الفصل الرابع

بنية السعادة

بعد استعراضنا لأشكال السعادة المختلفة، سنتجه للسؤال الشائق عن الطرق التي تتأتَّى بها تلك الحالات وتُختبَر. فهي تشمل عمليات فسيولوجية ونفسية وظاهراتية واجتماعية ثقافية، تشكل سويًّا «بنية» السعادة. فهذا الفصل في الأساس يبحث «قوام» السعادة. وهو مختلف اختلافًا دقيقًا عن الفصل التالي، الذي يبحث العوامل المؤثِّرة عليها. فالعوامل الاقتصادية تؤثر على درجة سعادة الناس، على سبيل المثال، لكن المال في حدِّ ذاته ليس من قوام السعادة. مسألة «قوام» السعادة — أو بعبارة أخرى، ما الذي يصنعها ويستحضرها ويخلقها — هي محور اهتمامنا هنا.

نقطة البداية هي الإقرار بأن هذه الآليات متعدِّدة الأبعاد. لذلك سأوجز في تقديم إطار ليساعدنا على تناول الموضوع بوضع ذلك في الاعتبار. أولًا: يمكن فهمُ فكرة الأبعاد من منظور أنطولوجي، كما رأينا في المقدمة، حيث ناقشت أربعة أبعاد رئيسية للرفاه (جسدي وذهني واجتماعي وروحاني). إلا أنني أودُّ تقديم مخطط أنطولوجي مختلف هنا: النموذج المتكامل الذي وضعه الفيلسوف كين ويلبر. والذي حدَّد له أيضًا أربعة أبعاد رئيسية، لكن أبعاده هي الذهن والجسم والثقافة والمجتمع.1 وهي وقد وضعها عن طريق المقارنة بين ثنائيتين شائعتين: ثنائية العقل والجسد، وثنائية الفرد والجماعة.

تشكل الديناميات الفسيولوجية العصبية «المادة الخام» للسعادة، التي تمرُّ بعد ذلك من خلال عمليات نفسية — شكَّلتها مؤثرات اجتماعية ثقافية — لخلق تجربة السعادة الذاتية.

قبل الغوص في التفاصيل، لا بد أن أذكر أن ذلك الاختلاف بين الإطارين هو اختلاف مقبول — إذ يوجد أكثر من طريقة لتقسيم الوجود — بل قد يكون مفيدًا. فإنه بالجمع بين الإطارات المختلفة، واستكشاف أوجُه التطابق والاختلاف بينها، نستطيع تفكيك التعقيدات الدقيقة للحياة وصياغتها في صورة مفاهيم بشكل أفضل. ومن هذه الناحية، من شأن مخطط ويلبر أن يساعدنا على فهم ديناميات الأبعاد الأربعة الرئيسية للرفاه على نحو أفضل.

أول ثنائية في إطار ويلبر هي ثنائية العقل والجسد. وقد ظل الفلاسفة يتداولونها طيلة قرون، ويقبلها معظم المفكرين بشكل ما (ما عدا المتشددين من أتباع مذهب الفلسفة المادية أو مذهب الواحدية المثالية). في سياق نموذج ويلبر، يشير «الذهن» عمومًا إلى التجربة الذاتية (عالمنا الداخلي الخاص الظاهراتي من الكيفيات المحسوسة)، في حين يشير «الجسد» لوجودنا الموضوعي (باعتبارنا كائنات مادية ملموسة).

يختلف هذا التمايز عن نظيره بين البعدين الذهني والجسدي للرفاه، وبالطبع يُستخدم مصطلحا الذهن والجسد بطريقة مختلفة اختلافًا دقيقًا. إذ وُصف الرفاه الذهني والجسدي في المقدمة بأنهما يعكسان حالة الذهن والجسد على التوالي. كما أنني زعمت أن لكلٍّ من الذهن والجسد جوانب ذاتية (أي كيفيات محسوسة) وموضوعية (أي عمليات فسيولوجية). بالمقارنة، في إطار ويلبر يشير الذهن والجسد إلى ثنائية الذاتي والموضوعي نفسها. وتدل هذه الفروق الدلالية الدقيقة على أنه من الممكن لكلمات مثل الذهن والجسد أن يكون لها معانٍ متعدِّدة، يتداخل بعضها أو حتى يتعارض. وسوف أعمد في النص إلى توضيح أي المعاني أستحضر عند استخدام هذه الكلمات.

العلاقة بين الذهن والجسد — بالمعنيين المثارين للكلمتين — علاقة معقَّدة وموضع خلاف. بالنسبة للتفرقة بين الذهن والجسد كما هي مستخدَمة في إطار ويبلر، فالمنهج العلمي السائد حاليًّا هو نموذج الارتباطات العصبية للوعي، الذي يرصد أنساق الارتباط بين الذهن (الحالات الذاتية) والجسد (الحالات الفسيولوجية).2 إلا أن العلاقة بينهما لا تزال غير مفهومة جيدًا، ولا تزال مُبهَمة تمامًا بصفة أساسية. فهذا النموذج على سبيل المثال لا يثبت السببية، أو لم يستطِع إثباتها بعدُ. فحالات الدماغ ليست بالضرورة هي المتسببة في التجربة الذاتية في حدِّ ذاتها. والكيفيات المحسوسة قد تعتمد في وجودها على — أو تتبع بالاصطلاح الفلسفي — الحالات الدماغية. إلا أنه من الأفضل اعتبار الدماغ البنية أو الآلية الفسيولوجية التي يتمثل بها الذهن، لا المسبب له.

فعلى سبيل المثال، وُجد ارتباط بين الحالة المزاجية المتفائلة والنواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين. إلا أنَّ سببها المباشر قد يكون عناقًا من شخص نُحبه، فتكون الاستجابة له فسيولوجيًّا في الدماغ بنشاط النواقل العصبية وظواهريًّا في الذهن بشعور سار. بذلك المعنى، يجوز أن يكون الذهن والجسد — الوجود الذاتي والموضوعي — وجهين لعملة واحدة: فالذهن هو تجربة الجسد أو الدماغ «الداخلية»، والجسد أو الدماغ هو الذهن عند ملاحظته «خارجيًّا».

الثنائية الثانية هي المفارقة بين الفردية والجماعية. وهي تعتمد على فكرة — قدَّمناها في الفصل السابق — تفيد بأن للبشر أسلوبين أساسيين للوجود: الفاعلية (باعتبار البشر كيانات مستقلة) والمشاركة (باعتبارهم جزءًا من شبكة). كانت رؤية ويلبر هي وضع هذه الثنائية جنبًا إلى جنب مع مفارقة الذهن والجسد، صانعًا جدولًا من صفَّين وعمودين، يتقابل الذهن والجسد في عمودَيه، والفردية والجماعية في صفَّيه، كما هو موضَّح في الشكل ٤-١.

يغطي الصف العلوي ثنائية الذهن والجسد بمفهومها التقليدي — أي كما تنطبق على الفرد — كما سبق أن وضحت. أما الصف السفلي فيُعد الجانب المبتكر من النموذج؛ إذ يفيد بأن الذهن الذاتي والجسد الموضوعي يمكن اعتبارهما موجودين كذلك على المستوى الجمعي. فالذهن على المستوى الجمعي هو ظاهرة بين ذاتية، أسماها ويلبر الثقافة. وحين يكوِّن الناس جماعات (بأي حجم)، يدخلون في أفق من التجارب المشتركة، يشمل الأفكار والقيم والتقاليد وحتى المشاعر المشتركة (وفقًا لسعادة العلاقات). بالمثل، الجسد على المستوى الجمعي هو الواقع المادي بين الموضوعي الذي يُسمَّى بالمجتمع، ويضم أي شيء قابل للملاحظة أو القياس ماديًّا. فعلى مستوى الأمة مثلًا، يمتد هذا من خصائصها الديموغرافية واقتصادها إلى مناخها وطبيعتها الجغرافية.

fig5
شكل ٤-١: الإطار التكاملي.

