الفصل السادس

تيسير سُبل السعادة

أخذَنا هذا الكتاب في جولة قصيرة في الرحاب الثرية للسعادة؛ أصولها وأنواعها وبنيتها وعواملها. لكن لعل السؤال الأساسي الباعث على كل هذه الاهتمامات في قرارة نفسنا هو: هل نستطيع فعليًّا أن ننمي السعادة؟ ففهمها على نحو أفضل هو نشاط فكري لا بأس به، لكنني أعتقد أن ما يحث على أغلب الأبحاث والتأملات الفكرية في النهاية هو الأمل في إحداث اختلاف في حياة الناس، وهو ما سنوجِّه إليه الاهتمام في هذا الفصل الأخير الجوهري.

قد تشكِّك الحِكم الشعبية في إمكانية تحقيق تلك الغاية. فثمَّة اقتباس منسوب لكلٍّ من هنري وناثانيال هوثورن — وإنْ كان لا يظهر في الكتابات المعروفة لأيٍّ منهما — يقول مطلعه: «السعادة فراشة، متى لاحَقْتها فرَّت من قبضتك.» تجتمع الخبرة العامة والمعرفة العلمية على تأكيد أنه لا يمكن للفرد أن يرغب في السعادة فتأتيه. لكن هذا لا يعني عجزنا. إذ يقول تتمة الاقتباس: «لكنك إذا جلست ساكنًا، فربما تحط [السعادة] عليك.»

لقد اطَّلعنا على المعالم الدقيقة للسعادة — أصولها وأنواعها وبنيتها وعواملها — لكن لعل السؤال الأساسي الباعث على كل هذه الاعتبارات في قرارة أنفسنا هو: هل نستطيع فعليًّا أن ننمِّي السعادة لدى الناس؟

في هذا إيحاء بأن تنمية السعادة ممكنة، لكن ليس بطريق مباشر، بل باتباع سبل غير مباشرة، وهو الرأي الذي عبَّر عن مثله الفيلسوف جون ستيورات مِل حين قال: «السعداء (في ظني) هم الذين صبُّوا اهتمامهم على غير سعادتهم؛ على سعادة الآخَرين، والنهوض بالبشرية، أو حتى فن أو مسعًى يسعَون إليه، لا باعتباره وسيلة، وإنما غاية مُثلى في حد ذاته. فباستهدافهم شيئًا آخَر على هذا النحو، يجدون السعادة في الطريق.»1

بيت القصيد هو أنه ثمَّة طُرق لنغدو أكثر سعادةً، بل لنساعد الآخَرين لبلوغ تلك الغاية (والمفارقة أن ذلك قد يكون من بين أضمن الطرق لتحقيق رفاهنا نحن، كما يزعم مِل). وتشكل تلك الاحتمالات الأساس لهذا الفصل. ورغم أن هذا ليس من كتب المساعدة الذاتية، فقد تجد في بعض الأجزاء التالية دروسًا وفوائد عملية لك أنت شخصيًّا، واستراتيجيات أخرى مفيدة في تحسين حياة الناس في العموم. لكن نذكر مرَّة أخرى أن الأدبيات المعنية واسعة للغاية حتى إن هذا الفصل لا يمكن أن يشملها بأي حال. بَيْد أنه يقدِّم عرضًا جيدًا للمجال المعني.

وأعني كلمة المجال بأوسَع معانيها. فكما ذكرت سابقًا، تعرضت أبحاث السعادة للانتقاد لتركيزها على الجانب الفردي، وهو ما يعكس النزعات الفردية العميقة في الغرب (حيث جرت أغلب تلك الأبحاث). وهكذا من الممكن أن تبدو الأشكال التطبيقية للبحث مُنصبَّة على العلاجات الشخصية، مشجعة على الامتنان أو اليقظة الذهنية مثلًا. ولهذه الممارسات أهميتها وهي مدرجة هنا. غير أنه لا يجب أن نقصر أنظارنا عليها.

تتأثَّر السعادة بمزيج مُعقَّد من العوامل السياقية، كما رأينا في الفصل الخامس، تمتد من الاقتصاد إلى نظام الحكم. وإذا كنا نرغب بحق في تحسين حياة الناس، فعلينا أيضًا الالتفات إلى هذه العوامل. إذ لو أغفلناها فستكون أقصى محاولاتنا قاصرة ومحدودة الأثر. وقد عبَّر نقَّاد علم النفس الإيجابي عن هذا الرأي بحمية، حين كتبوا: «إن ادعاء أن ممارسة تمارين المساعدة الذاتية من الممكن أن تكون كافية في غياب التحوُّل الاجتماعي ليس قاصرًا فحسب، وإنما منفِّر أخلاقيًّا أيضًا.»2

للإنصاف، لا أعتقد أن العديد من الناس، إنْ وُجدوا، يرون أن ممارسة تمارين المساعدة الذاتية كافية بتلك الطريقة. فأكثرهم غالبًا يؤيِّد التحسينات الاجتماعية، ولكن يزعمون أن تلك التمارين قد يكون لها دور إيجابي في تحسين حياة الناس. غير أننا ما دمنا نريد تعزيز السعادة بحق، فلا يجوز أن نركِّز فقط على مساعدة الأفراد، وإنما لا بد أن نُعنى بالسياقات الاجتماعية الثقافية النظامية التي يتواجدون فيها. ولا أقصد أن نفعل هذا بأسلوب «الهندسة الاجتماعية» بمفهوم أورويل، وإنما أقصد ببساطة أننا في انشغالنا بالمجتمع — من العمل على تحسين مجتمعنا المحلي إلى التصويت في الانتخابات — يمكننا أن نهدف لوضع سعادة الناس في اعتبارنا.

قد يرفض بعض الناس هذا الاقتراح، معتقدين أن تلك المحاولات للتأثير على السعادة قد تكون مُشكِلة. فعلى سبيل المثال، استنادًا إلى مفاهيم مهمة تتعلق بحرية الأفراد، يدفع بعض النقاد بأن السلطات لا يحق لها «التدخل» في رفاه الناس.3 ولا شك أن حُججهم لا تخلو من صحة. إلا أن السياقات الاجتماعية الثقافية تؤثِّر حتمًا على الرفاه، بغضِّ النظر عن شعورنا بشأن ذلك التأثير. فكل قرار يتخذه الناس بشأن الهياكل والأنظمة يؤثِّر على سعادة أولئك الذين بداخل هذه الشبكات. من ثَم فإننا ما لم نكُن نشعر بحق أن مصلحة الآخَرين غير مهمة أو لا تعنينا في شيء، فمن المهم أن نحاول جعل هذه العمليات أكثر إسهامًا في الرفاه.
والقيام بذلك لا يعني فقط التركيز على ما أسماه عالِم الاجتماع روبرت بيلا وزملاؤه «ما هو اجتماعي بالمعنى المحدود».4 حين تهتم المجالات على غرار علم النفس الإيجابي بالسياق، فغالبًا ما يكون اهتمامها مقتصرًا على المنظومات المصغَّرة مثل الأسر أو المدارس. لكن رغم أهمية هذه المناطق، فإننا بحاجة إلى تأمُّل المنظومات الأوسَع التي تؤثِّر على تلك المنظومات المصغَّرة وتؤثِّر على قدرة الناس على الازدهار، مثل الفرص التعليمية والاقتصادية.
لإدراك مدى اتساع المجال المعني، يمكننا استخدام خريطة وضعتها بمساعدة بعض الزملاء. وقد اشتمل هذا المخطَّط على تعديل إطار ويلبر التكاملي — الذي قدَّمته في الفصل الرابع — بتقسيم البُعدين الفردي والجماعي إلى عدة طبقات. وكانت النتيجة هي نموذج المثال المتعدد الطبقات للإطار التكاملي (الذي يُشار إليه اختصارًا بالإنجليزية بكلمة لايف)، الذي يوضح الشكل ٦-١5 أحد صوره. وثمَّة طُرق شتى لتقسيم هذه الأبعاد؛ من ثَم فإنما هذا «مثال» واحد للطبقات المعنية (التي جاء منها الاسم).
fig8
شكل ٦-١: نموذج المثال المتعدد الطبقات للإطار التكاملي.

قُسِّمت المجالات المنفردة إلى خمسة مستويات لها دلالة خاصة هنا. وهذه المستويات ليست منفصلة أو مستقلة، وإنما تتداخل وتتشابك بطُرق معقَّدة، كما رأينا في الفصل الرابع. وعلاوةً على ذلك فهي تشمل البُعدين الذاتي والموضوعي؛ إذ إن الظواهر لها جانبان، ذاتي (مثل كيفيات محسوسة) وموضوعي (مثل السمات الفسيولوجية). إلا أن التفرقة بين هذه المستويات من ناحية المفهوم لهو وسيلة إرشادية مفيدة؛ إذ يتيح لنا استكشاف تلك المساحة بمزيد من الدقة.

قُسِّمت المجالات الجماعية إلى طبقات استنادًا إلى نظرية النظم البيئية لبرونفينبرينر، التي قدَّمناها في الفصل السابق. إلا أننا لم نُضمِّن سوى مستوياتها الوسطى الأربعة، بما أن طبقة الفرد (المنظومة الأولى لدى برونفينبرينر) ممثَّلةً في المجالات العلوية من نموذج لايف، والمنظومة الزمنية (طبقته الخارجية) مُعبَّر عنها ضمنًا في نموذج لايف عمومًا. وقد أضفنا، علاوةً على ذلك، المنظومة البيئية، بما أن المنظومات الشاملة حتى تندرج داخل السياق الأوسَع للطبيعة. ومجددًا نقول: إن هذه المستويات هي الأخرى تصل بين البُعدين الذاتي والموضوعي، بكلتا السِّمتَين بين الذاتية (مثال: كيفيات محسوسة مشتركة) وبين الموضوعية (مثال: الأنظمة المادية).

