الفصل العاشر

من حروب الانتقال إلى حروب خطوط التقسيم

(١) حروب الانتقال: أفغانستان والخليج

وصف المفكر المغربي البارز «مهدي المنجرة» حرب الخليج بينما كانت دائرة بأنها «أول حرب حضارات»،1 والحقيقة أنها كانت الثانية. الأولى كانت الحرب السوفيتية الأفغانية في ١٩٧٩ – ١٩٨٩م.

كلتا الحربَين بدأت كغزوٍ مباشر قامت به دولة لأراضي دولةٍ أخرى، ولكنها تحولت إلى حروب حضارات وصارت تعرف بذلك. والحقيقة أيضًا أنها كانت حروب انتقال إلى حقبة يغلب عليها الصراع الإثني وحروب خطوط التقسيم بين جماعات تنتمي إلى حضارات مختلفة.

بدأت الحرب الأفغانية كسعي من الاتحاد السوفيتي للإبقاء على نظام تابع، وأصبحت حربًا باردة عندما ردت الولايات المتحدة بعنف ونظمت ومولت وسلحت المتمردين الأفغان الذين كانوا يقاومون القوات السوفيتية. بالنسبة للأمريكيين كانت هزيمة السوفيت إثباتًا لمبدأ «ريجان» في تشجيع المقاومة المسلحة للأنظمة الشيوعية وإذلالًا أكيدًا للسوفييت كذلك الذي عاناه الأمريكيون في فيتنام. وكانت أيضًا هزيمة انتشرت تداعياتها في أنحاء المجتمع السوفيتي ومؤسساته السياسية، وساهمت بدرجةٍ كبيرة في تفكك الإمبراطورية السوفيتية. وبالنسبة للأمريكيين والغربيين بشكل عام، كانت أفغانستان هي الانتصار الأخير والحاسم. كانت «ووترلو» الحرب الباردة.

أما بالنسبة للذين حاربوا السوفيت، فقد كانت الحرب شيئًا آخر. كانت «أول مقاومة ناجحة ضد قوة أجنبية.» كما يقول أحد الباحثين الغربيين،2 والتي لم تكن قائمة على مبادئ قومية أو اشتراكية وإنما شُنَّت كجهاد وأعطت دفعة هائلة للثقة بالنفس وللقوة الإسلامية. وتأثيرها على العالم الإسلامي، في الواقع يُشبه تأثير هزيمة الروس أمام اليابانيين سنة ١٩٠٥م على العالم الشرقي. ما يراه الغرب انتصارًا للعالم الحر، يراه المسلمون انتصارًا للإسلام. الدولارات والصواريخ الأمريكية كانت ضرورية من أجل هزيمة السوفييت، كما كان لازمًا كذلك الجهد الجماعي للإسلام والذي حاول عدد كبير من الحكومات والجماعات التنافس في تقديمه من أجل هزيمة الروس وتحقيق انتصار قد يخدم مصالحهم.

الدعم المالي للحرب جاء من السعودية أساسًا. بين عامي ١٩٨٤م و١٩٨٦م دفع السعوديون ٥٢٥ مليون دولار للمقاومة، وفي سنة ١٩٨٩م وافقوا على تحمل ٦١٪ من إجمالي ٧١٥ مليون دولار، أي ما يقرب من ٤٣٦ مليونًا، والباقي جاء من الولايات المتحدة. في ١٩٩٣م قدموا للحكومة الأفغانية ١٩٣ مليون دولار. المبلغ الإجمالي الذي قدموه على مدار الحرب كان لا يقلُّ عما أنفقته الولايات المتحدة وهو ٣–٣٫٥ بليون دولار إن لم يكن أكثر. شارك في الحرب حوالي ٢٥٠٠٠ متطوع من دول إسلامية أخرى، عربية أساسًا، كان سيتمُّ تجنيد معظمهم في الأردن وتقوم المخابرات الباكستانية بتدريبهم. كما قدمت باكستان القاعدة الخارجية الضرورية للمقاومة إلى جانب الدعم اللوجستي وغيره. باكستان كانت أيضًا هي الوكيل والموصل الذي يوزع الأموال الأمريكية، ووجهت ٧٥٪ منها إلى الجماعات الإسلامية الأشد أصولية، كما كان نصيب الفصيل السني الأكثر تطرفًا بقيادة «قلب الدين حكمتيار» حوالي ٥٠٪ من الإجمالي.

ورغم أن الأفغان كانوا يحاربون السوفييت، إلا أن المشاركين العرب كانوا مُعادين للغرب بوجهٍ عام، وكانوا يستهجنون المساعدات الغربية الإنسانية ويعتبرونها لا أخلاقية بل ومدمرة للإسلام. وفي النهاية، هُزِمَ الروس بسبب ثلاثة عوامل لم يستطيعوا أن يكونوا ندًّا لها أو أن يواجهوها وهي: التكنولوجيا الأمريكية، المال السعودي، العوامل السكانية والحماس الإسلامي.3
خلقت الحرب تحالفًا مقلقًا من منظمات إسلامية، عقد العزم على دفع الإسلام ضد كافة القوى غير الإسلامية. كما تركت الحرب إرثًا من المقاتلين المدرَّبين ذوي الخبرة، والمعسكرات، وميادين التدريب، والتسهيلات اللوجستية، وشبكات معقدة من العلاقات الشخصية والتنظيمية ممتدة عبر الدول الإسلامية، وكمية ضخمة من العتاد العسكري تضم قرابة ٣٠٠–٥٠٠ صاروخ «ستنجر» مجهولة، أما الأكثر أهمية فهو ذلك الإحساس المسكِر بالقوة، والثقة بالنفس لما تم تحقيقه، ورغبة جامحة في التحرك نحو انتصاراتٍ أخرى. وفي سنة ١٩٩٤م كان أحد المسئولين الأمريكيين يقول: «الأوراق الثبوتية الخاصة بالمتطوعين الأفغان، سواء الدينية أو السياسية، نظيفة. لقد هزموا إحدى القوتين العظميين في العالم، ويعملون الآن على هزيمة الثانية.»4

الحرب الأفغانية تحولت إلى حرب حضارات لأن المسلمين في كل مكان كانوا يرونها هكذا، وتجمعوا ضد الاتحاد السوفيتي. حرب الخليج تحولت إلى حرب حضارات لأن الغرب تدخل عسكريًّا في صراع إسلامي، الغربيون دعموا هذا التدخل بأغلبية ساحقة، والمسلمون في جميع أنحاء العالم فهموه على أنه حرب ضدهم، فتجمعوا ضد ما رأوه مرحلة أخرى من مراحل الاستعمار الغربي. الحكومات العربية والإسلامية بداية، انقسمت بشأن الحرب. «صدام حسين» انتهك حرمة الحدود، في أغسطس ١٩٩٠م صوتت الجامعة العربية بأغلبية كبيرة (١٤ مع، ٢ ضد، ٥ امتناع عن التصويت) لإدانة العمل الذي قام به.

مصر وسوريا وافقتا على المشاركة بقوات كبيرة، وباكستان وبنجلاديش بأعداد أقل، في التحالف المضاد للعراق والذي نظمته الولايات المتحدة. تركيا أغلقت خط الأنابيب الذي يمر عبر أراضيها من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط، كما سمحت للتحالف باستخدام قواعدها الجوية. في مقابل ذلك قَوَّتْ تركيا من طلبها للانضمام إلى أوروبا، وحصلت مصر على إسقاط لديونها، وسوريا أخذت لبنان. على العكس من ذلك: حكومات إيران والأردن وليبيا وموريتانيا واليمن والسودان وتونس، بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية وحماس والجبهة الإسلامية — رغم الدعم الكبير الذي كان يحصل عليه الكثير منهم من السعودية — أيدوا العراق وأدانوا التدخل الغربي. الحكومات الإسلامية الأخرى مثل حكومة إندونيسيا اتخذت مواقف وُسطى، أو حاولت تجنُّب اتخاذ أي موقف.