يمكننا هنا أن نلحظ مرةً أخرى التداخلات المهمة بين نموذج ويلبر وأبعاد الرفاه الأربعة المذكورة في المقدمة. فكما رأينا سابقًا يتعامد الرفاه الذهني والجسدي على ثنائية الذهن والجسد، من حيث إن كلا شكلَي الرفاه لهما جوانب ذاتية وموضوعية. بالمثل، يمكن رؤية الرفاه الاجتماعي بل وربما الروحاني باعتبار أن لهما جوانب بين ذاتية وبين موضوعية.

بوضع إطار ويلبر في الاعتبار، ينظر هذا الفصل في بعض العمليات الرئيسية التي تتولد بها السعادة. إذ يركز كثير من محتواه على البُعد العلوي الأيمن في الجدول، وهو بعد الجسد أو الدماغ، الذي ينصبُّ عليه أغلب البحث العلمي، في نماذج يُشار إليها باسم علم الأعصاب الوجداني أو منهج الارتباطات العصبية للرفاه.3 لكن المهم أنه لن يقتصر على ذلك. فمن المهم أن يتناول أيضًا الأدوار التي تلعبها الديناميات الذاتية وبين الذاتية وبين الموضوعية، خاصةً أنها كثيرًا ما تُغفل.
وكما هو الحال مع كل الفصول، لا يمكن للعرض أن يكون شاملًا؛ فالأدبيات بالغة الضخامة والتعقيد. لكنه على الأقل يوضح الأجزاء الرئيسية المكونة للصورة الكاملة. إحدى الطرق لتصور العلاقة بينها أن الديناميات الفسيولوجية العصبية تشكِّل «المادة الخام» للسعادة. وعادةً ما تمرُّ هذه المادة من خلال عمليات نفسية، تشكَّلَت بدورها بواسطة تأثيرات اجتماعية ثقافية، لخلق خبرات السعادة، كما هو موضَّح في الشكل ٤-٢.

ثَمة نقطتان أخيرتان وجب ذكرهما. أولهما: أن أغلب الأدبيات المعنية تدور حول سعادة المتعة أو السعادة التقديرية، مثل أبحاث السعادة في العموم (كما ذكرت سابقًا). ثَمة استثناءات قيِّمة، لكن ما لم يذكر خلاف ذلك، فإن السعادة قيد النظر تتعلق بهذين الشكلين الرئيسيين. إلا أنني سأزعم أن الديناميات الموضَّحة في الشكل أدناه تنطبق على كل أشكال السعادة.

fig6
شكل ٤-٢: بنية السعادة.

ثانيًا: أحيانًا يكون الحد الفاصل مُبهَمًا بين اعتبار شيء ما مُولِّدًا للسعادة (موضوع هذا الفصل) أو عاملًا مؤثِّرًا عليها (موضوع الفصل التالي)، وأحيانًا ما يكون التمييز بينهما صعبًا. فليس من الواضح مثلًا ما إذا كانت الطِّباع تشكِّل جزءًا من بنية السعادة نفسها، أو كونها مجرد عامل مؤثر عليها. إلا أنه توجد حالات أخرى يكون الفرق فيها بينهما بيِّنًا وواضحًا. وعلى كل حال، وبعيدًا عن الدلالات الدقيقة، يقدم الفصلان التاليان عرضًا وافيًا للعمليات المتعددة التي تبعث على السعادة وتشكلها، انطلاقًا هنا من مساحة الجسم أو الدماغ.

الوراثة

لنبدأ بالسمات البيولوجية التي يولد الناس بها. كما هو الحال مع أغلَب السمات البشرية، جعل الباحثون يتحرَّون ما إذا كان للسعادة عامل وراثي. ومما يحثُّ على هذا البحث ملحوظة ذات شقَّين تفيد بأنه يبدو أن للناس خطوطَ أساس أو «نقاط ضبط» مستقرة نسبيًّا فيما يتعلق بسعادة الطبع، والأدل والأهم أنها تختلف من شخص لآخَر. من ثَم فإننا نتساءل ما إذا كانت تلك الأنساق، كما هو حال الأنماط الظاهرية مثل الشخصية، قد تتأثر بالميول الموروثة. كلتا الملحوظتين معقَّدتان ومختلَف عليهما، لكنهما في العموم مدعومتان إلى حدٍّ ما.

فيما يتعلق بخطوط الأساس، نشأ كمٌّ هائل من الأدبيات عن فكرة «طاحونة المتعة». وقد بعث عليها بحث مميز بدا أنه أثبت أن التغيرات الحادة في الحظ — للأفضل (مثل الفوز باليانصيب) أو الأسوأ (مثل الإصابة بإعاقة في حادث) — لا يبدو أن لها أثرًا دائمًا على السعادة.4 كان ثَمَّة تغيرات قصيرة الأجل، كما هو متوقَّع، لكن أفاد البحث بأن الناس تكيَّفوا مع ظروفهم بسرعة مدهشة (بعد بضعة شهور مثلًا)، عادوا بعدها لمستواهم المعتاد من السعادة على ما يبدو. إلا أن الدراسة لم تقِس فعليًّا السعادة قبل التغير وبعده، وإنما اعتمدت على تقييمات الناس الاسترجاعية والاستباقية، وقد أضافت أبحاث لاحقةٌ المزيد من الاختلافات الدقيقة إلى استنتاجاتها. من ناحية الإيجابيات، يبدو ممكنًا أن يرفع المرء خط أساسه من خلال أنشطة مثل التأمُّل (كما سنستكشف في أقسام لاحقة، وسنتعمَّق أكثر في الفصل السادس)؛ لكن في المقابل، قد تكون بعض التجارب مُفجِعة للغاية إلى حد أنها تخفض خطوط الأساس انخفاضًا مستديمًا.5 لكن في العموم، يبدو أن سعادة الناس ثابتة نسبيًّا.
وعلى أي حال، لا يهدم أي تغيير يحدث داخل الشخص من نقطتنا المحورية بشأن وجود أساس وراثي للسعادة: فربما يحسِّن حدثٌ ما من خطوط أساس السعادة إجمالًا، إلا أن الاختلافات الفردية المتأثرة بالوراثة قد تظل مستقرة نسبيًّا. وهو ما يأتي بنا للنقطة الثانية. إن الناس يبدون متفاوتين تفاوتًا هائلًا في خط أساسهم. ربما تساهم عوامل عديدة في هذا التفاوت، منها التنشئة الاجتماعية.6 لكن يبدو أن جزءًا على الأقل من تلك الأحجية وراثيًّا.

