الفصل الخامس

بواعث السعادة

ستأخذنا رحلتنا الآن إلى متاهة من العوامل التي تشكِّل سعادة الناس وتبعث عليها. بينما بحث الفصل السابق في «الكيفية» التي تُخلق بها السعادة، فإنَّ شاغل هذا الفصل هو «مسبِّبات» الشعور بها، مستكشفًا المؤثرات التي «تبعث» على رفاه الناس.

ثمَّة دراسات طائلة عن هذا الموضوع، تتناول عوامل متنوِّعة متشابكة على المستويَين: الفردي (مثال: بالمقارنة بين سكان بلد واحد) والجماعي (مثال: بالمقارنة بين البلاد). رغم ذلك، فإن أغلب هذه الأبحاث تركِّز إمَّا على السعادة التقديرية وإمَّا على سعادة المتعة، كما سيتضح. نرجو أن نرى في المستقبل دراسات شبيهة على أشكال أخرى، أما حاليًّا فالمعرفة التجريبية عن العوامل محصورة بدرجة كبيرة على هذه النتائج. وعلاوةً على ذلك، فإن فَهْمنا قاصر من جهات أخرى تستحق أيضًا بيانها لوضع المناقشة التالية في سياقها.

أمَا وقد نظرنا كيف تُخلق السعادة، فسنتحول باهتمامنا الآن للمزيج المتنوِّع من العوامل المتداخلة التي تؤثِّر عليها، سائلين لماذا يشعر الناس بمستويات مختلفة من السعادة (أي ما الظروف التي تؤثِّر عليها).

أولًا: أغلب التحليلات مقطعية (أي تفحص أنساق الاقترانات في مرحلة مُعيَّنة) لا طولية (تتابع الناس على مدار الزمن). وكما هو معروفٌ خير المعرفة، الاقتران لا يعني السببية. فعلى سبيل المثال، من المحتمَل أن يكون الدعم الاجتماعي مؤدِّيًا إلى السعادة، ولكن العكس قد يكون صحيحًا أيضًا (الناس السعيدة تكتسب دعمًا أكبر)، وكذلك احتمال أن ثمَّة عاملًا ثالثًا يبعث على كليهما (فالشخصية مثلًا قد تؤثِّر على الدعم الاجتماعي والسعادة).1 لذا؛ ليبقَ في حسبانكم أن السببية الاتجاهية لم تثبُت بشكل قاطع في أغلب الأبحاث المذكورة هنا، إلا إذا ذُكر ذلك بوضوح. ولكن الأبحاث تفيد قطعًا بعوامل يجوز أن تكون سببية.
ثانيًا: لا بد أن نتوخَّى الحذر حين نفسِّر الأبحاث التي تقارن بين الدول. لقد ناقش الفصل السابق كيف أن الاختلاف في اللغة والثقافة يُملي الطريقة التي يشعر بها الناس بالعالَم ويفهمونه. وهو ما يؤثِّر على صحة الأبحاث نفسها، بالإضافة إلى ذلك. فمع مفاهيم مثل الرضا عن الحياة، رغم أن الباحثين يبذلون جهدهم لضمان دقة الترجمة إلى اللغات الأخرى، فعادةً ما تكون هناك فروق ولو دقيقة بين المصطلحات. ويزيد الأمرَ تعقيدًا التباينُ الثقافي في طريقة استجابة الناس للأبحاث؛ في الثقافات الأكثر ميلًا للفردية مثلًا، ثمَّة نزعات لإبراز الفرد سعادته والتشديد عليها مقابل التقليل من أهميتها في الثقافات الأكثر ميلًا إلى النزعة الجماعية.2 والباحثون على وعي بهذه المسائل، ويعملون جاهدين للحدِّ منها، ولكنها جديرة بوضعها في الاعتبار.
إلا أنه رغم التحفظات، فقد قُطعت أشواط طويلة في فهم العوامل التي يُحتمَل أنها تشكل السعادة. من الأمثلة المميزة على ذلك تقرير السعادة العالَمي، الذي لا يزال منذ ٢٠١٢ يُرتِّب الدول سنويًّا في تقييم للحياة بمنهجية التقرير الذاتي. ونادرًا ما تتغيَّر المراكز العشرة الأولى، التي عادةً ما تضم دول شمال أوروبا، بالإضافة إلى بضع دول غربية ثرية أخرى. حتى إنه في عام ٢٠٢١، أخذت فنلندا المركز الأول للمرة الرابعة على التوالي، تليها آيسلندا والدنمارك وسويسرا وهولندا والسويد وألمانيا والنرويج ونيوزيلندا والنمسا.3 تستند هذه المراكز إلى الإجابات عن سؤال السلم لدى كانتريل في استطلاع جالوب العالمي، حيث يختار الناس في هذه الدول ٨ من ١٠ في تقييمهم لحياتهم في المتوسط. في المقابل، الدول التي جاءت في المراتب الأخيرة — وهي في ٢٠٢١: ليسوتو وبوتسوانا ورواندا وزيمبابوي، وأخيرًا أفغانستان — سجَّلَت درجات متدنِّية لحدٍّ مؤسِف قرب الدرجة الثالثة، حيث سجَّلَت أفغانستان تقييمًا بائسًا بلغ ٢,٥ من ١٠.
الترتيب نفسه مثير للاهتمام وذو دلالة. لكن السؤال الأعمق المحفز لتلك الأبحاث هو لماذا بعض الدول أسعد من أخرى. الإجابة البديهية هي أن الدول الأكثر سعادةً أثرى، بينما أغلب الدول الأكثر تعاسةً يعصف بها الفقر. هذا قطعًا جزء من التفسير. لكن ثمَّة عوامل إضافية مشاركة أيضًا. استنادًا إلى بيانات أخرى من استطلاع جالوب العالَمي، على سبيل المثال، حدَّد تقرير السعادة العالَمي لعام ٢٠٢٠ ستة عوامل اعتبرها الأهم في خلق «بيئات للسعادة» وقدر إسهاماتها النسبية.4 حيث اكتُشف أن الدعم الاجتماعي هو الأقوى (إذ يمثِّل ٣٣ في المائة من إجمالي تأثير هذه العوامل)، يليه نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (٢٥ في المائة)، ومتوسط العمر المتوقَّع حال التمتُّع بصحة جيدة (٢٠ في المائة)، والحرية (١٣ في المائة)، والكرم، حسب قياسه بالمساهمات في الأعمال الخيرية (٥ في المائة)، ومُدرِكات الفساد (٤ في المائة).
لكن لاحِظْ أن تلك الأرقام خاصة بالعوامل التي رُصِدت، وضم عوامل أخرى سيغيِّر هذه الحسابات. فعلى سبيل المثال، يحدِّد نموذج «اقتصاد الدونات» المؤثِّر الذي وضعته كيت راورث ١٢ عاملًا أساسيًّا للرفاه: الماء، والغذاء، والصحة، والتعليم، والدخل/العمل، والسلام/العدالة، والصوت السياسي، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الجنسَين، والإسكان، والشبكات، والطاقة.5 وهي عناصر إنْ أضفناها إلى المزيج الإحصائي لتقرير السعادة العالَمي فستتغير النسب المئوية التي ذكرناها. كذلك ظلوا متذكرين أن استطلاع جالوب العالَمي مقطعي؛ ومن ثَم فليس بإمكانه إثبات السببية. رغم ذلك، فإنه مهما كانت العوامل التي يقع عليها الاختيار والتحليل، فكلها تبدو مؤثِّرة إجمالًا على السعادة تأثيرًا بالغًا.

وفي الواقع، لقد جاء في تقدير تقرير السعادة العالَمي لعام ٢٠٢٠ أن العوامل الستة التي اختارها مسئولة عن ثلاثة أرباع الاختلاف في مستوى السعادة بين الدول. فقد فاق متوسط السعادة في الدول العشرة الأولى ضعف متوسط الدول العشرة الأخيرة، باختلافٍ مقداره ٤٫١٦ نقاط. عُزي ٢٫٩٦ منها لتأثير العوامل الستة: ثلث تأثير اﻟ ٢٫٩٦ نقطة (٠٫٩٤ نقطة) جاء نتيجة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، يليه الدعم الاجتماعي (٠٫٧٩)، ومتوسط العمر المتوقَّع حال التمتُّع بصحة جيدة (٠٫٦٢)، والحرية (٠٫٢٧)، ومدركات الفساد (٠٫٢٥)، والكرم (٠٫٠٩).

قد تثير فضولكم المراكز المختلفة المذكورة للتو، حيث رأس المال الاجتماعي هو الأهم، والناتج المحلي الإجمالي هو العامل صاحب المساهمة الكبرى. لكن الدعم الاجتماعي مُوزَّع بتساوٍ أكثر؛ ومن ثَم فإن تأثيره أقل حِدَّة. على النقيض، الناتج المحلي الإجمالي غير متساوٍ على الإطلاق — فهو في الدول العشرة الأولى يفوق الدول العشرة الأخيرة بمقدار ٢٠ مِثلًا — وهو ما له تأثير بالغ على الترتيب. لكن بغضِّ النظر عن الزاوية التي تنظر بها للأمر، فكلاهما عاملان بالِغا الأهمية للسعادة، شأنهما شأن العوامل الأخرى.

