنائيَّ الأبعاد، حيث يمكن وَضْع الناس في أماكن مختلفة، كما يظهر في الشكل ١-٢.7

من منظور النموذج الثنائي المقياس، لا يُعَد الاعتلال والصحة الذهنيان حدثَين متنافيَين. بعبارة أخرى، لا تتعارض السعادة مع المعاناة. وهذا قول مناسب، بالنظر إلى أن العديد من المفكِّرين والتقاليد التراثية ترى المعاناة أصيلة في الحالة الإنسانية. أما تعامُد المقياسَين أو الخطَّين المُتصِلَين فيعني أنه من الممكن لشخصٍ أن يعاني في بعض الجوانب، ويشعر أيضًا بشيء من السعادة رغم ذلك.

fig2
شكل ١-٢: النموذج الثنائي المقياس للاعتلال والصحة الذهنيَّين.
هذا والصورة أكثر وأشد تعقيدًا من ذلك. فقد لا يكون الاعتلال والمرض متعامدَين فحسب؛ الأهم أنهما ليسا فرديَّين كذلك. بل بالأحرى يتكوَّن كلٌّ منهما من خطوط متصلة مُتعدِّدة — أشكال مختلفة من الاعتلال أو الصحة الذهنيين، على سبيل المثال — حيث يكون الفرد متدهورًا في بعضها وأفضل حالًا في أخرى في آنٍ واحد. هذه الديناميات مُوضَّحة في الشكل ١-٣، الذي يُصوِّر طبيعة الرفاه الذهني المُتعدِّدة الوجوه. هنا عُدت إلى الشكل الأصلي ذي البُعد الوحيد — بدلًا من الفضاء الثنائي الأبعاد في الشكل ١-٢ — وإلا كانت الصورة ستبدو بالِغة الازدحام. غير أنه من الأفضل أن تضع في حسبانك النموذج الثنائي المقياس، وتنظر إلى الاعتلال والصحة بوصفهما مقياسَين مستقِلَّين.

فيما يتعلق بجانب الاعتلال الذهني، يضمُّ الشكل اثنتَين من المشكلات الأكثر شيوعًا (القلق والاكتئاب)، وبه كذلك دائرتا «إلخ»؛ للدلالة على المشكلات الذهنية الأخرى العديدة التي من الممكن أن تصيب الناس. وبالمثل، فيما يتعلق بجانب الصحة الذهنية، يحتوي على اثنين من الأشكال الرئيسية للسعادة (المتعة واليودايمونيا)، وبه كذلك دائرتا «إلخ»؛ للإشارة إلى الأشكال الأخرى المحتملة (التي سنستكشفها في الفصل الثالث). وتوحي النقاط السوداء بأن الشخص قد يكون واقعًا في نقاط مُعيَّنة على امتداد هذه المحاور المختلفة كلها في وقتٍ ما، شاعرًا بأشكال متنوِّعة من الكرب والسعادة بدرجات مختلفة خلال فترة مُعيَّنة.