توصَّل الباحثون لهذا الاستنتاج من خلال وسائل متعددة، أبرزها دراسات قائمة على «تصميم التوءم الكلاسيكي». تعتمد تلك الأبحاث على واقع أن التوءمَين أحاديَّي المشيمة يتشاركان في نحو مائة في المائة من جيناتهم المنفصلة، بينما يتشارك التوءمان ثنائيَّا المشيمة في ٥٠ في المائة من جيناتهما فقط في المتوسط. لكن المهم أن التوءمَين إذا نشآ في الأسرة نفسها، فسيتقاسمان بيئة أسرية مشتركة. من ثَم، فإن الاختلافات بين التوءمَين أحاديَّي المشيمة تُعزى لتجارب بيئية خاصة، أما الاختلافات بين التوءمَين ثنائيَّي المشيمة فمن الممكن أن تكون نتيجة لتلك التجارب إضافةً إلى عوامل وراثية فريدة. بالمقارنة بين تشابه النمط الظاهري لدى التوءمَين أحاديَّي المشيمة مقابل التوءمَين ثنائيَّي المشيمة، يستطيع الباحثون حينئذٍ وَضْع نموذج للدرجة التي يمكن بها أن تُنسب الاختلافات الفردية المتعلقة بنمط ظاهري ما — مثل السعادة — بدرجات متفاوتة لتباينات وراثية مضيفة، وتباينات وراثية سائدة، وتباينات بيئية مشتركة، وتباينات بيئية خاصة.

وفي الإجمال، تفيد التحليلات التجميعية لتلك الأبحاث بقابلية وراثة السعادة بنسبة تتراوح من ٤٠ إلى ٥٠ في المائة تقريبًا؛ أي إن نحو ٤٠ إلى ٥٠ في المائة من الاختلافات الفردية ترجع إلى عوامل وراثية، و٥٠ إلى ٦٠ في المائة منها ترجع إلى تأثيرات بيئية.7 إلا أنها صورة معقَّدة، ولا يمكن اختزالها في جدلية «الطبيعة مقابل التنشئة». فالعوامل الوراثية والبيئية ليست مستقلة بعضها عن الآخَر، وإنما بينها تفاعلات معقَّدة من خلال تفاعل متبادل بين الوراثة والبيئة، يشمل الارتباط بين الوراثة والبيئة والتفاعل بين الوراثة والبيئة.
فيما يتعلق بالارتباط بين الوراثة والبيئة، فمن الوارد أن يزيد الميل الوراثي إلى السعادة من احتمالات أن يختبر المرء أحداثًا وبيئات باعثة على السعادة؛ فعلى سبيل المثال، الشخص ذو الطبع الاجتماعي أو الوَدود أرجح أن يحظى بتفاعلات اجتماعية إيجابية؛ ممَّا يدعم رفاهه أكثر.8 أما من ناحية التفاعل بين الوراثة والبيئة، فمن الممكن أن تحدِّد العوامل الوراثية درجة تأثير الظروف البيئية على الرفاه، وفقًا لنموذج الحساسية للمؤثرات الإيجابية.9 فعلى سبيل المثال وُجدت علاقة محتملة بين جين ناقل السيروتونين (5-HTTLPR) والمرض العقلي؛ إذ ترتبط أليلاته القصيرة (في مقابل الطويلة) بنتائج مثل الاكتئاب (وإن كانت تلك الاكتشافات والتفسيرات محل خلاف).10 وعلاوةً على ذلك، يزعم قدر هائل من الأبحاث الناشئة أن الأشخاص الذين لديهم أليلاته القصيرة ليسوا فقط أكثر عُرضة للتوتر («منظور الاستعداد للكرب»)، لكنهم أيضًا حسَّاسون تجاه تأثيرات البيئة في حد ذاتها — حسنة أو رديئة — من ثَم يُرجَّح أن يحققوا منافع من ناحية الرفاه حين يجدون أنفسهم في سياقات إيجابية.11
رغم أن الأبحاث كانت تهدف في البداية إلى التركيز على جينات بعينها مثل 5-HTTLPR، فالاتجاه حاليًّا نحو دراسات الارتباط على مستوى الجينوم. وتشير هذه الأبحاث إلى أن أكثر الأنماط الظاهرية العاطفية والسلوكية البشرية انتشارًا غالبًا لا تتأثر بجينات قليلة بتبعات كبيرة، وإنما بمئات أو آلاف العلامات الجينية — المعروفة باسم تعدد أشكال النيوكليوتيد المفرد — ذات الآثار الضعيفة. وفيما يخص السعادة، حددت أشمل دراسات الارتباط على مستوى الجينوم حتى الآن ١٤٨ شكلًا متباينًا لنيوكليوتيد واحد مرتبطًا بالرضا عن الحياة و١٩١ مرتبطًا بالوجدان الإيجابي.12 لكن لا حاجة لقول إن هذا الموضوع بالِغ التعقيد، وإننا بالكاد لامسناه. وتنطبق اعتبارات مشابهة على العامل التالي.

الكيمياء العصبية

العمليات الفسيولوجية الأكثر تدخلًا بشكل مباشر في خلق مشاعر السعادة تنطوي على مواد كيميائية عصبية (جزيئات عضوية أو ببتيدات ينتجها الجهاز العصبي وتنظِّمه). يتأثر النشاط الكيميائي العصبي بالوراثة، لكنه يتأثر كذلك بالبيئة وبسلوك الناس. من الأمثلة الكلاسيكية على الأخير الطريقة التي يمكن بها لممارسة الرياضة أن تولد الحالة التي تُسمَّى «نشوة العدائين» التي تؤدِّي إليها المركبات المشار إليها فيما يلي. فيما يتعلق بالسعادة، غالبًا ما يركز العلماء على السيروتونين والدوبامين والأوكسيتوسين والإندورفينات بوجه خاص، بينما يركزون بدرجة أقل على الإندوكانابينويدات وحمض الجاما أمينوبوتيريك والإبينفرين (الأدرينالين). وسيتناول هذا الجزء كلًّا منها بإيجاز.