وبينما كانت الحكومات الإسلامية منقسِمة بداية، كان الرأي العام العربي والإسلامي ضد الغرب بشكلٍ واضح منذ البداية أيضًا. بعد زيارة لليمن وسوريا ومصر والأردن والسعودية بعد ثلاثة أسابيع من غزو الكويت، كتب أحد المراقبين الأمريكيين: «العالم العربي يغلي بالغضب ضد الولايات المتحدة، ولا أحد يستطيع أن يخفي فرحه بالأمل في ظهور قائد عربي جسور يتحدى أعظم قوة على الأرض.»5 ملايين المسلمين من المغرب إلى الصين تجمعوا خلف «صدام»، و«نادوا به بطلًا عربيًّا.»6 تناقض الديمقراطية كان أكبر التناقضات في هذا الصراع: التأييد ﻟ «صدام حسين» كان «أعظم حرارة وانتشارًا» في تلك الدول العربية حيث السياسة أكثر انفتاحًا وحرية التعبير أقل تقييدًا.7 في المغرب وباكستان والأردن وإندونيسيا وغيرها، خرجت مظاهرات حاشدة تشجب الغرب، وقادة سياسيون مثل الملك «حسين» و«بنظير بوتو» و«سوهارتو» كان يُنظَر إليهم كتابعين للغرب.
معارضة التحالف ظهرت حتى في سوريا، حيث كان «قطاع كبير من المواطنين يعارض وجود قوات أجنبية في الخليج.» ٧٥٪ من المائة مليون مسلم في الهند حَمَّلُوا الولايات المتحدة مسئولية الحرب، واﻟ ١٧١ مليون مسلم في إندونيسيا كانوا (كلهم تقريبًا) ضد العمل العسكري في الخليج. المثقفون العرب تكتلوا بنفس الأسلوب واستنبطوا الأسباب المنطقية المعقدة للتغاضي عن العمل الوحشي الذي قام به «صدام»، وشجب التدخل الغربي.8 العرب والمسلمون الآخرون بشكلٍ عام كانوا مُتفقين على أن «صدام» قد يكون طاغية وسفَّاكًا للدماء ولكنه «طاغية وسفاك دماء منا فينا»، وفي رأيهم كان الغزو شأنًا داخليًّا يمكن تسويته داخل الأسرة، وأن الذين تدخلوا باسم نظرية كبرى للعدالة الدولية، إنما فعلوا ذلك لحماية مصالحهم الأنانية الخاصة ولكي يبقوا على تبعية العرب للغرب. وتقول دراسة إن المثقفين العرب «يحتقرون النظام العراقي ويشجبون وحشيته وسلطويته، ولكنه في رأيهم يمثل مركز المقاومة للعدو الأكبر للعالم العربي … الغرب». وهم «يعرفون العالم العربي بمعارضة الغرب». يقول بروفيسور فلسطيني: «إن ما فعله صدام خطأ، ولكننا لا يمكن أن ندين العراق لتصديه للتدخل العسكري الغربي.» المسلمون في الغرب وأماكن أخرى استنكروا تواجد قوات عسكرية غير إسلامية في السعودية وما ينتج عن ذلك من «تدنيس» للأماكن الإسلامية المقدسة.9

وباختصار، فإن النظرة السائدة كانت: «صدَّام» أخطأ لقيامه بالغزو، الغرب أخطأ بدرجة أكبر بتدخُّله، ومن هنا فإن «صدَّام» على حق في محاربة الغرب، ونحن على حق في تأييدنا له. «صدام حسين»، مثل المشاركين الأولين في حروب خطوط التقسيم الأخرى، يوحِّد بين نظامه العلماني السابق والقضية التي ستحظى بالتأييد الواسع: الإسلام.

وعلى افتراض أن الهويات في العالم الإسلامي موزعة على شكل حرف U، لم يكن أمام «صدام» من بديلٍ آخر. يعلق مراقب مصري قائلًا: خيار الإسلام بدلًا من القومية العربية أو معاداة الغرب الغامضة في العالم الثالث «شهادة بقيمة الإسلام كأيديولوجية سياسية من أجل حشد الدعم.»10 ورغم أن السعودية أكثر تشددًا إسلاميًّا في ممارساتها ومؤسساتها عن الدول الإسلامية الأخرى — ربما باستثناء إيران والسودان — ورغم أنها تمول الجماعات الإسلامية في العالم، إلا أن التحالف الغربي ضد العراق لم يحظ بتأييد أي حركةٍ إسلامية في أي دولة، بل إن جميعهم قد عارضه بالفعل.

وبالنسبة للمسلمين. سرعان ما أصبحت الحرب حربًا بين حضارات، حرمة الإسلام مهددة فيها. الجماعات الإسلامية الأصولية في مصر وسوريا والأردن وباكستان وماليزيا وأفغانستان والسودان وغيرها شجبتها كحربٍ ضد «الإسلام وحضارته» من قبل «الصليبيين والصهاينة»، وأعلنت دعمها للعراق في وجه «العدوان العسكري والاقتصادي ضد شعبه.» وفي خريف ١٩٨٠م أعلن «سفر الحوالي» عميد الكلية الإسلامية في مكة في شريط انتشر في السعودية أن الحرب «ليست حربًا ضد العراق، إنها الغرب ضد الإسلام»، وعلى نحو مشابه كان الملك «حسين» يقول إنها «حرب ضد كل العرب وكل المسلمين وليست ضد العراق فقط»، وبالإضافة إلى ذلك كما تقول «فاطمة المرنيسي»: إن الرئيس «بوش» بذكره المتكرر لله والتضرع إليه باسم الولايات المتحدة، قوَّى من شعور العرب بأنها كانت «حربًا دينية». مع إشارات «بوش» التي كانت تفوح «برائحة هجمات المرتزقة الماكرة لقبائل ما قبل الإسلام في القرن السابع والصليبيين المسيحيين فيما بعد.»

الجدل بأن الحرب كانت صليبية ونتيجة مؤامرة غربية صهيونية، برر بالتالي، أو لعله استدعى حشد الجهاد للرد على ذلك.11 تحديد المسلمين للحرب بأنها «الغرب في مواجهة الإسلام» قلَّل من حدة العداءات في داخل العالم العربي لدرجة التلاشي. الخلافات القديمة بين المسلمين تقلصت أهميتها مقارنة بالخلافات بين الإسلام والغرب. وفي أثناء الحرب كانت الحكومات والجماعات الإسلامية تتحرك دائمًا لتُبعد نفسها عن الغرب. ومثل سلفها الحرب الأفغانية، قربت حرب الخليج بين المسلمين الذين كانوا قبل ذلك يمسِك بعضهم بخناق البعض: قربت بين العلمانيين والقوميين والأصوليين، بين الحكومة الأردنية والفلسطينيين، بين منظمة التحرير الفلسطينية و«حماس»، بين إيران والعراق، وبين أحزاب المعارضة والحكومات بشكلٍ عام. وكما عبر عن ذلك «سفر الحوالي»: «البعثيون العراقيون أعداؤنا لساعات قليلة، ولكن روما عدونا إلى يوم القيامة.»12
الحرب دشنت أيضًا عمليات التسوية بين العراق وإيران، زعماء الشيعة في إيران شجبوا التدخل الغربي ونادوا بالجهاد ضد الغرب. الحكومة الإيرانية أبعدت نفسها عن الإجراءات الموجهة ضد عدوها السابق، والحرب تبعها تحسن تدريجي في العلاقات بين النظامين. وجود عدو خارجي يُقلل من حدة الصراع داخل الدولة. في يناير ١٩٩١م مثلًا، نُقِلَ أن باكستان كانت «تموج بجدل عنيف معاد للغرب»، الأمر الذي وحَّد بين ذلك البلد ولو لفترة قصيرة: «باكستان لم تكن مُتحدة أبدًا كما هي الآن، في ولاية السند الجنوبية، حيث كان السكان الأصليون والمهاجرون من الهند يتقاتلون على مدى خمس سنوات، يسير الناس من كلا الجانبين في مظاهرات ضد الأمريكيين. في المناطق الجبلية شديدة المحافظة على التقاليد هناك عند الحدود الشمالية الغربية، حتى النساء خرجن إلى الشوارع يعلنَّ الاحتجاج، وغالبًا في أماكن لم يسبق أن اجتمع فيها الناس إلا لصلاة الجمعة.»13 ومع تصلب الرأي العام ضد الحرب، تراجعت الحكومات التي كانت قد ربطت نفسها بالتحالف من البداية، أو انقسمت على نفسها، أو بدأت تمارس ترشيدًا مدروسًا في تصرفاتها. قائد مثل «حافظ الأسد» الذي شارك بقوات، كان يقول إن ذلك كان ضروريًّا من أجل موازنة القوات الغربية في السعودية، ولكي تحل محلها في النهاية، أصبح يقول إن قواته لن تُستخدَم تحت أي ظرفٍ إلا من أجل أغراض دفاعية ولحماية الأماكن المقدسة. في تركيا وباكستان، استنكر كبار القادة العسكريين علنًا انحياز حكوماتهم للتحالف. الحكومتان المصرية والسورية اللتان شاركتا بمعظم القوات أحكمتا السيطرة على مجتمعيهما لتستطيعا كبح وتجاهل الضغط المعادي للغرب. الحكومات في الدول الإسلامية الأكثر انفتاحًا نوعًا ما، اقتنعت بالنأي عن الغرب وتبني مواقف مُعادية له بشكلٍ متزايد. في المغرب كان «انفجار التأييد العارم للعراق إحدى المفاجآت الكبرى في الحرب.» الرأي العام التونسي كان ضد الغرب بشدة، والرئيس «بن علي» سارع لإدانة التدخل. من البداية شاركت الحكومة المغربية ﺑ ١٥٠٠ جندي في التحالف، ولكن بعد تعبئة الجماعات المعادية للغرب، سمحت بإضراب عام ضد ما يحدث للعراق. في الجزائر خرجت مظاهرة قوامها ٤٠٠٠٠٠ من المواطنين جعلت الرئيس «بن جديد»، الذي كان ميالًا للغرب في البداية، يُغير موقفه ويدين الغرب ويعلن أن «الجزائر سوف تقف إلى جوار العراق الشقيق.»14

