الفصل السابع

النقد السليم والحرية الشخصية

تعتقد الحكومات أنه عندما يكون لها خيار بين فرض ضريبة بشكل إكراهي وإلزامي وبين إنفاق مرغوب بشكل كبير، فهذا يعني أنه لديها طريق نجاة ومخرج، ويكون هذا الطريق مُمثَّلًا بالطريق نحو التضخم المالي، وهذا الأمر يُجسِّد معضلة الابتعاد عن المعيار الذهبي.

لودفيج فون ميزس١

في ظل نظام نقدي سليم، تؤدي الحكومة مهامها بطريقة لا تستطيع الأجيال التي نشأت على وقْع دورة أخبار القرن العشرين تصوُّرها؛ فوجب على هذه الأجيال أن تكون مسئولةً ماليًّا. فدون وجود بنك مركزي قادر على زيادة العرض النقدي لدفع ديون الحكومة، وجب على الميزانيات الحكومية الانصياع لقواعد المسئولية المالية المعمول بها والتي تنطبق على كل كيان طبيعي سليم، والتي حاولت القومية النقدية إلغاءها، وحاول التعليم الحكومي تشويهها.

وبالنسبة لشعوب الحاضر التي نشأت على الحملات الدعائية لحكومات القرن العشرين ذات السلطة غير المحدودة، فإنه من الصعب في كثير من الأحيان تصوُّر عالم تحل فيه الحرية الشخصية والمسئولية الفردية محل سلطة الحكومة، ولكن كانت هذه هي حالة العالم خلال أهم فترات التقدُّم والحرية الإنسانية، حيث اقتصرت مهام الحكومة على حماية الحدود الوطنية والمِلكيات الخاصة والحريات الفردية، فأُتيح للأفراد كمٌّ هائل من الحرية لاتخاذ قراراتهم الخاصة لجني الفوائد أو تحمُّل التكاليف. أولًا، سنبدأ بالتفكير بعين ناقدة للسؤال التالي: هل يجب أن تتولَّى الحكومة مهمة تنظيم العرض النقدي في المقام الأول؟ ثم ننتقل بعد ذلك للنظر في عواقب الأمور إذا تمَّ تطبيق ذلك.

(١) هل يجب على الحكومة إدارة العرض النقدي؟

إن الحيلة الأساسية للحداثة تتمثَّل بالفكرة القائلة إن إدارة العرض النقدي هي من مهام الحكومة؛ فهذا افتراض مبدئي لا جدال فيه لدى كل المدارس الاقتصادية الفكرية والأحزاب السياسية الأكثر شيوعًا رغم عدم وجود أي دليل واقعي يدعم هذا الادِّعاء، بل وانتهت كل محاولات إدارة هذا العرض النقدي بكارثة اقتصادية؛ فإدارة العرض النقدي هي المشكلة التي تتقنَّع وتتنكَّر بكونها هي الحل؛ فهي انتصار الأمل العاطفي على المنطق الصارم، وهي أساس جميع وجبات الغداء السياسية المجانية التي يتم بيعها للناخبين الساذجين؛ فهي تعمل كدواء إدماني ومُدمر للغاية مثل المخدرات أو السكر، فتمنح نشوةً جميلة في البداية، وتخدع ضحاياها الذين يتملَّكهم شعور بالحصانة، لكن بمجرد أن يتلاشى تأثيرها، فإن نوبة الانسحاب تكون مُدمِّرةً وتُرغِم ضحاياها على طلب المزيد، وعندها يحين الوقت الذي يتحتَّم فيه اتخاذ القرارات الصعبة؛ فإما تحمُّل العذاب والمعاناة جرَّاء الإقلاع عن الإدمان، أو تلقي ضربة أخرى وتأجيل الحساب إلى يوم آخر والتعرُّض لأضرار أشد على المدى الطويل.

بالنسبة للاقتصاديين الكينزيين والماركسيين وغيرهم من أنصار نظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد، إن النقد هو ما تعتبره الدولة نقدًا، وبالتالي فإنه من حق الدولة فعل ما يحلو لها به، ويعني هذا حتمًا طباعته ليتم إنفاقه لتحقيق أهداف الدولة. لهذا، إن أهداف الأبحاث الاقتصادية هي تحديد أفضل طريقة لزيادة العرض النقدي ولأية غايات. لكن الحقيقة بأنه تمَّ استخدام الذهب كنقد منذ آلاف السنين حتى قبل أن يتم اختراع الدول القومية، هي بحد ذاتها دحض كافٍ لهذه النظرية. ولا تزال البنوك المركزية تحتفظ بكميات كبيرة من احتياطي الذهب وتُثابر على جمع كميات أكبر منه، وهذا يشهد على الطبيعة النقدية الثابتة للذهب على الرغم من عدم قيام الحكومة بفرض التعامل به. لكن أيًّا كانت المراوغات التاريخية التي يستخدمها أنصار نظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد أمام هذه الحقائق، فقد تمَّ دحض نظريتهم أمام أعيننا في العقد الماضي من خلال استمرار نجاح البيتكوين ونموه؛ حيث حقَّق البيتكوين مكانةً نقدية وأرباحًا تفوق معظم العملات المدعومة من قِبل الحكومة؛ وذلك بسبب قابليته الموثوقة للبيع بالرغم من عدم وجود سلطة تفرض استخدامه كعملة متداولة.٢

في الوقت الحالي، يوجد مدرستان رئيسيتان للفكر الاقتصادي مُعتمَدتان من قِبل الحكومة، وهما: المدرسة الكينزية والمدرسة النقدية. وفي حين تمتلك هاتان المدرستان منهجيات وأُطرًا تحليلية متباينة على نطاق واسع، وبالرغم من وقوعهما في معارك أكاديمية مريرة يتهم كلٌّ منهما الآخر بعدم الاهتمام لأمر الفقراء، أو الأطفال أو البيئة أو عدم المساواة أو الصفات الطنَّانة «المنتشرة في الوقت الحاضر»، إلا أن كلتَيهما يتفقان على حقيقتَين لا جدال فيهما؛ أولًا: يتعيَّن على الحكومة زيادة العرض النقدي. ثانيًا: تستحق كلتا المدرستَين المزيد من التمويل الحكومي لمواصلة البحث عن إجابات لأسئلة هامة للغاية ستؤدِّي بهم إلى إيجاد طرق أكثر إبداعًا للوصول إلى الحقيقة الأولى.

ومن المهم فهم الأسس المنطقية المختلفة للمدرستَين الفكريتَين من أجل فهم كيفية وصول كلتَيهما إلى النتيجة ذاتها وكونهما مخطئتَين بقدر متساوٍ. فكينز كان مستثمرًا فاشلًا وإحصائيًّا لم يدرس الاقتصاد، ولكنه كان على اتصال جيد جدًّا بالطبقة الحاكمة في بريطانيا لدرجة أن الهراء المُحرِج الذي كتبه في كتابه الأَشهَر «النظرية العامة للتوظيف، والمال والفوائد» قد تمَّ ترقيته على الفور ليُصبح من الحقائق التأسيسية لعلم الاقتصاد الكلي. فبدأت نظريته بافتراضٍ غير مُبرَّر ولا أساس له من الصحة، أن أهم مقياس في تحديد حالة الاقتصاد هو مستوى الإنفاق الكلي في المجتمع. فعندما يقوم المجتمع بشكل جماعي بالكثير من الإنفاق، فإن هذا الإنفاق سيُحفِّز المنتجين على صناعة المزيد من المنتَجَات، وبالتالي توظيف المزيد من اليد العاملة والوصول إلى توازن العمالة الكاملة. وإذا ارتفع الإنفاق بشكل كبير لدرجة يعجز فيها المنتجون عن مواكبته، فسيؤدِّي ذلك إلى التضخم وارتفاعٍ إجمالي في مستوى الأسعار. من ناحية أخرى، فعندما يقوم المجتمع بإنفاق قليل، سيقوم المنتِجون بتقليل إنتاجهم، وتسريح العمال؛ فتزيد البطالة؛ ممَّا يؤدِّي إلى حدوث الركود.

إن حالات الركود حسب كينز، تحدث بسبب الانخفاض المفاجئ في مستوى الإنفاق الكلي. وبما أن كينز لم يكن ماهرًا جدًّا في استيعاب مفهوم السببية وإيجاد التفسيرات المنطقية، فلم يكلِّف نفسه عناء شرح أسباب حدوث هذا الانخفاض المفاجئ في مستويات الإنفاق، بل ابتكر تعبيرًا آخر من تعابيره المجازية الخرقاء المشهورة التي لا تحمل أي معنًى ليريح نفسه من عناء التفسيرات. فلقد عزى السببَ إلى فتور «أرواح الحيوانات». وحتى يومنا هذا، لا أحد يعرف بالضبط ما هي هذه الأرواح الحيوانية أو لماذا قد تفتر فجأة، ولكن هذا بالطبع يعني أن ترسانةً كاملة من الاقتصاديين المُمَوَّلين من قِبل الحكومة قد حقَّقوا مسيرةً مهنية في محاولةٍ لتفسير هذه العبارة أو للعثور على بيانات في العالم الحقيقي قد ترتبط بها. فكان هذا البحث إيجابيًّا للمهن الأكاديمية، لكنه يُعتَبر بلا قيمة لأي شخص يحاول فهم الدورة الاقتصادية. بعبارة أكثر صراحة، لا تُعتبر خزعبلات علم النفس الزائف٣ بديلًا عن نظرية رأس المال.
وبعد تحرُّره من إيجاد سبب للركود، استطاع كينز بعدها أن يوصي بالحل الذي يبيعه. فعندما يحدث ركود أو ارتفاع في مستوى البطالة، فالسبب هو انخفاض مستوى الإنفاق الكلي، ويكون الحل بقيام الحكومة بتحفيز الإنفاق؛ ممَّا سيؤدِّي بدوره إلى زيادة الإنتاج وتقليل البطالة. يجدر بنا الإشارة إلى أنه هناك ثلاث طرق لتحفيز الإنفاق الكلي؛ زيادة العرض النقدي، أو زيادة الإنفاق الحكومي، أو تخفيض الضرائب. عمومًا، إن طريقة تخفيض الضرائب مرفوضة من قِبَل الكينزيين، وتُعتبر الطريقة الأقل فاعلية؛ لأن الناس لن تقوم بإنفاق كل الضرائب التي لا يجب عليهم دفعها، بل سيقومون بادخار بعض هذه الأموال، وبالطبع كينز يكره الادخار. فالادِّخار يؤدِّي إلى خفض الإنفاق، ويُعتبَر انخفاض الإنفاق أسوأ أمر يمكن تصوُّره للاقتصاد الذي يسعى للتعافي والانتعاش. لهذا، كان دور الحكومة هو فرض التفضيل الزمني المرتفع على المجتمع من خلال المزيد من الإنفاق أو طباعة النقود، ونظرًا إلى أنه من الصعب رفع الضرائب خلال فترة الركود، فإن الإنفاق الحكومي سيُترجَم فعليًّا إلى زيادة العرض النقدي. اعتُبر هذا الأمر حينها أعظم إنجاز كينزي والذي يقول: إن لم يعمل الاقتصاد بعمالة كاملة، فالحل يكون بزيادة العرض النقدي، وليس هناك جدوى من القلق بشأن التضخم؛ لأنه كما أظهر كينز بافتراض لا أساس له، إن التضخم يحدث فقط عندما يكون الإنفاق مرتفعًا للغاية؛ ولأن معدَّل البطالة يكون مرتفعًا أيضًا، فهذا يعني أن الإنفاق منخفض للغاية. وقد تكون هناك عواقب على المدى الطويل، لكن لا جدوى من القلق بشأن هذه العواقب الطويلة الأمد؛ لأنه «على المدى الطويل، سنكون كلنا موتى».٤ هذا هو دفاع كينز اللامسئول والساذج والأكثر شهرةً عن التفضيل الزمني المرتفع.

إن النظرة الكينزية للاقتصاد بطبيعة الحال على خلاف تام مع الواقع. فإذا كان نموذج كينز يحمل أي صحة، فهذا يعني بالضرورة عدم وجود مثال على مجتمع يعاني من تضخم مرتفع وبطالة مرتفعة في نفس الوقت، لكن حدث هذا في الواقع عدة مرات، وعلى الأخص في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي بالرغم من تأكيدات الاقتصاديين الكينزيين على عدم حدوثه، ورغم تبني المؤسسة الأمريكية بأكملها لنغمة الفكر الكينزي من الرئيس نيكسون وصولًا إلى ميلتون فريدمان؛ «اقتصاد السوق الحرة». «نحن كلنا كينزيون الآن» كما قيل بالمؤسسة الأمريكية، حيث أخذت الحكومة على عاتقها مهمة القضاء على البطالة عبر زيادة التضخم، ولكن مع هذا ظلَّت البطالة في ازدياد مع ارتفاع التضخم؛ ممَّا أدَّى إلى دحض النظرية المشيرة إلى وجود مقايضة بينهما. ففي أي مجتمع عاقل، كان ينبغي إزالة فكر كينز من الكتب والمراجع الاقتصادية وحصرها في عالم الكوميديا الأكاديمية، ولكن في مجتمع تسيطر فيه الحكومة على الجامعات إلى درجة كبيرة للغاية، واصلت الكتب التدريسية بالتبشير بنغمة الفكر الكينزي الذي برَّر طباعة النقد بشكل أكبر؛ فامتلاك القدرة على طباعة النقد، بالمعنى الحرفي والمجازي، يزيد من قوة الحكومات، وتبحث كل الحكومات عن أي أمر يمنحها المزيد من القوة.

