خاتمة
تشريح أزمة مالية
كان عضو أصغر سنًّا بالجمعية — وهو المصرفي، والشاعر السابق، جون ميلز — هو الذي قام بأول محاولة جادة لتفسير ما الذي يتسبَّب في هذا «الفعل المتقطع». ساقَ ميلز — في مقالة قرأها أمام الجمعية سنة ١٨٦٧ بعنوان «حول الدورات الائتمانية وأصل حالات الهلع التجاري» — الحجة على أن «علة الأزمة التجارية في جوهرها ليست مسألة «أموال» بل مسألة «عقل».» كانت على وجه التحديد مسألة ذاكرة.
لا يفكر الحشد الكبير من المستثمرين … في المشروعات المالية والصناعية … في خضم حالتهم المزاجية المثارة في الأسئلة ذات الصلة، المتمحورة حول ما إذا كان رأس مالهم سيثمر بسرعة، وما إذا كان التزامهم غير متناسب مع مواردهم المالية. وهكذا تتعرض الطبقات التجارية والاستثمارية لقدر هائل من الالتزام الذي يتوقف نجاحه على الوضع المتزعزع لاستمرارية سلَّم الأسعار القائم.
تلك الفرضية السوقية تحديدًا لم تصمد جيدًا، لكن الاقتصاديين ظلوا يبحثون عن تفسيرات لتقلبات الأسواق تستند إلى شيء أكثر متانة من تذبذبات المزاج الجمعي. تجاهلت النظريات النيوكلاسيكية النمطية ببساطة دورة الأعمال. وكان الاقتصاديون الذين يمثلون التيار السائد — مثل إرفينج فيشر وجون مينارد كينز، الذين بحثوا الانكماشات الاقتصادية — يميلون إلى تصويرها كانحرافات مرنة عن العرف الاقتصادي أكثر من كونها ظواهر أصيلة في الرأسمالية.
لكن من الواضح أن شيئًا ما مهمًّا يُفقد عندما تُحذف ملاحظة ميلز عن المواقف المتذبذبة تجاه المخاطر من تحليل السوق. وقد حاول كينز تضمينها بالحديث عن «أرواح الحيوانات» التي تؤثر على النشاط الاقتصادي، لكن الاقتصاد الكينزي الذي برز في أعقابه شغل نفسه بتوقعات تفسيرات سيكولوجية للانكماشات.
كان تمويل بونزي — حسب تصنيف مينسكي — يشتمل على تقديم قروض لا يمكن سدادها من «دخل» المقترض المتوقع. ولا تنتهي الأمور على ما يرام إلا إذا واصل سعر الأصل الذي مُنح القرض بضمانه ارتفاعه. ومثل المخططات الهرمية لتشارلز بونزي — محتال بوسطن الذي ظهر في مطلع القرن العشرين — فإن هذا الشيء بطبيعته لا بد أن ينتهي نهاية سيئة. في سنة ٢٠٠٣ أو نحو ذلك، صار تمويل بونزي يهيمن على قطاع الإسكان الأمريكي، وانتهى الأمر نهاية سيئة.
•••
بدأت فقاعة الألفية الجديدة في أسعار الإسكان بأساس متين في الواقع الاقتصادي كما هو الحال مع معظم الفقاعات؛ حيث ارتفعت الأسعار خلال معظم فترة تسعينيات القرن العشرين مع نمو الاقتصاد، وكانت أشد سرعة في ارتفاعها في الأماكن التي كان يصعب فيها بناء مساكن جديدة كافية لمواكبة الطلب لأسباب تعود إلى الجغرافيا والسياسة المحلية؛ المناطق الساحلية بكاليفورنيا والمناطق الساحلية بفلوريدا والمناطق الحضرية بنيويورك.
في أعقاب إخفاق سوق الأسهم، أبدى آلان جرينسبان وزملاؤه في لجنة السوق المفتوحة بمجلس الاحتياطي الفيدرالي قلقهم من احتمال انزلاق الولايات المتحدة في دوامة انكماشية. وكتلاميذ نجباء لإرفينج فيشر، خفضوا أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى ١ في المائة، واحتفظوا بها عند ذلك المستوى من منتصف سنة ٢٠٠٣ حتى منتصف سنة ٢٠٠٤ لتفادي هذا الاحتمال الرهيب. أدى عدم وجود أي تهديد بالتضخم، وارتفاعُ الطلب من الخارج على الأوراق المالية ذات الدخل الثابت، إلى إبقاء أسعار الفائدة على الدين طويل الأجل منخفضة أيضًا. ووصلت أسعار الفائدة على كلٍّ من الرهون العقارية القابلة للتعديل والثابتة إلى مستويات متدنية تاريخية.