غير أنه لا بد أن أذكر أولًا أن أحد الاستعراضات الشاملة كشف أن الدليل على تأثير تلك المُركَّبات على السعادة على وجه الخصوص غير مؤكَّد أو غير حاسم؛ فأغلب الدراسات قد أعطت نتائج غير متسقة أو ضعيفة، علاوةً على ضعف تصميم التجارب فيها.13 وبوجه عام، فإن الفهم الأكاديمي في هذا المجال لم يسترشد بتلك الدراسات (أي التي تركز على السعادة نفسها)، وإنما بأبحاث على نتائج مثل الاكتئاب، طُبِّقت استنتاجاتها على أشكال أكثر إيجابية من الرفاه. ومع أنه يجوز وضع الاكتئاب والسعادة على طرفَي مقياس الرفاه الذهني المجازي، فإنه ليس من الضروري أن يكونا قائمين على نفس الآليات الفسيولوجية، كما يؤكد ذلك النموذج الثنائي المقياس المذكور في المقدمة. من ثَم فإن المعلومات الحالية عن الأسس الكيميائية العصبية للسعادة في حد ذاتها غير مؤكدة وغير حاسمة على أفضل تقدير. ورغم ذلك، فثَمة مسوِّغ للاعتقاد بأن المواد الكيميائية العصبية التالية قد يكون لها ولو دور ما في السعادة، بل قد يكون ثَمَّة مجال للربط بين هذه المواد الكيميائية العصبية وأشكال معيَّنة منها.
قد يكون أشهر المواد الكيميائية العصبية المتداول مناقشتها فيما يتعلق بالسعادة هو السيروتونين (٥-هيدروكسي التريبتامين). وهو ناقل عصبي أحادي الأمين (أي يتدخل في نقل الإشارات بين الخلايا العصبية) وهرمون مشارك في عمليات متعددة، بدايةً من النوم ووصولًا إلى الغثيان. أكثر ما يعنينا هنا أنه يتدخل في الحالة المزاجية؛ فانخفاض مستوياته مرتبط بالاكتئاب والقلق؛ إذ ظلت مُعزِّزات السيروتونين (مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية) لعقود الفئة الأبرز من أدوية الاكتئاب وغيره من الحالات.14 كما أنه من الممكن رفع مستوياته طبيعيًّا بأنشطة مثل التمارين الرياضية وعوامل بيئية مثل الضوء الطبيعي. لذلك فإنه بقَدْر ما قد يعدل السيروتونين من الحالة المزاجية — ربما بخفض الوجدان السلبي أو رفع الوجدان الإيجابي — يجوز لنا ربطه بالسعادة، لا سيَّما أشكالها «الشعورية» مثل سعادة المتعة وسعادة الرضا.
كذلك انصبَّ اهتمام كبير على الدوبامين (٣٫٤-ثنائي الهيدروكسي الفينيثيلامين)، وهو مُوصِّل عصبي وهرمون مُشارِك في ظواهر متنوعة، منها الذاكرة والانتباه وحركات الجسم. لكن يبدو أنه مرتبط في المقام الأول باللذة، وحالات متصلة بها مثل الدافعية والحماسة، قائم بدور مسار للمكافأة؛ إذ يُفرز في سبيل المضي نحو الأهداف.15 تؤثِّر العديد من العقاقير الإدمانية، مثل الكوكايين، على نظام الدوبامين، لكن من الممكن تنشيطه بطُرق أسلم صحيًّا أيضًا، مثل السعي إلى تحقيق أي نتيجة مرغوبة. وهو بناءً على ذلك لا يتعلق بسعادة المتعة فقط، وإنما قد يشارك في أشكال من السعادة على غرار اليودايمونيا وسعادة المغزى وسعادة الإنجاز كذلك (وهي تضم النمو الذاتي والإنجاز المرتبطين بتحقيق الأهداف).
وانتقالًا إلى منطقة سعادة العلاقات، الأوكسيتوسين هو ببتيد عصبي (جزيئات شبيهة بالبروتين تشارك في الاتصال العصبي) وهرمون ببتيدي سُمِّي «هرمون الحب» أو «جزيء الألفة» في الثقافة الشعبية. فإنه أساسي في تحقيق الألفة والثقة والترابط؛ إذ يلعب دورًا رئيسيًّا في تجارب مثل الارتباط العاطفي والجنس وولادة الأطفال ورعايتهم.16 وهو من ناحية أعم يساهم في رفع الوجدان الإيجابي وتنشيط الجهاز العصبي الباراسمبثاوي (المرتبط بالاسترخاء والتعافي)، ويساهم في المقابل في خفض الوجدان السلبي والتوتر، وخفض نشاط الجهاز العصبي السمبثاوي (المسئول عن استجابة المواجهة أو الفرار)، وكذلك مرتبط بأشكال من السعادة مثل سعادة الرضا.17
وتشكل الإندورفينات (ببتيدات عصبية وهرمونات ببتيدية أفيونية ذاتية) الفئة الرابعة الرئيسية التي تناولتها الدراسات. وينمُّ اشتقاقها اللغوي عن وظيفتها: endogenous (وتعني ذاتي المنشأ؛ أي من إنتاج الجسم) وmorphine (وتعني المورفين وهو مسكن أفيوني). من ثَم فهي أشباه أفيونيات — مواد قوية تخفِّف الألم وتعدل المزاج، تشمل كذلك عقاقير قانونية (مثل الفينتانيل) وغير قانونية (مثل الهيروين) — ينتجها الدماغ طبيعيًّا. من بين جميع السلوكيات التي تحفز إفراز الإندورفين، تعد ممارسة التمارين الرياضية هي الأمثل، لكن تتنوع السلوكيات الأخرى التي تحفز إفرازه من التعبير عن الغضب إلى الغناء. تلك السلوكيات لا تخفف الألم فحسب، وإنما قد تولد أشكالًا من السعادة كذلك، لا سيما أنواعها الأكثر نشاطًا أو انتشاءً، التي تصل بنا لآفاق عُليا من المتعة، بل ربما تبلغ بنا منطقة السكينة.18
علاوةً على هذه المواد الأربعة، توجد مواد كيميائية عصبية أخرى لقيت دراسة وفهمًا أقل، لكنها على ذلك ربما تلعب دورًا في السعادة. ومنها الإندوكانابينويدات: وهي موصلات عصبية ذاتية المنشأ تتصل بمستقبلات الكانابينويدات. وهي تساهم في حالة الاستتباب أو التوازن داخل الجسم — من الشهية والأيض إلى الجهازين القلبي والتناسلي — وهو ما قد يضعها في دائرة سعادة الانسجام. كما أنها تتدخل في تحسين الحالة المزاجية، المتعلقة مرةً أخرى بسعادة المتعة وربما سعادة السكينة. وأشهرها هو الأناندامايد — مشتق من الكلمة السنسكريتية أناندا، والتي تُترجَم إلى نعيم، وقد تناولناها في الفصل الثاني — وهي مادة شبيهة بالماريجوانا، تبعث مشاعر شديدة الإيجابية.19 وترتبط الإندوكانابينويدات هي الأخرى بممارسة التمارين الرياضية، وتوجد مزاعم بأنها قد تكون هي المسئولة الكبرى، وليس الإندورفينات، عن حالة نشوة العدائين.20
وتقترن فورة عاطفية من نوع مختلف بالإبينفرين (الأدرينالين)، الهرمون الذي يلعب دورًا رئيسًا في استجابة المواجهة أو الفرار للجهاز العصبي السمبثاوي. في بعض الأحيان لا ينطوي تنشيطه على أي سعادة على الإطلاق، كما في المواقف التي تبعث على مشاعر مثل الخوف أو الغضب أو التوتر. لكنه في سياقات أخرى قد يبعث على مشاعر من الإثارة والحماسة في سياقات أخرى، وهي ما قد تتعلق في حدتها العاطفية بسعادة الحيوية بوجه خاص.21 بالإضافة إلى ذلك، فإنه بالنسبة لأولئك الذين ينجذبون بشدة إلى البحث عن المخاطر ويقدرون هذه الأنواع من المكافآت المحفوفة بالتحدي، فقد تنطوي حتى تلك التجارب على عناصر من النمو الذاتي المرتبط باليودايمونيا.
وأخيرًا، في منطقة أكثر هدوءًا لدينا حمض الجاما أمينوبوتيريك، وهو حمض أميني، والموصل العصبي المثبط الرئيسي في الجهاز العصبي المركزي (أي إنه يخفض النشاط بحجب إشارات دماغية معيَّنة أو كَبْحها). ولما كان له هذا الدور، فإنه يرتبط بوجه خاص بأنواع السعادة القائمة على الرضا (وعلى العكس يؤدي نقصانه إلى توتر وقلق واضطرابات مزاجية).22 وقد زاد هذه التفسيراتِ تأكيدًا اكتشافُ أنه يُفرَز طبيعيًّا استجابةً للأنشطة القائمة على الاسترخاء مثل التأمل (كما أن ثَمة مواد معيَّنة تحتويه وتحفزه، تتراوح من عقاقير مثل الباربيتيورات إلى أصناف محددة من الطعام).23
بجانب هذه المواد الكيميائية العصبية الداخلية المنشأ توجد مجموعة ثرية متنوعة من المركبات ذات التأثير النفسي التي تستطيع أن تخلق خبرات مرتبطة بالسعادة. فلدينا على سبيل المثال ثنائي ميثيل تريبتامين. وهو مركب موجود في بعض النباتات (مثل السنط) والحيوانات (مثل بعض أنواع الضفادع)، وهي مادة قوية مسبِّبة للهلوسة، محظورة في العديد من الدول. لكن حيث يُسمَح قانونيًّا باستخدامها، من الممكن أن تؤدي وظيفة مادة «الإنثيوجين»؛ إذ تخلق تجارب روحانية.24 فهي على سبيل المثال مكوِّن نشِط في شراب الآياهواسكا، المستخدَم في الطقوس الشامانية وغيرها من الطقوس الدينية في ثقافات أمريكا الجنوبية. وهي في تلك السياقات ترتبط بحالات مقترنة ربما بسعادة السكينة أو سعادة النيرفانا، من تجارب تمتد من انحلال الأنا والتسامي بالذات وصولًا إلى لقاءات تصورية مع كائنات آلهية.25