من الأساليب لصياغة أهمية تلك العوامل النظريات الغائية للسعادة (أي التي تفيد وجود الغاية). وهي تذهب إلى أن للناس حاجات أساسية، وأن الرفاه يعتمد، ولو جزئيًّا، على تلبية بيئتهم لهذه الحاجات. وأشهَر نماذجها هو نموذج مازلو، الذي يحتوي ست حاجات أساسية: الحاجات الفسيولوجية، والأمان، والحب والانتماء، والتقدير، وتحقيق الذات، والتسامي بالذات.6 كان الابتكار الذي جاء به هو تصورها في تسلسل هرمي نوعًا ما: حيث المستويات الدنيا أساسية أكثر، ولها أولوية على الأعلى منها، وإذا لم تُلَبَّ كما ينبغي، تتضاءل أهمية العليا. فعلى سبيل المثال، كل شخص بحاجة لأن يَلقى الاحترام، لكن إذا كان يعاني الجوع، فسيكون الجوع مسيطرًا على اهتماماته.
رغم ذلك، فثَمَّة تحفُّظات تحيط بفكرة التسلسل الهرمي هذا. إذ لا يوجد دليل على ابتكار مازلو الترتيب الهرمي الأيقوني الذي ارتبط بعمله.7 كما أنه أنكر فكرة أن الفرد بإمكانه التدرُّج «صعودًا» في التسلسل الهرمي بتلبية مستوياته الأساسية ومن ثَم تجاوزها لما بعدها؛ إذ كتب أن «جميع الحاجات الأساسية لدى أغلب الناس تكون مُشبَعة جزئيًّا وغير مشبعة جزئيًّا في آنٍ واحد».8 بالإضافة إلى ذلك، من الممكن لموارد المستويات العُليا التخفيف من وَطْأة النقص النسبي في موارد المستويات الدنيا؛ فالمعنى والغاية، على سبيل المثال، من الممكن بلوغهما حتى في وجود الحرمان المادي. بل إن الجهود لمواجهة تلك القصور قد تمنح الناس الهدف، وهو كثيرًا ما تكون مستوياته أعلى في الدول ذات المشكلات الاقتصادية والمادية الأكثر.9
إلى جانب ذلك، من الممكن أيضًا تصوُّر الحاجات في تسلسل غير هرمي، كما في نموذج اقتصاد الدونات. أو لنتأمَّل مثلًا أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، المصمَّمة «كمخطط لتحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للكل».10 كل هدف منها يمكن اعتباره حاجةً عامة على مستوى العالَم. في الواقع، لقد حسب تقرير السعادة العالَمي لعام ٢٠٢٠ نسبة الاختلاف في السعادة المترتبة على كل هدف على المستوى الوطني: انعدام الفقر (٦ في المائة من التباين)، وانعدام الجوع (٦ في المائة)، والصحة الجيدة والرفاه (٩ في المائة)، والتعليم (٦ في المائة)، والمساواة بين الجنسين (٦ في المائة)، والمياه النظيفة والصرف الصحي (٨ في المائة)، وتوفر طاقة نظيفة وبأسعار معقولة (٧ في المائة)، وعمل لائق ونمو اقتصادي (١١ في المائة)، والصناعة والابتكار والبِنية التحتية (١٣ في المائة)، وتراجع عدم المساواة (٢ في المائة)، والمدن والمجتمعات المستدامة (٥ في المائة)، وترشيد الاستهلاك (١١ في المائة) والإجراءات المتعلقة بالمناخ (٣ في المائة)، والحياة المائية (صفر في المائة)، والحياة على البر (صفر في المائة)، والسلام والعدل والمؤسسات القوية (٦ في المائة)، والشراكة من أجل تحقيق الأهداف (١ في المائة).

سواء تصوَّرنا الحاجات البشرية متسلسلة هرميًّا أم لا، فثمَّة حقيقة ثابتة؛ ألَا وهي أن للبشر حاجات جوهرية، وأن السعادة تشكِّلها درجة تلبية بيئاتهم لهذه الحاجات. إلا أنها لا تتشكَّل بالحاجات في حد ذاتها فقط. رغم أن مفهوم الحاجات ليس له تعريف واضح في الغالب، فهو يشير إلى الإمكان (فإشباعها ليس أمرًا مُسلَّمًا به) والضرورة (فالناس سوف يجدون صعوبة في تدبير أمرهم حال عدم إشباعها). من هذا المنطلَق، تتشكَّل السعادة كذلك بعوامل لا تخضع لهذَين المعيارين، مثل الطبع (الذي استعرضناه في الفصل السابق) والسمات الديموغرافية (التي سنناقشها فيما يلي).

ولما كان الأمر كذلك، فثمَّة طريقة أشمل لتصوُّر العوامل التي تشكِّل السعادة، وهي «الشرطية المتعددة المتغيرات». وفكرة الشرطية متأثِّرة بالتنظير البوذي عن طبيعة الوجود، حيث لا توجد الظواهر مستقلة، وإنما تخرج إلى الوجود معتمدةً على شبكة معقدة من الظروف التي تدعمها. أما مفهوم تعدُّد المتغيرات فهو يصف الطريقة التي قد تكون بها عاقبة ما، نتاجًا لتداخُل متغيرات متعدِّدة. ومفهوم التقاطعية المؤثر، للمُنظِّرة القانونية كيمبرلي كرينشو، يُعرِب عن استنتاج مشابه؛ إذ يصف كيف أن فئات الهوية — مثل الجندر والعرقية — تخلف تأثيرات مركبة تتجاوز تأثيرات الفئات المنفردة في حد ذاتها.11 رغم أن هذا الفصل مُتأثِّر بمفهومها، فإنه ينطبق أكثر على الاضطهاد والامتياز. لذلك فإنه من باب الاحترام للمعنى الأصلي الذي قصدته، سأستخدم بدلًا منه لفظ تعدُّدية المتغيرات، فهو كما سنرى يمكن ملاحظته على العوامل التي تشكِّل السعادة.

يدور هذا الفصل بالأساس حول عوامل سياقية (مثال: الظروف الاجتماعية)، وإنْ كان يشمل أيضًا عوامل فردية بعض الشيء (مثال: الصحة). ممَّا له أثرٌ بالِغٌ أن تأثير العوامل السياقية كثيرًا ما يُستهان به في بعض المناحي، حتى إن مجالات مثل علم النفس الإيجابي تتعرَّض للانتقاد لعدم إيلائها الاهتمام الكافي. وقد تعكس تلك التحيُّزات النزعة الفردية في السياقات الغربية التي نشأت فيها تلك المجالات. ومن خلال هذه العدسة الثقافية، يميل الناس إلى التركيز أكثر على السعادة باعتبارها ظاهرة فردية (مثال: بالتركيز على السمات الشخصية للأفراد) بدلًا من الاهتمام بأبعادها الجماعية أو حتى إقرارها (مثال: التأثر بالعوامل الاجتماعية الثقافية).

تنعكس هذه النقطة في نموذج معروف للعوامل المؤدية إلى التفاوت في السعادة.12 فقد زعم أن ١٠ في المائة فقط من التفاوت تُمليه بيئة الناس، و٥٠ في المائة تُمليه الوراثة، و٤٠ في المائة ترجع إلى «الأنشطة المُتعمَّدة». وقد كان النموذج مؤثِّرًا؛ إذ جاءت النسب موضَّحة في شكل مخطَّط دائري يثبت في الذاكرة؛ ممَّا أدى إلى الخطاب القائل بأن السياق ليس له أثر بالِغ. واستتبع ذلك أن المجال قد ركَّز على الاستراتيجيات التي تعزِّز السعادة الواقعة في نطاق الأنشطة المُتعمَّدة، مثل ممارسات الامتنان. لا شك أن تلك التدخُّلات من الممكن أن تكون قوية، كما سنتبيَّن في الفصل التالي. لكننا لا يسعنا إغفال أهمية السياق على النحو الذي يوحي به النموذج.
فمبدئيًّا، نسبة العشرة في المائة محل جدل؛ في الواقع، لقد رجع أحد التحليلات إلى المصادر نفسها المستخدَمة لاستنباط النموذج الأصلي، فتوصَّل إلى نسبة تراوحت بين ١٨ إلى ٢٦ في المائة.13 لكن حتى إنْ كانت النسبة صحيحة، فكثيرًا ما يُظَن خطأً أنها تنطبق على كل فرد. إلا أنها خاصة بالأحرى بالجماعات، حيث يتفاوت تأثير البيئة على الأفراد. فعلى سبيل المثال، الأفراد الذين يعيشون في بيئات معوزة أو مضطربة، غالبًا ما يتأثَّرون بوضعهم أكثر من أولئك الذين يعيشون في بيئات غنية أو مستقرة نسبيًّا.

مع وضع ذلك في الحسبان، يتمعَّن هذا الفصل في الظروف الرئيسية التي تشكِّل السعادة، ناسجًا نوعين من المنظورات معًا: الفردي والوطني. تتخذ بعض الدراسات شعبًا وتتبيَّن تأثير العوامل المختلفة على سعادة الفرد؛ وتقييمات أخرى، مثل تقرير السعادة العالَمي، يقارن شعوبًا بأكملها من ناحية تلك العوامل. لنأخذ الثروة مثالًا؛ تبحث التحاليل على مستوى الأفراد تأثير الدخل على السعادة الشخصية للناس، أما الأبحاث على مستوى البلاد فهي تقيم العلاقة بين الناتج المحلي الإجمالي وسعادة البلد بأكمله. وكلا المنظورين مهم.