ويتطرَّق هذا الفصل بإيجاز إلى المستويات العشرة كلها، مقدمًا عرضًا انتقائيًّا للأنشطة والممارسات المعنية المحتمل أن يكون لديها إمكانية تيسير السبيل إلى السعادة. وبطبيعة الحال سنَودُّ التركيز على الأدلة الأكثر رسوخًا. فقد رأينا فيما يخص بواعث السعادة أهميةَ الدراسات الطولية في إثبات السببية (وإنْ كنا ذكرنا أيضًا أن تلك الأبحاث قليلة نسبيًّا). وكذلك تُعد التدخلات، المتمثلة في التجارب العشوائية المضبوطة معيارًا، أمثَل شبيه. وفيها يُقسَّم الناس عشوائيًّا إلى مجموعة تجريبية يُستعمَل فيها التدخُّل (ليكن اليقظة الذهنية مثلًا) ومجموعة ضابطة. وغالبًا لا يطلب من المجموعة الثانية فعل شيء أثناء انتظار تطبيق التدخُّل على المجموعة الأولى، وإنْ كان يوجد عادةً نوع «نشِط» من المجموعات الضابطة (أي التي تقوم بنشاط قد يكون مفيدًا، لكنه يختلف جوهريًّا عن التدخُّل). وإذا كانت المجموعتان متساويتَين في خط الأساس، فمن الممكن عندئذٍ أن تُعزى الاختلافات اللاحقة للتدخُّل من ناحية مبدئية.

لكن هناك العديد من المحاذير بالطبع. على سبيل المثال، في حالة التدخُّل الناجح من الصعب الجزم ﺑ «العنصر الفعَّال» — أهو اليقظة الذهنية في حد ذاتها مثلًا، أم مجرد القيام بنشاط مسلٍّ برفقة أناس لطفاء — وإنْ كان شرط وجود مجموعة ضابطة نشطة من شأنه أن يساعد في حالة هذه الاعتبارات. وعلى الجانب المقابل، من المحتمل أن تكون بعض الأنشطة مفيدة، لكنها لم تُقيَّم بعدُ بواسطة التجارب العشوائية المضبوطة. إذ إنه ثمَّة مبادرات معيَّنة قد تستعصي على تلك المنهجيات؛ على سبيل المثال، سأستعرض قرب نهاية الفصل تأثير الحركات الاجتماعية التقدمية على السعادة، وهي بطبيعتها تراوغ ضوابط التجارب العشوائية المضبوطة. ولأننا لا نريد استبعاد تلك الحالات، قد نحتاج لقبول أشكال من الأدلة قد تكون أقل حسمًا أو وضوحًا من تلك التي تتأتى بالتجارب العلمية (مع وضع قصورها في اعتبارنا). من ثَم فإن هذا الفصل يسلِّط الضوء غالبًا على الأبحاث التي تستخدم التجارب العشوائية المضبوطة، لكنه لا يعدها مُنزَّهة عن الخطأ، كما لا يعرض تمامًا عن العلاجات الأخرى التي ينقصها حاليًّا هذه الأدلة المعيارية.

الوعي

لنبدأ بالبُعد الفردي. الطبقة الأساسية في ذلك البُعد هي الوعي، لما كانت تنميته واستنهاضه هما الأساس لأغلب الأنشطة المتعلقة بسائر المستويات الفردية الأخرى. فعلى سبيل المثال، حين نناقش «التعامل مع» العواطف أو المعارف لتعزيز السعادة، فعادةً ما يتطلَّب ذلك أن يعي الناس أولًا هذه الكيفيات المحسوسة.

بدايةً، إليكم ملاحظة سريعة عن المصطلح. فالوعي كلمة غامضة ومُعقَّدة ذات معانٍ متعدِّدة. وأنا أستخدمها لأشير إجمالًا إلى مفهومَين متصلين: الإدراك والانتباه. في الأساس، يتعلق الإدراك عمومًا بالذاتية (التسجيل الواعي للكيفيات المحسوسة)، بينما يشير الانتباه إلى وحدات الآليات المعرفية، التي تتحكَّم في مدخلات الوعي (بما في ذلك الانتباه المتواصل والانتقائي والتنفيذي).6 يشير الإدراك إلى تفاعلية الحواس، أما الانتباه فهو بمثابة كشَّاف: «الانتباه يُسلَّط. فهو بمثابة إدراك مُوجَّه نحو شيء بعينه. وله تبعات تنفيذية حركية. فإننا ننتبه «إلى» الأشياء.»7
ومن الأهمية بمكان أن الإدراك والانتباه ليسا مجرَّد عمليات نفسية فحسب، بل هي أيضًا «مهارات» قابلة للتدريب. كذلك فإن هذا التحسين مُقترن بالرفاه. وأكثر الأنشطة ارتباطًا بهذه التنمية هو التأمُّل، الذي يُعد غرضه الأساسي — على اختلاف أشكاله — هو تعزيز الوعي. فكما أورد استعراض دراسات موثوق، التأمل هو «مجموعة من ممارسات ضبط الذات التي تركز على تدريب الانتباه والإدراك بهدف إخضاع العمليات الذهنية لقدر أكبر من السيطرة الإرادية؛ ومن ثَم زيادة الرفاه الذهني بصفة عامة.»8 من هذا المنطلَق، يمكننا التمييز بين الممارسات بناءً على أربعة عوامل: سلوكيات الذهن، والموضوع، والموقف، والهيئة.9
تشير سلوكيات الذهن إلى «نوع» الإدراك أو الانتباه. غالبًا ما تُصنف ممارسات التأمل إلى نوعَين رئيسيين، كما ورد في الفصل الثالث (فيما يتعلق بسعادة الاستغراق): الانتباه المركَّز والرصد المنفتح.10 أحيانًا ما يُفسَّر هذان المسميان باعتبارهما نظيرَين تقريبيَّين لمفهومَين باللغة البالية (لغة النصوص البوذية الأولى): «الساماثا» و«الفيباسانا». تنطوي ممارسات الانتباه المركَّز في المقام الأول على الانتباه المتواصل إلى محفِّز بعينه كالتنفس. إلا أنها تستخدم أنماط الانتباه الأخرى كذلك: التنفيذي (لمنع الذهن من الشرود)، والتحويلي (للانصراف عن المشتتات)، والانتقائي (لإعادة توجيه التركيز للمحفز مجددًا). وعلى النقيض، الرصد المنفتح هو استعداد للاستقبال الواسع المدى، «القدرة غير محدودة المجال على تحديد الحوادث الناشئة من الحواس والمشاعر والأفكار في إطار «خلفية» إدراكية غير مُقيَّدة، دون جلب هذه الأحداث إلى الصدارة أو وضعها في بؤرة تركيز مُعيَّنة.»11 وهو أحيانًا ما يُشبَّه باليقظة الذهنية، التي تُعرَّف بأنها «الإدراك الذي ينشأ عن طريق تركيز الانتباه المتعمد على تجربة تتكشف لحظة بلحظة في اللحظة الراهنة، وبلا إصدار أحكام.»12
ارتبط كلا الشكلَين من الإدراك عَبْر طُرق تجريبية شتَّى بالرفاه بمختلف أبعاده الرئيسية (الذهني والجسدي والاجتماعي والروحاني)، وفي الحيِّزَين السلبي والإيجابي من مقاييس تلك الأبعاد (بتخفيف المعاناة والمساعدة على الازدهار). لفهم الأمر، بنا ننتقل للعامل الثاني، «موضوع» الانتباه أول الإدراك في التأمل. بإمكان الفرد تأمُّل أي غرض حرفيًّا، بدءًا من محفز داخلي مثل التنفُّس وصولًا إلى ظواهر خارجية مثل العالم الطبيعي. فعلى سبيل المثال، يصف الدالاي لاما التأمُّل بأنه «نشاط ذهني متعمد ينطوي على زيادة الألفة بين المرء وما يقع عليه اختياره، سواء كان غرضًا أو حقيقة أو فكرة أو عادة أو منظرًا أو صورة للوجود.»13 تدل هذه الشمولية على أن التأمل قد استُخدم في علاج العديد من الاضطرابات الجسدية والذهنية، وكذلك في تعزيز السعادة من ناحية أعم.
الأجدر بالانتباه أن ثمَّة تزايدًا في الدراسات المتعلقة باليقظة الذهنية، شمل المئات من التجارب العشوائية المضبوطة السريرية. وهو ما بدأ في أواخر سبعينيات القرن العشرين مع تدخُّل رائد استعمله جون كبات زين، وهو تدخُّل الحد من الإجهاد القائم على اليقظة الذهنية، الذي نجح في علاج الألم المزمن؛ إذ أدَّى إرشاد الناس إلى أن يعوا ألمهم بترفُّق بدلًا من مقاومته إلى «تخفيف» إحساسهم به.14 وفي السنوات التالية، طُبِّقت هذه الأساليب على حالات ومشكلات متعدِّدة، استنادًا إلى مبدأ جوهري، ألَا وهو أن زيادة الإدراك تعني أن يكون الشخص أقل عُرضة للتفاعل مع الكيفيات المحسوسة تفاعلًا غريزيًّا غير مفيد. في العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية على سبيل المثال — المصمم لحماية المتعافين من الاكتئاب من الانتكاس — يتعلم الناس أن يتأملوا أفكارهم السلبية دون الحُكم عليها (في مقابل «تصديق» هذه الأفكار، وهو ما قد يؤدي إلى اجترار الأفكار وما يتبعه من انتكاس).15
وقد أثبت عدد هائل من الدراسات أن هذا الأسلوب ناجح في علاج اضطرابات ذهنية متنوعة وتعزيز السعادة، حتى وإن كانت فاعليته أكثر تواضعًا ممَّا يدَّعي مؤيِّدوه أحيانًا. من الأمثلة على ذلك أنني وزملائي كنا قد أجرينا مراجعة منهجية شملت ١٥٣ دراسة عن تدخُّلات اليقظة الذهنية في أماكن العمل، واكتشفنا تأثيرًا إيجابيًّا بوجه عام على العديد من مقاييس الرفاه الذهني، شاملًا كلًّا من الكرب (كالحد من القلق) والسعادة (بما في ذلك أشكال السعادة التقديرية والمتعة والمغزى والسكينة).16 إلا أن أحجام التأثير كانت بالأحرى متوسطة في المُجمَل — مع إفادة بعض الدراسات بعدم حدوث تحسُّن في مقاييس مُعيَّنة — بينما لم يكُن مستوى جودة الدراسات أفضل ما يكون دائمًا. ومن ثَم، فإنه لا تزال هناك حاجة لأبحاث أكثر وأفضل للتثبُّت تمامًا من كفاءة تلك التدخُّلات واليقظة الذهنية عمومًا.
العامل الثالث هو «الموقف»: يُحَض المتأملون على ألا يكونوا منتبهين على نحو «بارد انتقادي»، وإنما على نحو «منفتح ودود … حنون متعاطف».17 إلا أنه من الممكن أن يجد الناس صعوبة في استحضار تلك المشاعر، خاصةً إذا كانوا ميَّالين إلى انتقاد الذات. رغم ذلك، فهناك ممارسات مصمَّمة لتعزيز هذه السمات، مثل «الميتا بهافانا»، التي تُترجَم وتُعرَّف إجرائيًّا بأنها تأمُّل عطوف محب. فهو عادةً ما ينطوي على تشجيع الممارسين، من خلال التخيل العاطفي الموجَّه، على استحضار المشاعر الإيجابية نحو أنفسهم ثم مدها إلى دوائر من الناس تتسع بالتدريج. وقد اكتشفت الأبحاث أن هذا من الممكن أن يعزِّز أشكالًا متنوعة من السعادة؛ فقد بدا على سبيل المثال أن إجراء تجربة عشوائية مضبوطة في مكان العمل قد زاد من العواطف الإيجابية للمشتركين، مما دعم بدوره مواردهم الشخصية (مثل الدعم الاجتماعي)، وهو ما عزَّز من رضاهم عن حياتهم.18
وأخيرًا، تتعلق «الهيئة» بالأوضاع الجسدية المختلفة التي يمكن اتخاذها للتأمل. أشهرها هي وضعية اللوتس الكاملة (بتربيع الساقين ووَضْع كل قدم على الفخذ المقابل)، لكن نشأ عدد هائل من الوضعيات الأخرى، منها الساكن والمتحرك. المثال الكلاسيكي لها هو اليوجا، فقد تكون أقدَم شكل موثق للتأمل، حيث ترجع الأدلة على ممارستها إلى سنة ٣٠٠٠ قبل الميلاد.19 أصلها اللغوي معناه يربط أو يوحد، وتنطوي على توحيد الذهن والجسد بطُرق مختلفة. وتوجد منها فروع شتى — تصل إلى ١٢ وفقًا لبعض التصنيفات — لكن أهمها هو «الهاثا»، فهو أشهر فروعها في الغرب. وهذا الفرع نفسه له عدة مدارس، لكن جميعها تدمج بين الوضعيات الجسدية والتنفس وأساليب التأمل. وطالما احتفت تلك المدارس بإمكانية تعزيز الهاثا للرفاه بطُرق جمَّة — ليس جسديًّا فقط، وإنما ذهنيًّا واجتماعيًّا وروحانيًّا، ولعله الأهم — وها هي الآن تجد الدعم من الأبحاث العلمية.20