في أغسطس ١٩٩٠م، صوتت الحكومات المغربية الثلاث في الجامعة العربية لإدانة العراق، في الخريف صوتت لصالح اقتراح بإدانة التدخُّل الأمريكي تحت ضغط مشاعر الغضب الشعبي.

الجهد العسكري الغربي لم يلقَ سوى تأييد قليل من شعوب الحضارات غير الغربية وغير الإسلامية. في يناير ١٩٩١م، وفي اقتراع في اليابان كان ٥٣٪ ضد الحرب، بينما أيَّدَها ٢٥٪، الهندوس انقسموا بالتساوي في اتهامهم ﻟ «صدام» و«جورج بوش» وتحميلهما مسئولية الحرب التي حذرت منها جريدة «تايمز أوف إنديا» قائلة إنها قد تؤدي إلى «مواجهة أشمل بين عالمٍ يهودي مسيحي قوي ومتغطرس، وعالم إسلامي ضعيف يؤجِّجه الحماس الديني». وهكذا بدأت حرب الخليج كحرب بين العراق والكويت، ثم أصبحت حربًا بين العراق والغرب، ثم حربًا بين الإسلام والغرب، وفي النهاية أصبحت في نظر كثيرٍ من غير الغربيين حربًا بين الشرق والغرب … «حرب الرجل الأبيض … قيامة جديدة للاستعمار القديم.»15 بصرف النظر عن الكويتيين، لم يكن هناك في الشعب الإسلامي من هو مُتحمس للحرب، والأغلبية الساحقة كانت تُعارض التدخل الغربي، وعندما انتهت الحرب لم تتكرر استعراضات النصر التي ظهرت في لندن ونيويورك. ويلاحظ «سهيل ﻫ. هاشمي» أن: «انتهاء الحرب لم يقدم أي سبب للفرح.» بين العرب. بالعكس، كان الجو السائد هو خيبة الأمل الواسعة، الفزع، الامتهان، الاستياء. مرة أخرى الغرب ينتصر. مرة أخرى يلقى «صلاح الدين» الأخير الذي رفع آمال العرب، هزيمة أمام قوة غربية كاسحة تم إقحامها عنوة داخل جماعة الإسلام. وتتساءل «فاطمة المرنيسي»: «ماذا يمكن أن يحدث للعرب أسوأ مما خلفته الحرب؟ الغرب بكامله وبكل ما لديه من تكنولوجيا يضربنا بالقنابل. الرعب في أقصى صوره.»16
خارج الكويت أصبح الرأي العام العربي شديد الانتقاد للوجود العسكري للولايات المتحدة في الخليج، وبدرجة متزايدة. تحرير الكويت قضى على أي سبب منطقي لمعارضة «صدام حسين»، وترك أسبابًا منطقية قليلة لوجود عسكري أمريكي مستمر في الخليج، ومن هنا أصبح الرأي العام أكثر وأكثر تعاطفًا مع العراق حتى في دولٍ مثل مصر. الحكومات العربية التي انضمَّت إلى التحالف غيرت الأرضية.17 مصر وسوريا وغيرهما عارضوا الحظر الجوي في جنوب العراق في أغسطس ١٩٩٢م، الدول العربية بالإضافة إلى تركيا، عارضت الهجمات الجوية على العراق في يناير ١٩٩٣م، إذا كان من الممكن استخدام القوة الجوية ردًّا على مهاجمة السنة للشيعة والأكراد، فلماذا لم تستخدم ردًّا على هجوم الصرب الأرثوذوكس على مسلمي البوسنة؟ في يونيو ١٩٩٣م عندما أصدر «كلينتون» أوامره بقصف بغداد بالقنابل انتقامًا لمحاولة العراق اغتيال الرئيس السابق «بوش» ساد التوتر على امتداد الخطوط الحضارية. إسرائيل والحكومات الغربية أيدت الغارات بشدة، روسيا قبلتها كدفاع — مُبرَّر — عن النفس، الصين عبرت عن «قلق عميق»، السعودية ودول الخليج لاذوا بالصمت، الحكومات الإسلامية الأخرى بما فيها مصر استنكرت واعتبرتها مثالًا آخر على ازدواجية المعايير التي يستخدمها الغرب، إيران وصفتها ﺑ «العدوان الآثم» المدفوع ﺑ «النزعات التوسعية الجديدة والغرور»18 من قِبَل أمريكا. وتكرر السؤال: لماذا لا تتصرف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي (أي الغرب) بنفس الأسلوب إزاء سلوك إسرائيل الوحشي، وانتهاكاتها لقرارات الأمم المتحدة؟

حرب الخليج أول حرب موارد بين الحضارات بعد الحرب الباردة. الرهان كان على ما يأتي: هل يظل الجزء الرئيسي من احتياطي البترول في العالم تحت سيطرة حكومات السعودية والدول الخليجية المعتمدة أمنيًّا على القوة العسكرية الغربية، أم يقع تحت سيطرة أنظمة مُستقلة معادية للغرب قادرة، وربما مستعدة، لاستخدامه سلاحًا ضده؟

الغرب فشل في إزاحة «صدام حسين»، ولكنه سجل انتصارًا رديئًا بكشفه اعتماد دول الخليج أمنيًّا على الغرب، وفي تحقيق وجود عسكري ممتد في الخليج في وقت السلم. قبل الحرب كانت إيران والعراق ومجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة يتصارعون من أجل السيطرة على الخليج، بعد الحرب أصبح الخليج الفارسي بحيرة أمريكية.