الدراسات المعنية هائلة وغير مُقتصرة إطلاقًا على العوامل الستة التي حلَّلها تقرير السعادة العالَمي لعام ٢٠٢٠. وقد قُسِّمت المؤثرات المتعدِّدة إلى ثماني فئات جامعة — موضَّحة في الشكل ٥-١ — سنستعرضها تباعًا. بالإضافة إلى ذلك، فإنه على رغم سعة هذه الفئات، فإنها لا تشمل كل البواعث المعنية. إذ يركز هذا الفصل بصورة رئيسية على العوامل البيئية، لكنه يبدأ باثنين أقرب إلى الفردية: الصحة والسمات الديموغرافية. ثم إنه بجانب هذين العاملين، توجد فئتان فرديتان عريضتان أُخريان تُناقشان باستفاضة في الكتاب: الفسيولوجيا (تكوين الفرد)، وهو ما غطَّيناه في الفصل الرابع، والنشاط (ممارسات الفرد)، كما سنتبيَّن في الفصل التالي.
fig7
شكل ٥-١: بواعث السعادة.

وهكذا، فإن صياغة السعادة مسألةٌ غاية في التعقيد. وفي الواقع أحد أهداف هذا الفصل هو إبراز هذا التعقيد، هذا المشهد المتراكب من الشرطية المتعددة المتغيرات. فلو كان العامل الوحيد الفارق هو الثروة مثلًا، كان سيسهل أن نقارن بين الناس أو الدول ونرتبهم على ذلك الأساس، ثم نستخلص الاستنتاجات بشأن سعادتهم. إلا أن الفرد أو البلد قد يكون ثريًّا نسبيًّا، لكنه أسوأ حالًا بكثير من أقرانه من ناحية عوامل أخرى مثل العلاقات. يجدر بذلك أن يجعلنا نتوقف عن تكوين استنتاجات وتعميمات متسرِّعة، ويحثنا على التوصل إلى تفسيرات أكثر دقة ورويَّة.

الصحة

رغم أن هذا الفصل يركِّز في أغلبه على التأثيرات السياقية، فإنَّ عرضه يبدأ بالعامل الفردي للصحة البدنية، وهي من بين أهم مؤشرات السعادة. إنها كذلك على الأخص بالنسبة للناس التي تعاني من صحة متردية. أما الناس المتمتعة نسبيًّا بالصحة فقد يعتبرونها أمرًا مُسلَّمًا به؛ ومن ثَم فإنها قد لا تتخذ مكانة بارزة عند تقييمهم لحياتهم. إلا أنه حالما تصير الصحة مشكلة، فمن الممكن حقًّا أن تؤثِّر بالسلب على السعادة.14

إن سياق خَلْق السعادة عملية بالِغة التعقيد والديناميكية، فهو يتكوَّن من مجموعة متنوِّعة من المسبِّبات يُشار إليها هنا باسم «الشرطية المتعدِّدة المتغيرات» (حيث تنشأ السعادة باعتبارها حالة لها عوامل متعدِّدة متشابكة).

من ناحية أعم، ثمَّة علاقات وثيقة — لا تزال غير مفهومة جيدًا — بين الرفاه الجسدي والذهني. وعلاوةً على ذلك، فإن هذه التأثيرات تسير في كلا الاتجاهين: فالذهن يؤثِّر على الجسد (أعراض نفسية جسمية) والعكس (أعراض جسدية نفسية).15 فإن الذهن والجسد، كما أكَّدنا في الفصول السابقة، متشابكان للغاية، حتى إن تقسيمهما إلى دائرتين منفصلتين — سواء بالمقابلة بين الرفاه الذهني والرفاه الجسدي (وفقًا لأبعاد الرفاه الأربعة المقدمة في الفصل الأول)، أو بالمقابلة بين الديناميات الذاتية والموضوعية (وفقًا لإطار ويلبر التكاملي في الفصل الرابع) — من الممكن أن يبدو غير مناسب وقديمًا.
التوتر، على سبيل المثال، عادةً ما يُعَد بدرجة كبيرة ظاهرةً نفسية، يتعلق بتعدِّي متطلباتِ موقفٍ ما قدرةَ الشخص على تدبُّرها. إلا أنه كذلك ظاهرة فسيولوجية تمامًا في تمثلها وأثرها، كما يتجلى في استجابة المواجهة أو الفرار (مع إضافة صياغات أحدَث لاستجابات التجمُّد والذعر والإغماء).16 حين نكون واقعين تحت ضغط، يفرز الجهاز العصبي السمبثاوي «هرمونات التوتر» — الكورتيزول والإبينفرين بشكل رئيسي — التي تحفز الجسم للتصرُّف، بزيادة معدَّل نبضات القلب واستنشاق الأكسجين ضمن أشياء أخرى.
حين يكون هذا التنشيط قصير المدى يكون مفيدًا في المساعدة على مواجهة مصدر التوتر. لكن إذا استمر من خلال التعرض الطويل المدى لمصدر التوتر، فمن الممكن أن تكون لهذه العمليات عواقب سلبية. ومنها اختلال نظام المحور الوطائي النخامي الكظري — وهو جزء من الجهاز العصبي الصماوي الذي يُنظِّم عمليات شتَّى تتراوح من وظائف الجهاز المناعي حتى الهضم — وهو ما قد يُفضي إلى المرض.17 من ثَم فإن التوتر ضارٌّ وغير مُستحَب، سواء جسديًّا أو ذهنيًّا، لدرجة أن المصطلحات على غرار نفسي جسمي وجسدي نفسي قد تبدو غير ذات بالٍ (بما أن الجسد والذهن متداخلان إلى حد كبير).
إلا أن الوجه الآخَر لتلك التفاعلات هو أن السعادة متصلة بالصحة الجسدية؛ ومن ثَم فكلٌّ منهما له تأثير سببي على الآخَر. فمن منظور جسدي نفسي، يبدو أن الصحة الجيدة تيسِّر السعادة. فقد توصَّل تحليلٌ أُجري على الشعوب الأوروبية، على سبيل المثال، إلى أن تحسنًا بمقدار انحراف معياري واحد في الصحة تنبَّأ بسعادة أكبر بمقدار ١٫٧٢ نقطة (انحراف معياري قدره ٠٫٨٢)، أكثر أربع مرات من فرق تغيير الحالة من عاطل إلى عامل.18 وبالمثل، تقترن الأنشطة المعزِّزة للصحة مثل ممارسة التمارين الرياضية بالسعادة اقترانًا مباشرًا (مثال: نشوة العدائين) وغير مباشر (مثال: من خلال تأثيرها على الصحة).
ولعل ممَّا يثير الحيرة أكثر، من منظور نفسي جسمي، أن السعادة من شأنها أن تعزِّز الصحة أيضًا. فقد أشارت مراجعة ضمَّت دراسات استشرافية طولية إلى أنه مع وضع الحالة الصحية والاجتماعية الاقتصادية الأساسية في الاعتبار، فقد بدا أن عوامل مثل الوجدان الإيجابي تتنبَّأ بالصحة وطول العمر.19 إلا أن تلك الأبحاث وتفسيراتها محل جدل وخلاف، ومن الممكن أن يكون بها عناصر مثيرة للمشكلات، مثل الإيحاء بأن الناس قد تكون مسئولة جزئيًّا عن مرضها (لكون رؤيتهم للحياة غير إيجابية بالدرجة الكافية على سبيل المثال).20 ولذلك، فإنه رغم أهمية احتمال وجود تأثير نفسي جسمي، فإنه غير مفهوم جيدًا، ولا بد من توخِّي الحذر في تفسير الاكتشافات التي تزعم وجود علاقات سببية بين السعادة والصحة الجسدية ونقلها.
بالإضافة إلى كَوْن الصحة عاملًا فرديًّا، فإن لها أبعادًا جماعية أيضًا، كما أوضح تقرير السعادة العالَمي لعام ٢٠٢٠، حيث كان متوسط العمر المتوقع حال التمتع بصحة جيدة هو ثالث أهم العوامل في تحديد مراكز الدول. فهنا الأمر يتعلق أكثر بأداء الأمم في تيسير سبل الصحة، مثل توفيرها للرعاية الصحية. لا شك أنه ثمَّة تباينات هائلة على المستوى الدولي في هذه المسألة. فعلى سبيل المثال، اكتشف تحليل للمبالغ التي تُنفَق سنويًّا على داء السُّكري — مقيسة بالدولار الدولي، لضبط الاختلافات في القوة الشرائية بين العملات — أنها تتفاوت من ٣٦ دولارًا للشخص المصاب بالسُّكري في إثيوبيا وصولًا إلى ٧٣٨٣ دولارًا في الولايات المتحدة.21 من المُحتمَل أن تؤثِّر تلك التفاوتات على متوسط العمر المتوقَّع حال التمتع بصحة جيدة؛ ومن ثَم على السعادة الوطنية. وتترتب هذه الأنواع من التفاوتات بالطبع على عوامل أخرى نطالعها هنا، مثل الديناميات الاجتماعية الاقتصادية (مثال: الناتج المحلي الإجمالي للدول)، وهو ما يؤكِّد الرسالة العامة لهذا الفصل، وهي أن السعادة تتشكل بمؤثرات متشابكة.