العواطف

مساحتنا التالية هي العواطف. لا العواطف باعتبارها «نتيجة»، بما أن أغلب تدخُّلات الرفاه تهدف لتعزيز العواطف الإيجابية بطريقة ما. ولكن أقصد الأنشطة التي «تستهدف» العواطف لتعزيز السعادة. في الأساس، العواطف ليست مجرَّد شيء ينتاب الشخص دون تدخُّل منه، بل يمكن الانخراط فيها بفاعلية، ويمكن إلى حد ما تشكيلها بوعي وتنميتها، بل ربما استحضارها. وممَّا له دلالة أن هذه الإمكانيات تصل إلى العواطف المتصلة بالسعادة.

إحدى الطُّرق لتفهم هذه الإمكانيات من خلال مفهوم الذكاء العاطفي، لا سيَّما النموذج الهرمي البارز الذي وضعه عالِما النفس جون ماير وبيتر سالوفي.21 فهو يستعرض أربعة فروع عاطفية: الإدراك، وتيسير عملية التفكير، والفهم، والإدارة. يشكِّل أول فرعَين الذكاء العاطفي الاختباري (المعالجة المعلوماتية للمحفزات العاطفية)، الذي يعد بمثابة الأساس للفرعين الأعلى استراتيجيًّا (الإدارة الماهرة للمعلومات العاطفية). وقد ربطت أبحاثٌ كثيرة بين الذكاء العاطفي والسعادة، ومن ذلك تضخيم العواطف الإيجابية، وإصلاح السلبية منها، وتعزيز الرفاه بالمعنى الأعم.22
يتداخل الفرع الأول، وهو الإدراك جوهريًّا، مع مفهوم الوعي المذكور أعلاه. فأغلب برامج اليقظة الذهنية مثلًا تشتمل على إدراك العواطف. بعيدًا عن تلك التدخُّلات، توجد تدخلات أخرى عديدة مصممة لتعزيز الإدراك العاطفي في سياقات مختلفة. وهي تشمل مبادرات تعلمية اجتماعية وعاطفية في سياقات تعليمية، مثل مبادرة تساعد الأطفال المحرومين من خلال التدريب العاطفي.23 تضم أمثلة أخرى برامج في سياقات إصلاحية تعالج الأنساق العاطفية والسلوكية التدميرية من خلال تحسين الإدراك العاطفي.24 ومجرد «إدراك» المرء لعواطفه يفيد الرفاه بطرق عدة (كما رأينا سابقًا فيما يتعلق باليقظة الذهنية): إذ يكون المرء أقل نزوعًا للاستجابة غريزيًّا للعواطف السلبية بأنساق لا تفيده، وربما يكون أكثر قدرة على الاستمتاع بالعواطف الإيجابية وتقديرها.
علاوةً على ذلك، يتجاوز الذكاء العاطفي حدود الإدراك. فالفرع الثاني هو «استخدام العواطف لتيسير عملية التفكير»؛ أي «القدرة على توليد العواطف».25 وثمَّة العديد من الممارسات في هذه المنطقة. منها التأمل العطوف المحب، المذكور أعلاه، والذي ثبت أنه يعزِّز الرفاه في السياقات السريرية وغير السريرية.26 وثمَّة فرعٌ بارز آخَر من الأبحاث يتمركز حول الامتنان، على غرار مدونة الامتنان (أي المداومة على تدوين نواحي الحياة التي نشعر بالامتنان تجاهها). فقد اكتشفت مراجعات حديثة أنها ممارسة تضمن تحسين الرفاه، لا الذهني فحسب، بل ربما الجسدي أيضًا (من خلال عوامل وسيطة مثل جودة النوم).27 تخالف تلك الدراسات الحكمة الشعبية المتشائمة التي ذكرناها في بداية الفصل؛ إذ تزعم على النقيض بأنه قد يمكن تنمية بعض المشاعر المتصلة بالسعادة بطريق مباشر.

وعلاوةً على ذلك قد تمتد مهارات الذكاء العاطفي إلى أبعَد من ذلك. فالفرع الثالث القائم على أول فرعين يتعلق بمهارة أعلى، ألَا وهي «الفهم» العاطفي: أي أنْ يكون لدى المرء بصيرة بالديناميات النفسية لتجربته العاطفية. والأنشطة التأمُّلية أو التفكرية لها فائدة كبيرة في هذا الصدد. فقد لاحظت في رسالتي للدكتوراه أن التأمل قد مكَّن الرجال من التغلب على النزوع للانفصال العاطفي — المرتبط جزئيًّا بعمليات التنشئة الاجتماعية الموعية بالجندر، مثل المعايير الذكورية المتسمة بالصلابة — وينمي الذكاء العاطفي؛ ومن ثَم الرفاه. ومن خلال الاستبطان أو تأمُّل النفس المتكرر، اكتسبوا بصيرة اختبارية بأنساق مثل كون العواطف مؤقتة، وهو ما تعبر عنه عبارة: «كلُّ مُر سيَمُر.» وهو إدراك كان مُطَمئنًا في لحظات الكرب، فقد ساعد الرجال على التأقلم بصورة أفضل والحفاظ على التوازن، والوجود عمومًا في مساحة عاطفية أكثر انفتاحًا ومرونة وديناميكية، وهو ما كانوا مقدرين له بدرجة كبيرة.

وقمة الهرم هي الإدارة العاطفية؛ معرفة أي الاستراتيجيات المركِّزة على العواطف هي الأنسب لموقف بعينه. من ثَم فإنها نتاج جميع الفروع الأخرى: إدراك الفرد لعواطفه، وفهم أمثل طريقة لتغييرها (إذا كان ذلك مفضلًا أو مناسبًا)، وأن يكون قادرًا على فعل ذلك. من ذلك المنظور، ستساهم الأنشطة المحورية في الفروع الثلاثة الأولى كلها في هذا الفرع الرابع. وكذلك صُمِّمت بعض البرامج لتعزيز الفروع الأربعة كلها جملةً. فعلى سبيل المثال، في تدخُّل ناجح استمر أربعة أسابيع، جاءت الجلسة الأخيرة لتركز تحديدًا على إدارة العواطف، فشملت مناقشات جماعية نظرية عن استراتيجيات التأقلم، وأنشطة لعب الأدوار، وتدريبات تأملية للذهن والجسد.28 هكذا فإنه رغم أن الأبحاث عن تنمية الذكاء العاطفي جديدة نسبيًّا وبحاجة إلى مزيد من التحقق من صلاحيتها، فإن احتمال مساعدتها في تعزيز السعادة والرفاه يبدو واعدًا.

تُجمِع الحكمة الشعبية والمعرفة العلمية على تأكيد أنه لا يمكن للمرء استحضار السعادة ببساطة. إلا أن الأبحاث الجديدة تزعم بأنه ثمَّة طُرقًا مُحتمَلة لنكون أكثر سعادة، بل نساعد الآخَرين في بلوغ ذلك الهدف العزيز.

الإدراك

مستوانا التالي هو الإدراك، وهو مصطلح مرِن يُستخدم بمعناه الواسع للدلالة على كل الأنشطة الذهنية من الإدراك الحسي إلى الذاكرة، وبمعناه الضيِّق للدلالة على «التفكير». وهذا المعنى الأخير هو الذي سأستخدمه هنا، باعتباره عنوانًا جامعًا لكيفية تأثير الأفكار على الرفاه. لأنه إذا كان لها تأثير فعلًا، فسيمكننا عندئذٍ «معالجة» الأفكار لجعل الناس في سعادة أشمل.

أما قدرات الذهن في هذا الشأن فهي مُعترَف بها منذ قرون. في مسرحية «هاملت»، على سبيل المثال، زعم ويليام شيكسبير أنه «لا يوجد ما هو جيد أو سيِّئ، وإنما يصور لنا التفكير ذلك». لكن هذا الرأي بمعناه الحرفي محل خلاف؛ فبعض الأحداث ولا شك أفضل أو أسوأ من غيرها من الناحية الموضوعية. لكن مع ذلك، من الممكن لأفكار المرء أن تزيد العبء أو تخفِّفه. وفي زمن أقدَم حتى من ذلك في التاريخ، روى بوذا موعظته عن «السهمَين». إذ شبَّه مصائب الحياة بسهم جارح؛ إلا أن الأفكار السلبية التي تراودنا عنها هي السهم الثاني الذي يزيد الجرح غورًا. ورغم أننا قد لا نملك صد السهم الأول، فقد يكون في وسعنا تحاشي الثاني.