fig3
شكل ١-٣: المحاور المختلفة لمقياس الرفاه الذهني.
ثَمَّة تعديل بسيط نُضيفه لاستعارة المقياس، وهو أننا لا بد ألا ننهج التبسيط المُفرِط فنربط بين الاعتلال والصحة من جهة والكيفيات المحسوسة السلبية والإيجابية من جهة أخرى على التوالي. من الممكن تقييم الكيفيات المحسوسة باعتبارها سلبية وإيجابية بعدة طُرق، منها التكافؤ (غير المُستحَب مقابل المُستحَب)، والمرغوبية (غير المرغوب مقابل المرغوب)، والمستوى الأخلاقي (الخبيث مقابل الطيِّب)، والمنفعة (محقِّق للرفاه مقابل غير محقِّق له).8 يجوز القول: إنه لكي نعُد تجربةً ما منسوبة إلى المعاناة، فلا بد أن يتحقَّق فيها جانبان سلبيان على الأقل، وربما أكثر. رغم ذلك، فإن التجربة قد تكون ذات قيمة سلبية وجدانيًّا، لكنها إيجابية بطُرق أخرى؛ ومن ثَم تُعَد شكلًا من أشكال الرفاه. فمن الجائز لرياضيٍّ محترف، على سبيل المثال، أن يختبر كيفيات محسوسة ذات تكافؤ سلبي فيما يتعلق بشغفه لرياضة ما — جسدية (على غرار آلام العضلات)، وذهنية (مثل القلق المرتبط بالأداء)، واجتماعية (شعور بالوحدة مثلًا)، وحتى روحانية (شكوك دينية) — لكنه يظلُّ يستمد أشكالًا مُعيَّنة من السعادة منها. بل قد تنطوي بعض أشكال تلك السعادة على الكيفيات المحسوسة السلبية (بترجمة الألم الجسدي والإرهاق إيجابيًّا على أنها مصادر للمغزى والإنجاز). سنحتفظ بهذه الفروق الدقيقة في أذهاننا على مدار الكتاب.
آخِر السلبيات التي سأذكرها بخصوص استعارة المقياس هي أنها توحي خطأً بأن أبعاد الرفاه الأربعة منفصلة ويسهل التفرقة بينها. لكنها في الواقع متداخلة ومتشابكة، لدرجة أن حدودها المفاهيمية ضبابية واعتباطية إلى حدٍّ ما. فمن الجائز القول بأن التفرقة بين الرفاه الذهني والجسدي، مثلًا، هي نتاج ثنائية «العقل والجسد» التي سادت في الغرب منذ زمن رينيه ديكارت.9 على النقيض، كانت الفروق التي وضعَتها ثقافاتٌ أخرى بين هذه العوالم أقل صرامةً؛ في واقع الأمر، لقد ازداد الاعتراف بالتفاعل الوثيق بينها في الغرب أيضًا، كما ينعكس ذلك في تحديد ظواهر تُعَد نفسية جسمية. من هذا المنطلَق، يحاول هذا الكتاب إلقاء الضوء على هذه التشابكات بين الأبعاد، مستعرِضًا كيف أن السعادة متداخلة تمامًا مع العناصر الجسدية والاجتماعية والروحانية في حياة الناس. لكن بغضِّ النظر عن الفروق الدقيقة، فإن استعارة المقياس وسيلة إرشادية مفيدة.

سيكون تركيزنا إذَن على الحيِّز الإيجابي من مقياس البُعد الذهني، الذي أفردته عمومًا للسعادة. وإنني بذلك أؤيِّد صراحةً رؤية واسعة لِما تعنيه السعادة، تشمل حيِّزًا كبيرًا من دائرة الخبرات. شأن العديد من المفاهيم، السعادة مفهوم مُختلَف عليه، يستخدمه الأشخاص المختلفون (بل الشخص نفسه في أوقات مختلفة) استخدامات مختلفة. يستعمله بعض الناس استعمالًا محدودًا؛ فربما يرونه مرادفًا للذة فحسب. وعلى النقيض، يعُدُّه آخَرون — وأنا منهم، ومن هنا جاء هذا الكتاب — مفهومًا أوسَع، يضمُّ مساحات رحيبة من الحالات النفسية المتصلة بالرفاه. من ثَم فالسعادة ليست فقط ظاهرة «وجدانية»، وإنما تضمُّ أيضًا جوانب أخرى من الحياة الذهنية، مثل الشخصية والانتباه والإدراك والمعرفة. من المؤكَّد أن العديد من الحالات والعمليات الذهنية متعدِّدة الأبعاد؛ إذ تتضمَّن بعض الجوانب الوجدانية على الأقل. لكنَّ بعضًا من أشكال السعادة التي سننظرها هنا (طالع الفصل الثالث) ليست وجدانية ﺑ «شكل أساسي»، بل قد يخلو القليل منها من أي جانب وجداني.

لعلَّ أفضل طريقة لفهم السعادة بمنظورها الواسع هي باستخدام استعارة الخرائط. فمن وظائف اللغة أن ترسم خريطة لعالَم خبراتنا.10 بعض الكلمات تحتل مساحات أكبر من غيرها، بل قد تشمل بداخلها مفاهيم أدق. «الحب» مثلًا هو «إمبراطورية تضم أنواعًا مختلفة من الأحاسيس والسلوكيات والمواقف التي لا يكاد يكون بينها أي عوامل مشتركة.»11 وبداخل تلك الإمبراطورية، تحتل كلمات أدَق مناطق مُعيَّنة، تتراوح من «الشغف» إلى «الاهتمام».