وفي أيامنا هذه، إن المدرسة الرئيسية الأخرى للفكر الاقتصادي المُصَادق عليه من قِبل الحكومة هي المدرسة النقدية، والأب الفكري لها هو ميلتون فريدمان. وأفضل طريقة لفهم أصحاب النظرية النقدية هي بتشبيههم بزوجات الكينزيين المُعَنَّفات؛ فهن موجودات لتوفير نسخة مبتذلة متساهلة من نظرية السوق الحرة؛ وذلك لخلق مُناخ وهمي من النقاش الفكري، وليتم دحضهن بشكل دائم وشامل لمنع المثقفين الفضوليين من التفكير جديًّا بالأسواق الحرة. والنسبة المئوية للاقتصاديين الذين هم في الواقع من أتباع النظرية النقدية هي نسبة ضئيلة بالمقارنة مع نسبة الكينزيين، لكنهم يُعطون مساحةً كبيرة جدًّا للتعبير عن أفكارهم كما لو كان الجانبان متساويَين. كما أن مؤيِّدي النظرية النقدية يتفقون إلى حد كبير مع الكينزيين في الافتراضات الأساسية للنماذج الكينزية، لكنهم يجدون مفاهيم رياضيةً معقَّدة وغير مهمة، ويطرحون بعض الاستنتاجات للنموذج، الأمر الذي أدَّى دائمًا إلى تجرُّئهم على اقتراح تخفيف دور الحكومة في الاقتصاد الكلي؛ ممَّا يجعلهم يبدون على الفور كزعماء رأسماليين أشرار بلا قلب ولا يهتمون للفقراء.

عمومًا، يعارض مؤيِّدو النظرية النقدية الجهود الكينزية بإنفاق النقود بهدف القضاء على البطالة، بحجة أنه على المدى البعيد، سيصبح تأثير ذلك على البطالة معدومًا، وسيتسبَّب بحدوث التضخم. وبدلًا من ذلك، يفضِّل مؤيِّدو المدرسة النقدية تخفيض الضرائب لتحفيز الاقتصاد؛ لأنهم يجادلون بأن السوق الحرة ستُخصِّص الموارد بشكل أفضل من الإنفاق الحكومي. وبالرغم من احتداد هذا الجدال حول تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق، إلا أن الحقيقة هي أن كلتا السياستَين تؤدِّي إلى زيادة العجز الحكومي الذي لا يمكن تمويله إلا بالدَّين النقدي، وهو زيادةٍ فعلية في العرض النقدي. مع هذا، فالعقيدة والمبدأ الأساسي للفكر النقدي هو الحاجة المُلِحَّة للحكومات لمنع الانهيارات في العرض النقدي و/أو الانخفاض في مستوى الأسعار، الذي يعتبرونه أساس جميع المشاكل الاقتصادية. فالانخفاض في مستوى الأسعار، أو «الانكماش» كما يُحب الكينزيون ومؤيِّدو المدرسة النقدية تسميته، سيؤدِّي إلى ادِّخار الناس لأموالهم والحد من إنفاقهم؛ ممَّا يسبِّب زيادةً في البطالة ينتج عنها الركود، وأكثر ما يُقلق مؤيِّدي المدرسة النقدية هو أن الانكماش عادةً ما يكون مصحوبًا بانهيارات في الميزانيات العمومية للقطاع المصرفي. ولأنهم ينفرون أيضًا من فهم السبب والتأثير، فينتج عن ذلك ميل البنوك المركزية لفعل أي شيء ممكن لضمان عدم حدوث هذا الانكماش أبدًا. أما بالنسبة للتفسير الدقيق لرعب مؤيِّدي المدرسة النقدية من الانكماش، فابحثوا عن خطاب الرئيس السابق للنظام الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي في عام ٢٠٠٢م بعنوان «الانكماش: التأكُّد من عدم حدوثه هنا».٥
إن مجموع مساهمات كلتا مدرستَي الفكر هو الحصيلة التي يتم تدريسها في مُقرَّرات الاقتصاد الكلي في المرحلة الجامعية في جميع أنحاء العالم؛ فعلى البنك المركزي السعي لزيادة العرض النقدي بوتيرة مُسيطَر عليها لتشجيع الناس على إنفاق المزيد، وبالتالي الحفاظ على مستوى البطالة منخفضًا بما فيه الكفاية. وإذا قلَّص البنك المركزي العرض النقدي أو أخفق في توسيع نطاقه بشكل مناسب، عندئذٍ يمكن حدوث دُوَّامة انكماشية، تؤدِّي إلى كبح الناس عن إنفاق أموالهم ممَّا يُلحق الضرر بنسبة العِمالة، ويتسبَّب بحدوث الانكماش الاقتصادي.٦ فطبيعة تلك المناقشة التي يطرحها معظم علماء الاقتصاد والكتب التدريسية الشائعة تتجاهل الإجابة عن التساؤل إذا ما كان يجب أصلًا زيادة العرض النقدي، وتفترض أن زيادته هو أمر مُسلَّم به، فيتجه النقاش لكيفية إدارة البنوك المركزية لهذه الزيادة وتحديد مُعَدلاتها. فعقيدة كينز، التي تحظى بشعبية عالمية اليوم، هي عقيدة الاستهلاك والإنفاق لتلبية الاحتياجات الفورية. وعبر زيادة العرض النقدي بشكل مستمر، قامت السياسة النقدية للبنوك المركزية بجعل الادخار والاستثمار أقل جاذبية، وبالتالي شجَّعت الناس على تقليلهما وعلى الإنفاق بشكل أكبر. والأثر الحقيقي لهذا الأمر يتمثَّل في انتشار ثقافة استهلاك المظاهر أمام الناس، حيث يعيش الناس حياتهم لشراء كميات هائلة من التُّرَّهات التي لا يحتاجونها؛ حيث إنه عندما يكون بديل إنفاق الأموال هو مشاهدة مُدَّخراتك تفقد قيمتها بمرور الوقت، فحتمًا ستميل إلى الاستمتاع بإنفاقها قبل أن تفقد قيمتها. يجدر الإشارة إلى أن القرارات المالية التي يتخذها الأفراد تنعكس على جميع الجوانب الأخرى من شخصياتهم، الأمر الذي يُولِّد حدوث التفضيل الزمني المرتفع في جميع جوانب الحياة؛ فانخفاض قيمة العملة يؤدِّي إلى تقليل الادخار، وزيادة الاقتراض وزيادة العمليات قصيرة المدى في الإنتاج الاقتصادي وفي المساعي الفنية والثقافية، وربما الأكثر ضررًا، استنزاف التربة من موادها الغذائية؛ ممَّا يؤدِّي إلى وجود مستويات منخفضة جدًّا من المواد الغذائية في الطعام.

على الجهة المقابلة من هاتَين المدرستَين الفكريتَين نجد التقاليد الكلاسيكية لعلم الاقتصاد، والتي هي حصيلة مئات السنين من العلوم الدراسية من جميع أنحاء العالم. يُشار إلى هذه المدرسة اليوم باسم المدرسة النمساوية تكريمًا للجيل الأخير من علماء الاقتصاد المنحدرين من النمسا في عصرها الذهبي قبل الحرب العالمية الأولى، وتعتمد هذه المدرسة على الأعمال الكلاسيكية للاقتصاديين الاسكتلنديين والفرنسيين والإسبان والعرب واليونانيين القدماء في توسيع فهمها لعلم الاقتصاد. وعلى عكس ولع الكينزيين ومؤيِّدي النظرية النقدية بالتحليل الرقمي المتزمِّت والمغالطات الرياضية، تُركِّز المدرسة النمساوية على تأسيس فهم الظواهر بطريقة سببية، وعن طريق التوصُّل المنطقي للاستنتاجات من البديهيات الحقيقية الواضحة.

إن النظرية النمساوية للنقد تفترض أن النقد يظهر في السوق كأكثر السلع قابليةً للتسويق، وكأكثر أصلٍ قابل للبيع؛ فهو الأصل الوحيد الذي يمكن لمالكيه بيعه بكل سهولة بظروف مناسبة لهم،٧ بحيث يتم تفضيل الأصل الذي يحتفظ بقيمته على الأصل الذي يفقد قيمته، والمُدَّخرون الذين يرغبون باختيار وسيط للتبادل سينجذبون بطبيعة الحال لجمع الأصول التي تحافظ على قيمتها كأصول نقدية مع مرور الوقت. وفي نهاية المطاف، النتيجة النهائية تعني أنه سيبقى أصلٌ واحد أو عدة أصول صالحة للاستخدام كوسيط للتبادل. فبالنسبة لميزس، إن غياب سيطرة الحكومة هو شرط ضروري للحفاظ على سلامة النقد؛ حيث يرى أن الحكومة لديها إغراء لتحط من قيمة عملتها وتبدأ بجمع الثروات عندما يبدأ المُدَّخرون بالاستثمار.
فمن خلال فرض حد أقصى على العرض الكلي للبيتكوين، كما سيتم مناقشته في الفصل الثامن، كان من الواضح عدم اقتناع «ناكاموتو» بحجج وبراهين كتب الاقتصاد الكلي القياسية وتأثُّره أكثر بالمدرسة النمساوية التي تقول إن كمية النقد بحد ذاتها هي أمر غير هام، وإن أي عرض نقدي سيكون كافيًا لتشغيل وإدارة النظم الاقتصادية مهما كان حجمها؛ وذلك لأن وحدات العملة قابلة للقسمة بشكل لا نهائي، ولأن القوة الشرائية للنقود هي المهمة على صعيد السلع الحقيقية والخدمات، لا كميتها العددية. وكما قال لودفيج فون ميزس:٨

إن الخدمات التي تقدِّمها النقود مرتبطة بارتفاع قوة شرائها؛ فلا أحد يريد أن يكون في مقتنياته النقدية عدد محدَّد أو وزن محدَّد من النقود؛ بل يريد الجميع أن تتضمَّن مقتنياتهم النقدية كمية محدَّدة من القوة الشرائية، وبما أن عمليات السوق تميل إلى تحديد الحالة النهائية لقوة النقد الشرائية بمقدارٍ يتطابق فيه العرض النقدي مع مقدار الطلب عليه، فلا يمكن أبدًا أن يكون هناك فائض أو عجز في النقود. بهذا، يتمتَّع الفرد وكل الأفراد معًا دائمًا بالمزايا التي يمكنهم جَنيها من التبادل غير المباشر واستخدام النقد بغض النظر عمَّا إذا كانت الكمية الإجمالية للنقد كبيرةً أو صغيرة … فالخدمات التي يقدِّمها النقد لا يمكن أن تتحسَّن أو تتدهور من خلال تغيير العرض النقدي … فكمية النقد المتاحة في الاقتصاد كله هي دائمًا كافية لتُؤمِّن للجميع كل ما يفعله النقد وما يستطيع فعله.

يتفق موراي روثبورد مع ميزس ويقول:٩

إن العالَم الذي فيه العرض النقدي ثابت سيكون مشابهًا للمجتمعات في معظم القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث تميَّزت هذه المجتمعات بازدهار الثورة الصناعية مع زيادة الاستثمارات الرأسمالية، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة عرض السلع وانخفاض أسعارها وتكاليف إنتاجها.

فوفقًا للمدرسة النمساوية، إذا كان العرض النقدي ثابتًا، فإن النمو الاقتصادي سيؤدِّي إلى انخفاض أسعار السلع والخدمات الحقيقية، ممَّا سيسمح للناس بشراء كميات متزايدة من السلع والخدمات بأموالهم في المستقبل. وعالمٌ كهذا سيقوم بتثبيط الاستهلاك الفوري كما يخشى الكينزيون، لكنه سيشجِّع على الادخار والاستثمار للمستقبل الذي من الممكن أن يحدث فيه المزيد من الاستهلاك. وبالنسبة لمدرسة فكرية تميل بشكل كبير إلى التفضيل الزمني المرتفع، إنه أمر مفهوم أن كينز لا يستطيع إدراك أن تأثير المدَّخرات المتزايدة على الاستهلاك في أي لحظة آنية تتفوَّق عليه الزيادة في الإنفاق الناتجة عن زيادة الادخار في الماضي. فالمجتمع الذي يؤجِّل الاستهلاك دومًا ينتهي به المطاف بكونه مجتمعًا يستهلك على المدى الطويل أكثر من مجتمع ذي مدَّخرات قليلة؛ حيث إن المجتمع ذا التفضيل الزمني المنخفض يستثمر أكثر، وبهذا فإنه يزيد من نسبة دخل أفراده. وحتى بوضع نسبة كبيرة من دخلهم في مُدَّخراتهم، فإن مجتمعات التفضيل الزمني المنخفض سينتهي بها الأمر في نهاية المطاف بمستويات أعلى من الاستهلاك على المدى الطويل بالإضافة إلى مخزون رأسمالي أكبر.