وقد أكَّدَت الدراسات والعلاجات الحديثة هذه الرؤى. فقد شهد القرن الماضي ازدهارًا مدهشًا في أشكال العلاج النفسي — والمجالات المرتبطة به مثل المشورة والتوجيه — مستهدِفةً كلها في الأصل تحسين الرفاه بالعمل على أنساق التفكير. ويكون أسلوبها الرئيسي للتأثير استطراديًّا: إذ يتناول المعالج وطالب العلاج مشكلات الأخير باستفاضة بطريقة أو أخرى، ممَّا يساعد الناس على تكوين أساليب بنَّاءة أكثر للتفكير في حياتهم.

وحاليًّا تنحدر أشهَر الممارسات في هذا النطاق من النظريات والعلاجات المعرفية للاضطرابات الذهنية، لا سيَّما العلاج المعرفي السلوكي الذي ذكرناه في الفصل الرابع. فقد نُشرت آلاف الدراسات عن كفاءته، وهو يبدو فعَّالًا على الأقل بوصفه علاجًا لمداواة المشكلات على غرار الاكتئاب والقلق، وغالبًا ما يكون أكثر قابلية للمداومة عليه ومنخفض التكلفة على المدى الطويل.29 وغالبًا ما لا تركز هذه الدراسات على السعادة في حد ذاتها، وإنما على تخفيف الكرب. رغم ذلك، فقد ركزت بعض الأبحاث تركيزًا مباشرًا على نتائج متصلة بالسعادة. فعلى سبيل المثال، اكتشفت تجربة عشوائية مضبوطة عن العلاج المعرفي السلوكي للقلق الاجتماعي أنه ساعد الناس على التحوُّل من استراتيجيات غير مفيدة لتنظيم العواطف (مثل الكبت) لاستراتيجيات أكثر إفادة (مثل إعادة التقييم المعرفي)، وهو ما زاد من رضاهم عن حياتهم.30
بالإضافة إلى ذلك، تجاوزت رؤى العلاج السلوكي المعرفي مواقع العلاج لتؤثِّر بصورة أوسَع على مبادرات متعلقة بالرفاه. من الأمثلة على ذلك برنامج التدريب الاحترافي على المرونة النفسية، الذي وُضِع من أجل أفراد الجيش الأمريكي؛ إذ يبدو أنه مفيد في غرس سمات إيجابية متنوعة (مثل مهارات التأقلم)، وهو ما قد يحسِّن الاستجابات في مواجهة الإجهاد.31 وهو يتضمَّن عناصر من العلاج السلوكي المعرفي، مثل نموذج الأحداث المثيرة والمعتقدات والعواقب المترتبة (سُمِّي اختصارًا بالإنجليزية بنموذج إيه بي سي) للأساليب التفسيرية، حيث احتمال أن يكون لحدثٍ مثير سلبي عواقبُ عاطفية معاكسة يتوقَّف على «اعتقادات» الشخص عن ذلك الحدث. وهكذا يعلِّم البرنامج الناس الشك في أفكارهم غير المُجدية، بأن يجعلهم يتساءلون: هل ما زالت ذات مغزًى؟ هل هي دقيقة؟ هل هي صارمة بدرجة مُفرِطة؟ هل هي مفيدة؟ وهكذا. ولعلَّ من الأمثلة البارزة في السياق العسكري فكرة أن طلب المساعدة ينمُّ عن الضعف، ممَّا قد يعصف برفاه الشخص (بأن يؤدِّي إلى إحجامه عن طلب المساعدة مثلًا). هنا يمكن تشجيع الناس على بناء معتقدات تمكِّنهم أكثر من التكيف (بإعادة تصور طلب المساعدة باعتباره علامة على المسئولية والشجاعة).
بعيدًا عن هذه التدخلات ذات السِّمة الرسمية، سخَّر الباحثون أساليبهم في ابتكار أنشطة يستطيع الناس أن يجرِّبوها بأنفسهم. منها محض تفكر الشخص في تجاربه الإيجابية والكتابة عنها. في إحدى الدراسات المؤثِّرة، كُلِّف الطلاب المشاركون بفعل ذلك مدة ٢٠ دقيقة على مدار ٣ أيام متتالية؛ فكانت النتيجة أنه مقارنةً بالمجموعة الضابطة (الذين كتبوا عن موضوع غير ذي صلة)، لم يؤدِّ ذلك إلى تعزيز الحالة المزاجية الإيجابية فحسب، بل اقترن أيضًا بارتفاع مستوى الرفاه الجسدي، قياسًا بانخفاض عدد الزيارات اللاحقة للمراكز الصحية.32 وقد طُوِّرت أنشطة شبيهة عديدة منذ ذلك الحين، مثل تمرين مدونة الامتنان الذي ألقينا عليه الضوء أعلاه.

بجانب العلاج المعرفي السلوكي، تعمل عدة ممارسات علاجية أخرى على المدركات لتحسين الرفاه، بدايةً من التحليل النفسي لفرويد وصولًا إلى العلاج النفسي الوجودي. وتناولها يتجاوز مجال اهتمامنا هنا؛ لذلك فلنا في العلاج السلوكي المعرفي نموذج أمثل على قدرة التدخُّلات عمومًا على تعزيز الرفاه بطُرق متنوِّعة، ليس «فقط» بعلاج الاضطرابات، لكن ربما بتعزيز السعادة.

الجانب الجسدي

الطبقة التالية هي الجانب الجسدي، والمقصود به في سياقنا هذا بالأساس الصحة الجسدية. إذا كانت نقطتنا المرجعية هي الرفاه، فهذا شقٌّ جوهري — يتساوى مع الصحة الذهنية — ومن ثَم فإنه بديهيًّا متصل بموضوعنا. وفي ذلك الصدد تصير مجالاتٌ مثل الطب وثيقة الارتباط به، لكن التوسُّع إلى ذلك الحد سيخرجنا عن مجال هذا الكتاب. غير أن الصحة الجسدية عاملٌ مهم، حتى من ناحية الصحة الذهنية والسعادة بوجه أخص، كما ورد في الفصل السابق. فقد صُمِّم نموذج المثال المتعدِّد الطبقات للإطار التكاملي (لايف) في واقع الأمر بغرض التركيز على العلاقات الوثيقة بين الذهن والجسد — وما يتصل بها من العلاقات بين الرفاه الجسدي والذهني — إذ تتغلغل كل الطبقات في الجانبين الذاتي والموضوعي لكياننا.

وفي سياق هذا الفصل، المقصود بالاهتمام بالجانب الجسدي هو تعزيز السعادة بالعناية بالصحة الجسدية. وكما هو الحال مع جميع الأقسام، لا يسع المجال لتناول جميع الموضوعات المعنية، لكن من الممكن أن أذكر القليل من الأمثلة البارزة، التي تقع عمومًا في نطاق «أنشطة الحفاظ على الجسم»؛ وهي تُعنى بالحفاظ على الجسم سليمًا ومُعافًى. أولًا: لا بد من ذكر مبدأ مهم؛ وهو أهمية التوازن والانسجام. ذُكر هذان المفهومان في الفصل الثالث في سياق مفهوم سعادة الانسجام، إلا أنهما أساسيان كذلك في الرفاه بصورة أعم؛ ولذلك فإنه من الصعب مناقشة تنميته من دون ذكرهما. نادرًا ما يمكن الجزم بأن مجرَّد غياب ظاهرة معيَّنة أو وجودها يؤدِّي إلى الرفاه، إنما تكون المسألة في العادة هي تحصيل «القَدْر» المناسب منها؛ ومن ثَم تحقيق التوازن الأمثَل بين القليل المُخل والكثير المُفرِط.

أولى المناطق الواسعة هي الراحة والنوم. فأهميتهما يزداد الإقرار بها يومًا بعد يوم، وهو ما ينعكس في أعمال لشخصيات بارزة مثل الكاتبة آريانا هافينجتون؛ إذ تربط الأبحاث بينهما وبين السعادة؛ ارتباطًا غير مباشر من خلال الصحة الجسدية، ومباشرًا من خلال عمليات نفسية.33 فمن ناحية النوم، على سبيل المثال، ربطت دراسة بين مستوى النوم والرضا عن الحياة من خلال عامل وسيط هو الاعتقاد بالطبيعة المحدودة المنعدمة المحصلة للسعادة (موقف ذهني يتأتَّى أكثر في ظل ظروف الندرة): تشكل قلة النوم الحرمان من مصدر معرفي، وهو ما يثير هذا الاعتقاد، ومن ثَم يحول دون الرضا عن الحياة.34 من المهم إذَن لأسباب عديدة أن ينال الناس كفايتهم من النوم — حيث غالبًا ما يُذكر أن ثماني ساعات مدة مثالية، وإنْ كان الأمر يختلف من فرد إلى آخَر — مع تجنُّب الإفراط في النوم، الذي قد يسبِّب مشكلات كذلك.35
ثانية المناطق الرئيسية هي النشاط الجسدي، شاملًا كل أشكال المجهود البدني. وهنا أيضًا يكون للتوازن أهمية. لنتأمل مثلًا مكان العمل. يُعد النشاط المفرط — بالعمل لساعات طويلة مثلًا — مشكلة؛ إذ يؤدِّي إلى مشكلات مثل الإنهاك.36 وقد بعثت تلك الاعتبارات على مبادرات مثل الأمر التوجيهي الصادر من الاتحاد الأوروبي بشأن ساعات العمل، الذي نصَّ على أن يكون متوسِّط الحد الأقصى لساعات العمل في الأسبوع ٤٨ ساعة. لكن من الممكن لقلة النشاط أيضًا أن تكون مشكلة، سواء نتيجة البطالة المُقنَّعة أو الوظائف القليلة الحركة. فيما يتعلق بالأخيرة، تشمل التدخُّلات اعتماد مكاتب العمل النشِطة، وهو ما قد يعزِّز الرفاه والسعادة بوجه خاص (مثل الرضا عن الحياة والعمل).37
إحدى أهم الفئات الفرعية للنشاط هي ممارسة الرياضة. فهي تؤثر على السعادة بطُرق عدَّة، بدءًا من التحسين الفوري للحالة المزاجية (الذي ناقشناه في الفصل الرابع)، وانتهاءً إلى تأثيرات أطوَل أجَلًا من خلال عوامل وسيطة مثل تحسين الصحة (كما ورد في الفصل الخامس). لكن مجددًا، لا بد من التوازن، في مقدار التمرين ونوعه. أما الأول، فقد يؤدِّي عدم ممارسة الرياضة بالقَدْر الكافي إلى مشكلات (توصي التوجيهات الأمريكية الحالية بأن يكون الحد الأدنى الأسبوعي ١٥٠ دقيقة من التمارين المتوسطة، أو ٧٥ دقيقة من التمارين القاسية)، تمامًا مثل الإفراط (بدءًا من مشكلات بدنية مثل الإصابة، وانتهاءً إلى نتائج نفسية اجتماعية مقترنة بالإدمان).38 أما فيما يتعلق بالأنواع، فأغلب التوجيهات تُوصي بمزيج متناغم من تمارين التحمُّل والقوة والمرونة والتوازن.
آخِر المناطق التي سأذكرها هي التغذية. وهنا أيضًا سأكرِّر: إن التوازن والانسجام مُهمَّان. نادرًا ما يمكن الجزم بأن مادةً ما مفيدة أو مُضرَّة مطلقًا، حتى «الإفراط في شرب الماء» من الممكن أن يكون خطرًا. وإنما يتوقَّف الأمر بالأحرى على المقدار المناسب، الذي يمكن بدوره أن يختلف من شخص إلى آخَر حسب سماته وحاجاته الجسدية الخاصة. علاوةً على ذلك، فالنظام الغذائي المتوازن مهم، حتى إن كانت هناك خلافات دائمة بشأن مكوناته. فعلى سبيل المثال، ظهرت أبحاث عن فائدة النظام الغذائي المتوسطي — وهو يحتوي بشكل أساسي على خضراوات وفاكهة وبقوليات وحبوب ومكسرات وأسماك — الذي أثبت باستمرار فائدته للصحة، وربما حتى للسعادة خصوصًا.39 وبصفة أخص، على سبيل المثال، اكتشفت دراسةٌ أن الوجدان الإيجابي كان أعلى في الأيام التي تناول فيها الناس فاكهة وخضراوات أكثر؛ وعلاوةً على ذلك، فقد كانت هذه الجرعة مؤشِّرًا على الحالة المزاجية في اليوم التالي.40 وهكذا وبكل هذه الطرق الخفية، من الممكن أن تتأثر السعادة من خلال النشاط البدني للناس واختياراتهم.