العوامل الديموغرافية

في حين أن الصحة تركِّز أكثر على الفرد، والعوامل التالية تتعلق أكثر بالبيئة، فهذا العامل الثاني يقع في نقطة التقاطع بين الشخصي والجماعي. فالسعادة تتشكل بالديناميات الديموغرافية التي تعكس كيف تتفاعل الثقافة والمجتمع مع السمات المميزة للأفراد. أضِف إلى ذلك أن هذه السمات نفسها تتآلف بطُرق معقَّدة (تمامًا مثل كل العوامل)، كما عبَّر عن ذلك مفهوم التقاطعية لكرينشو. إلا أن بحث الوسط الأكاديمي لتلك المسائل وفهمه لها — منفردة أو مجتمعة — لا يزال قاصرًا نسبيًّا، لما كانت لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه. لذلك، فإنه لا بد من مزيد من الأبحاث لفهم هذه الموضوعات على نحو أفضل.

مبدئيًّا، نحتاج أن نفهم أكثر كيفية صياغة العرق والإثنية للسعادة. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، غالبًا ما يفيد البِيض بمعدلات أعلى من السعادة من السُّود، وإن كان بعض الباحثين قد زعموا متفائلين أن هذه الفجوة قد ضاقت بمرور الزمن؛ فقد توصَّلَت دراسة حلَّلَت البيانات من عام ١٩٧٢ حتى ٢٠٠٦ إلى أن «ثلثَي الفجوة في السعادة بين السُّود والبِيض قد تلاشى».22 إلا أن السنوات الأخيرة قد شهدت اهتمامًا عالميًّا بهذه المسائل، كما تجلى ذلك في حركة «حياة السُّود مهمة»، التي نبعت من إدراك أن العنصرية والتفرقة — على مستوى الأشخاص والأنظمة — لا تزالان تؤذيان الأرواح وتنخران المجتمعات بطرق ربما لا يعيها الناس.
لكن مع الأسف، الوعي الأكاديمي بهذه الموضوعات متأخِّر عن هذه الصحوة الثقافية؛ فقد عبَّر مقال نُشِر في عام ٢٠٠٠ عن الأسف على غياب شبه تام لاعتبارات العرق والإثنية في أبحاث السعادة، وهو الوضع الذي لم يتحسَّن كثيرًا منذ ذلك الحين.23 إلا أن الأحداث في السنوات الأخيرة قد حثت على زيادة التركيز على هذه الموضوعات، حتى إن كانت الدراسات المعنية ستستغرق بعض الوقت كي تتم وتُنشر. وبالإضافة إلى ذلك، هناك على الأقل بعض الأبحاث في هذه المنطقة، وهي تثبت أن الإثنية والعرق لا يزالان يؤثِّران على السعادة — حتى إن كان هذا التأثير يتناقص على ما نرجو، كما يزعم البعض — وأنه لا بد من المزيد من الاهتمام بهذه الديناميات التي تعتورها المشكلات.
فعلى سبيل المثال، تدَّعي نظرية العائدات المتناقصة لدى الأقليات أن تأثيرات المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية على النواتج الإيجابية أقل بصفة منهجية لدى الأقليات العرقية والإثنية، نتيجةً لعمليات اقتصادية ونفسية متصلة بالعنصرية والتفرقة.24 فقد اكتشفت دراسة أمريكية مثلًا أن الحصول على التعليم له تأثير أقل على السعادة لدى السُّود مقارنةً بالبِيض.25 والتعليم في العموم يعزِّز السعادة، بطريقة مباشرة (كأن يخلق حسًّا بالإنجاز) وغير مباشرة (من خلال الدخل مثلًا). إلا أن أثره التعزيزي غير متساوٍ؛ فمقارنةً بالبِيض الحاصلين على القدر نفسه من التعليم، غالبًا ما يكون السُّود عُرضة لآثار صحية أكثر تدنِّيًا، عقليًّا وجسديًّا.26 وهكذا فإن التأثير الذي عادةً ما يُحدِثه التعليم على السعادة قد يتضاءل لدى السُّود — وغيرهم من الأقليات — نتيجةً للإجحاف والعنصرية الضاربتين في النظام بأكمله اللذين غالبًا ما يتعرَّضون لهما بغضِّ النظر عن حصولهم على تعليم عالٍ.

وكذلك قد تزداد تلك الديناميات تعقيدًا بعوامل ديموغرافية أخرى، مثل الجنس والجندر. إذ إنَّ بحث كرينشو عن التقاطعية قد نشأ من ملاحظات تفيد بأن النساء السُّود، مقارنةً بالرجال السُّود، قد يواجهن تحديات إضافية — في العمل، على سبيل المثال — نتيجةً للتمييز على أساس الجندر. أما من ناحية الجنس والجندر في حد ذاتهما، فتأثيرهما على الرفاه مُعقَّد. وقد توصَّلَت دراسة النزعات من عام ١٩٧٢ حتى عام ٢٠٠٦ كذلك إلى أن «فجوة السعادة الناتجة عن الجندر قد اختفت تمامًا»؛ إذ كانت النساء في سبعينيات القرن العشرين أكثر سعادة، أما الآن فقد صار الرجال مكافئين لهن في السعادة. إلا أننا إذا غُصنا في التفاصيل ربما نجد الصورة أكثر تعقيدًا.

فعلى سبيل المثال، كشف تحليل لبيانات جالوب مثلًا عن أن النساء غالبًا ما يعبِّرن عن قَدْر أكبر من الرضا عن الحياة والوجدان الإيجابي، وقَدْر أكبر من التوتر والوجدان السلبي.27 قد تفيد تلك الحقائق على ما يبدو بأن النساء يختبرن المشاعر بحدة أكبر، الطيبة منها والسيئة؛ ومن ثَم فإنهن يكُنَّ أكثر سعادة أو أكثر تعاسة. لكن قد تكون القصة أكثر تعقيدًا من ذلك. فقد تقصَّت رسالتي للدكتوراه الديناميات الجندرية للتجربة العاطفية — تأثير التأمل على الصحة الذهنية للرجال بوجه التحديد — فأشارت الأدبيات إلى أن النساء لسْنَ بالضرورة أكثر عاطفية بالفطرة. فالرجال لديهن القابلية أن يكونوا عاطفيين بالدرجة نفسها، لكن غالبًا ما تُحيَّد هذه الإمكانية من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية الموعِّية بالجندر، مثل معايير الذكورة المتسمة بالصلابة والرزانة.28
علاوةً على ذلك، حتى إن بدا الرجال غير عاطفيين — كألا يشتكوا بأنفسهم من مشكلات صحية ذهنية مثلًا — فإنهم رغم ذلك قد يكونون مكروبين داخليًّا أو يعبرون عن الأمر بطريقة مختلفة.29 النساء أرجح أن يُبطِّنَّ كربهن، وربما يعبِّرن عنه في صورة حزن؛ ومن ثَم يُشخَّصن على أنهن مصابات بالاكتئاب (بما أن معاييره التشخيصية تعكس تلك المظاهر).30 بالمقارنة، فالرجال أرجح أن يجاهروا به من خلال سلوكيات مثل العنف والتعاطي. ويبدو أن تلك الأنساق تعكسها الملاحظة بأن في المملكة المتحدة مثلًا يشكل الرجال ٩٦ في المائة من المساجين31 وثلثَي الوفيات المرتبطة بالكحول.32 لذلك فإننا كما الحال مع الإثنية والعرق، لا بد أن نتوخَّى الحذر كي لا نستخلص استنتاجات مُبسَّطة فيما يتعلق بالجنس والجندر.
ثمَّة نزعة ديموغرافية أخيرة جديرة بأن نذكرها — لا سيَّما أنها قد تكون مخالفة للتوقعات — تتعلق بالسن. ثمَّة خطاب شائع، لا سيَّما في الثقافات الغربية، يعتبر التقدم في السن عملية تراجُع وتردٍّ في نوعية الحياة في أغلب الأحوال. صحيح أن التقدم في السن يأتي بالعديد من التحديات والمصاعب، بدايةً من المشكلات البدنية المتمحورة حول المرض، وصولًا إلى مشكلات نفسية على غرار الوحدة.33 إلا أنه يبدو أن منحنى السعادة، لا سيَّما الرضا عن الحياة، يتخذ نسبيًّا شكل حرف U على امتداد الحياة.34 إذ يبدو أنها تنخفض في منتصف العمر، قبل أن ترتفع مرةً أخرى في الخمسينيات والستينيات من عمر الناس — مع أنها قد تنخفض مرةً أخرى بعد سن الخامسة والسبعين — ربما للارتباط بعناصر مثل التخفُّف من عبء العمل أثناء التقاعد وتراجع الانشغال بالوضع الاجتماعي.
ثمَّة تباينات دقيقة مرَّةً أخرى. إذ عادةً ما تقوم تلك النتائج على ضبط متغيرات مثل الصحة والوضع الأسري، اللذين يُعَدان متغيرَين وسيطين في العلاقة بين السن والسعادة؛ غير أن البعض يدَّعون أنه لا يجب «عزلها»، وإلا أخطأنا في تفسير ما يحدث فعلًا مع تقدُّم الناس في السن، بما أن الآثار الضارَّة من تدهور الصحة أو خسارة الأسرة غالبًا ما قد تكون من تبعات التقدم في السن.35 كذلك نسق الشكل U ليس ملحوظًا على مستوى العالَم (وإن كان ساريًا في أغلب الثقافات)، في حين تتوقف توقيتات نقاط الانقلاب على عوامل مثل السعادة على مستوى البلد.36 إلا أن الاتجاه قوي نسبيًّا، وقد يكون من أكثر الاكتشافات الديموغرافية توكيدًا فيما يتعلق بالسعادة. لكن رغم ذلك فإنه لا بد من مزيد من الأبحاث لفهم الديناميات المتعلقة بالسن بصورة أفضل.
في واقع الأمر يحتاج تأثير العوامل الديموغرافية عمومًا مزيدًا من الاهتمام والبحث والتحليل والتقدير. وإننا لم نفعل هنا سوى أنْ تطرَّقنا بإيجاز لثلاث مساحات رئيسية، لكن ثمَّة مساحات عديدة أخرى تستحق اهتمامنا الجماعي. فالموضوعات المتعلقة بالميول الجنسية، على سبيل المثال، من الممكن أن يكون لها آثار بالِغة على السعادة؛ فالمنتمون إلى ما يُسمى بالأقليات الجنسية (مثل المثليين ومزدوجي الميل الجنسي والعابرين جنسيًّا والمحايدين جنسيًّا وحاملي صفات الجنسَين واللاجنسيين، وغيرهم) غالبًا ما يُعانون من رفاه منخفض مقارنةً بالمجموعات ذات الميول الجنسية المغايرة، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة للوصمة الهيكلية المتفشية — مثل القوانين والسياسات والسلوكيات التمييزية — التي ما زالت تُعانيها تلك المجموعات بصفة روتينية.37 لذلك فإننا سنحتاج في المستقبل مجهودات أكبر لفهم هذه التباينات في مستوى السعادة بصورة أفضل، فضلًا عن تصحيحها.