فإذا كان المجتمع بمثابة الطفلة الصغيرة في تجربة المارشميلو، فإن الاقتصاد الكينزي يسعى إلى تغيير التجربة لكي يصبح الانتظار بمثابة عقاب للفتاة؛ وذلك بإعطائها نصف مارشميلو عوضًا عن اثنتَين؛ ممَّا يجعل مفهوم السيطرة على النفس والتفضيل الزمني المنخفض يظهران كأمر يأتي بنتائج عكسية؛ حيث إن إشباع الملذَّات الفورية سيكون هو المسار الأكثر احتمالًا من الناحية الاقتصادية، وسينعكس ذلك على الثقافة والمجتمع ككل. من ناحية أخرى، إن المدرسة النمساوية ومن خلال تبشيرها بالنقد السليم، فهي تدرك حقيقة المقايضة التي توفِّرها الطبيعة للبشر، وأنه إذا انتظرت الطفلة، فستكون هناك مكافأة أكبر لها، ممَّا يجعلها أكثر سعادةً على المدى الطويل، وسيُشجِّعها ذلك على تأجيل إشباع رغباتها لزيادة مكاسبها لاحقًا.

فعندما ترتفع قيمة النقد، غالبًا ما يكون الناس أكثر ذكاءً فيما يتعلَّق باستهلاكهم، وسيقومون بادخار المزيد من دخلهم للمستقبل. فثقافة استهلاك المظاهر أمام الناس، واعتبار التسوُّق علاجًا نفسيًّا، والحاجة المستمرة لاستبدال الفضلات البلاستيكية الرخيصة بفضلات بلاستيكية رخيصة أيضًا ولكن أكثر حداثةً وجمالية؛ إن هذه الأفكار لن يكون لها مكان في مجتمع ترتفع قيمة عملته بمرور الوقت. وعالمٌ كهذا سيشجِّع الناس على خفض تفضيلهم الزمني، بحيث تكون قراراتهم النقدية هي من يوجِّه أفعالهم نحو المستقبل، وبالتالي سيتعلَّمون تقدير المستقبل بشكل أكبر. بهذا، يمكننا أن نرى كيف يمكن لمثل هذا المجتمع أن يدفع الناس ليس فقط نحو ادخار واستثمار أكثر، ولكن ليكون أيضًا موجِّهًا أخلاقيًّا وفنيًّا وثقافيًّا نحو مستقبل بعيد المدى.

فالعملة التي ترتفع قيمتها هي عملة تُحفِّز على الادخار بحيث تكتسب المُدَّخرات المزيد من القوة الشرائية بمرور الوقت؛ ولهذا فهي تشجِّع على تأجيل الاستهلاك؛ ممَّا يؤدِّي إلى حدوث التفضيل الزمني المنخفض. من ناحية أخرى، فالعملة التي تنخفض قيمتها، هي عملة تترك المواطنين ببحث مستمر عن استثمارات تأتي بعائدات للتغلُّب على التضخم، وهي عائدات تأتي مع مخاطر، ويؤدِّي هذا إلى زيادة الاستثمار في المشاريع الخطيرة، وإلى زيادة قدرة المستثمرين على قَبول المخاطر، وبالتالي زيادة الخسائر. فعادة، المجتمعات التي تتمتَّع بنقد ذي قيمة مستقرة تتبع سياسة التفضيل الزمني المنخفض، وتتعلَّم كيفية الادخار والتفكير في المستقبل، أمَّا المجتمعات ذات معدلات التضخم المرتفعة والاقتصادات المتدهورة فتتبع سياسة التفضيل الزمني المرتفع؛ لأن الناس ستفقد الإحساس بأهمية الادخار، وستُركِّز على الملذَّات الفورية.

علاوةً على ذلك، إن أي اقتصاد ذي عملة ترتفع قيمتها، هو اقتصاد لن يشهد الاستثمار إلا في المشاريع التي توفِّر عائدًا حقيقيًّا إيجابيًّا على معدلات ارتفاع قيمة أسهم رأس المال، ممَّا يعني أنه سيتم فقط تمويل المشاريع التي يُتوقَّع منها أن تزيد رأس مال المجتمع. على النقيض من ذلك، إن اقتصادًا ذا عملة تنخفض قيمتها هو اقتصاد يحفِّز الأفراد على الاستثمار في المشاريع التي تقدِّم فوائد إيجابيةً على صعيد قيمة العملة المتراجعة، لكن الفوائد الحقيقية ستكون سلبية. فالمشاريع التي تتغلَّب على التضخم ولا تقدِّم فوائد حقيقيةً إيجابية هي مشاريع تقلِّل فعليًّا من مخزون رأس مال المجتمع، ولكنها مع ذلك تُعتبَر بديلًا منطقيًّا للمستثمرين؛ لأنها تقلِّل من رءوس أموالهم بشكل أبطأ من انخفاض قيمة العملة، وهذه الاستثمارات هي ما يصفها لودفيج فون ميزس بالاستثمارات السيئة، وهي مشاريع عديمة الجدوى واستثمارات لا تبدو مربحةً إلا أثناء فترة التضخم وعندما تكون معدلات الفائدة منخفضةً بشكل صنعي، والتي ستتكشَّف خسارتها لاحقًا بمجرد انخفاض معدلات التضخم وارتفاع معدلات الفائدة؛ ممَّا يتسبَّب في حدوث جزء الكساد من دورة الازدهار والكساد. وكما يقول ميزس: «يُبدِّد الازدهار الاقتصادي عوامل الإنتاج الشحيحة من خلال الاستثمارات السيئة، ويُقلِّل من الأموال المتاحة عبر الزيادة المفرطة في الاستهلاك؛ ليُدفع ثمن فوائده ونِعمه المزعومة عبر الإفقار.»١٠
يساعد هذا التوضيح في تفسير سبب تفضيل اقتصاديي المدارس النمساوية استخدام الذهب كنقد، بينما يدعم اقتصاديو المدرسة الكينزية إصدار الحكومة للنقود المرنة التي يمكن زيادتها بِناءً على طلب الحكومة. فبالنسبة لأتباع المدرسة الكينزية، إن حقيقة استخدام كافة البنوك المركزية حول العالم للنقود الورقية تُمثِّل شهادةً على تفوق أفكارهم. على الصعيد الآخر، ترى المدرسة النمساوية في لجوء الحكومة للتدابير القسرية لحظر استخدام الذهب كنقد وفرض استخدام العملات الورقية دليلًا مباشرًا على دونيَّة النقود الورقية وعجزها عن النجاح في سوق حرة، كما أنها المُسبِّب الرئيسي لازدهار وانهيار جميع الدورات الاقتصادية. وفي حين أن الاقتصاديين الكينزيين ليس لديهم أي تفسير لسبب حدوث الركود سوى حجة «أرواح الحيوانات»؛ فقد طوَّر اقتصاديو المدرسة النمساوية النظرية الوحيدة المترابطة والمتسقة والتي تشرح أسباب الدورات الاقتصادية؛ وهي النظرية النمساوية للدورة الاقتصادية.١١

(٢) النقد غير السليم والحرب الأزلية

كما نوقش في الفصل الرابع عن تاريخ النقد، لم تكن مجرَّد مصادفة أن تزامنت وبدأت أول حرب عالمية في التاريخ البشري مع حقبة النقد المُسيطَر عليه من قِبل البنوك المركزية. وهناك ثلاثة أسباب رئيسية تُسيطر على العلاقة بين النقد غير السليم والحرب؛ أولًا: النقد غير السليم هو بمثابة حاجز للتجارة بين البلدان؛ لأنه يُزيِّف القيمة بين هذه البلدان، ويجعل تدفُّق التجارة مشكلةً سياسية، ويولِّد العداء والخصومة بين الحكومات والشعوب. ثانيًا: إن قدرة الحكومة على طباعة النقد تسمح لها بمواصلة القتال حتى تدمير قيمة عملتها كليًّا، وليس حتى نفاد النقود. لكن ومع وجود النقد السليم، فإن جهود الحكومة الحربية تحدُّها وتُقيِّدها قيمة الضرائب التي تستطيع الحكومة جمعها. أما بالنسبة للنقد غير السليم، فالأمر مُقيَّد بكمية النقود التي بإمكان الحكومة طباعتها قبل أن تُدمَّر العملة، ممَّا يجعلها قادرةً على مصادرة الثروات بشكل سهل. ثالثًا: إن الأفراد الذين يستخدمون النقد السليم يميلون إلى اتِّباع سياسة التفضيل الزمني المنخفض؛ ممَّا يسمح لهم بالتركيز على التعاون عوضًا عن النزاعات، كما نوقش في الفصل الخامس.

فكلما ازداد حجم السوق الذي يستطيع الأفراد التداول فيه، ازدادت قدرتهم على التخصُّص في إنتاجهم، وازدادت أرباحهم من التجارة. فكمية الجهود نفسها المخصَّصة للعمل في اقتصاد بدائي مُكوَّن من عشرة أفراد، ستؤدِّي إلى مستوى معيشة أقل بكثير ممَّا سيكون لو بُذلت الجهود ذاتها في أسواق أكبر مكوَّنة من ألف أو مليون فرد. فالفرد المعاصر الذي يعيش في مجتمع ذي تجارة حرة يستطيع العمل لعدة ساعات يوميًّا في عمل تخصُّصي للغاية، وبوساطة المال الذي يجنيه فإنه يستطيع شراء السلع التي يريدها من أي مُنتِج في العالم بأكمله بأقل تكلفة وبأفضل نوعية. ولتقدير المكاسب الناتجة من التجارة التي ستعود بالنفع عليك، تخيَّل عيش حياتك باكتفاء ذاتي، عندها ستصبح مهمة البقاء الأساسية مهمةً صعبة بالنسبة لأي منا، بحيث لن يتم استثمار الوقت بشكل مثمر وفعَّال؛ لأننا سنحاول تأمين احتياجاتنا الأساسية.

فالنقد هو الوسيط الذي تتم به التجارة، وهو الأداة الوحيدة التي تمكِّن التجارة من التوسُّع خارج نطاق المجتمعات الصغيرة ذات العلاقات الشخصية الوثيقة. ولكي تعمل آلية الأسعار، يجب أن تكون هذه الأسعار مُقوَّمة ومُحتَسبةً بشكل سليم بالنقد للمجتمع الذي يتاجر به. وكلما كبِرت المنطقة التي تستخدم عملة مشتركة، أصبح نطاق التجارة داخل هذه المنطقة أكبر وأكثر سهولة، وبهذا تخلق التجارة بين الشعوب تعايشًا سلميًّا من خلال منحهم مصلحةً ثابتة في ازدهار الآخرين. أما عندما تستخدم المجتمعات أنواعًا مختلفة من النقد السهل، تصبح التجارة أكثر تعقيدًا؛ حيث تختلف الأسعار مع اختلاف قيمة العملات؛ ممَّا يضيف صفة التقلُّب إلى التجارة ويجعلها في كثير من الأحيان غير مثمرة في حال تمَّ التخطيط لنشاط اقتصادي عبر الحدود.

إن الأفراد المُتَّبِعين لسياسة التفضيل الزمني المنخفض، وبسبب ميلهم للتركيز على المستقبل، فهم أقل عرضةً للانخراط في الصراع من أولئك الذين يميلون للتركيز على الحاضر. فالصراع بطبيعته مُدمر، وفي معظم الحالات، الأفراد الأذكياء والذين يميلون للتركيز على المستقبل يُدركون أنه لا يوجد منتصر في الصراعات العنيفة؛ وذلك لأن المنتصرين سيعانون على الأرجح من خسائر أكثر ممَّا لو كانوا قد امتنعوا عن المشاركة في الصراع في المقام الأول. والمجتمعات المتحضِّرة تعمل على أساس أن الناس يحترمون إرادة أحدهم الآخر، وإذا كان هناك صراعات، فإنهم سيُحاولون التوصُّل إلى حلول سلمية، فإذا لم يتم العثور على حلول سلمية، فمن المرجَّح أن يفترق المتخاصمان ويتجنَّبان بعضهما عوضًا عن الاستمرار بإزعاج الآخر والبقاء في حالة صراع. وهذا الأمر يساعد على تفسير عدم وجود الكثير من الجرائم أو العنف أو الصراعات في المجتمعات المتحضِّرة المزدهرة.

على المستوى الدولي، إن الدول التي تستخدم النقد السليم، من المرجَّح لها أن تبقى في حالة سلم، أو أن يكون الصراع فيها بحَده الأدنى؛ وذلك لأن النقد السليم يضع قيودًا حقيقية على قدرة الحكومات في تمويل عملياتها العسكرية. ففي أوروبا في القرن التاسع عشر، أُجبر الملوك الذين أرادوا قتال بعضهم البعض على فرض ضرائب على شعوبهم من أجل تمويل جيوشهم. وعلى المدى الطويل، قد تكون استراتيجية كتلك مربحةً فقط في حال وظَّف الملوك قواهم العسكرية بشكل دفاعي، وليس بشكل هجومي؛ حيث إن العمل العسكري الدفاعي يحظى دائمًا بميزة أقوى من الطبيعة العسكرية الهجومية؛ وذلك لأن المُدافع يقاتل على أرضه وترابه، بالقرب من شعبه وخطوط إمداده. فالحاكم الذي يركِّز جيوشه على العمل الدفاعي سيجد شعبه على استعداد لدفع الضرائب للدفاع عن أنفسهم أمام الغزاة الأجانب، لكن الحاكم الذي يشارك في مغامرات خارجية مطوَّلة لإثراء نفسه، فمن الأرجح أن يستاء شعبه منه، وأن يتحمَّل تكاليف باهظةً في محاربة جيوش أخرى وهم على أرضهم.