الجانب السلوكي

الطبقة الفردية الأخيرة هي السلوك. وتتعلق هي الأخرى بالنشاط، لكن بينما يشمل الجانب الجسدي المناحي المتعلقة بالصحة من هذه المنطقة، فالسلوك يختص أكثر بالتصرفات؛ أيْ كيف تتجسَّد أخلاقيات الناس وشخصياتهم وشغفهم، وهي كلها تؤثِّر على السعادة. هكذا فإنه بتحسين الشخص من تصرُّفاته عن تمعُّن، يجوز لرفاهه أيضًا أن يتحسَّن.

خير نقطة ننطلق منها، نظرًا لما استعرضناه عن اليقظة الذهنية، هي الأخلاق. تركز أغلب الأدبيات العلمية المعنية باليقظة الذهنية على صورها المُعلمَنة، بمعزل عن التقاليد البوذية التي نشأت فيها، فتُقدَّم غالبًا كوسيلة لتدريب الانتباه. لكن، جدير بالذكر أن اليقظة الذهنية في البوذية توجد ضمن منظومة مترابطة أشمَل من القيم والتقاليد، تتضمَّن تعاليم أخلاقية. النقطة الرئيسية هي أن اليقظة الذهنية قد تساعد الناس في الاستجابة لمحتوى أذهانهم برصانة، إلا أن السمة الأخلاقية لسلوكهم هي ما تشكِّل هذا المحتوى نفسه. تتصل هذه الحجة بمفهوم الكارما المعقَّد، الذي يزعم بأن التصرُّف الأخلاقي — مثل معاملة الآخَرين برفق — يزيد من احتمال الشعور بحالات ذهنية إيجابية في المستقبل.

وقد لاحظت هذه الديناميات في بحث رسالتي للدكتوراه، حيث أفاد المتأملون الذين حاورتهم بأن الانخراط في ممارسة البوذية — بما يتضمَّن السعي إلى التصرُّف وفق ما تُمليه الأخلاق — قد جعل حياتهم أفضل فعلًا. من وجهة نظر علمية محايدة، يجوز أن نعتبر تلك الاحتمالات فرضيات تستحق الدراسة لا حقائق مثبتة، بغضِّ النظر عن أبحاث مثل بحثي. لكن عند التحرِّي، نجد تلك الديناميات سائغة جدًّا، وكذلك تؤكِّدها أبحاث وأفكار أخرى غير متصلة بالبوذية. فإنك إذا كنت قد تصرَّفت على نحو شعرت بعده أنك كنت مخطئًا، فعلى الأرجح سيَنتابُك شعور بالخزي والندم؛ وعلى النقيض، قد تبعث أنساق السلوك المستقيم على حالات ذهنية أكثر بهجةً مثل اليودايمونيا.41
كذلك من العناصر الأساسية في اليودايمونيا — سواء بمعناها الكلاسيكي أو كما فسَّرها العلم الحديث — عنصر الشخصية. فقد جذب اهتمامًا كبيرًا، ربما بالأخص في تصنيف نقاط القوة في تقييم القيم الفعلية.42 يحدد التقييم ٢٤ نقطة قوة تُعَد عالمية نسبيًّا، مُجمَّعة في ٦ فضائل عامة: الحكمة والمعرفة (مثل الفضول)، والشجاعة (مثل الأمانة)، والإنسانية (مثل الحنو)، والعدالة (مثال القيادة)، والاعتدال (مثل ضبط النفس)، وسمو النفس (مثل الامتنان).43 هذا من شأنه أن يمنح الناس لغة إيجابية للتفكير في أنفسهم، مكملًا لإطارات أكثر حيادًا (مثل نموذج «الخمس الكبار» للسمات الشخصية) أو سلبية (مثل تصنيفات الاضطرابات الذهنية).
وعلاوةً على ذلك، يوجد في نموذج تقييم نقاط القوة عنصرٌ تطبيقي قوي. إذ يبدو أن تنمية نقاط القوة مسار مضمون نحو الرفاه، وتوجد العديد من البرامج والأنشطة القائمة على نقاط القوة صُمِّمت لتعزيز تنميتها؛ وإنْ كانت الأبحاث على تلك التأثيرات ما تزال نادرة نسبيًّا؛ إذ لا تضم سوى قليل من التجارب العشوائية المضبوطة.44 فقد اكتُشف في مجال التعليم مثلًا أن التدخلات لتنمية نقاط القوة تعزِّز السعادة والرفاه بوجه عام (مثل المهارات الاجتماعية)، بما في ذلك بين الطلاب ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة.45 بالمثل، يبدو ثمَّة أمل في المبادرات المهنية — مثل التوجيه القائم على نقاط القوة — من أجل تعزيز الاهتمام بالعمل ومغزاه والرضا عنه عمومًا.46
وثمَّة سلوك أخير جدير بأن نسلِّط عليه الضوء، ألَا وهو ممارسة الأنشطة المجزية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الهوايات الفنية، كما أوجزت في مقال عن «الفن الإيجابي» راجعت فيه أبحاثًا تتعلق بالطرق المختلفة التي يمكن بها للاستمتاع بالفن أو ممارسته تعزيز الرفاه.47 طالما استُخدمت الأشكال الفنية من أجل تخفيف الاضطرابات الذهنية بدايةً من الموسيقى ووصولًا إلى العلاج بالفن؛ خاصةً مع الناس التي تجد صعوبة مع الأشكال الاستطرادية من العلاج، مثل الأطفال. والآن، خارج السياق العلاجي، يلقى الفن التقدير باعتباره أحد أقوى السبل إلى السعادة؛ ممَّا أدى إلى ظهور عدة أنشطة وتدخُّلات للرفاه قائمة على الفن، تتراوح من أشكال مثل الموسيقى والرقص إلى الرسم والحِرَف اليدوية.

وقد حددت على وجه الخصوص خمسةَ مسارات رئيسية يمكن من خلالها أن يكون الاهتمام بالفن مفيدًا: إعطاء معنًى (تمكين الناس من فهم حياتهم والعثور على مغزًى فيها)، وإثراء الخبرة (تيسير حالات شعورية جديدة أو سامية)، تقدير الجمال (الاستمتاع بالجمال أو المهارة)، والترفيه (الاستمتاع والمرح واللهو)، والترابط (التواصل مع الآخَرين من خلال الفن، بل اختبار التسامي بالذات والوعي الجماعي). ربما يمكنك التعرُّف على بعض من هذه الديناميات في اهتمامك بالفن، ومن ثَم تقدير إمكانية تلك الخبرات أن تُيسِّر أشكالًا متنوِّعة من السعادة.

المنظومة المصغرة

تنزع العديد من الكتب التي تتناول تعزيز السعادة إلى قصر اهتمامها على المساحة الشخصية التي استعرضناها فيما سبق، فتركز على الممارسات التي يمكن للأفراد اتباعها لتحسين حياتهم. وهذا منطقي من ناحية؛ فهذا المجال يشمل موضوعات كثيرة جدًّا حتى إنه لا يسع كتابًا واحدًا أن يضم جميع المواد المتاحة. إلا أننا إذا كنا نريد بحقٍّ تكوين صورة واسعة وشاملة لطريقة تيسير السعادة، فسنحتاج كذلك لاستعراض السياق الاجتماعي الثقافي الأوسَع الذي يوجد فيه الأفراد، والذي قسمته مستخدمًا نظرية النظم البيئية لبرونفينبرينر. سنبدأ بالمنظومة المصغَّرة، مركزين على ثلاث من أبرز المنظومات لتوضيح مجال الإمكانيات هنا، وهي: الأُسر والمدارس وأماكن العمل.