(٢) خواص حروب خطوط التقسيم الحضاري

الحروب بين العشائر والقبائل والجماعات الإثنية والتجمعات الدينية والدول، كانت سائدة في كل الحقب وفي كل الحضارات، لأنها ممتدة الجذور في هويات الشعوب. هذه الصراعات تتجه إلى أن تكون ذات طبيعة خاصة حيث لا تتضمن قضايا أيديولوجية أو سياسية عريضة تتعلق بمصالح مباشرة لغير المشاركين فيها، رغم أنها قد تثير اهتمامات إنسانية لدى الجماعات الخارجية. كما أنها تتجه لأن تكون ضارية ودموية عندما تصبح قضايا الهوية الأساسية مهددة. بالإضافة إلى ذلك فإنها غالبًا صراعات طويلة الأمد، قد تتخللها هدنات أو اتفاقيات، ولكن الهدنات والاتفاقيات معرضة دائمًا للانهيار لكي يستأنف الصراع. ومن الناحية الأخرى فإن الانتصار الحاسم لأحد الأطراف في حرب هوية أهلية، يزيد من احتمال حدوث إبادة جماعية.19

صراعات خطوط التقسيم الحضاري هي صراعات طائفية بين دول أو جماعات تنتمي إلى حضارات مختلفة. حروب خطوط التقسيم الحضاري صراعات تحولت إلى عنف، وحروب كتلك التي قد تنشب بين دول، أو بين جماعات غير حكومية، أو بين دول وجماعات حكومية. صراعات خطوط التقسيم الحضاري داخل الدول قد تتضمن جماعات تتمركز بشكلٍ عام في مناطق جغرافية محددة، حيث تحارب الجماعة التي لا تسيطر على الحكومة عادة من أجل الاستقلال، وربما تكون أو لا تكون مستعدةً لقبول شيء أقل من ذلك. كما قد تتضمَّن أيضًا صراعات خطوط التقسيم الحضاري جماعات ممتزجة جغرافيًّا، تتطوَّر فيها العلاقات المتوترة إلى عنفٍ من وقتٍ لآخر وعلى نحوٍ مستمر، كما هي الحال بين الهندوس والمسلمين في الهند، والمسلمين والصينيين في ماليزيا، وربما يحدث قتال على نطاقٍ واسع عند تحديد الدول ورسم حدودها ويؤدي ذلك إلى محاولات لتقسيم الشعوب أو فصلها بالقوة.

صراعات خطوط التقسيم الحضاري هي صراعات للسيطرة على الناس، وكثيرًا ما تكون القضية قضية صراع للسيطرة على أراضٍ. وقد يكون هدف أحد المشاركين فيها على الأقل هو انتزاع أرض وتحريرها من آخرين بطردهم أو قتلهم أو القيام بالعملَين معًا وهو ما يُسمَّى ﺑ «التطهير العرقي». هذه الصراعات غالبًا ما تكون عنيفة وفظيعة حيث يشتبك الجانبان في مجازر وعمليات إرهاب واغتصاب وتعذيب. وغالبًا ما تكون الأرض المتنازع عليها رمزًا لهوية وتاريخ طرفٍ من طرفي الصراع أو لهما معًا، قد تكون أرضًا مقدسة لهما فيها حق لا يجوز المساس به مثل: الضفة الغربية أو كشمير أو ناجورنو كاراباخ أو وادي درينا أو كوسوفو.

حروب خطوط التقسيم الحضاري لها بعض سمات الحروب الطائفية وليس كلها، فهي صراعات ممتدة. عندما تدور في داخل الدول، تستمر على الأقل ست مرات أطول من تلك التي بين الدول وبعضها. وحيث إنها تتضمن قضايا أساسية تتعلق بهوية وقوة الجماعة، يكون من الصعب حلها عن طريق التفاوض والتسوية. وعند الوصول إلى اتفاقيات، لا تلتزم بها جميع الأطراف في كلا الجانبين، ولذلك لا تدوم طويلًا. حروب خطوط التقسيم الحضاري تقوم وتتوقف وتقوم وتتوقف حيث يمكن أن تنفجر في عنف شامل ثم تخمد إلى مستوى الأعمال القتالية أو العدائية المحدودة لكي تعاود الاشتعال مرة أخرى. نيران الهوية الاجتماعية وأحقادها نادرًا ما تنطفئ تمامًا، إلا عن طريق الإبادة الجماعية.

ونتيجة لطبيعتها الممتدة فإن حروب خطوط التقسيم شأنها شأن الحروب الطائفة الأخرى، تُخَلِّفُ أعدادًا كبيرة من القتلى واللاجئين. تقدير هذه الخسائر يجب أن يتمَّ بحذر، وإن كانت الأرقام المقبولة للوفيات في حروب خطوط التقسيم التي دارت في التسعينيات قد تضمنت: ٥٠٠٠٠ في الفلبين، من ٥٠٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠٠ في سيريلانكا، ٢٠٠٠٠ في كشمير، ١٫٥ مليون في السودان، ١٠٠٠٠٠ في طاجيكستان، ٥٠٠٠٠ في أوكرانيا، ٥٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠ في البوسنة، ٣٠٠٠٠، ٥٠٠٠٠ في شيشينيا، ١٠٠٠٠٠ في التبت، ٢٠٠٠٠٠ في تيمور الشرقية.20 وحدث أن خلفت تلك الصراعات أيضًا أعدادًا من اللاجئين أكثر من ذلك. ومعظم هذه الحروب المعاصرة ليس سوى الجولة الأخيرة في تاريخ طويل من الصراعات الدموية، وعنف السنوات الأخيرة من القرن العشرين كان دائمًا يفوق كل محاولات وضع نهاية له. الحرب في السودان مثلًا بدأت في ١٩٥٦م واستمرت حتى ١٩٧٢م عندما تم التوصل إلى اتفاق يمنح قدرًا من الحكم الذاتي لجنوب السودان، ثم استؤنف القتال في ١٩٨٣م، تمرد التاميل في سيريلانكا بدأ في ١٩٨٣م، مفاوضات السلام اللانهائية انهارت في ١٩٩١م، ثم استؤنفت في ١٩٩٤م بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في يناير ١٩٩٥م، بعد أربعة شهور خرق متمردو «النمور» الهدنة وانسحبوا من مباحثات السلام واستؤنف القتال مرة أخرى وبضراوة شديدة.

تمرد «المورو» في الفلبين بدأ في أوائل السبعينيات، ثم هدأ في ١٩٧٦م، بعد التوصل إلى اتفاق منح حكمًا ذاتيًّا لبعض المناطق في «ماندانو»، وفي ١٩٩٣م تجددت أعمال العنف مرارًا وتكرارًا على مستوى متصاعد، وهبت جماعات انفصالية متمردة ترفض مساعي السلام. قادة الروس والشيشان توصلوا إلى اتفاق لوقف الأعمال العسكرية في يوليو ١٩٩٥م بغرض إنهاء العنف الذي كان قد بدأ في ديسمبر السابق. هدأت الحرب لفترة قصيرة ثم تجددت بهجوم الشيشان على القادة الروس أو الموالين لهم، ثم انتقام روسي، ثم إغارات للشيشان على داغستان في يناير ١٩٩٦م ثم الهجوم الروسي الكبير في أوائل ١٩٩٦م.

وبينما تشترك حروب خطوط التقسيم الحضاري مع الحروب الطائفية الأخرى في طول استمرارها ومعدلات العنف العالية والغموض الأيديولوجي، إلا أنها تختلف عنها في ناحيتين:
  • أولًا: الحروب الطائفية قد تحدث بين جماعات إثنية أو دينية أو جنسية أو لغوية. وحيث إن الدين هو السمة الرئيسية المحددة للحضارات فإن حروب خطوط التقسيم غالبًا، وفي معظم الأحوال، ما تكون بين شعوب لها أديان مختلفة. بعض المحللين يُقلل من أهمية هذا العامل، فيشيرون مثلًا إلى الإثنية المشتركة واللغة الواحدة والتعايش السابق والزواج المتبادل على نطاق واسع بين الصرب والمسلمين في البوسنة، ويستبعدون العامل الديني بالإشارة إلى «نرجسية الاختلافات الصغيرة»21 عند «فرويد»، إلا أن هذا الحكم متجذِّر في قصر نظر علماني. ألوف السنين من التاريخ الإنساني تثبت أن الدين ليس «اختلافًا صغيرًا»، بل لعله أعمق اختلاف يمكن أن يوجَد بين البشر. إن تكرار واتساع وعنف حروب خطوط التقسيم الحضاري يعززها إلى حدٍّ كبير الإيمان بآلهة مختلفة.
  • ثانيًا: الحروب الطائفية الأخرى تبدو خاصة. ومن هنا فهي — نسبيًّا — لا يحتمل أن تنتشر لكي تضم أطرافًا أخرى. حروب خطوط التقسيم على العكس من ذلك وحسب تعريفها، تقع بين جماعات تعد أجزاء من كيانات ثقافية أكبر.