كانت هذه هي الأسباب الأساسية لحدوث زيادة أعلى من الاتجاه السائد في أسعار المنازل، لكن أسعار المنازل المتزايدة تلك أصبحت في النهاية نبوءة محققة. فارتفعت ارتفاعًا سريعًا جدًّا على امتداد السواحل لدرجة أنه قلَّ أكثر وأكثر عددُ الأشخاص الذين يطيقون شراء بيت وفق معايير الاكتتاب التقليدية حتى في ظل انخفاض أسعار الفائدة. بدأ المقرضون في خضم محاولاتهم اليائسة للحيلولة دون انخفاض أحجام المعاملات يروجون لقروض غريبة تسمح للمقترضين بعدم سداد شيء سوى الفائدة، أو أغروهم بأسعار فائدة منخفضة للغاية في البداية، أو بطريقة أخرى وضعوا مبالغ مالية كبيرة في أيدي أشخاص ما كان يمكنهم أبدًا من قبل اقتراض مثلها.
لم تكن هذه القروض عالية المخاطر وغير التقليدية جديدة بالكلية، لكنها كانت قبل ذلك مجالًا صغيرًا من مجالات الأعمال تهيمن عليه البنوك وجمعيات الادخار واتحادات التسليف التي كانت تسجل القروض في دفاترها؛ ومن ثَمَّ كان لديها حافز لمراقبة المخاطر بعناية. لم تكن تجزئة الرهون العقارية وطرحها على هيئة سندات دين — التي شاعت لأول مرة في ثمانينيات القرن العشرين ويعود بعض الفضل في هذا إلى النماذج الرياضية المستندة إلى الخيارات التي سهلت تسعيرها — تُستخدم إلا مع الرهون العقارية التقليدية عالية الجودة. كان يهيمن على السوق عملاقان خلقتهما الحكومة، وهما فاني ماي وفريدي ماك.
في أواخر سنة ٢٠٠٣، انسحبت فاني وفريدي بعد أن لحقتهما فضائح محاسبية ومُنعتا من شراء معظم الرهون العقارية عالية المخاطر أو أية قروض أكبر من حد القروض المطابقة للمعايير الموضوع من قبل الأجهزة التنظيمية، وقد كان يبلغ ٣٢٢٧٠٠ دولار سنة ٢٠٠٣. أقبلت شركات وول ستريت بلهفة على ملء هذا الفراغ، فاشترت الرهون العقارية من السماسرة والمقرضين بضمان رهن وطرحتها على هيئة أوراق مالية مدعومة برهون عقارية. في انحراف عن الصواب، سُمح لفاني وفريدي بشراء هذه الأوراق المالية المدعومة برهون عقارية عالية المخاطر، فاشترت الشركتان بعشرات المليارات من الدولارات لتحقيق أهداف الإسكان الميسر التي وضعها الكونجرس. كما أعادت شركات وول ستريت هذه طرح هذه الأوراق المالية على هيئة سندات حيازية ضامنة للدين سمحت لها بتحويل حتى الرهون العقارية عالية المخاطر المشكوك فيها كأشد ما يكون الشكُّ إلى دين من الدرجة الممتازة. بل إن المشتقات الجديدة المسماة مقايضات مخاطر الائتمان — والتي أتاحت لطارحي السندات الحيازية الضامنة للدين ومشتريها التخلص من بعض مخاطرها — سمحت بإنشاء المزيد من الائتمان. كانت تدعم كل هذا الطرح وإعادة الطرح والاشتقاق نماذج مخاطر قائمة على نظرية الخيارات، وكانت جودتها بطبيعة الحال تتوقف على ما تحتوي من معلومات. وفي أحوال كثيرة، ونظرًا لأن توريق هذه الأنواع من القروض كان جديدًا تمامًا، اعتمدت النماذج على سنتين فقط أو ثلاث من البيانات التاريخية.