العلاقات

أمَا وقد بدأنا حديثنا بعوامل تركيزها الأكبر على الأفراد، فسننتقل الآن إلى المساحة الرئيسية في هذا الفصل، وهي التأثيرات السياقية (وإن كان ثمَّة عناصر سياقية في الصحة والعوامل الديموغرافية بالطبع، كما ذكرت). وقد تكون العلاقات هي الأهم بين هذه التأثيرات. فقد كان ذلك ما استنتجه تقرير السعادة العالَمي عام ٢٠٢٠، حيث كان سؤال استطلاع جالوب العالَمي الذي يُعزى إليه إحداث القَدْر الأكبر من التفاوت الخاص بالدعم الاجتماعي («هل لديك أقارب أو أصدقاء تستطيع الاعتماد عليهم متى احتجتهم إذا ألمَّت بك مشكلة؟») وثمَّة تقييمات شبيهة لها تتفاوت في المرتبة من حيث أهميتها؛ إذ يُعد الدخل مثلًا العامل الأهم، يليه العلاقات.38 لكن أيًّا كان التحليل، فالعلاقات تحتل مرتبة قريبة من القمة.
ثمَّة طُرق عدة لتقدير أهمية العلاقات. ومن المفاهيم الشديدة الأهمية مفهوم رأس المال الاجتماعي: «المجموع الكلي للموارد، الفعلية أو الافتراضية، الذي يُتاح للفرد (أو المجموعة) نتيجة ضلوعه في شبكة قوية من علاقات مؤسساتية نوعًا ما تنبني على التعارف والتقدير المتبادل.»39 ويتخذ رأس المال هذا أشكالًا شتَّى. فقد زعم تحليل بارز أُجري على الاستقصاء العالَمي للقيم، على سبيل المثال، أن رأس المال الاجتماعي متصل بالسعادة من خلال «عدة قنوات مستقلة وبعدة أشكال مختلفة»، بدءًا من الزواج والأسرة، والأصدقاء والجيران، وصولًا إلى العلاقات في مكان العمل والمشاركة المدنية.40 \
العلاقات مُعقَّدة، كما توحي تلك الجملة الأخيرة، كَوْنها تنطبق على مستويات قياس متعدِّدة، بدءًا من الروابط الأسرية الحميمة وصولًا إلى ديناميات مجتمعية أوسَع نطاقًا. من ناحية الأسرة، مُنِح الزواج اهتمامًا خاصًّا. ولا يخفى أنه توجد زيجات غير سعيدة، ويوجد على النقيض شركاء حياة غير متزوجين سعداء. لكن في العموم، غالبًا ما يكون المتزوجون أكثر سعادةً في المجمل، ليس فقط من العزاب، لكن كذلك من شركاء الحياة المتساكنين (ربما لأن الزواج نظام أكثر استقرارًا).41 وثمَّة عوامل أو متغيرات مُعدِّلة بطبيعة الحال؛ فعلى سبيل المثال، في الثقافات التي تميل إلى الجماعية، يكون للزواج نفع أكبر من المساكنة، ربما لأن الزواج أقرب لأن يكون عُرفًا ثقافيًّا، من ثَم يتكبَّد المرء تكاليف اجتماعية أكبر نتيجة كَوْنه غير متزوِّج.42 إلا أن الرابط بين الزواج والسعادة على العموم مدعوم بقوة بالأدلة.
قد يتساءل المرء عن صعوبة التثبُّت من السببية من خلال بحث ارتباطي، ويخمن أن الناس الأكثر سعادةً أرجح أن يتزوجوا، وهو مدعوم بالأدلة.43 لكن توجد أيضًا أدلة على أن للزواج «تأثيرًا» إيجابيًّا؛ إذ باستخدام بيانات طولية، ضبط الباحثون عامل السعادة قبل الزواج ليجدوا أن المتزوجين غالبًا ما يكونون أكثر شعورًا بالرضا، ممَّا يوحي بوجود «تأثير سببي في كل مراحل الزواج».44 وتتراوح التفسيرات من التفسيرات العاطفية (مثال: شعور المرء بأنه محبوب) إلى التفسيرات العملية (مثال: تقسيم الأعمال المنزلية).45
وإذا تناولنا نطاقًا أوسَع من العلاقات، نجد أن شبكات الصداقة والزمالة مهمة. ولدينا برهان قوي على ذلك في دراسة فنلندية تقارن بين أغلبية تتحدث اللغة الفنلندية وأقلية تتحدث السويدية في منطقة معيَّنة. فباستثناء الاختلافات اللغوية، كانت المجموعتان متشابهتين إلى حد كبير، فهما شِبه متطابقتَين في السِّمات الجينية والتكوين الفسيولوجي، ومستوى التعليم، وأنماط العمل وفرصه، والوضع الاجتماعي الاقتصادي، وإتاحة الخدمات، وما إلى ذلك. إلا أن متوسط أعمار الأقلية المتحدثة بالسويدية غالبًا ما يفوق نظيره في الأقلية المتحدثة بالفنلندية، بنحو تسع سنوات في حالة الرجال.46

استنتجت الدراسة أن هذه التفاوتات البينة ترجع بدرجة كبيرة إلى اختلافات في رأس المال الاجتماعي. فقد أفاد تقييم متحدِّثي السويدية أنهم يتمتَّعون بعلاقات أقوى، وحياة اجتماعية أنشَط، وحسِّ انتماء للمجتمع أعلى. وجاء في التفسير أن هذه الأنساق أفادت صحتهم بطريقتين رئيسيتين: فقد كانوا أكثر لياقة بدنيًّا، ويحصلون على دعم أكبر ليساعدهم على تجاوز الضغوط. وغالبًا ما يكون هؤلاء الناس أكثر سعادة أيضًا، نظرًا لأهمية العلاقات. علاوةً على ذلك، لا يقتصر تأثير المجتمع على العلاقات الشخصية؛ إذ له أهمية هيكلية كذلك، كما سيستكشف القسم التالي.

الموارد

الفرضية النظرية لهذا الفصل هي أن السعادة تعتمد جزئيًّا على إشباع البيئة التي يحيا فيها الأفراد لاحتياجاتهم الأساسية. من ثَم فإن الموارد تشير بمعناها العام إلى كل المرافق المتوفِّرة (أو التي لا بد من توفُّرها) في منطقة معيَّنة لإشباع هذه الحاجات. ينطبق هذا على مستويات قياس متفاوتة — تمتد من الإقليمية إلى الدولية — إلا أن أغلب التحليلات تركِّز على المجتمع المحلي الذي يعيش فيه الناس. ورغم كَوْنه مصطلحًا مبهمًا؛ فالمجتمع بهذا المعنى يشير تقريبًا إلى منطقة جغرافية مأهولة يستطيع الفرد الوصول إليها بسهولة (أي من دون سفر طويل)، لتكون مسقط رأسه مثلًا.