الأعصاب

يتداخل مع النشاط الكيميائي العصبي — وينجم عن ذلك النشاط — انطلاق الخلايا العصبية نفسها، ولا سيما التنشيط المتناسق للشبكات العصبية. ثَمَّة طُرق متعدِّدة لتصوُّر هذه الديناميات ودراستها، بمساعدة التقنية المتوفرة للاطلاع على عمليات الدماغ. فعلى سبيل المثال، يبين التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي تنشيط مناطق الدماغ بإظهار أنساق تدفُّق الدم، في حين يقيس التخطيط الكهربي للدماغ النشاط الكهربي الناجم عن انطلاق الخلايا العصبية. وقد أثارت تلك النماذج اهتمامًا مُتناميًا بالارتباطات بين الأعصاب والسعادة.

وتضمُّ هذه الأجندة استقصاء التشريح العصبي الوظيفي للسعادة؛ أي مناطق الدماغ ودوائره المعنية بها. وقد اكتشفت مراجعة منهجية حديثة أنه على الرغم من التنوع الكبير فقد لُوحظت بعض الأنساق المتسقة.26 وقد كانت القشرة الحزامية الأمامية طرفًا في أقوى الارتباطات بالسعادة وأكثرها رصدًا، وهي منطقة في الجدار الوسطي في كلٍّ من نصفَي الدماغ، لها ارتباطات مهمة بكلٍّ من مستوى الإدراك الأعلى لقشرة الجبهة الأمامية والنشاط العاطفي المقترن بالجهاز الحوفي. لذلك فإن القشرة الحزامية الأمامية لا ترتبط بالسرور والألم فحسب، لكن كذلك بالتنظيم الذاتي للعواطف. وبالإضافة إلى ذلك، ثمَّة مناطق أخرى جديرة بالذكر، وتشمل القشرة الجبهية الحجاجية، والقشرة الحزامية الخلفية، والتلفيف الصدغي العلوي، والمهاد، وهي ضالعة في شبكات مقترنة بمعالجة المحفزات المتعلقة بالرفاه الجاري للفرد ودمجها.

تركز تلك الأبحاث في أغلبها على سعادة المتعة. لكن ثمَّة دراسات اختصَّت بأنواع أخرى، أبرزها خطة بحث مُثمِرة تُركز على التأمل، المتعلق في الأساس بأشكال الرضا والاستغراق والنيرفانا والسكينة من السعادة. يشمل هذا النموذج تعاونًا على مدى عقود بين علماء أعصاب رواد والدالاي لاما وفريقه. من ثَم بحثت مئات الدراسات نشاط الدماغ أثناء التأمل؛ مما أتاح تحديد المناطق والعمليات الرئيسية الضالعة فيه، بل توضيح تنويعات دقيقة حسب «نوع» التأمل.

ثمَّة منطقتان جوهريتان ضالعتان في ممارسات مختلفة، وهما القشرة الحزامية الأمامية وقشرة الجبهة الأمامية المذكورتان سابقًا.27 فكلاهما يلعب أدوارًا محورية في التحكم في الانتباه — سِمة ضرورية للتأمل — وأنشطة عُليا أخرى مثل تنظيم المعالجة المعرفية والعاطفية. فقد أثبتت التحاليل ارتفاع النشاط في هاتين المنطقتين أثناء التأمُّل؛ مما يدعم برهان أن التأمل يُنمي مهارات تنظيم الانتباه. وعلاوةً على ذلك، لُوحظت اختلافات بين المتأملين المتمرسين والمبتدئين؛ مما يشير إلى وجود تأثيرات طويلة الأمد للممارسة.28

تكملةً لتحاليل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، يقيس نموذج تخطيط كهربية الدماغ موجات الدماغ، الناشئة عن تزامن نشاط الخلايا العصبية على نطاق واسع (شاملًا الشبكات العصبية المُوزَّعة). حين تنشط الخلايا العصبية بواسطة الموصلات العصبية، يتبدل جهدها الكهربي وغالبًا جهد الخلايا المجاورة لها أيضًا. تولد التذبذبات المتزامنة تيارات موضعية أكبر، تُحلَّل حسب عدة عوامل. السعة هي مقدار الإشارة؛ إذ تعكس مستوى النشاط المتزامن. ويشير التردد للدورات التذبذبية في الثانية، مُقسَّمًا إلى نطاقات ذات دلالة وظيفية: دلتا (١ إلى ٤ هرتز)، وثيتا (٤ إلى ٨ هرتز)، وألفا (٨ حتى ١٢ أو ١٣ هرتز)، وبيتا (١٣ حتى ٣٠ هيرتز)، وجاما (٣٠ حتى ٢٠٠ هرتز). والتناسق هو استقرار العلاقة بين نقاط القياس؛ إذ يعكس التواصل الوظيفي بين مناطق المخ.

في حالة التأمل، من السمات الرئيسية في مختلف الممارسات زيادة السعة والتناسق في عرض النطاقين ألفا وثيتا.29 ورغم أن تفسير هذه الديناميات من الممكن أن يكون صعبًا، فإن هذا النسق قد يعكس حالة من اليقظة مع الاسترخاء، وهو ما قد يكون مزيجًا فعَّالًا من سعادة الرضا والاستغراق. ويدعم هذا الفهمَ المتأمِّلون أنفسهم من خلال نموذج الظواهر العصبية الذي تجتمع فيه التقييمات الفسيولوجية مع تقارير ذاتية. من الأنساق الأخرى تزامن الجاما، الذي ربما يعكس نشاطًا في شبكة الوضع الافتراضي — وهي دائرة تضم قشرة الجبهة الأمامية الوسطى، والقشرة الحزامية الخلفية، والتلفيف الزاوي — ويُعتقد أنه يدل على الأفكار التأملية.30
كما هو الحال مع جميع الأقسام، تأتي هذه التغطية للديناميات العصبية جزئية وموجزة بالضرورة. وسأذكر اكتشافًا بارزًا أخيرًا: عدم تماثل نصفَي المخ. فإن زيادة نشاط النصف الأيسر قياسًا بالأيمن مرتبطة بالوجدان الإيجابي والسلوكيات المتعلقة بالإقدام (أي نحو محفزات تُعَد مرغوبة)؛ وعلى العكس، ترتبط زيادة نشاط النصف الأيمن عن الأيسر بالوجدان السلبي والسلوك المتعلق بالانسحاب.31 كذلك من الملاحظات التي يعول عليها أن الجزء الأيسر من المخ ينشط أثناء التأمل مقارنةً بالراحة مع إغماض العينين؛ مما يضيف إلى الاكتشافات المذكورة أعلاه فيما يتعلق بفوائده.32 هكذا يمكننا حتى مع هذه النبذة الوجيزة أن نطَّلع بعض الشيء على الديناميات العصبية التي تساعد على توفير بنية السعادة.