فهل يمكن وصف هذا السلوك بالعقلاني؟ بالنسبة لسماسرة الرهون والمصرفيين الاستثماريين الذين كانوا يرتبون هذه الصفقات، ربما كان الأمر كذلك بالتأكيد. فالفئة الأولى كانت تتقاضى أموالًا لإنشاء قروض، والثانية لإعادة تشكيل هذه القروض على هيئة أوراق مالية قابلة للتسويق. كانت التبعات المحتملة للقروض المشكوك في سدادها آجلة، أما شيكات الأجر فكانت عاجلة. كان الأشخاص الذين يديرون بنوك الرهون والبنوك الاستثمارية المنخرطة في هذا النشاط المؤسف سيصبحون في موقف خطير لو أن هذه القروض تحولت إلى مشكوك في سدادها بالجملة، لكن ذلك أيضًا كان احتمالًا افتراضيًّا، في حين أن المعركة على الحصة السوقية كانت حقيقة واقعة. ينطبق الأمر نفسه على متخذي القرار في وكالات التصنيف الذين منحوا إجازتهم لأوراق مالية تقل شفافيتها يومًا بعد يوم.
بالنسبة للمقترضين، كان ذلك أقرب إلى خليط متفاوت. كان تعقيد القروض يحيِّر كثيرين منهم. بعضهم كان يُقْدم على استثمارات محفوفة بالمخاطر، لكنها ليست جنونية، أتاحتها معايير الإقراض المتساهلة في مجال ملكية المنازل. وتعرض آخرون للاحتيال. وهناك آخرون أيضًا كانوا هم أنفسهم محتالين. ربما كان المستثمرون الذين اشتروا الأوراق المالية المدعومة برهون — المصارف وصناديق التحوط وصناديق المعاشات والمؤسسات الوقفية بل والحكومات — الحالة الأشد استرعاءً للاهتمام من كل ما سواها. كانت تحذيرات زاندي وكثيرين آخرين على مرأى ومسمع من الجميع بحلول أواخر سنة ٢٠٠٥، لكن المستثمرين واصلوا الشراء. ساعدتهم العوائد المرتفعة على الأوراق المالية المدعومة برهون والسندات الحيازية الضامنة للدين على الوفاء بمعايير الأداء الموضوعة لهم والاحتفاظ بوظائفهم. وبالنسبة للملاك النهائيين — المساهمين في المصارف، وعملاء صناديق التحوط، وأصحاب المعاشات — هل كان يمكن حقًّا أن نتوقع منهم إدراك طبقات المخاطر المتعددة المتراكمة فوق سوق الرهون؟ على سبيل المقارنة، كانت فقاعة سوق الأسهم التي رأيناها في أواخر تسعينيات القرن العشرين ظاهرة شفافة يسهل إدراكها.
مهما كانت الأسباب، كانت النتيجة التراكمية سوقًا مالية غير عقلانية، سوقًا بنيت لتنهار بمجرد أن تتوقف أسعار المنازل عن الارتفاع. وفي صيف سنة ٢٠٠٦، بلغت الأسعار ذروتها وبدأت تنخفض. بدأ ينهار العملاق الذي كان بحلول ذلك الوقت صرحًا معقدًا على نحو يفوق الوصف لتوريق الرهون. ومنذ ذلك الحين لم يعد النظام المالي العالمي كما كان.
•••
صمدت سوق الأسهم — الموضوع الفعلي لفرضية كفاءة السوق ليوجين فاما — جيدًا خلال فترة الهلع. أخفق المستثمرون في الأسهم في التنبؤ بالمتاعب التي ستنشأ عن فوضى الرهون، لكنهم استوعبوا الأنباء السيئة لدى صدورها بأسلوب عقلاني يستحق الإعجاب. انخفضت أسعار الأسهم، انخفضت كثيرًا، وارتفعت التقلبات ارتفاعًا حادًّا، لكن أسواق الأسهم لم تتعثر ولم تتوقف عن العمل.
لكن بالنسبة لمعظم من كانوا في مجال المالية — إلى جانب جين فاما — كان مفهوم السوق المالية العقلانية يُعنى بما هو أكثر من الأسهم. كان يُعتقد بوجه عام أن أسواق الأوراق المالية تتسم بخواص شبه سحرية هي السرعة والعشوائية والصواب. كانت سوق الرهون قد أصبحت سوق أوراق مالية. ومع ذلك فقد ارتكبت أخطاءً فادحة أثناء ارتفاعها، وتوقفت عن العمل أثناء انخفاضها.