تعطي دراسة كندية صورةً دقيقة للموارد المهمة، مستعينةً باستراتيجية خريطة المفاهيم لتحديد ١٢٠ فئة فريدة من الأحياء، مُقسَّمة إلى ٦ مجموعات.47 أول فئتين تُعدَّان هيكليتين بوجه عام: الخدمات الإنسانية والاجتماعية الضرورية (مثال: المرافق الطبية أو الصحية)، وتوفر هذه الخدمات بتكلفة ميسورة. الفئتان التاليتان، وإنْ كانتا هيكليتين كذلك، فإنهما اجتماعيتان أكثر: دعم الحي السكني (وهو يمتد من عوامل معرفية مثل الثقة الاجتماعية وصولًا إلى عناصر تنظيمية مثل استتاب الأمن)، وتكوين الحي السكني (أي خليط سكانه). أما آخِر فئتَين فبيئيَّتان أكثر: غياب عوامل ظرفية سلبية (مثال: الجريمة)، والبيئة الطبيعية (مثال: مناطق خضراء).
تلك الموارد هي التجسيد العملي لعوامل أخرى عديدة في هذا الفصل، حيث مربط الفرس. من منظور عام، يمكن الحديث عن موضوعات مثل الاقتصاد والمساواة ونظام الحكم، كما سنناقشها فيما يأتي. أما الموارد المجتمعية فهي الطريقة التي تسير بها تلك العمليات في حياة الناس اليومية. بالنسبة لمَن يعيشون في منطقة محرومة نسبيًّا، على سبيل المثال، سيؤثِّر هذا الحرمان سلبًا على كل هذه الموارد، بدايةً من مشكلات في خدمات مثل الرعاية الصحية، وصولًا إلى وجود عناصر سلبية مثل الجريمة.48
علاوةً على ذلك، تستقر هذه الموارد داخل عوامل نظامية أوسَع وتتشكل بها، بدءًا من سياسة الحكومة ووصولًا إلى أنماط الاقتصاد. ومثال على ذلك أن النظرية المؤثِّرة لعالم النفس يوري برونفينبرينر عن النظم البيئية تحدِّد ستة مستويات، يندرج كلٌّ منها تحت الآخَر، وهي: الفرد، والمنظومة المصغَّرة (الأوساط الاجتماعية المباشرة، مثل أسرة الفرد أو مكان عمله)، والمنظومة الوسيطة (التفاعل بين المنظومات المصغرة)، والمنظومة الخارجية (المجتمعات التي تقع فيها المنظومات المصغرة)، والمنظومة الشاملة (البنى الأوسَع المؤثِّرة على المنظومات الخارجية)، والمنظومة الزمنية (كيف تتغير كل هذه المنظومات على مدار الزمن).49

هكذا، فإن توفير الموارد المحلية يتأتَّى داخل معايير المنظومة الشاملة، مثل استعداد الحكومة وقُدرتها على تمويلها، وتلك المعايير بدورها محدودة بتيارات اقتصادية وطنية وعالَمية. وسوف نستكشف بعضًا من هذه العمليات الخاصة بالمنظومة الشاملة على مدار الأقسام القليلة التالية، بدايةً من الاقتصاد.

الاقتصاد

تضارع العلاقات في أهميتها — بل تفوُّقها في بعض التحليلات — الاعتبارات الاقتصادية.50 ثمَّة العديد من التباينات الدقيقة في هذا الموضوع، لكن الرسالة العامة هي أن اللازمة الشائعة القائلة بأن «المال لا يشتري السعادة» خطأ … إلى حدٍّ ما. الدراسات مُعقَّدة ومحل خلاف، وعليها كثير من الجدل، لكن يتفق أغلب الباحثين أنه على مستوى الأفراد أو الدول على حد سواء، إذا كان الناس فقراء، فمن شأن زيادة ثروتهم أن تزيد من سعادتهم فعلًا، لا سيَّما الأشكال التقديرية منها. والسبب بسيط: أنها تتيح لهم إشباع حاجاتهم الأساسية بشكل أفضل (مثال: الأمن الغذائي). ولكن حتى إن لُبِّيَت هذه الحاجات بدرجة كافية، فلا تؤدي زيادة الثروة إلى زيادة السعادة بالضرورة، وتصبح العلاقة بينهما أكثر تعقيدًا.
سنرى فيما يلي ما يجعلها مُعقَّدة. لكن أولًا، على سبيل التأكيد، سنقول إنه في الجزء السفلي من المقياس المالي ثمَّة ارتباط وثيق بين المال والسعادة، على مستوى الأفراد والدول. فالواقعون تحت وطأة الفقر يجدون صعوبة أكبر في تلبية حاجاتهم الأساسية، ويتعرَّضون لمنغِّصات مرتبطة بذلك — من الجريمة إلى التلوث — دائمًا ما تهبط بمستوى الرفاه. فعلى سبيل المثال، اكتشفت مراجعة لأبحاث الصحة الذهنية في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل أن ٧٩ في المائة من الدراسات أفادت وجود ارتباط وثيق بين الفقر وبين الاضطرابات الذهنية؛ مثل الاكتئاب والقلق.51
في هذا السياق، الزيادة في الثروة — الدخل بالنسبة للأفراد أو الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للدول — يساعد حقًّا على تدارُك هذه المشكلات؛ إذ يخفِّف من المرض الذهني ويعزِّز السعادة أيضًا. وقد يعزِّز العمل هذا التأثير أكثر، كونه الوسيلة الأكثر شيوعًا لتحصيل الثروة؛ إذ يرتبط في حد ذاته بالسعادة. وتفيد الدراسات الطولية بأن التعطل عن العمل لا يؤدي فحسب إلى تراجُع تقييم الحياة بدرجة كبيرة على المدى القصير، فحتى إذا استعاد الناس عملهم فسيظل تقييمهم لحياتهم منخفضًا زمنًا طويلًا.52 رغم ذلك، فقد عارضت أبحاث أخرى هذه النتائج، بل أشار بعضها إلى أن التعطل عن العمل قد يؤدِّي إلى السعادة ما دام لدى الناس الأمان المادي.53 بَيْد أنه في العموم رغم أن العمل من الممكن أن يكون مرهقًا، فإن أغلب الأبحاث تجد أن انشغال الفرد بعمل ما — بما في ذلك الأعمال التطوعية — يعود عليه ولو بشيء من السعادة، لأسباب تمتد من وجود الغاية والانغماس وصولًا إلى التواصل والدعم الاجتماعيين.54
ورجوعًا إلى النقطة الرئيسية، يُدرُّ العمل الدخل أيضًا، وهو ما يمكن أن يعزِّز هو نفسه السعادة. لكن النقطة التي تصير فيها الدراسات أكثر تباينًا، بل أكثر إدهاشًا — حسب افتراضات كل شخص — هي النقطة التي قد يزول فيها تأثير المال. وقد لفتَ الأنظارَ لهذا الموضوع في سبعينيات القرن العشرين عالِمُ الاقتصاد ريتشارد إيسترلين، الذي لاحظ أنه رغم أن دولًا مثل الولايات المتحدة كانت تزداد ثراءً، فإنها لا تزداد سعادةً.55 وكان هذا القول مخالفًا للبديهة حتى إنه صار معروفًا باسم مفارقة إيسترلين. وهي لا تُعد مفارقة إلا إذا كان الشخص يتوقَّع تلك العلاقة، بَيْد أنها أيديولوجيا سائدة في العصر الحديث ومن ركائز الرأسمالية الاستهلاكية.56
رغم ذلك، فبعض الناس يشكِّكون في فرضيتها المحورية، زاعمين أن الثروة تؤدِّي إلى مكاسب متزايدة بانتظام في السعادة (أي إنها لا تستقر عند مستوًى مُعيَّن). أفاد تحليل لاستطلاع جالوب العالَمي بأن ثمَّة ترابطًا قويًّا (٠٫٧٤) بين الرضا عن الحياة والناتج المحلي الإجمالي — ممَّا يوحي بأن الناتج المحلي الإجمالي مسئول عن أكثر من نصف التفاوت بين الدول خصوصًا في ذلك المقياس للرفاه — وهو أمر يظل منطبقًا على كل مستويات الثروة علاوةً على ذلك.57 بالمثل، استخدمت دراسة أمريكية منهجية معاينة الخبرة — التي قدَّمناها في الفصل الثالث عند مناقشة مفهوم التدفق — فلاحظت نزعة خطِّية ظلَّت مستمرة حتى بعد تخطِّي الدخل ٨٠ ألف دولار سنويًّا، وإنْ كان ممَّا له دلالة أن أحجام التأثير كانت صغيرة جدًّا، ممَّا يعني أن العلاقة لا تزال ضعيفة.58
رغم ذلك، يعتقد أغلب العلماء على الأرجح أن العلاقة تتضاءل تدريجيًّا. فقد اكتشفت استعراضًا شاملًا ﻟ ١١١ دراسة، على سبيل المثال، أن الارتباط بين الوضع الاقتصادي والسعادة كان في أقوى حالاته بين الأنظمة الاقتصادية النامية المنخفضة الدخل (ر = ٠٫٢٨، وهو ما يظل ضعيفًا إحصائيًّا)، وفي أضعف حالاته بين نظيرتها ذات الدخل المرتفع (٠٫١، وهو ضئيل).59 كذلك، اكتشف تحليل آخَر لاستطلاع جالوب العالَمي أن متوسِّط «حد الإشباع من الدخل» — نقطة الانقلاب التي يضعف عندها الارتباط — أن الإشباع يحدث عند ٩٥ ألف دولار في تقييم الحياة، وأن الوجدان الإيجابي يحدث عند ٦٠ ألف دولار (أو أيًّا كان ما يعطي القوة الشرائية الموازية لكل عملة).60 كان ثمة تبايُن مثير للاهتمام على المستوى الإقليمي؛ إذ تتراوح نقاط الإشباع التقييمية من ٣٥ ألف دولار (أمريكا اللاتينية والكاريبي) إلى ١٢٥ ألف دولار (أستراليا ونيوزيلندا)، ويتراوح حد الإشباع الذي يحقِّق المتعة من ٣٠ ألف دولار (أمريكا اللاتينية والكاريبي مرَّة أخرى) إلى ١١٠ ألف دولار (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا). لكن مهما كانت التفاصيل الإقليمية، فتلك الاكتشافات تفيد بأن الإشباع من الدخل يحدث عند نقطة ما. وتوجد تفسيرات عديدة مُحتمَلة، لكنَّ واحدًا من أبرزها يتعلق بالمساواة المجتمعية.