في الصراع الطائفي العادي، الجماعة «أ» مثلًا تحارب الجماعة «ب». وليس هناك ما يدعو الجماعات «ج» و«ﻫ» للتورط إلا إذا هاجمت الجماعة «أ» أو الجماعة «ب» مصالح أي منهما.

في حروب خطوط التقسيم الأمر على العكس من ذلك: الجماعة «أ» تحارب الجماعة «ب١»، كل منهما سيحاول أن يوسع نطاق الحرب ويحشد الدعم من جماعات القربى الحضارية: أ٢، أ٣، أ٤، ب٢، ب٣، ب٤، كما أن هذه الجماعات سوف تتحد مع أقاربها المحاربة.

اتساع وسائل الاتصال والانتقال في العالم الثالث، سَهَّلَ إقامة هذه الصلات، وبالتالي سَهَّلَ عملية «تدويل» صراعات خطوط التقسيم. الهجرة أيضًا أدت إلى وجود حالات الديسابورا (الشتات) في حضارات ثالثة. وسائل الاتصال يَسَّرَتْ طلب المساعدة من جماعات القربى، كما يَسَّرَتْ أيضًا معرفة ما يحدث لتلك الأطراف المتحاربة. الانكماش العام للعالم، يُمَكِّن جماعات القربى من أن تُقدِّم الدعم المعنوي والدبلوماسي والمالي والمادي للأطراف المتصارعة، والأكثر صعوبة هو ألا تفعل ذلك. الشبكات الدولية تتطوَّر لكي تفي بهذا الدعم. والدعم بدوره يحافظ على المشاركين ويُطيل من عمر الصراع.

وظاهرة «البلدان الأقرباء» هذه بعبارة «ﻫ. د. ي جرينواي»، ملمح رئيسي في حروب خطوط التقسيم في أواخر القرن العشرين.22 وبشكل عام، حتى كميات العنف الصغيرة بين أفراد من حضارات مختلفة لها تشعُّبات ونتائج لا تُوجَد في العنف داخل نفس الحضارة. عندما قتل مسلحون سُنَّة ثمانية عشر من المصلين الشيعة في أحد مساجد كراتشي في فبراير ١٩٩٥م، أدى ذلك إلى تكدير السلام العام في المدينة وخلق مشكلة لباكستان. قبل ذلك بعام تحديدًا، عندما قتل أحد المستوطنين اليهود ٢٩ مسلمًا وهم يصلون في الحرم الإبراهيمي في الخليل، تكدرت عملية السلام في الشرق الأوسط وأصبحت مشكلة عالمية.

(٣) تصادف: الحدود الدموية للإسلام

الصراعات الطائفية وحروب خطوط التقسيم الحضاري هي مادة التاريخ، وبحسبة واحدة نجد أن ٣٢ صراعًا إثنيًّا قد حدثت خلال الحرب الباردة تتضمَّن حروب خطوط تقسيم بين العرب والإسرائيليين، والهنود والباكستانيين، والسودانيين المسلمين والمسيحيين، والسريلانكيين البوذيين والتاميل، واللبنانيين الشيعة والمارون.

حروب الهوية كانت تمثل حوالي نصف عدد الحروب الأهلية التي وقعت في الأربعينيات والخمسينيات، ولكنها حوالي ثلاثة أرباع عدد الحروب الأهلية خلال الحقب التالية، كما أن اتساع نطاق حركات التمرد المتضمنة لجماعات إثنية، قد تضاعف ثلاث مرات بين أوائل الخمسينيات وأواخر الثمانينيات. وفي وجود المنافسة الواسعة بين القوى الكبرى، لم تجذب هذه الصراعات سوى القليل من الاهتمام باستثناء بعض الحالات، وكان ينظر إليها بمنظور الحرب الباردة. وعندما خمدت الحرب الباردة، أصبحت الحروب الطائفية أكثر بروزًا وربما انتشارًا عما كانت عليه في السابق، وحدث ما يُشبه الصحوة في الصراع العرقي.23
الصراعات الإثنية وحروب خطوط التقسيم الحضاري هذه ليست موزعة بدرجة متساوية بين الحضارات العالمية. أهم هذه الحروب حدثت بين الصرب والكروات في يوغوسلافيا السابقة، وبين البوذيين والهندوس في سريلانكا، بينما حدثت صراعات أقل حدة بين الجماعات غير الإسلامية في أماكن قليلة أخرى. على أن غالبية صراعات خطوط التقسيم قد حدثت على امتداد الحدود الملتفَّة عبر أوراسيا وأفريقيا والتي تفصل بين المسلمين وغير المسلمين. وعلى المستوى الأكبر أو الكوني للسياسة العالمية، نجد أن الصراع الرئيسي بين الحضارات هو ذلك القائم بين الغرب والباقي، بينما على المستوى الأصغر والمحلي نجد أن الصراع القائم هو صراع بين الإسلام والآخرين. العداوات الحادة والصراعات العنيفة متغلغلة بين الشعوب الإسلامية المحلية والشعوب غير الإسلامية. في البوسنة خاض المسلمون حربًا دموية ومدمرة مع الصرب الأرثوذوكس واشتبكوا في عنفٍ آخر مع الكروات الكاثوليك. في «كوسوفو» يعانون من الحكم الصربي ويقيمون حكومتهم السرية الموازية مع توقعات كبيرة لعنفٍ مُحتملٍ بين الطرفين. الحكومتان الألبانية واليونانية في حالة خصام حول حقوق أقليات كل منهما لدى الأخرى. الأتراك واليونانيون — تاريخيًّا — يقف كلاهما في حلق الآخر … على جزيرة قبرص: الأتراك المسلمون واليونانيون الأرثوذوكس يحتفظان بدولتين معاديتين متجاورتين. في القوقاز: تركيا وأرمينيا عدوان تاريخيان، والأذريون والأرمن يتحاربون من أجل السيطرة على ناجورنو كاراباخ. في شمال القوقاز على مدى قرنين خاض الشيشان والإنجوش وشعوب إسلامية أخرى، حروبًا متكررة للاستقلال عن روسيا، وهو الصراع الذي استؤنف بشكل دموي بين روسيا وشيشينيا في ١٩٩٤م، كما حدث قتال بين الإنجوش والأوسيشيان الأرثوذوكس. وفي حوض الفولجا حارب التتار المسلمون ضد الروس في الماضي، وفي أوائل التسعينيات توصلوا إلى تسوية صعبة مع الروس تحقق لهم سيادة محدودة. خلال القرن التاسع عشر، بسطت روسيا سيطرتها بالقوة على الشعوب الإسلامية في آسيا الوسطى. في الثمانينيات خاض الأفغان والروس حربًا كبيرة، وبعد انسحاب الروس استمرت ذيولها في طاجيكستان بين القوات الروسية الداعمة للحكومة القائمة والأغلبية الإسلامية المتمردة. في «جنجيانج» يناضل «الأويغور» Uighurs والجماعات الإسلامية الأخرى ضد عمليات «التصيين» ويطورون علاقاتهم بأقاربهم في العرق والدين في الجمهوريات السوفيتية السابقة. في شبه القارة الهندية: خاضت باكستان والهند ثلاث حروب، وهناك صحوة دينية تقاتل الحكم الهندي في كشمير، واللاجئون المسلمون يقاتلون القبائل في آسام، والمسلمون والهندوس مشتبكون في أعمال شغب وعنف متقطعة في أنحاء الهند، وصعود الحركات الأصولية في كل من المجتمعين الدينيين يغذي هذه الصراعات ويقويها.

في بنجلاديش يحتجون على التمييز الديني الذي تمارسه الأغلبية المسلمة ضدهم، بينما يحتج المسلمون في «ميانمار» ضد التمييز الديني الذي تمارسه الأغلبية البوذية.