لعل أقوى المنظومات المصغَّرة هي الأسرة؛ نظرًا لأهمية العلاقات الوثيقة لتشكيل السعادة، كما استكشفنا في الفصل السابق. من ثَم فقد صُمِّمت تدخُّلات لتحسين الديناميات الأسرية. فيوجد علاج ومشورة للأزواج والأُسر التي في حاجة ماسَّة إليها، وهي المعادل للعلاج الفردي للمشكلات الذهنية لكنها تضم أكثر من فرد.48 وتكملها أنشطة تهدف للتقدم بالأسر أكثر في الحيِّز الإيجابي، التي تيسر السعادة حتى بين تلك الخالية نسبيًّا من التنازع فيما بين أفرادها. من الأمثلة عليها برامج لتثقيف الوالدين قائمة على نقاط القوة — مستمدة من نموذج نقاط القوة المذكور آنفًا — الذي من شأنه مساعدة الوالدين على استغلال نقاط القوة لديهم ولدى أبنائهم.49
في سياق متصل، ثمَّة اهتمام مُتنامٍ بتعزيز السعادة في المدارس، يتمثَّل في نماذج مثل التعلم الاجتماعي والعاطفي، والتعليم الإيجابي.50 ومبدؤها هو أن التعليم لا يدور حول التنمية الفكرية فحسب، وإنما مساعدة الأطفال على الازدهار في جوانب أعَم أيضًا. وتنطوي تلك البرامج على صقل المهارات التي ناقشناها سابقًا — من خلال أنشطة ملائمة للسن — بدءًا من اليقظة الذهنية وحتى الذكاء العاطفي.51 وبالإضافة إلى ذلك، لا تنطوي هذه النماذج على تدخُّلات موجَّهة للأفراد فحسب، وإنما لتحويل المنظومات المصغرة نفسها لتصير هيكليًّا أكثر تحقيقًا للرفاه. ويشمل هذا التشجيع على تبنِّي ثقافة أكثر إيجابية، يصبح الرفاه من خلالها أولوية مؤسسية، كما يتمثَّل في «المنهج المدرسي الشامل»، يُشار إليه بعبارة «تَعلَّمْه [يقصد الرفاه]، وعِشْه، وعَلِّمْه، واغرسْه».52
وأخيرًا، ثمَّة اهتمام متزايد بتعزيز السعادة في العمل. وهذا الاهتمام ليس بجديد؛ إذ بدأ استخدام الإرشاد في السياقات المهنية منذ أربعينيات القرن العشرين، وطالما كان تركيزه على الرفاه، حتى وإن اعتبره مجرَّد وسيلة لتحسين الأداء في العمل.53 إلا أن السنوات الأخيرة قد شهدت ارتفاعًا في الاهتمام، كما يتجلى في نشأة نماذج مثل علم التنظيم الإيجابي والسلوك التنظيمي الإيجابي في مطلع القرن.54 وهي تشمل عناصر تطبيقية، تركز على النهوض بالرفاه في العمل. وكما الحال مع التعليم، توجد العديد من الأنشطة الموجهة للأفراد — مثل تدخُّلات اليقظة الذهنية — وهي ذات تأثير واضح، وإنْ كان متواضعًا، على الرفاه في مكان العمل، كما ذكرنا فيما سبق.
علاوةً على ذلك، ثمَّة جهود لتحسين المنظومة المصغَّرة نفسها هيكليًّا؛ فمن دونها يحتمل أن تكون التدخُّلات الموجهة للأفراد محض إجراء سطحي لمداراة بيئة عمل غير صحية. فعلى سبيل المثال، يقيم برنامج «مكان عمل صحي نفسيًّا» التابع للجمعية الأمريكية لعلم النفس الممارسات ووجهات العمل الجيدة وفق خمسة معايير: الموازنة بين الحياة الشخصية والعمل، والصحة والسلامة، ومشاركة الموظف (في صنع القرار مثلًا)، وتطور الموظفين، وتقدير الموظفين.55 تضم مبادرات أخرى الإقرار بدور القادة في تشكيل ثقافة المنظمة، وصياغة استراتيجيات لتحسين مهارات القيادة، مثل التوجيه التنفيذي.56 وهناك عدة مبادرات أخرى في الصدد نفسه، لكن الأمثلة التي ذكرناها كافية للدلالة على إمكانية تعزيز السعادة من خلال الاهتمام بالمنظومة المصغرة.

المنظومة الوسطى

أعظم قيمة لنظرية النظم البيئية لبرونفينبرينر هي أنها تتيح تصوُّر العالم الاجتماعي الثقافي بتبايناته الدقيقة وتعقيده. فلسنا مجرَّد جزء من كيان متجانس موحَّد، وإنما نوجد داخل دوائر اجتماعية «متعدِّدة». بعضها منظم هرميًّا حسب حجمها؛ فالمنظومات المصغَّرة مُتضمَّنة في منظومات خارجية (المجتمع الأوسَع)، والمنظومات الخارجية مُتضمَّنة في منظومات شاملة (بنًى أوسَع). إلا أن الصورة أكثر تعقيدًا حتى من ذلك. فإننا نعيش في دوائر متعدِّدة داخل المستوى الواحد، تشمل منظومات مصغَّرة متعدِّدة مثل الأسرة والأصدقاء والمدرسة ومكان العمل. ومن الأهمية بمكانٍ أن المنظومات المصغَّرة تتشابك بطُرق معقَّدة وخطيرة، ويُستخدم مصطلح «المنظومة الوسطى» لوصف التفاعل بين اثنين أو أكثر من تلك المنظومات.

إذا كنا نسعى إلى تعزيز السعادة بالاهتمام بالمنظومات المصغَّرة، فمن الممكن أن تكون جهودنا أعظم تأثيرًا إذا وضعنا في اعتبارنا تشابكاتها الواقعة في المنظومات الوسيطة. لنتأمل مثلًا رفاه الأطفال. إذ تُقرُّ نماذج المنظومات الوسطى — مثل علم النفس الإيجابي المتمحوِر حول الأسرة — بأن الناس «يعيشون في سياقات متداخلة»؛ وبالنسبة للأطفال، فهم موجودون داخل منظومتين مصغرتين رئيسيتين، وهما المنزل والمدرسة، ولكلٍّ منهما «تأثير متبادل ثنائي الاتجاه على الآخر».57 فالنجاح في المدرسة يتأثر بالحياة المنزلية للأطفال، والعكس. إلا أن هذا المنظور السياقي يكون غائبًا في أغلب الأحوال للأسف. إذ يقول الباحث النظري في علم النفس المجتمعي البارز، آيزاك بريلتنسكي: «إننا عادةً ما نحلِّل مشكلات الأطفال من منظور نفسي ونتجاهل السياق الاجتماعي والسياسي الذي تقع فيه مشكلاتهم.»58 إلا أن التدخُّلات بدأت تُعطي اعتبارًا أكبر للمنظومة الوسطى.
من ناحية التفاعل بين المنزل والمدرسة، لدينا نموذج أمثل في برنامج «الأُسر والمدارس معًا» (الذي يُسمَّى اختصارًا بالإنجليزية فاست)، المصمَّم لتكوين عوامل حماية للرفاه، مثل رأس المال الاجتماعي.59 وهو يشتمل على ثمانية اجتماعات أسبوعية يديرها فريق البرنامج وتحضرها الأُسر لتشارك في أنشطة مشتركة مع أبنائها، ثم مجموعات شهرية يديرها أولياء الأمور أنفسهم. وهو موجَّه خصوصًا للأُسر المعوزة، الأكثر عُرضة لانخفاض رأس المال الاجتماعي — بما يصاحبه من مخاطر، مثل ضعف التحصيل التعليمي — ولذلك فإنها أرجح أن تستفيد منه. في واقع الأمر، حكومة المملكة المتحدة، التي شددت على أهمية التدخلات المبكرة في مواجهة انعدام المساواة الاجتماعية الاقتصادية، ضمنت برنامج الأسر والمدارس معًا في برنامجها «التدخُّل المبكِّر بتوعية الأبوين».60 وقد أثبتت التجارب العشوائية المضبوطة نتائج إيجابية شتَّى لبرنامج الأسر والمدارس معًا في جوانب تراوحت من رأس المال الاجتماعي إلى التحصيل التعليمي.61 وهو علاوةً على ذلك يُعَد فعَّالًا من ناحية التكلفة، وأوصت به كيانات مثل هيئة إنقاذ الطفولة.62
وفي مرحلة الرشد، نجد أبرز تفاعل للمنظومة الوسطى هو التوازن بين الحياة الشخصية والعمل. فقد أثبتت أبحاثٌ مستفيضة أنه يؤثِّر بدرجة كبيرة على الرفاه، واختلال هذا التوازن من الأسباب الرئيسية المؤدية للإنهاك المهني على سبيل المثال.63 ويتخذ اختلال التوازن أشكالًا متعدِّدة، لكنه عادةً ما ينطوي على «تنازع الأدوار»؛ أي «التعرض لمجموعتَين (أو أكثر) من عوامل الضغط في آنٍ واحد، تجعل الاستجابةُ لأحدهما الاستجابةَ للأخرى أصعب.»64 قد يكون أكثر أشكاله انتشارًا هو التنازع بين العمل والحياة الأسرية.65 وهو ينطبق حتى — بل ربما بالأخص — حين يكون «عاملا الضغط» المتنافسان كلاهما مصدرًا للسعادة؛ إذ يكون الشخص قطعًا منجذبًا قطعًا إلى كلا الجهتَين، اللتين يؤدِّي اصطدامهما إلى انخفاض الرفاه.
من ثَم فقد تشتمل التدخلات المعنية بالمنظومة الوسطى على استراتيجيات لتخفيف تلك التنازعات. في برنامج «مكان عمل صحي نفسيًّا» المذكور آنفًا، تشمل التوصيات ترتيبات عمل مرِنة والإعانة على مسئوليات الرعاية. وقد ازداد انتشار مثل تلك الممارسات، وصارت كذلك أكثر قابلية للتطبيق ومنفذة على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، عند اندلاع جائحة كوفيد ١٩ في مارس عام ٢٠٢٠، تضاعفت نسبة الذين يعملون من المنزل في الولايات المتحدة من ٣١ إلى ٦٢ في المائة في غضون ٣ أسابيع فقط.66 وهذه التغيرات منطقية في ظل تلك الظروف، لكن الأوقع من ذلك أن أكثر من ٥٠ في المائة من الناس في الولايات المتحدة يريدون مواصلة العمل عن بُعد بصورة أو أخرى بعد الجائحة، وتبحث ثلثا الشركات جَعْل ممارسات العمل من المنزل الحالية دائمة.67 وهكذا تتجه أنساق العمل نحو المزيد من المرونة، ومن المُرجَّح أن يفيد الرفاه على مستوى المنظومات الوسطى.