وأنا أرى أن ذلك شأن السعادة أيضًا. فإنني أستخدمها هنا بمعناها الواسع الذي يشمل الجزء الأكبر من الحيِّز الإيجابي للرفاه الذهني (مُقرًّا بأنها قد لا تغطِّيه كله، وبأن هذا الحيِّز يشمل أيضًا أن يكون الذهن «على ما يُرام»). ذلك الحيِّز يشمل تشكيلة متنوِّعة من الخبرات الذهنية الإيجابية — كما هو موضَّح في الفصل الثالث — تتراوح من عواطف مُبهِجة مثل السرور والنعيم إلى حالات باعثة على النشاط مثل الشعور بالمغزى والهدف. علاوةً على ذلك، فإن نطاقها يمتد من أبسط التغيرات في هذا العالَم الإيجابي (مثل أخف لحظات اللذة وأقصرها وأقلها أهمية) لأبعد امتداداتها الممكنة (مثل أقوى التجارب وأطولها وأهمها وأمتعها على الإطلاق).

إنني أتبنَّى هذا المنظور خصوصًا لأنني أشعر أنه منسجم مع الاستخدام الشائع للسعادة في اللغة السائدة. فعلى سبيل المثال، حين يقول أحد أبوَين: «إنما أريد أن يكون ولدي سعيدًا»، فهو عادةً لا يشير فقط إلى السعادة بالمعنى المحدود للمتعة. أعتقد أنه بالأحرى يرجو عمومًا أن يعيش الطفل حياته على «أفضل» نحو، حياة يشملها التواصل والحب، والابتكار، والغاية، والإشباع، والازدهار، وما إلى ذلك. إنه يريده أن يكون سعيدًا بأعمق وأرفع وأشمل معنًى ممكن للكلمة. لهذا سيشمل نطاق حديثنا كل ذلك.

إنني أدعو إلى رؤية واسعة لما تعنيه السعادة، واصفًا إيَّاها وصفًا عامًّا بأنها تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة، تشمل مساحات شاسعة من الحالات النفسية المرتبطة بالرفاه.

يتعمَّق هذا الكتاب في هذه المنطقة على مَدار خمسة فصول رئيسية، مستعينًا بمجالات دراسية متعدِّدة، ومقدِّمًا تحليلًا من جانب عِدة تخصُّصات للموضوع. والحق أن فيه ميلًا قويًّا لا محالة تجاه منظورات علم النفس، لما كان هذا مجالي الأكاديمي. ولكنني تناولتُ دراسات من تخصُّصات شتَّى، تمتد من الفلسفة وعلم الاجتماع إلى الاقتصاد وعلم الإنسان. لن تسَع طبيعة الكتاب المُوجَزة لأنْ أغطِّي كل الأدبيات ذات الصلة تغطيةً شاملة. ولكنَّ النص يسلِّط الضوء على النطاق والمجال الواسعَين للأعمال المَعنيَّة.

يقدِّم الفصل الثاني منظورًا تاريخيًّا عامًّا، متتبِّعًا كيف كان فَهْم السعادة (وما اتصل بها من مفاهيم) على مدار القرون في أرجاء العالَم، وكيف شكَّلَت هذه الموروثات تفكيرنا الحالي. ثم نتجه إلى المنظورات الأكاديمية المعاصرة؛ إذ يركِّز الفصل الثالث على مفهوم السعادة متمعِّنًا في أشكالها الطائلة. ويستكشف الفصل الرابع آليات السعادة، العمليات المتشعِّبة التي تشكِّل تكوينه، من ناحية علم وظائف الأعضاء، وعلم النفس، وعلم الظواهر، والثقافة، والمجتمع. ويبحث الفصل الخامس كيف تتشكَّل السعادة بعوامل مؤثِّرة مُتعدِّدة، من الاقتصاد إلى السياسة. وأخيرًا، يتناول الفصل السادس الجهود المبذولة للنهوض بالسعادة. ثم يلخِّص فصلٌ ختاميٌّ الكتابَ، ويتقدَّم باقتراحات لاتجاهات مستقبلية في أبحاث السعادة وممارستها. متذكِّرين كلَّ ذلك، هيا بنا نبدأ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