في ماليزيا وإندونيسيا يثور المسلمون من وقتٍ لآخر على الصينيين اعتراضًا على سيطرتهم الاقتصادية. في جنوب تايلاند الجماعات الإسلامية متورطة في أعمال عنف وتمرد متقطع ضد الحكومة البوذية، بينما في جنوب الفلبين يحارب الثوار المسلمون من أجل الاستقلال عن دولة وحكومة كاثوليكية. في إندونيسيا — من ناحية أخرى — يناضل كاثوليك تيمور الشرقية ضد قمع الحكومة المسلمة. في الشرق الأوسط: الصراع بين العرب واليهود في فلسطين يعود إلى أيام تأسيس الوطن اليهودي. وقعت أربع حروب بين إسرائيل والدول العربية، والفلسطينيون اشتبكوا ضد الحكم الإسرائيلي بالانتفاضة. في لبنان حارب المسيحيون المارون معركة خاسرة ضد الشيعة والمسلمين الآخرين. في إثيوبيا — تاريخيًّا — يكبح الأمهريون الأرثوذوكس الجماعات العرقية المسلمة كما يواجهون انتفاضة المسلمين «الأرومو»، وعلى امتداد المساحة المترامية في أفريقيا دارات صراعات متنوعة بين الجماعات العربية والإسلامية في الشمال والجماعات المسيحية الأرواحية السوداء في الجنوب. أما أكثر الحروب الإسلامية-المسيحية دمويةً فحدثت في جنوب السودان واستمرت عقودًا وخلفت مئات الألوف من الضحايا. السياسة النيجرية يغلب عليها الصراع بين مُسلمي الهاوسا الفولانيين في الشمال والقبائل المسيحية في الجنوب، مع أعمال تمرد وشغب عديدة وحرب كبيرة واحدة. في تشاد وكينيا وتنزانيا حدثت صراعات مشابهة بين الجماعات الإسلامية والمسيحية. في جميع هذه الأماكن كانت العلاقات دائمًا عدائية بين المسلمين وشعوب الحضارات الأخرى — الكاثوليك، البروتستانت، الأرثوذوكس، الهندوس، الصينيين، البوذيين، اليهود — وكان معظمها عنيفًا أحيانًا في الماضي، وكثير منها كان عنيفًا في التسعينيات. وحيثما ينظر المرء على امتداد حدود الإسلام، يجد أن المسلمين لهم مشكلات في العيش مع جيرانهم بسلام.

ومن الطبيعي أن يبرز سؤال عما إذا كان هذا النمط من الصراع في أواخر القرن العشرين بين الجماعات المسلمة وغير المسلمة، يماثل بنفس الدرجة نمط العلاقات بين الجماعات التي تنتمي إلى حضارات أخرى. الحقيقة أنه ليس كذلك. المسلمون يشكلون خُمس سكان العالم، ولكنهم في التسعينيات كانوا أكثر تورطًا في العنف ما بين الجماعات عن أي شعب في حضارة أخرى. والدليل على ذلك شديد الوضوح:
  • (١)
    شارك المسلمون في ٢٦ صراعًا من إجمالي ٥٠ صراعًا عرقيًّا-سياسيًّا في ١٩٩٣-١٩٩٤م، قام بتحليلها بعمق «ت. روبرت جور» (الجدول رقم ١٠-١). عشرون من هذه الصراعات كانت بين جماعات تنتمي لحضارات مختلفة، وعشرون بين مسلمين وغير مسلمين. باختصار، كانت هناك صراعات بين مسلمين وأطراف من حضارات أخرى، ثلاثة أمثال ما كان بين كل الحضارات غير الإسلامية. كما كانت الصراعات داخل الإسلام نفسه كثيرة، وأكثر مما كانت داخل أي حضارة أخرى، بما في ذلك الصراعات القبلية في أفريقيا.

    الغرب، على العكس من الإسلام، لم يتورط إلا في صراعين بين حضارات مختلفة وصراعين داخل حضارات بعينها.

    الصراعات التي كان المسلمون طرفًا فيها، كانت دائمًا كثيرة الضحايا. الحروب الست التي يقدر فيها «جور» القتلى ﺑ ٢٠٠٠٠٠ كانت ثلاث منها بين مسلمين وغير مسلمين (الصومال – أكراد العراق) وواحدة فقط لم يكن بها مسلمون (أنجولا).

  • (٢)
    حددت نيويورك تايمز ٤٨ موقعًا كان يدور بها ٥٩ صراعًا عرقيًّا في سنة ١٩٩٣م، في نصف عدد هذه المواقع كان المسلمون يتصارعون مع مسلمين آخرين أو مع غير مسلمين. في ٣١ من هذه الصراعات كانت الأطراف جماعات من حضارات مختلفة. وبالتوازي مع بيانات «جور» كان ثلثا هذه الصراعات (أي ٢١) داخل الحضارات بين مسلمين وآخرين (الجدول رقم ١٠-٢).
  • (٣)
    إلا أن «روث ليجر سيفارد» يرصد في تحليل آخر ٢٩ حربًا (صراعات نتج عنها ١٠٠٠ قتيل أو أكثر في العام) في سنة ١٩٩٢م، ٩ من اﻟ ١٢ صراعًا داخل الحضارات كانت بين مسلمين وغير مسلمين، ومرة أخرى كان المسلمون يخوضون حروبًا أكثر من أي جماعة في أي حضارة أخرى.24
جدول ١٠-١: الصراعات الإثنية/السياسية (١٩٩٣-١٩٩٤م)
مع حضارات أخرى داخل الحضارة الإجمالي
الإسلام ١١ ١٥ ٢٦
حضارات أخرى ١٩* ٥ ٢٤
الإجمالي ٣٠ ٢٠ ٥٠
من بينها: ١٠ صراعات قبلية في أفريقيا (المصدر: Ted Robert Gurr, “Peoples Against States: Ethnopolitical Conflict and Changing World System,” International Studies Quarterly, Vol. 38 (Sept. 1994) pp. 347–378).
وقد استخدمت تصنيف «جور» للصراعات باستثناء تغيير الصراع الصيني التبتي الذي يصنفه كصراع غير حضاري واعتباره من ضمن الصراعات داخل الحضارة الواحدة حيث من الواضح أنه صراع بين صينيين هان كونفوشيين وتبت لاما بوذيين.
جدول ١٠-٢: الصراعات الإثنية: ١٩٩٣م
مع حضارات أخرى داخل نفس الحضارة الإجمالي
الإسلام ٧ ٢١ ٢٨
حضارات أخرى ٢١* ١٠ ٣١
الإجمالي ٢٨ ٣١ ٥٩
من بينها: ١٠ صراعات قبلية في أفريقيا (المصدر: New York Times. Feb. 7, 1993 pp. 1, 14).
وهكذا تقدم ثلاثة تصنيفات من البيانات نفس الاستنتاج: في بداية التسعينيات كان المسلمون مشتركين في أعمال عنف داخل جماعاتهم أكثر من غيرهم، وما بين ثلثي إلى ثلاثة أرباع عدد الصراعات بين الحضارات كان بين مسلمين وغير مسلمين. حدود الإسلام دموية … وكذلك الأحشاء.١
التوجُّه الإسلامي نحو الصراع العنيف يساعد عليه أيضًا درجة تسلح المجتمعات الإسلامية. في الثمانينيات كان لدى الدول الإسلامية معدلات قوة (نسبة عدد الأفراد العسكريين لكل ألف من السكان) ومؤشرات دالة على جهد عسكري (معدل القوة المتناسبة مع ثروة الدولة) أكبر بكثير مما لدى الدول الأخرى. وعلى العكس من ذلك، كانت معدلات القوة ومؤشرات الجهد العسكري لدى الدول الإسلامية أقل مما لدى الدول الأخرى. معدلات ومؤشرات القوة في الدول الإسلامية كانت تقريبًا ضعف ما لدى الدول المسيحية (الجدول رقم ١٠-٣). ويستنتج «جيمس بايني»: «من الواضح جدًّا أن هناك صلة ما بين الإسلام وسياسة الاستعداد العسكري.»25

الدول الإسلامية أيضًا لديها ميل شديد للجوء إلى العنف في الأزمات الدولية، وقد استخدمت ذلك لحل ٧٦ من مُجمل ١٤٢ أزمة كانت طرفًا فيها بين عامَي ١٩٢٨م، ١٩٧٩م، وفي ٢٥ حالة كان العنف هو الوسيلة الرئيسية للتعامل مع الأزمة، وفي ٥١ حالة استخدمت العنف إلى جانب وسائل أخرى.