الجانب النفساني

ثَمة طبقات متعدِّدة تطرأ في عملية خلق الحالات الذهنية. ويمكن اعتبارها من بعض النواحي منقسمة إلى رتبة سُفلى وعُليا. فلدينا في القاعدة لَبِنات فسيولوجية عصبية مثل الكيمياء الحيوية. وفوقها تقوم الأنشطة أوسع نطاقًا للشبكات العصبية. وبعدها، في مرحلة مُبهَمة غامضة، تنشأ الآليات النفسية من الديناميات الفسيولوجية العصبية. وهنا نبدأ نجد عمليات على غرار العواطف والأفكار.

والوضع الأنطولوجي لهذه العمليات الأخيرة دقيق ومُعقَّد. فإنها تمتد على جانبَي الخط الفاصل بين الذهن والجسد في إطار ويلبر، واصلةً بين البعدين العلويين. لقد تناولت الأقسام السابقة النطاق الفسيولوجي للدماغ حصرًا. ويأتي القسم التالي عن الظواهرية في نطاق الذهن الذاتي حصرًا. أما الديناميات النفسية فهي تقع في منطقة ما بينهما، أو بعبارة أخرى، هي مزيج من كليهما. فالظواهر مثل العواطف لها جوانب قابلة للمعاينة الواعية والذاتية (ومن ثَم فهي تخصُّ الذهن، حسب استخدام ويلبر لهذا المصطلح)، لكنها لها أيضًا جوانب ليست كذلك، لكونها غير واعية بدرجة أكبر وآلية (ومن ثَم يُفضَّل اعتبارها متعلقة بالدماغ).

من ناحية العوامل النفسية التي تساهم في خَلْق السعادة، يلعب كثير من العوامل دورًا ما، بدايةً من الإدراك وحتى الذاكرة. مجددًا أقول إن المجال لا يتسع لذكر كل شاردة وواردة؛ لذلك يكفي التركيز على اثنين من أبرزها: العواطف والأفكار. وهما كثيرًا ما يُنظَر إليهما باعتبارهما متمايزَين، بل ومتقابلَين حسب الخطابات التي تتناول العاطفة «مقابل» العقل أو المنطق. لكن بات هناك إقرار متزايد بأنهما متشابكان، يشكل كلٌّ منهما الآخَر.33 لذلك فإنه إذا كانت العمليات الفسيولوجية العصبية التي ذكرناها تشكِّل المادة الخام للسعادة، فإنها تتحول إلى حالة ذهنية بالتفاعل المعقد للعواطف والأفكار. هيا بنا نطَّلع على هذه العملية، بادئين بالعواطف.
يشتمل المنهج النظري السائد فيما يتعلق بالعواطف على نماذج طبيعانية، تصوغها بأساليب ماهوية باعتبارها «أشكالًا طبيعية» عامة (أي حالات داخلية متوفرة عمومًا لدى الناس كلها). يفترض النموذج الدائري أن الوجدان يتولد بالتفاعل بين نظامين فسيولوجيين عصبيين مستقلين: التكافؤ (سار – غير سار) والاستثارة (نشط – خامل).34 في المقابل، يدَّعي نموذج العواطف الأساسية الذي يُنسب إلى عالِم النفس بول إيكمان ست عواطف رئيسية — الغضب والاشمئزاز والخوف والحزن والسعادة والدهشة — وهي تختلف حسب ما يسبقها من أحداث وتقدير واستجابات سلوكية محتملة، وتؤديها أنظمة عصبية متمايزة ومستقلة.35 مع مثل تلك النماذج، من الممكن لحدثٍ مثل إفراز الدوبامين القائم على المكافآت أن يثير عاطفة ذات تكافؤ إيجابي (حسب النموذج الدائري) أو شعورًا بالمتعة (حسب نموذج العواطف الأساسية).
إلا أن النماذج الطبيعانية تتعرض للانتقاد من جانب النظريات البنائية التي تتمحور حول العواطف باعتبارها نواتج للديناميات المعقَّدة للتفاعل الاجتماعي والسياق الثقافي الذي يقع فيه.36 بما أن تلك التجارب كلامية في المقام الأول، فإن الغالب أن تُعتبر العواطف أبنية لغوية (حتى إنْ كانت لها مظاهر وجدانية مجسدة أيضًا). من هذا المنظور، فإنه نظرًا لاختلاف اللغة في مختلف الثقافات — ما سنتحرَّاه في موضع لاحق — فسنجد تباينًا هائلًا من ثقافة لأخرى في اختبار العواطف وتفسيرها وفهمها.

رغم أن هذين المنظورين المتقابلين قد يبدوان متعارضَين، فإن ثمَّة منظورًا وسطًا بينهما — يتبنَّاه هذا الكتاب — يشمل نظريات تدمج عناصر من كليهما. وهي تفترض احتمال وجود تجارب وجدانية عامة نسبيًّا، لكنها تُقرُّ بأن السياقات الاجتماعية الثقافية تساهم في تشكُّلها بدرجة كبيرة. وبذلك تعكس تلك النظريات التشابك بين العاطفة والفكر المُشار إليه آنِفًا.

فإن نموذج الفعل التصوُّري لعالِمة الأعصاب ليزا فيلدمان باريت، على سبيل المثال، يدَّعي أن العواطف المتمايزة تنشأ من تحليل تصوري ﻟ «حالة لحظية من الوجدان الداخلي».37 وقد يخصُّ الوجدان الداخلي النظريات الطبيعانية؛ فقد يكون الشعور العام باللذة مثلًا حالة عامة نسبيًّا مرتبطة بنشاط الدوبامين. إلا أن الوجدان الداخلي يمرُّ بعد ذلك من خلال النماذج التصورية اللغوية المتأثرة بالثقافة لدى الناس؛ ومن ثَم يُفسَّر باعتباره عاطفة محدَّدة لها معنًى مُعيَّن. ولا تحدِّد هذه النماذج المُسمَّى الذي يتخذه الشعور فحسب، وإنما كيف يُقيَّم أيضًا، أي رؤيته باعتباره مرغوبًا أو غير مرغوب، لائقًا أو غير لائق اجتماعيًّا، له داعٍ أو غير مُبرَّر، وهكذا. تتشابك هذه الأفكار في أنحاء التجربة العاطفية.
وقد ركزت نظريات الأمراض العقلية وما يقترن بها من أساليب علاج بوجه خاص على دور الأفكار تحديدًا في عملية خَلْق العواطف. في أوائل القرن العشرين، كانت النماذج الديناميكية النفسية من العلاج النفسي (مثل فرويد) مهيمنة، فكانت تنسب المرض الذهني لمشكلات الطفولة، وتشتمل على عمليات مطولة من التنقيب في هذا التاريخ. لكن بدءًا من ستينيات القرن العشرين فصاعدًا، اتخذت النظريات المعرفية، بريادة آرون بيك، منهجًا مباشرًا أكثر، فربطت بين تلك المشكلات وأنساق التفكير القائمة.38 فاقترن الاكتئاب، مثلًا، بثلاثي من الأفكار السلبية عن الذات (مثال: «إنني عديم الأهمية»)، والعالم (مثال: «لا أحد يحبني»)، والمستقبل (مثال: «لن تتحسن الأمور»). قد تكون تلك الأنساق قد نشأت في الطفولة بالطبع. إلا أننا لسنا بحاجة للاستغراق في الماضي لتصحيحها؛ إذ يمكن أن يكون مجرَّد تحدي تلك الأفكار فعَّالًا (مثال: «ما الدليل لديك على أن لا أحد يحبك؟»). بناءً على تلك التجليات، صار العلاج المعرفي في النهاية هو النموذج السائد في العلاج النفسي.39
أضِف إلى ذلك أنه تمامًا مثلما تتشابك الأفكار السلبية مع العواطف المفجِعة، فالأفكار الإيجابية قد تساعد على توليد السعادة أو تشكيلها. هذا هو الافتراض الذي استندت إليه حركة التفكير الإيجابي التي قادها القس نورمان فنسنت بيل في خمسينيات القرن العشرين.40 إلا أن هناك حدودًا لإمكانيات تلك الأفكار، بل أحيانًا من الممكن أن تكون الإدراكات والعواطف ذات التكافؤ السلبي في صالح الرفاه (مثال: إذا كانت ستحث على سلوك مسارات عمل تكيُّفية).41 لكن في العموم هناك علاقات وثيقة بين الأفكار الإيجابية والعواطف؛ ولهذا من الممكن للتدخلات العلاجية التي تعتمد إثارة تلك الأفكار (مثل تدوين الأشياء التي نشعر بالامتنان عليها) أن تكون فعَّالة في خلق السعادة، كما سنتبيَّن في الفصل السادس.42