المنظومة الخارجية

عند الارتقاء في طبقات نموذج برونفينبرينر، نجد أن المنظومات الصغرى موجودة داخل منظومات خارجية. والمقصود بهذا في الأساس مجتمع الفرد، وهو مصطلح يشير عادةً إلى المنطقة الجغرافية المأهولة التي يستطيع الفرد الوصول إليها بسهولة، كما جاء في الفصل الخامس. غير أن استخدامه قد توسَّع مؤخرًا ليضم المساحات الافتراضية، ليعكس واقع أن الناس صاروا يقضون أوقاتًا متزايدة من حياتهم على شبكة الإنترنت. وفي جميع الأحوال، سواء كانت تلك البنى «حقيقية» أو «افتراضية»؛ فهي تمارس تأثيرًا هرميًّا تنازليًّا على المنظومات المصغَّرة بداخلها، وإنْ كان التأثير من الممكن أن يكون تصاعديًّا أيضًا؛ إذ إن الناس يؤثِّرون في مجتمعاتهم. بناءً على ذلك، فإنه من السبل المؤثِّرة لتحسين حياة الناس هو تشكيل المنظومات الخارجية على نحو إيجابي.

تتخذ تلك الجهود أشكالًا متعدِّدة، تتراوح في الحجم والنطاق. على الجانب الأضيق منها، من الممكن لأي فرد من أفراد المجتمع إحداث تحسُّن فيه. كما أنه بناءً على ذلك، من الممكن أن تنشأ دورات من ردود الفعل التصحيحية الإيجابية. فإذا كان الفرد يعمل على تحسين مجتمعه، فمن الممكن لهذا الفعل نفسه أن يزيد سعادته مباشرةً، خصوصًا سعادة اليودايمونيا والمغزى.68 إذ إن أحد أنجح السبل إلى إيجاد المغزى هو المساهمة في «شيء يعتقد الفرد بأنه أكبر منه»، ومجتمع الفرد مثال جليٌّ على ذلك.69 علاوةً على ذلك، فإنه حين يحظى الفرد ببيئة اجتماعية أفضل، فقد يؤثِّر ذلك أيضًا على رفاهه.
من خير صور هذه الديناميات هي الجهود الجماعية لإضفاء قَدْر أكبر من النظام والجمال على بيئة الفرد. وفي الواقع، لدى العديد من الثقافات تقاليد لتلك الجهود الجماعية — إلى جانب أبحاث تُبرهِن على أهميتها من أجل الرفاه — بدايةً من زراعة الحدائق، وصولًا إلى العروض الفنية العامة.70 وهذه الأنشطة قيِّمة حتى عند القيام بها بصورة فردية؛ البستنة، مثلًا، تبعث على السعادة بطرق عدة، بدايةً من كونها تشكِّل نوعًا من التمرين البدني، وانتهاءً إلى الاهتمام بالطبيعة المفيد نفسيًّا؛ كما أن إضافة بُعد مجتمعي يُدخِل الرفاه الاجتماعي إلى المعادلة أيضًا.71 علاوةً على ذلك، فالجماعة نفسها تستفيد من المساحات الخضراء المشتركة، التي تتيح فرصًا للتفكر وتقدير الجمال.72
وإذا صعدنا إلى مستويات أعلى، نجد مبادرات طموحة تستهدف تحسين مجتمعات كاملة. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، صُمِّم «مشروع رفاه لندن» لتحسين الرفاه في مناطق مُهمَّشة من المدينة.73 ولمَّا كان مشروعًا مشتركًا — بالتعاون مع السكان المحليين لتحديد حاجاتهم وتلبيتها — تنوَّعَت مجموعة الأنشطة التي يشملها. لكن من السمات المشتركة تحسين المساحات العامة للتشجيع على الأنشطة البدنية، والإرشاد إلى الموارد الصحية المحلية، وأنشطة ترفيهية تنمي رأس المال الاجتماعي. وما يبعث على التفاؤل أن إحدى التجارب العشوائية المضبوطة زعمت أن البرنامج له آثار إيجابية على الصحة الجسدية والذهنية.74 ويمكن العثور على أمثلة شبيهة في أنحاء العالَم، مثل «برنامج رفاه الأسرة»، وهو مبادرة أسترالية لتمكين المجتمع.75
وأخيرًا، ثمَّة جهود من أعلى لأسفل مبعثها السلطات المحلية. مثال على ذلك التخطيط الحضري، الذي يتضمَّن وضع السعادة في الاعتبار عند تصميم المباني والمساحات العامة، وفقًا لنماذج مثل «العمارة الإيجابية».76 لنتأمل مفهوم «المساحات المشتركة»؛ لما أدرك مؤيدو العمارة الإيجابية أن العديد من المدن قد تخلَّت عن جزء كبير من مساحتها العامة لحركة المرور، مما صعَّب الأمور على المشاة، دعوا إلى إعادة تصميم المدن لإصلاح ذلك الخلل، لا بجعلها أجمل فحسب، بل آمن كذلك.77 فعلى سبيل المثال، أزالت بلدة ماكينجا الهولندية كل لافتات المرور وعلاماته، مما أرغم السائقين والمشاة على التفاعل بحرص أكثر. وبجانب أن الطرق صارت أفضل من الناحية الجمالية، انخفضت أيضًا سرعات المرور بنسبة تفوق ٤٠ في المائة (بينما لم تفلح الإجراءات السابقة في تخفيضها إلا بنسبة ١٠ في المائة). وقد بدأ تطبيق المبادرات الشبيهة يزداد انتشارًا، إذ تطبقها حكومة المملكة المتحدة مثلًا.78

المنظومة الشاملة

أكثر طبقات نموذج برونفينبرينر اتساعًا هي المنظومة الشاملة: «الأنماط المؤسسية الشاملة … مثل الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والقانونية والسياسية» التي تتجلى في المستويات الأخرى «تجليًا ماديًّا».79 وهي ذات أثَر عظيم على السعادة. فمن الأمثلة على ذلك أن أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة — المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالرفاه، كما ذكرنا في الفصل الخامس — تنطوي غالبًا على عمليات متشابكة للمنظومة الشاملة، من السياسة إلى الاقتصاد. هكذا فإننا في سبيل تعزيز السعادة، يمكننا الاهتمام بتشكيل هذه الأنظمة بحيث تكون أنسَب لتحقيق تلك الغاية. وفي الواقع، باتت العديد من المؤسسات تتجه أكثر فأكثر نحو تبنِّي جداول أعمال متصلة بالرفاه.
ودولة بوتان لها ريادة في هذا الصدد؛ إذ إنها في عام ١٩٧٢ استخدمت «إجمالي السعادة القومية» مقياسًا للتقدم المجتمعي بدلًا من الناتج المحلي الإجمالي.80 وهو يُقاس باستفتاء المواطنين في تسعة مجالات متعلقة بالموضوع: الرفاه النفسي، واستغلال الوقت، وحيوية المجتمع، والتنوُّع والمرونة على المستوى الثقافي، والتنوُّع والمرونة على المستوى البيئي، والصحة، والتعليم، ومستويات المعيشة، ونظام الحكم الجيد. المهم من منظورنا التطبيقي أن إجمالي السعادة الوطنية تستخدمه لجنة السعادة الوطنية الإجمالية، وهي فرع تخطيطي للحكومة، لتشكيل القرارات السياسية. ورغم أن بوتان ليست خالية من المشكلات،81 فهي لا تزال رائدة في استحداث السياسات المتعلقة بالرفاه.
وقد حذَت دولٌ أخرى حذو بوتان. فعلى سبيل المثال، بدأ مكتب الإحصاءات الوطنية التابع للمملكة المتحدة في عام ٢٠١١ في جمع البيانات عن السعادة — المتعة والتقديرية والمغزى — في استقصائه المتكامل للأسر، الذي يُوزَّع سنويًّا على مائتَي ألف شخص، لوضع مؤشِّر للرفاه الوطني.82 كذلك أعلن ديفيد كاميرون، الذي كان رئيس الوزراء آنذاك، أن هذا المؤشِّر سيوجه القرارات السياسية، وأنشأ وحدة سياسات الرؤى السلوكية لتحقيق هذا الهدف. وقد شكك النقاد في حجم تأثير هذه التطورات على جدول أعماله على أرض الواقع، مع اتهام حكومته بتنفيذ سياسات الضريبة التنازلية التي أضرَّت بالرفاه، خاصةً بالنسبة للأشد فقرًا من الناس.83 رغم ذلك، فقد كان حدثًا مهمًّا أن يدخل الرفاه في الخطاب السياسي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد ذهبت تطورات شبيهة في أماكن أخرى لآفاق أبعد؛ إذ إنه في عام ٢٠١٩، صمَّمت نيوزيلندا ميزانيتها بأكملها صراحةً على أساس الرفاه، محاكاةً لبوتان في إيلاء السعادة الأولوية على الناتج المحلي الإجمالي.84
لكن لا يشجع الكل مثل تلك المبادرات. فالفلسفة التحرُّرية، على سبيل المثال، ترى أن الحكومات لا ينبغي لها أن تتعدى على حريات الناس (بما يتجاوز أصغر الآليات لمنع تعرُّض الناس للأذى أو ارتكابهم له). وإقرارًا بمثل تلك الحُجج، هناك محاولات لصياغة سياسات للرفاه على أن تحافظ على حق الناس في رفضها. ومنها الأبوية التحرُّرية، المعروفة أيضًا باسم «نظرية الوكزة» (التي كانت الأساس لفريق وحدة الرؤى السلوكية في المملكة المتحدة).85 وقد سعت للتوفيق بين التحرُّرية ونظرية الأبوية المقابلة لها (القائلة بأن الحكومات أعلم ولا بد أن تجبر الناس على التصرف وفقًا لرؤيتها). وتقوم الاستراتيجية على ترتيب «بنية الاختيار» بحيث يكون الخيار المستحب — من منظور الرفاه — هو الخيار التلقائي؛ مما يجعل من الأرجح اتخاذه (لكسل الناس مثلًا). ومن الممكن لمثل تلك المناهج أن تكون ناجحة؛ فعلى سبيل المثال، أثبت تحليل تجميعي لاستراتيجيات «الوكزة» للتشجيع على تغيير النظام الغذائي أنها قد شجَّعت بالفعل على ممارسة سلوكيات صحية أكثر.86
ولا بد من تقييم ديناميات السياسية في سياق المنظومات الشاملة الأخرى مثل الاقتصاد. رغم أن دائرتي السياسة والاقتصاد بينهما علاقة تبادلية، يبدو أن الثانية بدأت تستحوذ على الصدارة على نطاق واسع حسبما يبدو؛ إذ تزداد سيطرة الأسواق الاقتصادية على سياسات الحكومة أكثر فأكثر. من الأمثلة على ذلك أنه في أعقاب الانهيار العالَمي عام ٢٠٠٨، فُرضت سياسات التقشُّف في أنحاء العالَم باسم خفض العجز؛ مما قلَّص بشدة من إنفاق الحكومة في مناحٍ عدة، من بينها أنواع المبادرات المتعلقة بالسعادة المذكورة أعلاه.87 وبناءً على ذلك فإنه بجانب الدعوات لتغيير الأنظمة السياسية لتخدم الرفاه بصورة أفضل، هناك محاولات لإعادة تشكيل الأنظمة السياسية كذلك.
وفي واقع الأمر، دعا بعض علماء الاقتصاد ومراكز البحوث إلى «نموذج اقتصادي إيجابي»، لا يهتم فقط بتحقيق أقصى قدر من الربح، وإنما بإعطاء الأولوية لرفاه الناس والبيئة.88 ومن الأمثلة على ذلك مركز البحوث المدعو «مؤسسة الاقتصاد الجديد»، الذي اتخذ شعاره من العنوان الفرعي للكتاب الكلاسيكي لعالم الاقتصاد إرنست إف شوماخر: «كل صغير جميل: الاقتصاد المعني بالناس.»89 ومجال اختصاصها هو وضع سياسة ﻟ «تغيير الاقتصاد بحيث يعمل لصالح الكل».90 ويشمل ذلك مؤشِّر «الكوكب السعيد»، الذي يقيِّم التقدُّم المجتمعي بقياس الرضا عن الحياة لدى الدول في ضوء بصمتها البيئية.
كذلك نشأت الدعوات لإصلاح المجال الاقتصادي — والمجتمع عمومًا — في شكل حركات اجتماعية تقدُّمية، مثل احتجاجات حركة «احتلوا»، ومؤخرًا حركة «حياة السود مهمة».91 وقد كان لهما علاوةً على ذلك أثرٌ ملموس على المجتمع — خاصةً الثانية — وهو تمكين أولئك الداعمين للتقدم الاجتماعي. قد يبدو أحيانًا أن القدرة على تغيير المنظومات الشاملة مقصورة على النخبة من ذوي السلطات العُليا، مثل القادة السياسيين. إلا أنه من الممكن لأشخاص في المستوى الأدنى من التسلسل الهرمي أن يُحدِثوا تأثيرًا قويًّا، كما أثبتت حركات الاحتجاج على مَر التاريخ.
من ثَم فإن الناس جميعًا، مهما بدوا عاجزين، بإمكانهم إحداث تغيير إيجابي في المنظومة الشاملة، وهو ما قد يترتَّب عليه تحسُّن حياتهم. أضِف إلى ذلك أن المشاركة في الحركات الاجتماعية نفسها قد تولد السعادة، خاصةً سعادة اليودايمونيا وسعادة المغزى.92 إلا أن الديناميات معقَّدة، فمن الممكن كذلك أن يكون النشاط السياسي موترًا وخطِرًا، لا سيَّما بالنسبة للجماعات المهمَّشة؛ لذلك فإن علاقته بالرفاه ليست واضحة.93 رغم ذلك، فالنشاط السياسي قد لا يعزِّز المجتمع فحسب، بل قد يعود ببعض الفوائد الشخصية على مستوى الرفاه أيضًا.