جدول ١٠-٣: العسكرية في الدول المسيحية والإسلامية*
متوسط نسبة القوة متوسط الجهد العسكري
الدول الإسلامية (٢٥) ١١٫٨ ١٧٫٧
الدول الأخرى (١١٢) ٧٫١ ١٢٫٣
الدول المسيحية (٥٧) ٥٫٨ ٨٫٢
الدول الأخرى (٨٠) ٩٫٥ ١٦٫٩
المصدر: James L. Payne, Why Nations Arm (Oxford, Basil Blackwell, 1989) pp. 125, 138-139.
المقصود بالدول الإسلامية والدول المسيحية تلك التي يلتزم فيها أكثر من ٨٠٪ من السكان بالدين المتبع فيها.

وعندما كانت تستخدم العنف، كانت الدول الإسلامية تستخدمه بأعلى درجاته، كما لجأت إلى حروب كاملة في ٤١٪ من الحالات التي استخدمته فيها، واشتركت في صدامات في ٣٨٪ من الحالات. وبينما لجأت الدول الإسلامية إلى العنف في ٥٣٫٥٪ من أزماتها، لم تستخدم المملكة المتحدة العنف سوى في ١١٫٥٪ والولايات المتحدة في ١٧٫٩٪ والاتحاد السوفيتي في ٢٥٫٥٪ من الأزمات التي كانوا أطرافًا فيها.

ومن بين القوى الرئيسية لم يتفوق على الدول الإسلامية في الميل إلى العنف سوى الصين التي استخدمته في ٦٧٫٩٪ من أزماتها.26 الميل الإسلامي إلى القتال والعنف من حقائق أواخر القرن العشرين التي لا يستطيع أن ينكرها المسلمون أو غير المسلمين.

(٤) الأسباب: التاريخ، الديموغرافيا، السياسة

ما المسئول عن عدد زيادة حروب خطوط التقسيم الحضاري وعن الدور المركزي للمسلمين في تلك الصراعات في أواخر القرن العشرين؟

  • أولًا: هذه الحروب لها جذورها العميقة في التاريخ. العنف المتقطع على خطوط التقسيم بين الجماعات الحضارية المختلفة حدث في الماضي، وموجود في الذكريات الحاضرة عنه، وبالتالي فإنه يُوَلِّدُ المخاوف وعدم الشعور بالأمان على كِلا الجانبين. المسلمون والهندوس في شبه القارة الهندية، الروس والقوقاز في شمال القوقاز، الأرمن والأتراك فيما وراء القوقاز، العرب واليهود في فلسطين، الكاثوليك والمسلمون الأرثوذوكس في البلقان، الروس والأتراك من البلقان إلى آسيا الوسطى، السنهاليون والتاميل في سريلانكا، العرب والسود عبر أفريقيا: تلك كلها علاقات تضمنت على مدى قرون أعمالًا تناوبت بين التعايش المفتقر للثقة والعنف الوحشي. هناك ميراث تاريخي من الصراع يجري استغلاله واستخدامه عندما يرون سببًا لذلك. التاريخ في هذا النوع من العلاقات حي وغني ومرعب. إلا أن تاريخًا من المذابح المتقطعة لا يكفي في حد ذاته لتفسير عودة العنف مرة أخرى في نهاية القرن العشرين.

بشكل عام، وكما يوضح كثيرون: الصرب والكروات والمسلمون عاشوا معًا في يوغوسلافيا في سلام لعدة عقود. المسلمون والهندوس في الهند كذلك. الجماعات الإثنية والدينية المتعددة في الاتحاد السوفيتي تعايشت باستثناء حالات قليلة كان سببها الحكومة السوفيتية. التاميل والسنهاليون أيضًا عاشوا في هدوء على جزيرة كانت توصَف دائمًا بالجنة الاستوائية. التاريخ لم يمنع أن تسود تلك العلاقات المسالمة نسبيًّا لفتراتٍ طويلة من الزمن، ومن هنا فإن التاريخ بمفرده لا يمكن أن يفسر انهيار السلام، ولا بدَّ أن هناك عوامل أخرى تدخلت في العقود الأخيرة من القرن العشرين. أحد هذه العوامل: التغيرات التي حدثت في التوازن الديموغرافي. الاتساع العددي لجماعاتٍ ما، يولد ضغوطًا سياسية واقتصادية واجتماعية على الجماعات الأخرى، ويؤدي إلى استجابات مساوية. والأهم، أنه ينتج ضغوطًا عسكرية على الجماعات الأقل حركة من الناحية الديموغرافية.

انهيار النظام الدستوري الذي كان عمره ثلاثين عامًا في لبنان في أوائل السبعينيات، كان في جزء كبير منه نتيجة للزيادة الكبيرة في عدد الشيعة بالنسبة للمسيحيين المارون. في «سريلانكا»، يوضح «جاري فوللر» أن الانتعاشة الشديدة في الصحوة القومية السنهالية في السبعينيات، وصحوة التاميل في أواخر الثمانينيات قد تزامنتا بالضبط مع السنوات التي بلغت فيها نسبة الشباب في المرحلة العمرية من ١٥–٢٤ سنة أكثر من ٢٠٪ من التعداد الكلي للجماعة27 (انظر الشكل رقم ١٠-١).
ويشير أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في سريلانكا إلى أن المتمردين السنهاليين كانوا في الواقع كل من هو تحت العشرين، كما تقول التقارير إن «النمور لم يكن لهم مثيل في اعتمادهم على ما يمكن أن يكون جيشًا من الأطفال.» وذلك بتجنيد «الأولاد والبنات من سن الحادية عشرة» وأن الذين كانوا يقتلون في الحرب «لم يصلوا بعد إلى الثالثة عشرة وكانت قلة قليلة فقط هم الذين فوق الثامنة عشرة.» وكما لاحظت «الأوبزيرفر»: كان «النمور» يشنون «حربًا تحت السن القانونية.»28

وبنفس الأسلوب، فإن حروب خطوط التقسيم الحضاري بين روسيا والشعوب الإسلامية في الجنوب، كان الفرق الكبير في الزيادة السكانية هو الذي يدعمها.

fig14
شكل ١٠-١: سريلانكا: تضخم نسبة الشباب السنهالي والتاميل.

في أوائل التسعينيات كان معدل خصوبة النساء في الاتحاد السوفيتي الروسي ١٫٥، بينما كان في الجمهوريات الإسلامية أساسًا في الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى حوالي ٤٫٤، ومعدل الزيادة السكانية الصافية (معدل المواليد ناقص الوفيات) في أواخر الثمانينيات كان أكثر مما هو في روسيا بخمس أو ست سنوات.