المساواة

عند تفسير ظواهر على غرار الإشباع من الدخل ومفارقة إيسترلين، نجد أن من الأسباب المرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا الفرق بين الثروة المطلقة والثروة النسبية. وكلاهما مهم من أجل السعادة. تشير الثروة المطلقة لحجم المال لدى الشخص أو البلد بغضِّ النظر عن حجم ما لدى الآخَرين. من تلك الناحية، كلما ازداد الناس أو الدول ثراءً، تمكَّنوا من شراء المزيد من السلع والخدمات (بصرف النظر عن ديناميات العرض والطلب). ومن شأن ذلك أن يساهم في زيادة سعادتهم بالطرق التي سبقت الإشارة إليها. لكن البشر كائنات اجتماعية، ويهمهم لدرجة بالِغة كذلك الثروة النسبية: لأي درجة نحن أثرياء مقارنةً بالآخَرين.61 وهذا يخلق بعض الديناميات المثيرة والمؤثرة.
يتعلق أولها بطاحونة المتعة التي ذكرناها في الفصل الماضي. قد تزداد دول عديدة ثراءً، لكن قد ترتفع تباعًا التوقعات المتعلقة بشكل الحياة الطيبة. وهذا يرجع بالتحديد إلى أن نقطتنا المرجعية الرئيسية للحكم على أحوالنا هي الآخَرون المحيطون بنا في الوقت الراهن، لا الأجيال السابقة أو الذين يعيشون في أماكن نائية.62 في ستينيات القرن العشرين مثلًا، كان جهاز تلفاز منزلي واحد غير مُلوَّن ربما يكفي ليشعر الناس بأنهم مُوسِرون في الولايات المتحدة. أما الآن فقد يشعر الناس أنهم مُعوِزون دون هاتف ذكي شخصي — يفوق في قدرته الحاسوبية حاسوب توجيه وحدة قيادة بعثة أبولو ١١ — بما أن أغلب الآخَرين حولهم يملكون واحدًا، حتى إذا كانوا يعلمون في المطلق أنهم يملكون موارد تفوق نُظرائهم السالفين أو مَن يعيشون في مناطق أشد فقرًا من العالَم.
لكن لعل الأوقَع حتى من تأثير الطاحونة هذا هو درجة عدم المساواة بين أفرد مجتمع ما. نظرًا لنزوعنا الفطري إلى المقارنة الاجتماعية، فإن عدم المساواة عامل مُضاعِف لقوة ذلك النزوع، وهي تقلِّل من الزيادة في السعادة التي من شأن الفرد أن يتوقعها نتيجة الزيادات في ثروته المطلقة، بل قد تبطلها. حتى إن عالِمَي الوبائيات ريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت قد زعما أن عدم المساواة في المجتمع، لا ثروته، هي المحدِّد الرئيسي لرفاهه (وإن كان البعض قد انتقد تحليلاتهما بأنها أُحادية البُعد).63 كلما ازدادت عدم المساواة في مكان ما — أي كلما اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء فيه — ساءت نتائجه في أغلب المقاييس، بدايةً من الصحة البدنية والذهنية، ووصولًا إلى الأداء التعليمي. وهذا النسق ينطبق عمومًا لا عند المقارنة بين الدول فحسب، وإنما عند المقارنة بين المناطق داخل البلد الواحد أيضًا.
ومما يثير القلق أكثر حتى من ذلك أن عدم المساواة جعلت تزداد في العديد من الأماكن. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ارتفعت نسبة راتب الرئيس التنفيذي إلى راتب مرءوسه العادي من ١:٢١ عام ١٩٦٥ إلى ١:٣٢٠ عام ٢٠١٩، ومن زاوية أعم، يكسب الرؤساء التنفيذيون خمسمائة ضعف القيمة الوسطى للرواتب الأمريكية.64 وفي واقع الأمر، إن عدم تصدُّر أغنى الدول المراكز العُليا في تقرير السعادة العالَمي — إذ حلَّت الولايات المتحدة في المركز التاسع عشر عام ٢٠٢١ — يعود بدرجة كبيرة إلى غياب المساواة فيها. في المقابل، قد تكون الدول العشرة الأولى موسرة نسبيًّا، لكن غالبًا ما تُعزى مراكزها المرتفعة لسيادة المساواة فيها نسبيًّا، متمثلة في سياسات اجتماعية عادلة وشبكات أمان قوية. فعلى سبيل المثال، في الدولة الأولى، فنلندا، كانت النسبة بين راتب الرئيس التنفيذي والموظف ١:٤٨ «فقط» في عام ٢٠١٩.65
علاوةً على ذلك، فإن عدم المساواة لا تؤثِّر على الأشد فقرًا من الناس فقط، وإنما تضر بالجميع على حدٍّ سواء. قد ترجح كفة الأشخاص الأكثر ثراءً في المقارنة الاجتماعية كَوْنهم أيسَر حالًا نسبيًّا. ويمكنهم أيضًا عزل أنفسهم عن الفقر وعن المجتمع حتى إلى حدٍّ ما، بأن يعيشوا داخل مجتمعات مُسوَّرة مثلًا. إلا أن تلك التدابير من الممكن أن تصبح أقفاصًا ذهبية تقيِّد حرياتهم بطُرق أخرى. فعلى كل حال، سيظل الأثرياء يسكنون نفس المدن والمناطق التي يسكنها أولئك الأشد فقرًا، وحسب الدرجة التي ينخر بها انعدام المساواة في رأس المال الاجتماعي وسائر الموارد المشتركة الثمينة، سيطول تأثيره الكل. وكما قال الرئيس الأمريكي السابق، جون إف كينيدي: «إذا كان المجتمع الحر يعجز عن مساعدة الأغلبية الفقيرة، فإنه سيعجز عن إنقاذ الأقلية الغنية.»66

نظام الحُكم

تقودنا الاعتبارات المتعلقة بمسائل مثل المساواة إلى سلسلة من التأثيرات التي تندرج تحت عنوان نظام الحُكم. وهو يشمل الطريقة التي تتشكَّل بها حياة الناس من خلال هياكل وديناميات اجتماعية هرمية للسلطة، مثل السياسات التي يسنُّها أولئك المُخوَّلون بالسُّلطة. فعلى سبيل المثال، كان اثنان من العوامل الستة التي حدَّدها تقرير السعادة العالَمي لعام ٢٠٢٠ باعتبار أنها المسئول الأكبر عن التفاوت بين الدول، هما عاملَي الحرية والفساد. وهما لا يتوقَّفان على نظام الحُكم وحده بالطبع؛ فمن الممكن تصوُّر الحرية من الناحية الفردية باعتبارها الإيمان باستقلالية الفرد وفاعليته الذاتية. إلا أن تحليل هذه الموضوعات قد ركَّز أيضًا على دور نظام الحكم في تحقيقها.