يمكن أن يساعدنا هذا في تفسير سبب كون القرن العشرين القرن الأكثر دمويةً في التاريخ؛ فتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية١٢ لعام ٢٠٠٥م حلَّل الوَفَيَات الناجمة من الصراعات على مدى القرون الخمسة الماضية، ووجد أن القرن العشرين هو أكثرها دموية. فحتى عندما دخلت الدول الأوروبية الكبرى في حرب مع بعضها البعض في حقبة المعيار الذهبي، كانت تلك الحروب عادةً قصيرة وحوربت في ساحات القتال بين الجيوش المحترفة. فالحرب الرئيسية في القرن التاسع عشر في أوروبا كانت هي الحرب الفرنسية-البروسية الممتدة بين العامَين ١٨٧٠-١٨٧١م، والتي استمرَّت لمدة ٩ أشهر وقتل فيها حوالي ١٥٠٠٠٠ شخص، وهذا العدد قريب من متوسط عدد الوَفَيَات الأسبوعية في الحرب العالمية الثانية المموَّلة من حكومات القرن العشرين وعملاتها السهلة. لكن ولأن المعيار الذهبي فرَض قيودًا عليهم في تمويل الحرب من الضرائب، كان على الحكومات الأوروبية تجهيز نفقاتهم قبل المعركة، وأن تُنفقها في تجهيز جيوشها بأكبر فعالية ممكنة، وأن تحاول تحقيق نصر حاسم. وحالما يبدأ تيار المعركة بالانقلاب على أحد الجيوش، تصبح المعركة خاسرةً من الناحية اللوجستية والاقتصادية عند محاولة زيادة الضرائب لإعادة تسليح الجيش وتحويل مسار المعركة، وفي هذه الحالة من الأفضل التفاوض لإقرار السلام مع أقل قدر ممكن من الخسائر. وكانت الحروب النابليونية هي الأكثر دمويةً في القرن التاسع عشر؛ حيث حدثت قبل اعتماد المعيار الذهبي رسميًّا في جميع أنحاء القارة، بعد التجارب الحمقاء التي قامت بها الثورة الفرنسية مع التضخم (انظر الجدول ٧-١).١٣

الآن، وفي جميع الاقتصادات المتقدِّمة بشكلها الحالي، يتخصَّص عدد كبير من الشركات في الحروب كعمل تجاري، وهي تعتمد على استمرار هذه الحروب لإبقاء عملها؛ فهي تعيش على الإنفاق الحكومي بشكل حصري، وكامل أمر استمراريتها ووجودها يعتمد على وجود حروب دائمة تتطلَّب إنفاقًا متزايدًا على الأسلحة. ففي الولايات المتحدة، ميزانية الدفاع تساوي تقريبًا مجموع الميزانيات لجميع الدول الأخرى على الكوكب، ولتلك الشركات مصلحة كبيرة في الإبقاء على الحكومة الأمريكية مشارِكةً في شكل من أشكال المغامرات العسكرية أو ما شابه. إن هذا الأمر، أكثر من أي عمليات استراتيجية أو ثقافية أو أيديولوجية أو عمليات أمنية، يفسِّر سبب تورُّط الولايات المتحدة في العديد من الصراعات في أجزاءٍ من العالم بحيث لا يمكن أن يكون لها أي تأثير على حياة الأمريكي العادي. إنه وفقط عبر النقد غير السليم، يمكن لهذه الشركات أن تنمو إلى ذلك الحجم الهائل بحيث يمكنها التأثير على الصحافة، والأوساط الأكاديمية، والمراكز البحثية للتشجيع الدائم على قرع طبول حرب أخرى.

جدول ٧-١: الوَفَيَات الناجمة عن الصراعات في آخر خمسة قرون.
تزداد بثبات نسبة الوَفَيَات البشرية في الحروب مع مرور الوقت
الوفيات الناجمة عن الحروب كنسبة مئوية من كثافة العالم السكانية كثافة العالم السكانية في منصف القرن (ملايين) الوَفَيَات الناجمة عن الصراعات (ملايين) الحقبة
٠٫٣٢ ٤٩٣٫٣ ١٫٦ القرن اﻟ ١٦
١٫٠٥ ٥٧٩٫١ ٦٫١ القرن اﻟ ١٧
٠٫٩٢ ٧٥٧٫٤ ٧٫٠ القرن اﻟ ١٨
١٫٦٥ ١٫١٧٢٫٩ ١٩٫٤ القرن اﻟ ١٩
٤٫٣٥ ٢٥١٩٫٥ ١٠٩٫٧ القرن اﻟ ٢٠

(٣) الحكومات ذات السلطة المحدودة مقابل الحكومات ذات السلطة المطلقة

في تاريخه الشامل لخمسة قرون من الحضارة الغربية، «من الفجر إلى الانحطاط»، حدَّد «جاك بارزون» نهاية الحرب العالمية الأولى كنقطة تحوُّل حاسمة لبدء الانحطاط والتدهور وزوال الغرب. فبعد هذه الحرب، عانى الغرب ممَّا وصفه بارزون ﺑ «التحوُّل العظيم»، وهو استبدال الليبرالية بالتحرُّر؛ فهو ذلك المحتال الذي يَدَّعي شيئًا ولكنه في الواقع عكسه تمامًا.١٤

انتصرت الليبرالية بِناءً على المبدأ القائل بأن أفضل الحكومات هي أقلها حكمًا، أما الآن على صعيد الدول الغربية، فالحكمة السياسية لهذه الدول قامت بإعادة فكرة التحرُّر إلى الليبرالية، فوضع هذا التحوُّل المفردات بحالة من الفوضى.

ففي حين قامت الليبرالية بدور الحكومة وذلك بالسماح للأفراد بالعيش بحرية وبالاستمتاع بمزايا أفعالهم وتحمُّل عواقبها، اعتُبر التحرُّر فكرةً راديكالية تشير إلى أن دَور الحكومة يتمحور حول السماح للأفراد بالانخراط في رغباتهم وحمايتهم من العواقب. فعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تمَّ إعادة صياغة دَور الحكومة وكأنها الجنِّي المانح للأمنيات، وما على السكان سوى التصويت على الأماني المراد تحقيقها.

وحدَّد المؤرخ الفرنسي «إيلي هاليفي» عصر الاستبداد بأنه قد بدأ عام ١٩١٤م مع بداية الحرب العالمية الأولى، عندما انتقلت القوى الكبرى في العالم نحو التأميم الاقتصادي والفكري. فلقد قاموا بتأميم وسائل الإنتاج وبدءوا باستخدام صيغ نقابية ومؤسساتية في منظومة المجتمع، وقد حدث كل ذلك أثناء قيامهم بقمع الأفكار التي تُعتَبر ضد المصلحة الوطنية بالإضافة إلى تعزيز القومية في ما أسماه «تنظيم الحماس».١٥

فالمفهوم الليبرالي الكلاسيكي للحكومة لا يمكن تحقيقه إلا في عالم يستخدم النقد السليم والذي كان بمثابة قيد طبيعي على تجاوزات الحكومة واستبدادها. فطالما كان على الحكومة فرض ضرائب على مواطنيها لتمويل عملياتها، وجب عليها تقييد هذه العمليات بما يعتبره مواطنوها مقبولًا، ووجب عليها المحافظة على ميزانية متوازنة عبر إبقاء الاستهلاك ضمن حدود دخل الضرائب. ففي مجتمع يستخدم النقد السليم، تعتمد الحكومة على موافقة سُكَّانها لتمويل عملياتها، وعند طرح أي مشروع حكومي جديد، سيتعيَّن جمع تكاليفه مسبقًا من الضرائب أو بيع السندات الحكومية الطويلة الأمد؛ ممَّا يمنح السكان مقياسًا دقيقًا للتكاليف الحقيقية لهذه الاستراتيجية، والتي تمكِّنهم بسهولة من المقارنة بينها وبين الفوائد. لهذا، إن الحكومة التي تبحث عن تمويل منطقي من أجل الدفاع القومي ومشاريع البِنية التحتية لن تواجه صعوبةً تُذكر في فرض الضرائب وبيع السندات للسكان الذين يستطيعون رؤية المزايا بأم أعينهم، لكن الحكومة التي ترفع الضرائب لتمويل نمط الحياة الفخم للحُكام ستولِّد استياءً عامًّا بين السكان؛ ممَّا يعرِّض شرعية حكمها للخطر ويزيد من عدم استقراره. فكلما ازدادت ضرائب الحكومة المرهقة وتدابيرها المفروضة، ازداد احتمال رفض السكان دفع الضرائب، وازدادت تكاليف تحصيل الضرائب بشكل أكبر، ولربما يؤدِّي ذلك إلى الاحتجاج ضد الحكومة لاستبدالها، سواء عن طريق الاقتراع أو العنف.

وبهذا، فَرَض النقد السليم على الحكومات التصرُّف بشفافية وصدق، وحصر حكمها ضمن ما يُرضي السكان وما يستطيعون تحمُّل تكاليفه؛ فقد سمح بمحاسبة مجتمعية صادقة وشفافة للتكاليف والفوائد الحقيقية للأعمال والمشاريع، فضلًا عن المسئولية الاقتصادية اللازمة لأي منظمة أو فرد أو كائن حي للنجاح في الحياة؛ فالاستهلاك يجب أن يحصل بعد الإنتاج.

من ناحية أخرى، يسمح النقد غير السليم للحكومات بشراء الولاء والشعبية من خلال الإنفاق لتحقيق الأهداف الشعبية دون الحاجة إلى إعلام شعوبها بالتكاليف. فببساطة، تقوم الحكومة بزيادة العرض النقدي لتمويل أي مخطَّط طائش تقوم بتلفيقه، ولا يدرك السكان التكلفة الحقيقية لمثل هذه المخطَّطات إلا في السنوات التالية عندما يؤدِّي تضخُّم العرض النقدي إلى ارتفاع الأسعار. وفي تلك النقطة يمكن عزو أسباب انهيار قيمة العملة إلى عوامل لا تُعَد ولا تُحصى، تتضمَّن عادةً مؤامرات خبيثةً من قِبل الأجانب، والمصرفيين والأقليات العِرقية المحلية أو الحكومات السابقة أو المستقبلية. لهذا، يُعتَبر النقد غير السليم أداةً خطيرة في أيادي الحكومات الديمقراطية الحديثة التي تواجه بشكل مستمر ضغط إعادة الانتخاب. كما أنه ليس من المرجَّح أن يُفضِّل الناخبون العصريون المرشحين الصريحين بشأن تكاليف مخطَّطاتهم وفوائدها؛ فهم على الأرجح سيختارون أولئك الأوغاد الذين يَعِدونهم بغداء مجاني، ثم يلقون لوم التكاليف على من سبقوهم أو على بعض المؤامرات الشنيعة. بهذه الطريقة، تُصبح الديمقراطية وهمًا جماعيًّا للأشخاص الذين يحاولون تجاوز قواعد الاقتصاد عن طريق التصويت لمن يقدِّم لهم وجبة غداء مجانية، ويخدعهم للاحتجاج العنيف ضد كبش فداء حينما تصل فاتورة الغداء المجاني على شكل تضخم وركود اقتصادي.

فالنقد غير السليم يقع في قلب الوهم الحديث الذي يؤمن به معظم الناخبين، ومن شاء حظهم العاثر دراسة الاقتصاد الكلي الحديث على المستوى الجامعي؛ فالإجراءات الحكومية ليس لديها تكاليف الفرص البديلة حيث يمكن للحكومة تحريك عصاها السحرية الخارقة لبناء الواقع الذي تريده، سواء أكان ذلك على صعيد الحد من الفقر أو فرض الأخلاق أو الرعاية الصحية أو التعليم أو البنية التحتية أو إصلاح المؤسَّسات السياسية والاقتصادية في الدول الأخرى أو تجاوز قواعد العرض والطلب على أي سلعة مهمة عاطفيًّا. فمعظم المواطنين الحاليين يعيشون في أرض أحلام وهمية لا يوجد فيها تكلفة لأي شيء من هذه الأشياء، وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذه الأهداف هو «الإرادة السياسية» و«القيادة القوية» وغياب الفساد. فلقد قضى النقد غير السليم على فكرة المقايضات وعلى تكاليف الفرصة البديلة من عقول الأفراد الذين يفكِّرون في الشئون العامة، وسيُصدم المواطن العادي من إعلامه بما هو واضح وبديهي: إن كل هذه الأشياء الجميلة التي تريدها لا يمكن تحقيقها دون تكلفة من قِبَل السياسي المفضَّل لديك أو حتى من خصمه، بل يجب تحقيقها جميعها من قِبَل أشخاص حقيقيين — وهم أشخاص عليهم الاستيقاظ في الصباح الباكر وقضاء أيامهم وسنواتهم بالعمل بجد لإعطائك ما تريده، وحرمان أنفسهم من فرصة العمل على أشياء أخرى ربما يفضِّلون إنتاجها. وبالرغم من أنه لم يتم انتخاب أي سياسي بِناءً على هذه الحقيقة، إلا أن صندوق الاقتراع لا يمكنه إبطال جوهر وأساس نُدرة الوقت البشري. ففي أي وقت تقرِّر فيه الحكومات تقديم شيء فإنها لا تزيد من الناتج الاقتصادي، بل إن هذا ببساطة يعني المزيد من التخطيط المركزي للناتج الاقتصادي مع عواقب يمكن التنبؤ بها.١٦

فالنقد غير السليم كان بمثابة نعمة للطُّغاة والأنظمة القمعية والحكومات غير الشرعية حيث سمح لهم بتجنُّب حقيقة التكاليف والفوائد من خلال زيادة العرض النقدي لتمويل مشاريعهم أولًا، ثم ترْك السكان ليتحمَّلوا العواقب لاحقًا وهم يشهدون زوال ثرواتهم وقواهم الشرائية. والتاريخ حافل بأمثلة تُظهر لنا كيف أن الحكومات التي يتواجد لها امتيازات طباعة النقد من الفراغ، غالبًا ما تسيء استخدام هذا الامتياز عبر قلبه ضد شعوبها.