يمكن أن تعزى جزئيًّا هذه الفترة التي ساد فيها الخطأ إلى الأخطار الحتمية التي تحف الابتكار المالي. فكل الفقاعات والانهيارات الكبرى تقريبًا في الأسواق المالية على مر التاريخ اشتملت على منتج مالي جديد أو تكنولوجيا مالية جديدة يسيء المشاركون في السوق — الذين لا خبرة لديهم — تقديرَ مخاطر ذلك المنتج أو تلك التكنولوجيا. بداية من بصيلات الخزامى في هولندا القرن السابع عشر إلى السندات الحيازية الضامنة للدين التي قامت على الرهون عالية المخاطر، كان التجديد دائمًا أمارة خطر. لا شيء جديد هناك، ما عدا أن نمذجة المخاطر الكمية جعلت الناس أشدَّ عمًى من المعتاد عن الجانب السلبي المحتمل.
في سوق الإسكان، حلت مثل هذه النماذج محل القواعد المستمدة من الخبرة التي هيمنت لعقود. النسب التقليدية للقروض إلى القيمة والمدفوعات الشهرية إلى الدخل أفسحت الطريق للتصنيف الائتماني ولتدرجات التخلف عن السداد التي يزعم دقتها، رغم أنه تبين في حقيقة الأمر أنها عديمة الجدوى تمامًا. في سبعينيات القرن العشرين، جادل عاموس تفرسكي ودانيال كانيمان بأن متخذي القرارات على أرض الواقع لا يتبعون النماذج الإحصائية التي وضعها جون فون نويمان وأوسكار مورجنشتيرن، لكنهم يستخدمون مبادئ إرشادية، أو قواعد مستمدة من الخبرة، بدلًا من ذلك. وآنذاك كان قطاع الإقراض المضمون برهن يتعلم أن المبادئ الإرشادية تعمل أفضل كثيرًا من النماذج الإحصائية المستمدة من عمل فون نويمان ومورجنشتيرن.
لقد تفوَّق البسيط على المعقد. في سنة ٢٠٠٥، نُشرت لروبرت شيلر طبعة ثانية من «الوفرة اللاعقلانية» تضمنت فصلًا جديدًا من عشرين صفحة حول «السوق العقارية من منظور تاريخي». لم يقدم الكتاب معادلات لتحديد ما إذا كانت الأسعار صحيحة أم لا، لكنه تضمَّن دليلًا بأسعار المنازل الأمريكية حتى سنة ١٨٩٠. بيَّن ذلك الدليل — الذي تولى شيلر تجميع الستين سنة الأولى منه لأول مرة من مجموعة متنوعة من المصادر — أن أسعار المنازل المعدلة حسب التضخم تراجعت في الماضي لعقود دون انقطاع. كما بيَّن أن الزيادة في الأسعار منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين كانت أكثر حدة من أي زيادة مسجلة.
•••
فكيف يتركنا هذا؟ يتركنا ولدينا حاجة إلى العثور على طرق لتخفيف الإفراط المضاربي مع الاعتراف بأننا لن نستطيع بالضرورة تمييز الإفراط المضاربي عن انتعاش مستدام بالكلية. وسيكون التنظيم المالي جزءًا من ذلك. كما ستلعب إعادة اكتشاف الأخلاقيات والنزاهة — على نحو ما عرَّفهما مايكل جنسن وفيرنر إيرهارد أو وفق تعريف المعجم — دورًا أيضًا، وهو ما يأمله المرء. كذلك ستلعب الذكرى دورًا كما سيبيِّن ابن مانشستر، جون ميلز، بكل تأكيد.
لعبت الذكرى — أو «ميل العقل البشري إلى أن يستمد من الأوضاع الحالية ألوان المستقبل المتنبأ به» وفق تعبير ميلز — دورًا حاسم الأهمية في القصة التي رويتها في هذا الكتاب. ففرضية كفاءة الأسواق، ونموذج تسعير الأصول الرأسمالية، ونموذج بلاك آند سكولز لتسعير الخيارات، وكل العناصر الرئيسية الأخرى من عناصر المالية العقلانية الحديثة؛ نشأت قرب نهاية حقبة طويلة من استقرار السوق اتسمت بصرامة التنظيم الحكومي والذكريات القديمة لمن نجوا من الكساد الكبير. كان اعتماد هذه النظريات المكثف على الأسواق العقلانية عقلانيةً متروِّيةً هو إلى حد ما نتاج حقبة مالية منظَّمة محافظة نسبيًّا، وقد مهَّد الطريق لتخفيف القيود التنظيمية والوفرة الجامحة، والآن يبدو أننا نسير في الاتجاه المعاكس. ومن يدري ما الذي سيُستلهم من نظرياتٍ ماليةٍ تغيِّر العالم.