المنظومة البيئية

وأخيرًا، إننا بحاجة لمناقشة المنظومة البيئية العالَمية. رغم أنها ليست مشمولة في نظرية برونفينبرينر الأصلية، فقد أدرجتها في نموذج المثال المتعدد الطبقات للإطار التكاملي؛ نظرًا لأن المنظومات الشاملة توجد داخل سياق أكبر وهو المحيط الحيوي، الذي تعتمد عليه كل المستويات من أجل بقائها نفسه. من ثَم فإن القضايا البيئية هي شأن أساسي بالنسبة للسعادة. ولا بد أن يكون كوكبنا قادرًا على دعم الحياة ليكون الرفاه البشري ممكنًا في الأساس. ثم إنه بغضِّ النظر عن البقاء الوجودي، تتوقف نوعية حياتنا بدرجة كبيرة على حالة البيئة (مثل نوعية الهواء).

ومن سوء الحظ أننا جميعًا قد صنعنا نمطًا تدميريًّا في التعامل مع الطبيعة. رغم أن العديد من الثقافات تحترم العالم الطبيعي بل تقدِّسه، فقد شهدت القرون الأخيرة هيمنةَ عرف انعزالي، استنزافي، عدواني، يعتبر الطبيعة موردًا لا بد من استغلاله.94 ورغم أنه مقترِن بالأمم الغربية بوجه خاص، فإنه نظرًا للديناميات المعقَّدة للعولمة فقد صار هذا العرف سائدًا في الدول الصناعية، منعكِسًا في سياسات حكومات عديدة.
تؤثِّر مثل تلك الاتجاهات سلبًا على السعادة بطُرق متنوِّعة. أهمها التهديد لوجودنا النابع من تغير المناخ. ويصاحب تلك المخاوف مخاطر أخرى على الحياة والرفاه. فأثناء اندلاع كوفيد ١٩ مثلًا، جعلت الدوريات العلمية مثل «نيتشر» و«ساينس» تزعم بأن التحول للصناعة يفاقم من خطورة الجائحات وحِدَّتها.95 فعلى سبيل المثال، يزيد إزالة الغابات والتعدي على الأراضي البكر من مخالطة الناس للأحياء البرية والماشية — كما الحال مع ممارسات مثل الزراعة الصناعية — مما يرفع احتمال انتقال الفيروسات الحيوانية المنشأ من الأنواع إلى البشر.
وبجانب تلك التهديدات المادية، تسبِّب الأزمة البيئية ضيقًا نفسيًّا، كما حذَّر البعض مبكرًا منذ سبعينيات القرن العشرين.96 وقد ظلَّت تلك المخاوف تتصاعد منذ ذلك الحين، مع نشأة مفهوم القلق البيئي في العقد الماضي، والذي يُعرَّف بأنه «إحساس عام بأن الأسس البيئية للوجود في طور الانهيار».97 ورغم أن البيانات المتوفِّرة عن القلق البيئي في حد ذاته محدودة، فإن المخاوف البيئية منتشرة وتؤذي الصحة الذهنية.98 كذلك فإن انتشارها لا يزال في ارتفاع؛ فقد أفاد استطلاعٌ شمل نحو مائتَي شخص في أنحاء العالَم بأن ٧٧ في المائة كانوا قلِقين من حدوث أضرار للكوكب في عام ٢٠١٩، في ارتفاع حاد من ٧١ في المائة قبل ٥ سنوات فقط.99

لذلك فإننا إذا أردنا تعزيز السعادة، فلا بد لنا من تضمين الحث على علاقات أكثر استدامة مع الطبيعة. ومن الممكن أن يتخذ هذا أشكالًا عديدة، تغطي كل طبقات برونفينبرينر. على مستوى المنظومة المصغَّرة، من الممكن مثلًا جَعْل المنازل والمؤسسات التجارية أكثر توفيرًا للطاقة. من ناحية المنظومات الوسطى، من الممكن مساعدة الناس على العمل من المنزل متى أمكن ذلك، فإذا تعذَّر ذلك، يمكن تخفيض الطاقة المستخدَمة في الانتقال بين المنظومات المصغَّرة، من خلال تشارك وسيلة المواصلات أو ركوب الدراجات أو السير. وتضم مبادرات المنظومة الخارجية التشجيع على استخدام أشكال النقل الصديقة للبيئة وتيسيرها (وكذلك تقليل الحاجة إلى السفر)، أما على مستوى المنظومة الشاملة، فقد صارت الالتزامات السياسية بالاستدامة راسخة محليًّا ودوليًّا، وإنْ كان لا يزال هناك حاجة لمزيد من الجهود للتوصُّل للتغيرات الضرورية وتطبيقها.

الديناميات السببية في هذا الصدد — التي تربط بين السلوكيات المستدامة والسعادة — مباشرة وغير مباشرة. من ناحية الديناميات غير المباشرة، فمثل تلك الإجراءات ستجعل الكوكب أقدَر على البقاء، وهو عامل ضروري من أجل سعادة. إلا أنه من الجائز أن تكون خبرة الناس الذاتية بهذا التأثير مبهمة وضعيفة؛ فالأنشطة الفردية قد لا تؤثِّر على البيئة تأثيرًا ملحوظًا؛ ومن ثَم فليس هناك حلقة محكَمة من مردود الفعل التي قد يُكافأ بها الناس على تلك السلوكيات. ولما كان الأمر كذلك، فإن الاتكال على الروابط غير المباشرة فقط للحث على التغييرات التكيفية ربما يكون صعبًا.

لحسن الحظ، هناك كذلك بعض الروابط المباشرة بين التصرفات الصديقة للبيئة والسعادة. فالانتقال بالسير وقيادة الدراجات مثلًا مقترِن بالصحة الجسدية والذهنية.100 وتكون الروابط بينهما قوية بشكل ملحوظ حين تتضمن التصرفات قضاء وقت في الطبيعة، وهو ما ينعكس في بحث عالم الجغرافيا، ويل جيسلر، عن المناظر الطبيعية العلاجية.101 فعلى سبيل المثال، أثبتت تحاليل تجميعية ارتباطات ملحوظة بين التواصل مع الطبيعة وكلٍّ من سعادة المتعة واليودايمونيا.102 وفي واقع الأمر، فإنه في سياق جائحة كوفيد ١٩، يبدو أن التواصل مع العالم الطبيعي من أفضل موارد التكيُّف ومؤشرات الرفاه؛ إذ يعدُّ أغلب الناس البيئة مهمة لديهم.103
ومن منظور تطبيقي، يمكن تشجيع الناس على التواصل مع الطبيعة ومساعدتهم على ذلك. وتتراوح المبادرات المعنية من برامج الأنشطة الخارجية، وتعليم الوعي البيئي، إلى ممارسة «الشينرين يوكو» اليابانية (وتعني «الاستحمام في الغابات»)، بل حتى مجرَّد قضاء وقت في الحدائق والمتنزهات.104 علاوةً على ذلك، لدى علم النفس نفسه كثيرٌ من الفوائد ليكتسبها من ارتفاع الوعي بأهمية الطبيعة — وسبل التواصل معها وتقديرها — من بينها الاطلاع على ثقافات بارعة في هذا المجال (مثل اليابان بتقاليدها وممارساتها العلاجية المتعلقة بالشينرين يوكو). كذلك سيساعد هذا على معالجة الانتقاد العام الموجَّه للعلم نفسه بشأن تمحوره حول الغرب، وحاجته لفهم الثقافات المختلفة والوعي بها بشكل أفضل.

وبذلك يكون استعراضنا للسعادة قد أوشك على الانتهاء. فلا يبقى سوى تلخيص رحلتنا في الفصل الختامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