لهذا، ليس من قبيل المصادفة أنه عند سرد الروايات عن أبشع طغاة التاريخ، يكتشف المرء أن كل واحد منهم كان قد اتبع نظام حكومة ذات سلطة لطباعة النقود، الأمر الذي أدَّى دائمًا إلى تضخم لتمويل عمليات الحكومة. فهناك سبب وجيه لكون «فلاديمير لينين»، و«جوزيف» و«ستالين»، و«ماو تسي دونغ»، و«أدولف هتلر»، و«ماكسميليان روبسبيار»، و«بول بوت»، و«بينيتو موسوليني»، و«كيم جونغ إل» والعديد من المجرمين ذوي السمعة السيئة، قد حكموا في فترات إصدار الحكومة للنقد غير السليم حيث كان بإمكانهم طباعة الكمية التي يحتاجونها لتمويل جنون عظمتهم الإجرامي والاستبدادي. وهو السبب ذاته في أن نفس المجتمعات التي أنجبت هؤلاء القتلة الجماعيين لم تُنجب أي شخص قريب من مستوى إجرامهم عند العيش في ظل أنظمة نقدية سليمة، والتي أجبرت الحكومات على فرض الضرائب قبل القيام بالإنفاق. فلم يقم أيٌّ من هؤلاء الوحوش بإلغاء النقد السليم بغرض تمويل عمليات الإبادة الجماعية؛ فقد حصل تدمير النقد السليم من قبل، بل وتمَّ الإشادة به بقصص مُبهجة رائعة شملت الأطفال والتعليم وتحرير العُمال والكرامة الوطنية، لكن وبمجرد تدمير النقد السليم، أصبح من السهل للغاية على هؤلاء المجرمين تولِّي السلطة والسيطرة على كل موارد المجتمع عن طريق زيادة عرض هذا النقد غير السليم.

فالنقد غير السليم يجعل سلطة الحكومة غير محدودة مع عواقب كبيرة على كل فرد؛ ممَّا يقحم السياسة في قلب حياة هذه الأفراد، ويعيد توجيه الكثير من طاقة المجتمع وموارده إلى لعبة مُحصِّلتها صفر وهي؛ من الذي سينال الحكم وكيف؟ من ناحية أخرى، فالنقد السليم يجعل من شكل الحكومة مسألةً ذات عواقب محدودة؛ فالديمقراطية أو الجمهورية أو الملكية كلها مُقيَّدة بالنقد السليم؛ ممَّا يتيح لمعظم الأفراد درجةً كبيرة من الحرية في حياتهم الشخصية.

وفي كلٍّ من الاقتصادات السوفيتية أو الرأسمالية، يُعتبَر مفهوم «إدارة» أو «تنظيم» الحكومة للاقتصاد لتحقيق الأهداف الاقتصادية أمرًا جيدًا وضروريًّا، ومن المهم العودة هنا إلى وجهة نظر جون ماينارد كينز لفهم دوافع النظام الاقتصادي الذي يقترحه، والذي كان على البشرية فيه المناضَلة طيلة العقود الماضية. ففي إحدى دراساته الأقل شهرة؛ «انتهاء الاقتصاد الحر»، يقدِّم كينز تصوُّره عمَّا يجب أن يكون عليه دور الحكومة في المجتمع، فأعرب كينز عن معارضته لكلٍّ من الليبرالية والنزعة الفردية، وهذا أمر متوقَّع، ولكنه يقدِّم أيضًا أُسس معارضته للاشتراكية، حيث يقول:

الدولة الاشتراكية في القرن التاسع عشر انبثقت من «جيرمي بينثام» ومن المنافسة الحرة وما إلى ذلك، وهي نسخة أكثر وضوحًا في بعض النواحي، وأكثر غموضًا في نواحٍ أخرى من الفلسفة ذاتها التي ارتكز عليها مبدأ الفردية في القرن التاسع عشر. فوضع كلاهما بشكل متساو كل ضغوطهما على الحرية، وكان تأثير أحدهما سلبيًّا لتجنُّب وضع قيود على الحرية القائمة، وكان تأثير الآخر إيجابيًّا لتدمير الاحتكارات الطبيعية أو المكتسبة. إنها ردود فعل مختلفة لنفس الجو الفكري.

بهذا، يتضح لنا أن مشكلة كينز مع الاشتراكية هي أن هدفها النهائي كان هو زيادة الحرية الفردية. وبالنسبة إلى كينز، لا ينبغي أن يتعلَّق الهدف النهائي بقضايا «تافهة» مثل الحرية الفردية، بل يجب أن يتعلَّق بتحكم الحكومة في الجوانب الاقتصادية كما يحلو له؛ حيث قام كينز باستعراض ثلاثة مجالات رئيسية يرى فيها أن دور الحكومة حيوي وضروري؛ الأول: «السيطرة المُتعمَّدة على العملة والائتمان من قِبَل مؤسسة مركزية»، وهو الاعتقاد الذي وضع أُسس البنوك المركزية الحديثة. الثاني: اعتقد كينز أنه من مهام الحكومة اتخاذ القرار بشأن «الدرجة التي يصبح عندها من المرغوب فيه على المجتمع أن يدَّخر ككل، والدرجة التي يجب أن تُستثمر فيها هذه المدَّخرات في الخارج على شكل استثمارات أجنبية، وما إذا كان التنظيم الحالي لسوق الاستثمار يُوزِّع المدَّخرات على أكثر القنوات إنتاجيةً على المستوى الوطني، حيث قال: «لا أعتقد أن هذه الأمور يجب أن تُترك بالكامل لمصادفات الأحكام الشخصية والأرباح الشخصية، كما هو الوضع الآن.» وأخيرًا، اعتقد كينز أنه من مهام الحكومة وضع «سياسةً وطنية مدروسة حول عدد السكان الأكثر ملاءمة، سواء أكان أكبر أو يساوي أو أصغر من العدد الحالي. وعند الاستقرار على تلك السياسة، سيتوجَّب علينا اتخاذ خطوات لتنفيذها، وفي وقت لاحق، قد يتعيَّن على المجتمع ككل الانتباه إلى النوعية الحقيقية وعدد الأعضاء في المستقبل.»١٧
بعبارة أخرى، إن المفهوم الكينزي للدولة الذي انبثقت منه المبادئ المصرفية المركزية الحديثة، والتي تمَّ تطبيقها على نطاق واسع من قِبل جميع المصرفيين المركزيين، والتي تشكِّل الغالبية العظمى من الكتب الدراسية الاقتصادية المكتوبة في جميع أنحاء العالم، قد أتت من مكان أراد فيه رجل تركيز الحكومة على مجالَين مهمَّين في الحياة؛ الأول: السيطرة على النقد والائتمان والادخار وقرارات الاستثمار؛ ممَّا يعني المركزية الشمولية لتخصيص رأس المال وتدمير المشاريع الفردية الحرة، الأمر الذي يجعل الأفراد معتمدين كليًّا على الحكومة لنجاتهم. الثاني: هو السيطرة على كمية ونوعية السكان؛ ممَّا يعني تحسين النسل. فعلى النقيض من الاشتراكيين، لم يسعَ كينز لتحقيق هذا المستوى من السيطرة على الأفراد من أجل تعزيز حريتهم على المدى الطويل، لكنه فضَّل تطوير رؤية أشمل للمجتمع كما يراه هو مناسبًا. وربما كان للاشتراكيين لباقةٌ على الأقل في التظاهر بأنهم يريدون استعباد الإنسان لمصلحته ولتحريره في المستقبل، إلا أن كينز أراد استعباد الحكومة فقط لمجرد الاستعباد، كهدف نهائي. وقد يساعدنا هذا بفهم دافع موراي روثبورد لقول: «هناك أمر واحد جيد في «كارل ماركس»، على الأقل لم يكن كينزيًّا.»١٨

وعلى الرغم من أن هذا المفهوم قد يحلو للمثاليين المتواجدين في أبراجهم العاجية والذين يتصوَّرون أن هذا لن ينتج عنه سوى نتائج إيجابية، إلا أنه في الواقع يؤدِّي إلى تدمير آليات السوق اللازمة للإنتاج الاقتصادي. وفي ظل نظام كهذا، يتوقَّف النقد فيه عن العمل كنظام معلومات للإنتاج، ويعمل كبرنامج ولاء حكومي.

(٤) العملة الخَلِسَة (The Bezzle)

لقد وضَّح لنا الفصل الثالث كيف أن أي سلعة تكتسب دورًا نقديًّا من شأنها أن تُحفِّز الأفراد على إنتاج المزيد منها. فالنقد الذي يسهُل إنتاجه سيؤدِّي إلى تخصيص المزيد من الموارد الاقتصادية والوقت البشري من أجل إنتاجه. وبما أن النقود لا تُجمع لخصائصها الخاصة، بل لمبادلتها بسلع وخدمات أخرى، فإن قوتها الشرائية هي المهمة، لا كميتها المطلقة. لهذا، ليس هناك فائدة اجتماعية من أي نشاط يؤدِّي إلى زيادة العرض النقدي. وهذا هو السبب في أنه، في أي سوق حرة، إن اكتسب أي شيء دورًا نقديًّا، فستكون نسبة مخزونه إلى تدفُّقه مرتفعةً بشكل موثوق، وسيكون العرض النقدي الجديد قليلًا ولا يُشكِّل أهميةً مقارنة بالعرض الإجمالي المتوفِّر. وهذا الأمر يضمن تكريس أقل كمية ممكنة من العمل والموارد الرأسمالية لإنتاج المزيد من الوسائط النقدية، وبدلًا من ذلك، يتم تكريسها لإنتاج سلع وخدمات مفيدة تُعتبَر كميتها المطلقة مهمةً على عكس النقود. لذلك، أصبح الذهب هو المعيار النقدي العالمي الرائد؛ لأن إنتاجه الجديد شكَّل دائمًا نسبةً صغيرة للغاية من عرضه المتاح؛ ممَّا جعل من عملية تنجيم الذهب تجارةً خطرة وغير مربحة للغاية، الأمر الذي أجبر المزيد من رءوس المال واليد العاملة في العالم على التوجُّه نحو إنتاج السلع غير النقدية.

بالنسبة لجون ماينارد كينز وميلتون فريدمان، كان أحد أهم العوامل الرئيسية لابتعادهما عن المعيار الذهبي هو انخفاض تكاليف استخراجه كنتيجة لاستخدام النقود الورقية التي تُصدرها الحكومة، والتي تكون تكلفة إنتاجها أقل بكثير من تكلفة إنتاج الذهب. فليس فقط أنهم لم يفهما أن الموارد المُوجَّهة لإنتاج الذهب هي قليلة جدًّا مقارنةً بالسلع الأخرى التي يمكن تضخيم عرضها بسهولة، بل إنهم أيضًا قد قلَّلوا من شأن التكاليف الحقيقية التي سيتحمَّلها المجتمع بسبب استخدام شكل من النقد يمكن تضخيم عرضه كما يحلو لحكومة سريعة التأثر بالسياسات الديمقراطية والمصالح الشخصية. فالتكلفة الحقيقة في هذه الحالة ليست هي التكلفة المباشرة لتشغيل الطابعات، بل هي تكلفة التنازل عن النشاطات الاقتصادية؛ وذلك لأن الموارد الإنتاجية ستتجه نحو النقود الحكومية الجديدة عوضًا عن الانخراط في الإنتاج الاقتصادي.

ويمكن فهم عملية استحداث الائتمان التضخمي كمثال واسع للمجتمع الذي أطلق عليه الاقتصادي جون كينيث غالبريث «العملة الخَلِسَة»١٩ في كتابه عن الكساد العظيم. فمع الزيادة الكبيرة للتوسُّع الائتماني في عشرينيات القرن الماضي، غُمرت الشركات بالنقود، وأصبح من السهل على الناس اختلاس تلك النقود بطرق مختلفة، وطالما استمرَّ تدفُّق الائتمان، سيبقى الضحايا غافلين، وسينتشر وهم الثروة المتزايدة في كامل المجتمع حيث إن كلًّا من الضحية والسارق يظنان أنهما يملكان المال. فاستحداث البنوك المركزية للائتمان يؤدِّي إلى حدوث طفرات غير مُستدامة وذلك عبر السماح بتمويل المشاريع غير المربحة والسماح لها بالاستمرار في استهلاك الموارد في أنشطة غير منتجة.