الجانب الظواهري

الديناميات النفسية التي ذكرناها تمتد على جانبَي الخط الفاصل بين الذاتي مقابل الموضوعي في ثنائية الذهن والجسد: فبعض الجوانب تنطوي على عمليات غير واعية موضوعية للدماغ، بينما تدخل جوانب أخرى في نطاق الكيفيات المحسوسة الذاتية. أما الآن فسننتقل كليًّا للمساحة الثانية: ألغاز الظواهرية. وإن كلمة «ألغاز» مناسبة قطعًا. لدينا الآن فَهمٌ مقبول — وإنْ كان ما يزال قاصرًا — عن عمليات الدماغ ومناطقه المقترنة بحالات ذهنية معينة. إلا أن الفيلسوف ديفيد تشالمرز أطلق على ذلك التسمية الشهيرة «المشكلة السهلة» للوعي، في مقابل المشكلة الأصعب بكثير التي تخص «كيفية» نشأة التجربة الواعية من نشاط الدماغ، وهو ما ليس لدينا معرفة حاسمة عنه، وإنما تكهُّنات مبدئية فحسب.43
ومع ذلك، فإنه من المؤكَّد أنها تنشأ، وبعيدًا عن استكشاف كيفية نشأتها، بإمكاننا، بل لا بد، أن ندرس الوعي بشكل منفصل (أي من حيثية دينامياته الخاصة). ويشدد على أهمية أن نفعل ذلك الفيلسوف فرانك جاكسون حين كتب قائلًا: «حتى إنْ وصفتَ لي كل ما يجري من عمليات مادية داخل الدماغ الحي، فإنك لن تصف وجع الألم، ولا حكَّة الهرش، ولا لوعة الغيرة، ولا الشعور المميز لتذوق الليمون، أو شم عبير الورد، أو سماع ضجَّة صاخبة، أو مشاهدة السماء.»44
من ذلك المنظور، يجوز أن نسأل كيف يكون الشعور بالسعادة بالمعنى الأعم، ليس فقط كيف نصنفها عاطفيًّا (مثال: اللذة)، وإنما كيف يكون الشعور بها فعلًا، بكل تعقيدها الغني المتجسِّد. وهذا يأخذنا إلى مجال اختصاص الظواهرية، وهي مدرسة في الفلسفة وعلم النفس بدأها في القرن التاسع عشر إدموند هوسرل لتتحرَّى منهجيًّا طبيعة الذاتية.45
من الممكن لذلك التحري أن يتخذ أشكالًا متنوعة، بدءًا من استبطان تأملي يقوم به الباحثون أنفسهم وصولًا إلى دعوة الآخَرين لأن يصفوا عالمهم الداخلي. ومن أساليب البحث المفيدة التعمق في اللغة نفسها بحثًا عن إشارات عن الذاتية. ومن أبرز الباحثين النظريين في هذا المجال عالِمَا اللغة جورج لِكوف ومارك جونسون، اللذان استُشهد بكتابهما الرائد «الاستعارات التي نحيا بها» أكثر من ٧٦ ألف مرة حتى أوائل عام ٢٠٢٢.46 فإن عملهما — والدراسات المُستلهَمة منه — يسلط الضوء على الطريقة التي يتشابك بها التفكير واللغة مع تجربتنا المتجسدة في العالم، ويتشكلان بها. إذ تنمو أنظمتنا التصورية كما يقول لِكوف «من تجربة جسدية … متأصلة في الإدراك، وحركة الجسم، وتجربة ذات طابع مادي واجتماعي.»47

مع استكشافنا العالَم ونحن رُضَّع، تُولِّد تجربتنا المتجسدة ثلاثة أنواع من الأنساق: الاتجاهات المكانية (مثال: فوق، تحت)، والمفاهيم الأنطولوجية (مثال: مادة، وعاء)، والتجارب الإنشائية (مثال: الأكل والحركة). فتعطي الأساس لنظام ثري معقَّد من المفاهيم الاستعارية، تأخذ هي الأخرى ثلاثة أشكال رئيسية (يعتمد كل شكل منها على أحد الأنساق بالدرجة الأولى). تتيح الاستعارات المتعلقة بالاتجاهات للناس التفكير على نحو تجريدي مستخدمين ديناميات مكانية (مثال: «مستويات عُليا من السعادة»). وتُضفي الاستعارات الأنطولوجية كينونة أو حالة مادية على الظواهر، مثل وصف الشخص لذهنه بأنه وعاء («ممتلئ بالأفكار» مثلًا). وأخيرًا، تتيح الاستعارات الإنشائية صياغة العمليات المجردة (مثل الفهم) باعتبارها أنشطة مادية («مثال: أرى ما ترمي إليه»).

ودراسة الاستعارات المتعلقة بالسعادة تتيح الاطلاع على دينامياتها الظواهرية. فقد أجريت تحليلًا للخطاب الأكاديمي في هذا النطاق، وكان أبرز ما اكتشفته حس البراح المقترن بالحالة الطيبة.48 ولِكوف وجونسون أنفسهما يبرزان استخدام استعارات الاتجاهات الرأسية في هذا الشأن، حيث يقترن أعلى وأسفل بالوجدان الإيجابي والوجدان السلبي على التوالي (مثال: «يحلق من السعادة» مقابل «معنويات منخفضة»). إلا أن الصورة أكثر تعقيدًا، بما أن الناس قد تتحدث أيضًا عن السعادة «العميقة». ولما كان الأمر كذلك فقد أفاد تحليلي بأن السعادة لا تقتصر على الشعور بالارتقاء في الفضاء الظواهري — وإن كانت تتضمن ذلك — لكن الشعور بأن الفضاء «نفسه» أكبر كذلك.
تثير عالمة النفس باربرا فريدريكسون لنقطة شبيهة بنظريتها المؤثرة التوسيع والبناء عن العواطف الإيجابية.49 حين يشعر المرء بالإحباط، يغلب على العالم الانكماش، فينغلق على نفسه. لكن حين يكون في مزاج طيِّب، يحدث العكس: فإننا نتطلَّع للأمام وللأفق؛ نتواصل أكثر مع العالم؛ نشعر بأننا بشكل ما أخف وأرق، وننشرح فنحتضن الحياة أكثر. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون ثمَّة تنوعات دقيقة في تكوين هذا الفضاء حسب «نوع» السعادة. فعلى سبيل المثال، قد تنطوي أشكال سعادة المتعة والسكينة على مشاعر بالتحليق في آفاق عُليا، بينما قد تكون سعادة الرضا والانسجام متعلقة أكثر بالرسوخ في الأعماق.