•••
كان مكتب شيلر في الطابق الأرضي من القصرِ المرمَّم حديثًا، الكائنِ في شارع هيلهاوس أفينيو، والذي كان يضم مؤسسة كاولز للبحوث الاقتصادية (كان شيلر زميلًا بحثيًّا في المؤسسة). عندما وصلت، أخذني ونزل بي إلى القبو لاستخدام ماكينة صنع الإسبرسو. بينما كانت الماكينة تُحدث أزيزها، انصرفتْ أبصار كلٍّ منَّا إلى الرجل الملتحي الذي يظهر في صورة كبيرة باللَّونَين الأبيض والأسود كانت معلقة على الجدار المقابل.
قال شيلر: «هذا إرفينج فيشر. هل تعرف من هو؟»
أخبرته بأنني أعرفه. في الواقع، بينما كنت أقرأ كتاب شيلر وأنا في القطار متجهًا إلى نيوهيفن، أدهشني إلى أي مدًى ذكَّرتْني الحلول التي اقترحها للخروج من الأزمة المالية بإرفينج فيشر. العديد من اقتراحات شيلر — كاتخاذ تدابير اقتصادية جديدة وتحسين قواعد البيانات المالية — كان شبه متطابق مع اقتراحاتٍ قدَّمها فيشر قبل ذلك بقرنٍ من الزمان. حتى أفكار شيلر الجديدة (مثل رهن إعادة الجدولة المستمرة، الذي تتغير فيه الشروط كل سنة تبعًا للتطورات في أسعار المنازل المحلية ومعدلات البطالة وما شابه ذلك) كانت تصطبغ بطابع فيشر المميز.
عندما أخبرتُ شيلر بهذا، بدا مرتبكًا بعض الشيء. كان يعرف كل شيء عن نصائح فيشر السوقية التي لم تفلح في عشرينيات القرن العشرين، وعن نظرياته الاقتصادية، لكنه لم يكن يعرف الكثير عن الأعداد الهائلة من ابتكارات فيشر المالية التي خرجت إلى النور بالفعل، وتلك التي لم يُكتب لها النجاح.
عندما عدنا إلى الطابق العلوي حيث مكتب شيلر، واصلْنا المناقشة. إيمان فيشر بتحسين البيانات والأدوات المالية يتوافق تمامًا مع نظرياته الاقتصادية. لكن شيلر ظل لعقودٍ يقول بأنه حتى الأسواق الجيدة التصميم التي يشارك فيها مستثمرون جيدو الاطِّلاع عرضةٌ لحالات الهوس والهلع؛ وهو ما جعل إيمانه بالتقدم من خلال الابتكار المالي ينطوي على شيءٍ من التناقض. على الأقل، هذا ما أخبرته به.
رد قائلًا: «لا أعتقد أن في هذا تناقضًا. هذه اختراعات لا بد أن تكون من تصميم البشر، والاختراعات قد توقع الناس في متاعب؛ فعندما اخترعوا الطائرات لأول مرة، وقعت حوادث كثيرة. أعتقد أن الأمر نفسه ينطبق هنا.»
ماذا عن القطاع المالي؟ قال شيلر: «أرى أن القطاع المالي أحرز تقدمًا فاق ما أحرزه الطب في سنة ١٨٦٥؛ لأن القطاع المالي ذو أثر إيجابي هائل على الاقتصاد؛ فالبلدان التي لديها أسواق مالية متطورة يكون أداؤها أفضل بالفعل.» إذنْ عدم كون الأسواق المالية مثالية لا يعني أنها ليست مفيدة؟ «صحيح. أظن أننا لم نبلغ منتصف الطريق بعدُ في مسيرة تطوُّر الأسواق المالية. وقد لا تكون هناك نهاية لهذه المسيرة.»