بينما في نظام نقدي سليم، فإن أي عمل أو مشروع تجاري يستمر بعمله، فهو يستمر به لأنه يقوم بتقديم قيمة للمجتمع؛ وذلك من خلال جني إيرادات عالية من منتجاته بحيث تكون هذه الإيرادات أكثر من التكاليف التي تمَّ دفعها أثناء الإنتاج. فالعمل والمشروع التجاري يكون مُنتِجًا لأنه يقوم بتحويل مدخلات بسعر سوق معيَّن إلى مخرَجات بسعر سوق أعلى. وأي شركة تُنتج مخرجاتٍ تقل قيمتها عن مدخلاتها، ستتوقَّف عن العمل، وستُحرِّر مواردها ليتم استخدامها من قِبل شركات أخرى أكثر إنتاجية، فيما وصفه الاقتصادي «جوزيف شومبيتر» ﺑ «الدمار الخلَّاق». ففي سوق حرة، لا يكون هناك أي ربح دون احتمال حقيقي بالخسارة، والجميع مُجبَر على المخاطرة في اللعبة؛ فالفشل دائمًا هو احتمال مطروح، ويمكن أن يكون مكلِّفًا، لكن النقد غير السليم الذي تُصدِّره الحكومة يؤخِّر ويماطل هذه العملية؛ ممَّا يُبقي الشركات غير المنتجة غير ميتة ولكنها أيضًا غير حية، فتكون بذلك هي المكافئ الاقتصادي لمخلوقات الزومبي (الأحياء الأموات) أو مصاصي الدماء الذين يعتمدون على موارد الشركات المنتجة والحية لإنتاج أشياء قيمتها أقل من الموارد اللازمة لإنتاجها. إن هذا الأمر يؤدِّي إلى إنشاء طبقة اجتماعية جديدة تتبع قواعد مختلفةً عن قواعد الآخرين، مع عدم وجود مخاطر بالنسبة لهم. ولعدم مواجهتهم اختبار السوق في عملهم، فسيصبحون في عزلة عن عواقب أفعالهم، وهذه الطبقة الجديدة موجودة في كل قطاع اقتصادي تموِّله النقود الحكومية.

وليس من الممكن القيام بتقدير دقيق للنسبة المئوية للنشاط الاقتصادي في الاقتصاد العالمي الحديث الذي يسير باتجاه النقود المطبوعة من قِبَل الحكومة بدلًا من إنتاج السلع والخدمات المفيدة للمجتمع، لكن من الممكن الحصول على فكرة عن ذلك من خلال النظر إلى الشركات والقطاعات التي تنجو بسبب نجاحها في اختبار السوق الحرة، والأخرى التي بقيت حيةً بفضل سخاء الحكومة سواء على الصعيد النقدي أم المالي.

فالدعم المالي هو من الأمثلة الواضحة على أسلوب إنشاء الزومبي؛ فأي شركة تتلقَّى الدعم الحكومي المباشر، والغالبية العظمى من الشركات التي هي على قيد الحياة بسبب بيع منتجاتها للقطاع العام، هي في الواقع شركات زومبي. فلو كانت هذه الشركات منتجةً في المجتمع، لكان الأفراد الأحرار قد فضَّلوا إنفاق أموالهم لدفع ثمن منتجاتها، ولكن حقيقة عدم قدرة هذه الشركات على النجاة من المدفوعات الطوعية فقط، يظهر أنها عبء وليس لها أصول إنتاجية للمجتمع.

لكن الطريقة الأكثر ضررًا لإنشاء الزومبي هي ليست من خلال المدفوعات الحكومية المباشرة، بل من خلال الحصول على قروض منخفضة الفائدة. فبما أن النقود الورقية قد حدَّت ببطء من قدرة المجتمع على الادخار، فإن الاستثمارات الرأسمالية لم تعد تأتي من مدَّخرات المُدَّخِرين، بل من الديون التي أنشأتها الحكومة، والتي تقلِّل من أرصدة الأموال المتاحة. ففي مجتمع ذي نقد سليم، كلما ادخر الشخص أكثر، استطاع أن يراكم رأس مال أكثر، وتمكَّن من الاستثمار أكثر؛ ممَّا يعني أن مالكي رأس المال يميلون إلى اتباع سياسة التفضيل الزمني المنخفض، لكن عندما يأتي رأس المال من استحداث الحكومة للائتمان، سيتوقَّف موزِّعو رءوس المال عن كونهم موجَّهين نحو المستقبل، وسيصبحون مجرد أعضاء في عدة وكالات بيروقراطية.

ففي سوق حرة ذات نقد سليم، يختار أصحاب رءوس الأموال تخصيص رءوس أموالهم في الاستثمارات التي يجدونها أكثر إنتاجية، وبإمكانهم الاستفادة من المصارف الاستثمارية لإدارة عملية التخصيص هذه. وهذه العملية تكافئ الشركات التي تخدم العملاء بنجاح، والمستثمرين الذين يكتشفونهم، بينما يتم عقابهم على ارتكاب الأخطاء. أما في أنظمة النقد الورقي، فالبنك المركزي هو المسئول عن كامل عملية تخصيص الائتمان، ويقوم بالتحكُّم والإشراف على المصارف التي تُخصِّص رأس المال، ويضع المعايير الأهلية للإقراض، ويحاول تحديد المخاطر بطريقة رياضية تتجاهل المخاطر وطريقة عمل العالم الحقيقي. فيتم بذلك استبعاد اختبار السوق الحرة لأن التوجُّه الائتماني للبنك المركزي بإمكانه إبطال الواقع الاقتصادي للربح والخسارة.

ففي عالم النقد الورقي، الوصول إلى حنفيات نقد البنك المركزي أهم من خدمة الزبائن؛ فالشركات التي يمكنها الحصول على قروض بفائدة منخفضة لتسيير أعمالها ستمتلك ميزةً دائمة مقابل المنافسين الذين لا يستطيعون تحقيق ذلك؛ وبذلك، تصبح معايير النجاح في السوق متعلِّقةً أكثر بالقدرة على تأمين التمويل بفوائد أقل عوضًا عن تقديم الخدمات للمجتمع.

تُفسر هذه الظاهرة البسيطة الكثير عن الواقع الاقتصادي الحديث، مثل العديد من الصناعات التي تُكسب المال دون إنتاج أي شيء ذي قيمة لأي أحد. فالوكالات الحكومية هي المثال الأبرز، ولا يمكن فهم السُّمعة العالمية السيئة التي اكتسبتها بعدم كفاءة موظفيها إلا كنتيجة لتمويل «العملة الخَلِسَة» لها؛ حيث إنهم مفصولون كليًّا عن الواقع الاقتصادي؛ فبدلًا من اجتياز الاختبار الصعب للنجاح في السوق من خلال خدمة المواطنين، تختبر الوكالات الحكومية نفسها، وتستنتج بشكل دائم أن حلَّ جميع مواضع فشلها يكمن في زيادة التمويل. وبغض النظر عن مستوى عدم الكفاءة أو الإهمال أو الفشل، فالوكالات الحكومية وموظفوها نادرًا ما يواجهون عواقب حقيقية. فحتى بعد إزالة الأساس المنطقي لوجود وكالة حكومية ما، ستستمر هذه الوكالة بالعمل وستجد لنفسها المزيد من الواجبات والمسئوليات. لبنان، على سبيل المثال، لا تزال تملك سلطةً للقطارات بالرغم من خروج القطارات من الخدمة منذ عقود، حيث صدئت سككها الحديدية بشكل كبير.٢٠

وفي عالم يتسم بالعولمة، لا تقتصر «العملة الخَلِسَة» على المنظَّمات الحكومية الوطنية فحسب، بل نمت لتشمل المنظَّمات الحكومية الدولية، فهي استنزاف عالمي واضح للوقت والجهد، لا تحمل أي فائدة إلا للعاملين فيها. ولوقوع هذه المنظَّمات بعيدًا عن دافعي الضرائب الذين يموِّلونها، فإنها تواجه تدقيقًا أقل بكثير من المنظَّمات الحكومية الوطنية، وهي بذلك تعمل بقدر أقل من المُساءلة ونهج أكثر استرخاءً على صعيد الميزانيات ومواعيد التسليم والعمل.

إن الأوساط الأكاديمية هي مثال جيد آخر، حيث يدفع الطلاب رسومًا باهظةً أكثر من أي وقت مضى لدخول الجامعات ليتم تدريسهم من قِبل أساتذة لا يقضون سوى القليل من وقتهم وجهدهم على تدريس وتوجيه الطلاب، بل يقضون معظم وقتهم في نشر أبحاث غير قابلة للقراءة للحصول على المنح الحكومية وتسلُّق السلم الأكاديمي. أمَّا في السوق الحرة، فيتعيَّن على الأكاديميين المساهمة بالقيمة عن طريق التدريس أو كتابة أشياء يقرؤها الناس ويستفيدون منها بالفعل. لكن الأبحاث الأكاديمية العادية لا يقرؤها عادةً إلا دائرة صغيرة من الأكاديميين في كل تخصص، ويوافقون على منح بعضهم البعض، ويفرضون معايير التفكير الجماعي، وأصبح لهم استنتاجات ذات دوافع سياسية متنكِّرة بزي الصرامة والدقة الأكاديمية.

وأكثر الدراسات الاقتصادية شعبيةً وتأثيرًا في فترة ما بعد الحرب كانت قد كُتبت على يد «بول سامويلسون» الحائز على جائزة نوبل. فلقد رأينا في الفصل الرابع تنبؤ سامويلسون القائل بأن إنهاء الحرب العالمية الثانية سيتسبَّب بأكبر ركود في تاريخ العالم، ليترتَّب على ذلك واحدة من أكبر فترات الازدهار في تاريخ الولايات المتحدة، ليس هذا فحسب، بل إن الأمر سيُصبح أكثر إحراجًا له؛ فكتب سامويلسون الكتاب الأكثر شعبيةً في علم الاقتصاد في عصر ما بعد الحرب، «الاقتصاد: تحليل تمهيدي»، ولقد باع ملايينَ النسخ على مدى ستة عقود.٢١ درس «ليفي» و«بيرت»٢٢ الإصدارات المختلفة من كتاب سامويلسون ليجدا أنه يطرح بشكل متكرِّر نموذج الاقتصاد السوفييتي بكونه الأكثر ملاءمةً للنمو الاقتصادي، وتوقَّع في الطبعة الرابعة في عام ١٩٦١م أن اقتصاد الاتحاد السوفييتي سيتفوَّق على اقتصاد الولايات المتحدة في وقت ما بين العامَين ١٩٨٤ و١٩٩٧م. واستمرَّ بطرح تنبُّئه بتفوُّق الاقتصاد السوفييتي على اقتصاد الولايات المتحدة بثقة متزايدة عبر سبع طبعات من الكتاب حتى الطبعة الحادية عشرة عام ١٩٨٠م، مع تقديرات متفاوتة على وقت حدوث ذلك. في الطبعة الثالثة عشرة التي صدرت عام ١٩٨٩م، والتي وصلت إلى مكاتب طلاب الجامعة بينما كان الاتحاد السوفييتي قد بدأ بالتفكُّك، كتب سامويلسون وشريكه في التأليف آنذاك «وليام نوردهاوس»: «إن الاقتصاد السوفييتي دليل على أنه وبعكس اعتقادات الكثير من المشكِّكين، هو اقتصاد مركزي اشتراكي يستطيع أن يعمل وأن يزدهر حتى.»٢٣ لم يكن هذا محصورًا في كتاب واحد؛ فقد أظهر ليفي وبيرت أن مثل هذه الرؤى كانت شائعةً في الطبعات العديدة فيما اعتُبر كتاب الاقتصاد الثاني من حيث الشعبية للاقتصادي «مكونيل»: «الاقتصاد: المبادئ، والسياسات والمشاكل»، وكان شائعًا بالعديد من الكتب الأخرى. وأي طالب تَعلَّم الاقتصاد في فترة ما بعد الحرب في جامعة تتبع المنهج الأمريكي (غالبية طلاب العالم) قد تعلم أن النموذج السوفييتي هو طريقة أكثر فاعليةً لتنظيم النشاط الاقتصادي. وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وفشله المُطلق، استمرَّ تدريس هذه الكتب في الجامعات ذاتها بحيث تمَّت إزالة الجمل التي تمدح عَظَمة النجاح السوفييتي من الإصدارات الحديثة، دون التشكيك ببقية نظرتهم الاقتصادية العالمية وأدواتها المنهجية. كيف يمكن الاستمرار في تدريس مثل هذه الكتب الفاشلة بامتياز في الجامعات؟ وكيف يمكن تدريس وجهة نظر الكينزيين التي نَقَضها الواقع بشكل كبير جدًّا على مدى العقود السبعة الماضية من الازدهار الذي تلا الحرب العالمية الثانية، إلى الركود التضخُّمي في السبعينيات، إلى انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد كتب عميد الاقتصاديين الكينزيين اليوم، «بول كروغمان»، أن غزو الفضائيين سيكون مفيدًا للاقتصاد لأنه سيُجبر الحكومة على إنفاق الموارد وحشدها.٢٤

ففي نظام اقتصادي قائم على حرية السوق، لن ترغب أي جامعة تحترم نفسها بتعليم طلابها معلومات خاطئةً ومنافية للعقل بشكل كبير؛ وذلك لأنها تسعى إلى تسليح طُلابها بأكثر المعارف فائدة، لكن في نظام أكاديمي أفسدته كليًّا النقود الحكومية، لا يتم تحديد المنهج الدراسي من خلال توافقه مع الواقع، بل من خلال توافقه مع الأجندة السياسية للحكومات التي تموِّله. فالحكومات في كافة أنحاء العالم تفضِّل الاقتصاد الكينزي اليوم للسبب ذاته الذي أحبَّته في الثلاثينيات؛ حيث قدَّم لها المغالطات والمبرِّرات للحصول على المزيد من القوة والمال.