بالإضافة للانبساط، يكشف كمٌّ هائل من الاستعارات عن أبعاد أخرى للسعادة. بعضها أنطولوجي، مثل الإشارة إلى المشاعر الإيجابية بذكر سائل في وعاء (مثال: «فاض بالسعادة»). على النحو نفسه، تشمل الاستعارات الإنشائية أن يصف الإنسان نفسه متحرِّكًا سريعًا بين الأماكن، بأساليب كثيرًا ما تتداخل مع استعارات الاتجاه (مثال: «ارتفعت معنوياتي»). رغم ذلك فإنه من الممكن أن ينطبق بعض من هذه الاستعارات على الحالات السلبية أيضًا (مثل «يفور غضبًا»)؛ ومن ثَم فإنها ليست مقتصرة بالضرورة على السعادة. إلا أنها توضح الديناميات المتعلقة بجانبها الظواهري.

الجانب الثقافي الاجتماعي

محطتنا الأخيرة في هذه الجولة البنيوية القصيرة ستأخذنا الآن إلى المساحات الجمعية في إطار ويلبر: المجال بين الذاتي للثقافة والمجال بين الموضوعي للمجتمع. ثمَّة كثير من الديناميات المتداخلة حتى إننا بالكاد سنستطيع الاطلاع عليها سطحيًّا. لكن بإمكاني رغم ذلك على الأقل إلقاء الضوء على أهمية هذه الأبعاد؛ إذ غالبًا ما تغفل عنها الآراء التي تتناول السعادة وكيف تُخلق (التي غالبًا ما تركز على الفسيولوجيا وعلم النفس). فإن الثقافة والمجتمع يشكِّلان مادة السعادة من نواحٍ عديدة. وإذا كانت العمليات الفسيولوجية العصبية تشكِّل المادة الخام للسعادة، التي تتحول بعد ذلك لحالة ذهنية بالتفاعل بين العاطفة والفكر، فإن هذه العمليات النفسية نفسها تشكِّلها بدرجة كبيرة الدينامياتُ الاجتماعية الثقافية.

يحدث هذا التشكيل بعدة طُرق متشابكة. بدايةً تؤثِّر الثقافة على قيم الناس، التي بدورها تؤثِّر على الطريقة التي يدرك بها الناس السعادة ويفهمونها. وقد لقينا أمثلة في الفصل السابق، حيث قلنا إن أشكالًا من السعادة مثل الرضا والانسجام والعلاقات والنيرفانا غالبًا ما تلقى تقديرًا أكبر في الثقافات الشرقية عن الغربية. تعكس تلك الأنماط تيارات تاريخية في تلك الأماكن، من بروز تقاليد تراثية مثل البوذية والطاوية (التي تُعنى بسعادة الرضا والانسجام والنيرفانا)، إلى النزعات المقترنة بها نحو النزعة الجماعية (الأشكال المبنية على العلاقات).

بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر تأثير الثقافة على ما يعُدُّه الناس ذا قيمة. إذ تمتد أذرعها لتصل إلى الذهن، فتشكل عمليات أساسية مثل إحساسنا بالذات والوقت. ومن العوامل الرئيسية هنا «اللغة»، وهي عامل جوهري في تكوين العاطفة، كما رأينا سالفًا. واللغة ناتج ثقافي بحت. والأهم من ذلك أنها «تختلف» حسب الثقافات — متأثرةً بعوامل تتفاوت من التاريخ والتراث إلى المناخ والجغرافيا — وهو ما يشكِّل بدوره أذهان الناس في تلك الثقافات. تُعرف هذه المعلومة باسم فرضية النسبية اللغوية، أو فرضية سابير-وورف نسبةً إلى عالمَي الأنثروبولوجيا الأكثر اقترانًا بوضعها. وكما لخَّص بينجامين لي وورف الأمر إذ قال: «إننا نحلِّل الطبيعة بالمنهج الذي تضعه لغتنا الأم … يُقدم العالم فيضًا من الانطباعات المتنوعة الواجب تنظيمها … على الأغلب بالأنظمة اللغوية في أذهاننا.»50

وقد أثارت فرضية النسبية اللغوية كثيرًا من النقاش والبحث على مدار العقود. فإن نقطتها الرئيسية في الأساس هي أن اللغة تؤثِّر على الطريقة التي يختبر بها الناس العالَم؛ ومن ثَم تنصبُّ المناقشات على كيف تفعل ذلك وإلى أي مدًى. ويؤثِّر هذا المبدأ على كل جوانب التجربة، بما فيها السعادة، كما تبينت على مدار السنوات الأخيرة في مشروعي المعجمي (الذي ذكرته في الفصل الثاني). فمن منظور فرضية النسبية اللغوية، لا تكشف تلك الكلمات عن تفاوت طريقة تفكير الناس في مختلف الثقافات في السعادة فحسب، وإنما عن تفاوت شعورهم بها أيضًا. في الواقع، من الممكن للغات أن تكشف، بل تخلق عوالم جديدة من الكيفيات المحسوسة.

فعلى سبيل المثال، وضعت بعض الفلسفات والممارسات الشرقية — بدءًا من الطب وصولًا إلى الفنون القتالية — أفكارًا مفصلة عن «طاقات» غامضة داخل الجسم وحوله، مثل مبدأ «تشي» الصيني ومفهوم «برانا» السنسكريتي.51 أيًّا كانت الطبيعة الفعلية لهذه الطاقات، فمن الوارد ألَّا يكون الشعور بها أو إدراكها أمرًا عامًّا بالضرورة. فقد يكون الناس في تلك الثقافات أميَل للاستغراق — بالبحث والتركيز والتعبير والتذكر — في الكيفيات المحسوسة التي يبدو أنها تعكس هذه التيارات. على العكس، نجد الناس خارج هذه الثقافات، حتى وإنْ ساورتهم أحاسيس مشابهة، فغالبًا ما يتجاهلونها أو يغفلون عنها أو يستهينون بها أو ينسَونها. بتلك الطرق، تشكل السياقات الثقافية إحساسنا نفسه بالسعادة والحياة عامةً.
ونقطة أخيرة، سأذكر أن الديناميات الثقافية بين الذاتية (مثل اللغة) تتأثر بعوامل مجتمعية بين موضوعية. فعلى سبيل المثال، زعم العالم السياسي، رونالد إنجلهارت، أن قيم أي ثقافة تتشكل حسب درجة أمنها الوجودي.52 كلما زاد الإحساس بالتهديد والخطر — من الفقر والتعرُّض للمرض إلى خطر الغزو وعدم الاستقرار على الصعيد الجغرافي السياسي — كان الناس أكثر استعدادًا على ما يبدو لتبنِّي تقاليد محافظة، والتضامن العصبي الشديد، ورهاب الأجانب، والحكم الاستبدادي. وعلى النقيض، كلما زاد أمنهم بدا الناس أكثر استعدادًا لتبنِّي مُثُل أكثر تحرُّرًا وانفتاحًا وتقدمية. وهذه إنما هي نظرية واحدة ضمن العديد من النظريات المتعلقة بالتطور والتغيير الثقافي، إلا أن تلك النماذج عمومًا تدَّعي أن الثقافة تتشكل ولو جزئيًّا بعوامل مجتمعية مثل السياسة والاقتصاد.

في الواقع، بيت القصيد في نموذج ويلبر هو أن كل الأبعاد مترابطة فيما بينها، والتأثير بينها متبادل. وينطبق هذا على كل شيء في الحياة، وخصوصًا السعادة، فهي إنتاج مشترك للذهن والجسد والثقافة والمجتمع. وهذه التعددية في الأبعاد منطبقة في الفصل التالي أيضًا، حيث سنتجه للسؤال المختلف قليلًا عن كيفية تأثُّر السعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