فقد عرَّف عالِم الاجتماع رووت فينهوفين الحرية بأنها «إمكانية الاختيار»، وهي صياغة استُخدمت في بند استطلاع جالوب العالَمي الذي يستند إليه تحليل تقرير السعادة العالَمي («هل أنت راضٍ أم غير راضٍ عن حريتك في اختيار ما تفعله في حياتك؟»)67 ولهذا مكونان: القدرة على الاختيار وإتاحة الفرصة للاختيار. أما الأولى فهي سِمة فردية (وفقًا لنظريات الفاعلية الذاتية)، وأما الثانية فهي مسألة مُتعلقة بنظام الحُكم، متوقِّفة على اللوائح والأعراف والأنظمة في المجتمع. ولهذا الأمر أهمية بالِغة؛ إذ قدَّر فينهوفين أن الاختلافات في هذه المساحة مسئولة عن ٤٤ في المائة من التباين في مستوى السعادة بين الأمم.68
ويحدد فينهوفين ثلاثة أنواع رئيسية من الحرية لها علاقة بنظام الحُكم. أولًا: الحرية «الاقتصادية»، التي يعين لها مؤشر الحرية الاقتصادية أربعة أبعاد: سيادة القانون، وحجم الحكومة، والكفاءة التنظيمية، وانفتاح السوق.69 وثانيًا: الحرية «السياسية»، وتحدد لها منظمة بيت الحرية «فريدوم هاوس» ثلاثة أبعاد: العملية الانتخابية، والتعددية والمشاركة السياسية، وكفاءة الحكومة.70 وثالثًا: الحرية «المدنية»، التي يحدد لها مؤشر الحرية الاقتصادية أربعة أبعاد: حرية التعبير والاعتقاد، وحقوق الانتماء للاتحادات والمنظمات، وسيادة القانون، والاستقلال الشخصي والحقوق الفردية.71 وهي كلها مترابطة فيما بينها، مع وجود ارتباطات مرتفعة في تحليل فينهوفين بين الحريات الاقتصادية والسياسية (ر = ٠٫٦٩)، والاقتصادية والمدنية (٠٫٥٨) والسياسية والمدنية (٠٫٦٦).
علاوةً على ذلك، فإنه بجانب الحرية، يؤثِّر نظام الحكم على السعادة بطُرق شتَّى. وكما ذكرنا سابقًا، كان الفساد عاملًا محوريًّا آخَر في تحليل السعادة العالَمي. ومكافحة الفساد كذلك واحدة من المؤشرات الستة التي يستخدمها البنك الدولي في التقييمات العالَمية للكفاءة الحكومية، بجانب حرية التعبير والمساءلة (الحقوق المدنية)، والاستقرار، والفعالية البيروقراطية، والإطار التنظيمي (السياسات الاقتصادية)، وسيادة القانون (الأنظمة القانونية الفعالة).72 وتتداخل هذه المؤشرات مع الحريات أعلاه، لا سيَّما حرية التعبير والمساءلة وسيادة القانون.
من ثَم فإن عمليات الحكم لها بالِغ التأثير على الرفاه. فقد وجد تحليل لاستبيانات متعدِّدة في ٥٥ بلدًا أن ٣ عوامل قد أثبتت علاقات بالِغة القوة وقابلة للتكرار مع السعادة، وهي: الدخل (كما ذكرنا فيما سبق)، والفردية (كما سنتبيَّن فيما يلي)، وحقوق الإنسان.73 أما من ناحية الأخيرة، فقد استخدم الباحثون إطارًا يحدِّد ٤٠ حقًّا مختلفًا، مجتمعة في ٣ أبعاد: الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان (مثال: الاحتجاز دون تهمة)، والحقوق المدنية (مثال: المحاكم المستقلة)، والحقوق السياسية (مثال: حرية الصحافة).74 استنادًا إلى تلك الأبحاث، يزداد الإقرار بأن السعادة تتوقف إلى حدٍّ ما على «المؤسسات الاجتماعية والسياسية المؤثِّرة».75

الثقافة

ينتهي استعراضنا القصير لبواعث السعادة بباعث أكثر إبهامًا وغموضًا، لكنه يلعب دورًا رئيسيًّا؛ ألَا وهو الثقافة. وهي عنوان يختصر الديناميات بين الذاتية لشعب ما؛ إذ يشمل كل شيء بدايةً من قيمهم وأفكارهم المشتركة وصولًا إلى تقاليدهم وممارساتهم الجماعية. وهي بالإضافة إلى ذلك تعمل على كل المستويات — وفق نظرية النظم البيئية لبرونفينبرينر — بدايةً من المنظومات المصغَّرة مثل الأسرة، وانتهاءً إلى المنظومات الشاملة مثل منطقة جغرافية سياسية كاملة (مثال: الغرب).

من ناحية، توجد الثقافة في كل ما يحيط بنا. فاللغة مثلًا منتج ثقافي، وتستطيع تشكيل أفكار الناس عن السعادة وإحساسهم بها على نحو جوهري، كما تبيَّنا في الفصل السابق. لذلك فإن الثقافة متغلغلة في كل العوامل الأخرى المذكورة هنا. فالعمليات على غرار الاقتصاد أو نظام الحُكم هي، نوعًا ما، مظاهر أو انعكاسات للقيم الثقافية. لكن ربما لهذه الأسباب بالتحديد يصعب دراسة الثقافة وتفسيرها (مقارنةً بمحصِّلات أكثر قابلية للقياس ماديًّا مثل الدخل). وفي سياق متصل، يصعب تحليل الأدبيات المعنية بأنساقها المعقَّدة، بل المتناقضة.

لنتأمل ظاهرة الفردية مقابل الجماعية. قدَّر التحليل المذكور آنِفًا المتعلق بنظام الحُكم أن العوامل الثلاثة الأكثر ارتباطًا بالتباين في مستوى السعادة على مستوى الدول كانت الدخل وحقوق الإنسان والفردية. وفي ذلك الصدد، زعم الباحثون الذين أجروا التحليل أن الأخيرة مرتبطة بقَدْر أكبر من الحرية، التي تُعد بدورها عاملًا أساسيًّا في السعادة. إلا أن تلك التقديرات يناقضها بحث يشير إلى أن الجماعية قد تكون مساهمًا أكبر في السعادة، على الأقل بقَدْر ما تعزز عوامل مهمة أخرى، مثل العلاقات الاجتماعية القوية.76
وممَّا يعقد الصورة أكثر أن الفردية والجماعية لا تؤثِّران على هذه البواعث فحسب، بل تؤثِّران أيضًا على تصوُّر الناس للسعادة. فالعلاقات مهمة من أجل السعادة، كما سبق أن ذكرنا، لكن الثقافة لها تأثير على مدى الأهمية التي يمنحها الناس لذلك العامل؛ إذ يُمنَح قيمة أكبر في الأماكن التي تسود فيها الجماعية أكثر؛ إذ قد يتأتى تفسير السعادة نفسها في تلك الثقافات بمصطلحات أكثر تضامنيةً، مع تركيز على الأشكال المتصلة بالعلاقات بين البشر.77
من ثَم فإن تأثير الثقافة على السعادة تأثير عميق ومُعقَّد؛ إذ يتقاطع فيه عدد لا يُحصى من التيارات، ولا يكاد المجال هنا يتسع حتى لتناولها تناولًا سطحيًّا. وهكذا فإنه لإلقاء الضوء على أهمية الثقافة، سأذكر المنتج الثقافي الذي يتعلق به القَدْر الأكبر من النتائج التي يمكن الاعتداد بها فيما يخص السعادة والرفاه بصورة أعم، ربما من بين جميع الظواهر المماثلة: الدين والروحانية. فإن القَدْر الهائل من الأبحاث التي أُجريت في هذا الموضوع — الذي يُعرَف غالبًا باسم «العلاقة بين الدين والصحة» — تشتمل على خيوط متشابكة، تغطِّي أبعادًا متعددة من الحياة.78
على المستوى النفسي، يقترن الدين والروحانية بالعديد من السمات المفيدة. منها الكرم على سبيل المثال — الذي سلَّط عليه الضوءَ تقريرُ السعادة العالَمي باعتباره مهمًّا في حد ذاته — حيث غالبًا ما تحض الموروثات على العطاء، الذي ينمي السعادة ليس لدى المتلقي فقط ولكن لدى المانح أيضًا.79 كذلك فإن الدين والروحانية مفيدان بدرجة كبيرة في خَلْق المعنى؛ إذ يوفِّران الوضوح (بتقديم فهم للوجود) والأهمية (بإضفاء غاية على حياة الفرد).80 وتقود أُطُر المعنى هذه بدورها إلى نتائج إيجابية أخرى، منها الوقاية من الصدمات والمساعدة على تخفيف المخاوف الوجودية إزاء الفناء من خلال المعتقدات المتعلقة بالخلاص، كالإيمان بالحياة الآخرة وبوجود خطة أكبر للوجود.81
كذلك يبعث الدين والروحانية على السعادة بطُرُق أخرى. فإنهما من الناحية الجسدية يعزِّزان سلوكيات ونتائج صحية — من خلال أوامر ونواهٍ أخلاقية، مثل حظر الكحوليات — وهو ما يؤثِّر على السعادة، كما سبق أن رأينا.82 وإذا تجاوَزْنا هذه العوامل الفردية، فسنجد أن الدين والروحانية محفزات فعَّالة للجوانب الاجتماعية للرفاه. فالمشاركة الدينية عادةً ما تكون عملًا جماعيًّا، على الصعيد بين الذاتي (مثال: بمشاركة المعتقدات مع الرفاق متبعي المذهب) وعلى الصعيد بين الموضوعي (مثال: بارتياد أماكن عبادة مشتركة). وهكذا توفِّر الأديان دعمًا ثقافيًّا وهيكليًّا بالِغ الفاعلية، مشجِّعةً على استثمارات «طويلة الأجل للوقت والطاقة والعلاقات المتبادلة، داخل سياقات تحكمها قواعد الثقة والتبادل والالتزام المشترك».83
كما هو الحال مع كل الديناميات الثقافية — وعوامل السعادة عامةً — ثمَّة تباينات دقيقة بالطبع، فالدين والروحانية ليسا مفيدَين بالضرورة أو في جميع الحالات. فمن الممكن أن تكون بعض منظماتهما غير مرحبة بفئات مُعيَّنة من الناس، مثل أصحاب الميول الجنسية المخالفة، وهو ما قد يبعث على قَدْر كبير من الكرب. أو قد يَحدُث تنازعٌ بين الديناميات الشخصية والمجتمعية؛ فمن الجائز أن ينتمي الشخص إلى مجتمع أو بلد متديِّن، لكنه شخصيًّا لا ينزع إلى التديُّن أو الروحانية، أو العكس. وتلك الحالات قد تؤدِّي إلى عزلة أو اغتراب ثقافي، وهو ما قد يحول دون السعادة.84

إلا أن الدين والروحانية، في العموم، غالبًا ما يساعدان على تحفيز السعادة، شأن العديد من الديناميات الثقافية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك فإننا حين نفهم هذه العمليات المؤثِّرة على نحو أفضل، سنستطيع السعي إلى تنمية السعادة بفعالية أكبر، كما سيستكشف الفصل الأخير من الفصول الرئيسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