إن هذا الحوار قد يستمر ليشمل العديد من المجالات والتخصُّصات الأخرى في الأوساط الأكاديمية الحديثة، حيث يُكرَّر النمط ذاته؛ فالتمويل القادم من الوكالات الحكومية تحتكره مجموعات من العلماء لديهم الفكر ذاته ويتشاركون بتحيُّزات جوهرية، ولن تحصل على عمل أو تمويل في هذا النظام من خلال تقديم منح دراسية مهمة مثمرة ومفيدة للعالم الحقيقي، بل من خلال تعزيز أجندة المُموِّلين. فحقيقة أن التمويل يأتي من مصدر واحد فقط يعني إلغاء إمكانية وجود سوق حرة للأفكار. لهذا، أصبحت المناقشات الأكاديمية تتعلَّق بتفاصيل غامضة أكثر من أي وقت مضى، بحيث تميل جميع الأطراف في هذه النزاعات السلمية إلى الاتفاق دومًا على أن كلا الطرفَين بحاجة لمزيد من التمويل لمواصلة هذه الخلافات الهامة. فمناقشات الأوساط الأكاديمية لا علاقة لها تقريبًا بالعالم الحقيقي، ولا تتم قراءة المقالات التابعة لها إلا من قِبل الأشخاص الذين يكتبونها لأغراض الترويج للوظائف، لكن «العملة الخَلِسَة» الحكومية تستمر لعدم وجود آلية يتم فيها تخفيض التمويل الحكومي إذا لم يستفد منه أي أحد.

ففي مجتمع يستخدم النقد السليم، يُعدُّ العمل المصرفي عملًا مهمًّا ومُنتِجًا للغاية؛ حيث يؤدِّي المصرفيون فيه وظيفتَين محوريتَين للغاية لتحقيق الازدهار الاقتصادي؛ حفظ الأصول كودائع، والمواءمة بين الاستحقاقات وتحمُّل المخاطر بين المستثمرين وفرص الاستثمار. فيجني المصرفيون أموالهم عن طريق أخذ جزء من الأرباح إذا نجحوا بعملهم، لكنهم لا يحقِّقون أي ربح إذا فشلوا بتحقيق ذلك. وعندها، ستُحافظ المصارف والمصرفيون الناجحون وحدهم على وظائفهم، ويتم التخلُّص من أولئك الذين يفشلون. ففي مجتمع يستخدم النقد السليم، لا توجد مخاوف من السيولة بسبب فشل المصرف؛ وذلك لأن جميع المصارف تُبقي ودائعها في متناول اليد، وتتمتَّع باستثمارات ذات استحقاق مكافئ. بعبارة أخرى، لا يوجد فرق بين عدم السيولة والإعسار المالي، ولا يوجد مخاطر نظامية قد تجعل أي مصرف «أكبر من أن يفشل»؛ فالمصرف الذي يفشل هو مشكلة حاملي أسهمه ومقرضيه، لا أحد سواهم.

لكن النقد غير السليم يسمح بإمكانية وجود الاستحقاق غير المكافئ، بحيث لا يكون النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي إلا مجموعةً فرعية، وهذا الأمر يترك المصارف في عرضة دائمة لأزمة سيولة أو عرضة للذعر المصرفي. فحالة عدم تكافؤ الاستحقاق وكون النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي حالة خاصة منه، يضعهما في عرضة دائمة لأزمة سيولة في حال طالب المُقرِضون والمودعون بسحب إيداعاتهم في نفس الوقت. والطريقة الوحيدة لجعل الاستحقاق غير المتكافئ آمنًا هي بوجود مُقرض الملاذ الأخير المستعد لإقراض المصارف في حالة حدوث الذعر المصرفي.٢٥ ففي مجتمع ذي نقد سليم، سيتوجَّب على البنك المركزي فرض الضرائب على كل شخص غير مشارك في المصرف من أجل إنقاذ المصرف. وأمَّا في مجتمع ذي نقد غير سليم، فإن البنك المركزي يستطيع وببساطة استحداث عرض نقدي جديد واستخدامه لدعم سيولة المصارف. بهذه الكيفية، يُشكِّل النقد غير السليم فرقًا بين السيولة والمُلاءة المالية؛ فالمصرف يمكن أن يكون قادرًا على سداد الدين من حيث صافي القيمة الحالية لأصوله، لكنه سيواجه مشكلة سيولة قد تمنعه من الوفاء بالتزاماته المالية بغضون فترة زمنية معينة، لكن افتقار السيولة بحد ذاتها قد يؤدِّي إلى ذعر مصرفي حيث يسعى المودعون والمقرضون إلى سحب ودائعهم من المصرف. والأسوأ من ذلك، هو أن نقص السيولة في أحد المصارف قد يؤدِّي إلى نقص السيولة في المصارف الأخرى التي تتعامل مع هذا المصرف؛ ممَّا يخلق مشاكل نظاميةً شاملة. لكن إذا تعهَّد البنك المركزي بتوفير السيولة في مثل هذه الحالات، فلن يكون هناك مخاوف من حدوث أزمة سيولة، وهذا بدوره يتفادى احتمال حدوث سيناريو الذعر المصرفي ويترك النظام المصرفي بأمان.

ومن المرجَّح أن يستمر النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي أو الاستحقاق غير المتكافئ بشكل عام في التسبُّب في أزمات مالية دون وجود بنك مركزي يَستخدم عرضًا نقديًّا مرنًا لإنقاذ هذه المصارف، لكن وجود هذا البنك المركزي القادر على إنقاذ هذه المصارف قد يطرح مشكلةً أخلاقية كبيرة لهذه المصارف؛ فبإمكان تلك المصارف الآن المجازفة بشكل متهوِّر لأنها باتت تُدرك أنه هناك بنك مركزي سيقوم بإنقاذها لتجنُّب حدوث أزمة نظامية شاملة. ومن هنا نستطيع رؤية كيفية تطوُّر القطاع المصرفي ليصبح عملًا ومشروعًا تجاريًّا يُولِّد عوائد دون مخاطر على المصرفيين، ويُشكِّل في نفس الوقت مخاطر دون عوائد لأي أحد.

فالقطاع المصرفي هو قطاع يبدو أنه ينمو فقط في هذه الأيام، وإغلاق المصارف لعملها هو أمر مستبعد. فنظرًا للمخاطر النظامية التي تنطوي عليها إدارة المصرف، يمكن اعتبار فشل أي مصرف كمشكلة سيولة، ومن المرجَّح جدًّا حصوله على دعم البنك المركزي. ولا يوجد قطاع خاص ظاهريًّا يتمتَّع بمثل هذا الامتياز الباهظ، حيث يجمع بين أعلى معدلات ربحية في القطاع الخاص وبين أمان القطاع العام. إن هذا المزيج جعل من عمل المصرفيين عملًا خلَّاقًا ومُنتجًا مثل عمل موظَّفي القطاع العام، لكنه أكثر مكافأةً من معظم الوظائف الأخرى. ونتيجةً لذلك، يستمر القطاع المالي في النمو؛ حيث أصبح الاقتصاد الأمريكي «أكثر تمويلًا»؛ فمنذ إلغاء قانون «غلاس ستيغال» عام ١٩٩٩م، تمَّت إزالة الفصل بين الودائع البنكية والخدمات المصرفية الاستثمارية. وبالتالي، إن مصارف الودائع التي حازت على تأمينٍ للودائع من قِبل المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، يمكنها الانخراط الآن في تمويل الاستثمارات؛ حيث إن ضمان المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع يحميهم من خسائر الاستثمار. وبهذا، فالمستثمر الذي لديه ضمان لخسارته هو مستثمر لديه خيار حر، ويستطيع طباعة النقود بشكل فعَّال. فالقيام بالاستثمارات المربحة سيسمح له بتجميع كل المكاسب، في حين أن الخسائر ستتوزَّع على المجتمع. ويمكن لأي شخص يحمل مثل هذه الضمانة أن يكسب كميات كبيرةً من المال ببساطة عن طريق الاقتراض واستثمار أمواله؛ حيث إنه بإمكانه الحفاظ على الأرباح، وسيتم تغطية خسائره. فلا عجب أن هذا قد أدَّى إلى ميل عدد أكبر من رءوس المال وموارد العمل نحو التمويل؛ لأن هذا الأمر هو أقرب مثال لمثال وجبة الغداء المجانية.

ولقد أصدر خبير الاقتصاد «توماس فيليبون»٢٦ دراسات مُفصَّلة عن حجم القطاع المالي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي على مدى آخر مائة وخمسين عامًا، وكانت النسبة أقل من ٣٪ خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ولكنها كانت سترتفع بعد ذلك، ثم انهارت خلال فترة الكساد العظيم، لكن يبدو أنها تنمو الآن بطريقة لا يمكن إيقافها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبشكل مرتبط بما قيل، يمكن للمرء أن يرى انعكاس ذلك من خلال النظر إلى النسبة المئوية المرتفعة من طلاب الجامعات الساعين لمزاولة مهنٍ في مجال الشئون المالية، بدلًا من الهندسة أو الطب أو غيرها من القطاعات الأكثر إنتاجية.

فمع تقدُّم تكنولوجيا الاتصالات، يتوقَّع المرء أن يتم إنجاز الكثير من المهام في القطاع المالي بشكل آلي؛ ممَّا يؤدِّي إلى تقلُّص حجم هذا القطاع بمرور الوقت، لكن في الواقع، إنه يستمر في التوسُّع، ليس بسبب أي طلب جوهري عليه، بل لأن هناك حكومةً تحميه من الخسائر وتسمح له بالنمو والازدهار.

وقد تكون «العملة الخَلِسَة» أكثر وضوحًا في القطاع المالي، لكنها لا تتوقَّف عند القطاع المصرفي، فيمكن القول إنها تمنح أفضليةً تنافسية طويلة الأمد للشركات ذات الحجم الواسع مقارنةً بتلك ذات الحجم الأصغر. ففي مجتمع يتم فيه تمويل استثمارات رءوس الأموال من المدخرات، فإن رءوس الأموال فيه يمتلكها أولئك الذين يتبعون سياسة التفضيل الزمني المنخفض، ويقومون بتخصيصه بناءً على تقديراتهم لاحتمالات نجاح السوق ليتلقَّوا المكافآت إذا كانوا مصيبين، وسيفقدونها إذا كانوا على خطأ. لكن مع النقد غير السليم، يتم تدمير المدخرات ويتم إنشاء رءوس الأموال من ائتمان المصارف التضخُّمي، ثم يتم تخصيصه من قِبل البنوك المركزية ومصارفه الفرعية. فبدلًا من أن يتم تحديد التخصيص من قِبل حكماء المجتمع الذين يتبعون سياسة التفضيل الزمني المنخفض ويملكون بصيرةً في الأسواق، يقع القرار بأيادي البيروقراطيين الحكوميين الذين هدفهم هو إقراض أكبر قدر ممكن من المال، ولا يكون هدفهم أن يكونوا على صواب؛ وذلك لأنهم محميون من الجوانب السلبية.

وبهذا، لا يختلف التخطيط المركزي لتخصيص الائتمان عن أي نوع من التخطيط المركزي، وينتج عن ذلك انخراط البيروقراطيين في فحص تحقيق الشروط وتوقيعهم للأوراق لضمان تحقيقهم لمتطلَّبات رؤسائهم بينما يضيع هدف العمل الظاهري. فرأي المصرفي وعملية المثابرة للتحقُّق من القيمة الحقيقية للاستثمار يتم استبدالها بملء مربعات لفحص أحقيَّة وأهلية المتقدِّم لمتطلَّبات المصرف لعملية الإقراض. وبهذا، إن الميزة الرئيسية في ضمان الائتمان المركزي هي الحجم، حيث تبدو عملية إقراض المقترضين العمالقة أقل خطورةً بشكل كبير من ناحية الكمية، وكلما كانت الشركة أكبر، كانت صيغة نجاحها أكثر قابليةً للتنبُّؤ، وكانت الضمانات أكبر في حالة فشلها، كما أنها تُعزِّز أيضًا شعور البيروقراطيين المصرفيين بالأمان عند تقديم القروض وفقًا لمعايير الإقراض من البنك المركزي. وفي حين أن العديد من القطاعات يمكن أن تستفيد من امتياز اقتصاد الحجم الواسع، إلا أن إصدار الائتمان المركزي يُبرز مزايا الحجم الواسع وكيف كانت ستكون عليه الحالة في السوق الحرة. فأي قطاع يمكنه اقتراض مبلغ مالي لا يعرف أصحابه ما عليهم فعله به، يُعتبَر مرشَّحًا جيدًا، ولكن سيناريو كهذا لا يمكن تحقيقه في عالم من رءوس الأموال التي تمَّ جمعها بالمدخرات.

فكلما كبر حجم الشركة، أصبح من الأسهل عليها تأمين تمويل منخفض الفائدة؛ ممَّا يمنحها أفضليةً كبيرة على المنتجين المستقلِّين الأصغر؛ ففي مجتمع يتم فيه تمويل الاستثمارات من المدخرات، يتنافس مطعم عائلي صغير على الزبائن والتمويل بالتساوي مع عمالقة الوجبات السريعة؛ حيث إن لدى الزبائن والمستثمرين حرية الاختيار في تخصيص أموالهم بين القطاعَين، وحرية الاختيار بين فوائد امتياز اقتصاد الحجم الواسع مقابل فوائد الاهتمام الشخصي والعلاقة بين الطباخ وزبون المطعم الصغير، وبالنهاية اختبار السوق سيقرِّر النتيجة. لكن في عالم يتم فيه تخصيص الائتمان من قِبل البنوك المركزية، فإن الشركة الكبيرة تتمتَّع بأفضلية تأمين تمويل بمعدل منخفض لا يستطيع المنافس الصغير الحصول عليه.٢٧ يساعد هذا في تفسير سبب انتشار عمالقة منتجي الطعام على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم حيث تسمح لهم معدلات الفائدة المنخفضة بتحصيل هوامش أكبر. ولا يمكن فهم سبب انتصار الوجبات السريعة السيئة المذاق وواسعة الإنتاج إلا عبر المنافع الضخمة التي يوفِّرها امتياز الحجم الواسع للمنتجين.

ففي عالم يتم فيه تمويل جميع الشركات تقريبًا من خلال التوسُّع الائتماني للبنك المركزي، لا يمكن أن تكون هناك طريقة بسيطة للتعرُّف على القطاعات التي تنمو بسبب حَقْن منشِّطات «العملة الخَلِسَة»، ولكن هناك بعض الأعراض المُنبِّهة. فأي قطاع يشتكي فيه الناس من رئيسهم الأحمق هو على الأرجح جزء من «العملة الخَلِسَة»؛ وذلك لأن الرؤساء لا يستطيعون إلا أن يكونوا أغبياء في الواقع الاقتصادي المزيَّف ﻟ «العملة الخَلِسَة». ففي شركة منتجة تقدِّم خدمات قيمةً للمجتمع، يعتمد النجاح على إرضاء الزبائن، ويُكافَأ العُمال على مدى نجاحهم في القيام بتلك المهمة الأساسية. والرؤساء الذين يُسيئون معاملة موظفيهم، إمَّا سيخسرون موظفيهم لشركة منافسة أو سيُدمِّرون أعمالهم بسرعة. أمَّا في الشركات غير المنتجة التي لا تخدم المجتمع وتعتمد على السخاء البيروقراطي لاستمراريتها، فلا يوجد معيار جيد لمكافأة العُمال أو معاقبتهم. ويمكن أن تبدو «العملة الخَلِسَة» مغرية من الخارج، وذلك بفضل الرواتب المرتفعة المنتظمة وقلة العمل الفعلي، لكن إذا تعلَّمنا من الاقتصاد أمرًا واحدًا، فإنه لا يوجد شيء يُدعى وجبة غداء مجانية. فإعطاء الأموال إلى الأشخاص غير المنتجين سيجذب الكثير من هؤلاء الأشخاص الذين يرغبون في القيام بمثل هذه الوظائف؛ ممَّا يؤدِّي إلى زيادة تكلفة القيام بهذه الوظائف على صعيد الوقت والكرامة. فالتوظيف، وتسريح العُمال، والترقية والعقاب، كل ذلك يحدث وفقًا لتقدير الكثير من البيروقراطيين، وإذا لم يتواجد أي عمل ذي قيمة للشركة، فيمكن عندها الاستغناء عن الجميع، والطريقة الوحيدة التي يحافظ فيها أي شخص على عمله هي بإثبات قيمته أمام الطبقة التي تعلوه. إن العمل في هذه الشركات هو بمثابة لعب لعبة سياسات المكتب طيلة الوقت. فهذه الوظائف لا تجذب سوى الأشخاص الماديين السطحيين الذين يستمتعون بفرض سلطتهم على الآخرين، ويتم تحمُّل أعوام من سوء المعاملة مقابل الراتب والأمل في أن يكونوا قادرين على معاملة الآخرين بشكل سيئ لاحقًا. ولا عجب في أن الأشخاص الذين يعملون في هذه الوظائف هم أشخاص يتعرَّضون للاكتئاب بشكل منتظم ويحتاجون إلى دواء دائم وعلاج نفسي للحفاظ على وظائفهم الأساسية، لكن لا يستحق أي مبلغ من نقود «العملة الخَلِسَة» هذا التدمير الروحي الذي تُخلِّفه هذه البيئة لدى الناس. وفي حين أن هذه المنظَّمات لا تواجه أي مُساءلة حقيقية، إلا أن الجانب الآخر من عدم وجود إنتاجية هو أنه من المحتَمَل أن يستلم مسئول مُنتَخب حديثًا زمام الأمور ليقوم بقطع التمويل عنهم بغضون أسابيع. إن مصيرًا كهذا سيكون أكثر مأساويةً لعُمَّال هذه المنظَّمات؛ لأنهم بشكل عام لا يملكون أي مهارات مفيدة يمكن استخدامها في أعمال أخرى.

والعلاج الوحيد لمثل هذه الأمراض هو النقد السليم الذي سيقضي على مفهوم الأشخاص الذين يعملون من أجل توقيع الأوراق وإسعاد الرؤساء الساديين، وسيصبح انضباط السوق هو الحَكم الوحيد لدخل أي شخص. فإذا وجدتَ نفسك كادحًا في إحدى هذه القطاعات بحيث يتمحور جهد وظيفتك حول إرضاء مديرك فقط بدلًا من إنتاج شيء ذي قيمة ولا يرضيك هذا الواقع، فقد تشعر بالارتياح أو الخوف من إدراك أن هذا العالم لا يجب أن يكون على هذا الشكل، وقد لا تبقى وظيفتك إلى الأبد؛ لأنه قد لا تستمر مطابع حكومتك في العمل إلى الأبد. تابع القراءة؛ لأن مزايا النقد السليم قد تُنشئ عالمًا جديدًا من الفرص لأجلك.

١  بيتينا بين غريفز، لودفيج فون ميزس في كتابه «المال والتضخم»: تجميع من عدة محاضرات، الصفحة ٣٢.
٢  جون ماتونس، «تدمير البيتكوين لنظرية إصدار وإدارة الحكومة للنقد»، مجلة فوربس (٢ إبريل عام ٢٠١٣م)، متاح على الموقع: https://www.forbes.com/sites/jonmatonis/2013/04/03/bitcoin-obliterates-the-state-theory-of-money/#1d0d814c2274 .
٣  وفي نظرية رأس المال، لا تقبل بديلًا لنظرية رأس المال النمساوية، كما شرح بوهيم باورك، وميزس هايك، وروثبارد هويرتا دي سوتو، وساليرنو، وآخرون.
٤  جاي. إم. كينز، «السبيل نحو الإصلاح النقدي»، الفصل الثالث، الصفحة ٨٠. من الجدير بالذكر أن الكينزيين المعاصرين يرفضون تفسير هذا الاقتباس على أنه يشير إلى قلق كينز على الحاضر على حساب المستقبل. بدلًا من ذلك، يجادل الكينزيون مثل سايمون تايلور بأن هذا يدل على إعطاء كينز الأولوية لمعالجة البطالة بشكل فوري بدلًا من القلق بشأن التهديد البعيد للتضخم. إن هذا الدفاع للأسف لا يؤدي إلا إلى فضح تلاميذ كينز المعاصرين بكونهم مهتمِّين بالمدى القصير فقط، وهم جاهلون تمامًا بالواقع الجوهري بأن السياسات التضخمية هي ما يسبِّب البطالة في المقام الأول. اقرأ المعنى الحقيقي ﻟ «على المدى الطويل، سنكون كلنا موتى»، متوفر على الموقع-http://www.simontaylorsblog.com/2013/05/05/the-true-meaning-of-in-the-long-run-we-are-all-dead.
٥  «ملاحظات المدير بن إس. بيرنانكي أمام نادي الاقتصاديين الوطنيين»، واشنطن، ٢١ نوفمبر عام ٢٠٠٢م، «الانكماش، والتأكُّد من عدم حدوثه هنا».
٦  اقرأ كتاب كامبيل مكونل، وستانلي برو، وشون فلين، «علم الاقتصاد» (نيويورك: مكغرو-هيل عام ٢٠٠٩م)، الصفحة ٥٣٥.
٧  كارل مينغر، «حول أصول النقد» عام ١٨٩٢م.
٨  لودفيج فون ميزس، الفعل البشري عام ١٩٤٩م، الصفحة ٤٢١.
٩  موراي روثبورد، «النظرية النمساوية للنقد» أُسس علم الاقتصاد النمساوي الحديث، عام ١٩٧٦م: 184C160.
١٠  ليدوفيج فون ميزس، «الفعل البشري» عام ١٩٤٩م، الصفحة ٥٧٥.
١١  اقرأ كتاب «الكساد الاقتصادي: أسبابه وعلاجه»، للكاتب موراي إن. روثبورد (معهد ليدوفيج فون ميزس، عام ٢٠٠٩م).
١٢  تقرير التنمية البشرية في عام ٢٠٠٥م (نيويورك: برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية عام ٢٠٠٥م).
١٣  المصدر: تقرير التنمية البشرية من برنامج التنمية للأمم المتحدة (عام ٢٠٠٥م).
١٤  جاك بارزون، كتاب «من الفجر إلى الانحطاط».
١٥  إيلي هاليفي وماي والاس، كتاب: «عصر الاستبداد»، الوضع الاقتصادي، سلسلة جديدة، المجلد الثامن الرقم ٢٩ (فبراير عام ١٩٤١م)، الصفحة ٧٧ إلى الصفحة ٩٣.
١٦  موراي روثبورد، «نهاية الاشتراكية ومراجعة جدال الحسابات»، مراجعة علم الاقتصاد النمساوي، المجلد ٥ الرقم ٢ (عام ١٩٩١م).
١٧  جاي إم كينز، «نهاية الاقتصاد الحر» في «مقالات عن الإقناع» الصفحة، ٢٧٢–٢٩٥.
١٨  موراي روثبورد، «محادثة مع موراي روثبورد» النشرة الإخبارية للاقتصاد النمساوي، المجلد ١١، الرقم ٢ (صيف عام ١٩٩٠م).
١٩  جون كينيث غالبريث، الانهيار العظيم عام ١٩٢٩م (بوسطن، شركة النشر: (هوتون ميفلين هاركورت) عام ١٩٩٧م)، الصفحة ١٣٣.
٢٠  لقراءة المزيد عن هذا اقرأ: «فضيحة النقد: لمَ تتعافَ وول ستريت لكن الاقتصاد لا يتعافى أبدًا»، لجورج جيلدر (العاصمة واشنطن، ريغنري، ٢٠١٦م).
٢١  مارك سكوزن: «المثابرة على علوم بول سامويلسون الاقتصادية»، مجلة المنظورات الاقتصادية، المجلد ١١ الرقم ٢، العام ١٩٩٧م، الصفحة ١٣٧–١٥٢.
٢٢  ديفيد ليفي، وساندرا بيرت، «النمو السوفييتي والكتب المرجعية الأمريكية: الذاتي «مجلة التنظيم والسلوك الاقتصادي»، المجلد ٧٨، الإصدار ١–٢ (أبريل عام ٢٠١١م)، الصفحة ١١٠–١٢٥.
٢٣  مارك سكوزن: «المثابرة على علوم بول سامويلسون الاقتصادية»، مجلة المنظورات الاقتصادية، المجلد ١١ الرقم ٢، العام ١٩٩٧م، الصفحة ١٣٧–١٥٢.
٢٤  بول كروغمان، «الركود العلماني، ومناجم الفحم، والفقاعات، ولاري سامرز»، نيويورك تايمز، ١٦ نوفمبر عام ٢٠٠٣م.
٢٥  لقراءة التصريح الرسمي، راجع كتاب دي دبليو دايموند، وبي إتش دايبيغ، «الذعر المصرفي، وتأمين الودائع، والسيولة» مجلة الاقتصاد السياسي، المجلد ٩١ العدد ٣ (عام ١٩٨٣م)، الصفحة ٤٠١–٤١٩.
٢٦  توماس فيليبون، وأريل ريشيف. «نظرة عالمية على نمو الاقتصاد الحديث»، مجلة المنظورات الاقتصادية، المجلد ٢٧ العدد ٢ (عام ٢٠١٣م)، الصفحة ٧٢–٩٦.
٢٧  يمكن اعتبار مركزية إصدار الائتمان كالتدخل الحكومي في تطبيق قانون كواس، الذي وصفه كواس في مقاله «طبيعة الشركات»، مجلة إيكونوميكا، المجلد ٤ العدد ١٦ (عام ١٩٣٧م)، الصفحة ٣٨٦–٤٠٥. فوفقًا لكواس، إن سبب وجود الشركات هو أن التعاقد الفردي للمهام يمكن أن يكون أكثر تكلفةً لأنه يتضمَّن تكاليف التحويلات مثل البحث والمعلومات والمساومة والتعاقد وتكاليف التنفيذ. بالتالي، ستنمو الشركة ما دام يمكنها الاستفادة من القيام بأنشطة داخلية للتغلُّب على ارتفاع تكاليف التعاقد الخارجي. ففي عالم ذي عملة تفقد قيمتها وائتمانٍ مخصَّص مركزيًّا، يصبح تحقيق التمويل أحد مزايا التكلفة الرئيسية للنمو من حيث الحجم. فلدى الشركات الكبيرة المزيد من السلع الرأسمالية والضمانات؛ ممَّا يطرح أمامها شروط تمويل أقل. وهكذا، فإن الحافز لكل نشاط تجاري ينمو إلى حد يتجاوز فيه ما يفضِّله المستهلكون. أما في سوق حرة لرءوس المال حيث كان على الشركات الاعتماد بشكل أكبر على إيراداتها وتأمين الائتمان في الأسواق الحرة، فإن الناتج سيفضِّل حجم الإنتاج الأكثر ملاءمةً لتفضيلات المستهلكين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