الشيشان زادوا بنسبة ٢٦٪ في الثمانينيات، رغم أن شيشينيا كانت واحدة من أكثر المناطق ازدحامًا بالسكان في روسيا، معدلات الزيادة العالية تنتج مهاجرين ومقاتلين.29
بنفس الأسلوب، فإن معدلات المواليد المرتفعة بين المسلمين، والهجرة من باكستان إلى كشمير، أدَّت إلى مقاومة متجددة للحكم الهندي. العملية المعقدة التي أدت إلى حروب بين الحضارات في يوغوسلافيا السابقة كان لها عدة أسباب ونقاط ابتداء كثيرة. ربما يكون أهم عامل وحيد أدى إلى هذه الصراعات هو التحول الديموغرافي الذي حدث في «كوسوفو». كانت «كوسوفو» إقليمًا يتمتع بالحكم الذاتي داخل الجمهورية الصربية وله صلاحيات الأمر الواقع في اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الست ما عدا حق الانسحاب. في سنة ١٩٦١م كان تعداد «كوسوفو» ٦٧٪ من المسلمين الألبان و٢٤٪ من الصرب الأرثوذوكس. معدلات المواليد الألبانية كانت هي الأعلى في أوروبا على أية حال، وأصبحت «كوسوفو» هي المنطقة الأكثر ازدحامًا في يوغوسلافيا. وبحلول الثمانينيات كان حوالي ٥٠٪ من الألبان في المرحلة العمرية الأقل من ٢٠ سنة. في مواجهة هذه الأعداد، كان الصرب يهاجرون من «كوسوفو» بحثًا عن فرص للعمل في بلغراد وغيرها. ونتيجة لذلك أصبحت النسب في كوسوفو في سنة ١٩٩١م: ٩٠٪ مسلمين و١٠٪ صربًا،30 ولكن الصرب ينظرون إلى «كوسوفو» على أنها «أرضهم المقدسة» أو «أورشليم»، فهي — بين أشياء أخرى — مسرح المعركة الكبرى في ٢٨ يونيو ١٣٨٩م، عندما هُزِمُوا أمام الأتراك العثمانيين، ونتيجة لذلك قاسوا تحت الحكم العثماني لمدة خمسة قرون تقريبًا. وبأوائل الثمانينيات أدى التوازن الديموغرافي المتغير بالألبان إلى المطالبة برفع «كوسوفو» إلى وضعية جمهورية يوغوسلافية.
الصرب والحكومة اليوغوسلافية عارضوا ذلك خشية أن تنسحب «كوسوفو» بمجرد أن تحصل على هذا الحق، واحتمال أن تندمج في ألبانيا. في مارس ١٩٨١م هبت الاحتجاجات وأعمال الشغب في ألبانيا تأييدًا لمطالبتهم بوضعية الجمهورية. وكما يقول الصرب: اتسعت التفرقة وأعمال الاضطهاد والعنف ضد الصرب نتيجة لذلك. يقول أحد المعارضين الكروات: «منذ أوائل السبعينيات وما بعدها وقعت في «كوسوفو» أحداث عنف كثيرة مع تدمير للممتلكات وفقدان للوظائف ومضايقات وعمليات اغتصاب وصراعات وقتل.» ونتيجة ذلك «ادعى الصرب أن الخطر كان يأخذ شكل الإبادة الجماعية وأنهم لن يستطيعوا تحمله أكثر من ذلك». تردد صدى كرب «كوسوفو» في أنحاء صربيا وفي سنة ١٩٨٦م تمخض عن إعلان صدر عن مائتين من كبار المثقفين والسياسيين ورجال الدين والعسكريين الصرب، من بينهم محررو الصحيفة الليبرالية المعارضة «براكسز»، يطالبون الحكومة باتخاذ إجراءات حاسمة لوضع حدٍّ لعمليات الإبادة الجماعية ضد الصرب في «كوسوفو». وبأي تعريف معقول للإبادة الجماعية، كانت تلك التهمة تعتبر مبالغة شديدة، رغم قول أحد المراقبين الأجانب المتعاطفين مع الألبان: «في الثمانينيات، كان القوميون الألبان مسئولين عن عمليات الهجوم العنيفة على الصرب، وعن تدمير بعض ممتلكاتهم.»31 كل ذلك أدى إلى إيقاظ القومية الصربية، ووجد «سلوبودان ميلوسيفتش» فرصته. في ١٩٨٧م ألقى خطابًا مهمًّا في «كوسوفو» دعا فيه الصرب للمطالبة بأرضهم وتاريخهم. وعلى الفور، بدأ عدد من الصرب – شيوعيون وغير شيوعيين وربما معادون للشيوعية – في التجمع من حوله، مصممين ليس فقط على حماية الأقلية الصربية في «كوسوفو»، بل وعلى قمع الألبان وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية. وعلى الفور أصبح «ميلوسيفتش» زعيمًا قوميًّا.32

بعد عامين، في ٢٨ يونيو ١٩٨٩م عاد «ميلوسيفتش» إلى «كوسوفو» مع مليون إلى ٢ مليون صربي لإحياء الذكرى الستمائة للمعركة الكبرى، كرمز لحربهم المستمرة مع المسلمين.

إن مخاوف الصرب وقوميتهم التي أُثيرت بسبب زيادة عدد الألبان وقوتهم اشتعلت حدتها بفعل التغيرات الديموغرافية في البوسنة؛ ففي عام ١٩٦١م، مثَّل الصرب ٤٣٪ والمسلمون ٢٦٪ من سكان البوسنة والهرسك. لكن بحلول عام ١٩٩١م، انقلبت النسب تقريبًا رأسًا على عقب، فانخفضت نسبة الصرب إلى ٣١٪ وارتفعت نسبة المسلمين إلى ٤٤٪. خلال هذه السنوات الثلاثين، تراجعت نسبة الكروات من ٢٢٪ إلى ١٧٪؛ فدفع تعاظُم إحدى الجماعتين الجماعةَ الأخرى نحو التطهير العرقي. في عام ١٩٩٢م، سأل أحد مقاتلي الصرب قائلًا: «لماذا نقتل الأطفال؟» وأجاب: «لأنهم سيكبرون في يومٍ من الأيام وسيتعين علينا قتلهم آنذاك.» أما السلطات الكرواتية في البوسنة فقد اتخذت إجراءات أقل وحشية لمنع مناطقها من أن تكون «محتلة ديموغرافيًّا» من المسلمين.33

التغيرات في التوازنات الديموغرافية، وزيادة نسبة الشباب (٢٠٪ وربما أكثر) تفسر الكثير من الصراعات بين الحضارات في أواخر القرن العشرين، ولكنها لا تُفسرها كلها بالطبع.

القتال بين الصرب والكروات مثلًا لا يمكن أن يُعْزَى للديموغرافيا، وبسبب ذلك الأمر يُعزى جزئيًّا للتاريخ، فهذان الشعبان كانا يعيشان معًا في سلام — نسبيًّا — إلى أن قام «الأوستاش» الكروات بذبح الصرب ذبحَ الماشية في الحرب العالمية الثانية. هنا، وفي أماكن أخرى، كانت السياسة أيضًا أحد أسباب النزاع. سقوط الإمبراطوريات النمساوية الهنغارية، والعثمانية، والروسية، في نهاية الحرب العالمية الثانية حفز الصراعات الإثنية والحضارية بين الشعوب والدول التي خلفت تلك الإمبراطوريات.

انتهاء الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والألمانية أدى إلى نتائج مشابهة بعد الحرب العالمية الثانية. سقوط الأنظمة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا أدى إلى نفس الشيء في نهاية الحرب الباردة، لم يعد الناس يُعَرَّفُون بأنهم شيوعيون أو مواطنون سوفيت أو يوغوسلاف، بل أصبحوا في حاجةٍ ملحة لإيجاد هويات جديدة، ووجدوها في البدائل الإثنية والدينية القديمة. النظام القمعي — ولكن السلمي — للدول التي لا تؤمن بوجود إله، حلَّ محلَّه عنف الناس المؤمنين بآلهة مختلفين، وساعد على تفاقم هذه العملية حاجة الكيانات السياسية الناشئة لتبني الديمقراطية. وعندما بدأ التفكك في الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا، لم تقم النخب السياسية في السلطة بتنظيم انتخابات قومية. ولو أنهم فعلوا، لكان الزعماء السياسيون قد تنافسوا على السلطة في المركز، وحاولوا تنمية اتجاهاتٍ مُتعدِّدة الإثنية ومتعددة الحضارات لدى الناخبين، ولوضعوا تحالفات أكثرية مماثلة في البرلمان. على العكس من ذلك، تم تنظيم الانتخابات في الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا على أساسٍ عام، الأمر الذي خلق دافعًا لا يقاوم لدى الزعماء السياسيين ضد المركز، وللتوجُّه نحو القومية الإثنية، وأن ينموا استقلال جمهورياتهم. حتى في داخل البوسنة كانت الجماهير تُدلي بأصواتها على أساس خطوطٍ إثنية محددة في انتخابات ١٩٩٠م.

حزب الإصلاح المتعدِّد الإثنية، والحزب الشيوعي السابق، كلاهما حصل على ١٠٪ من الأصوات على الأقل. أصوات: حزب العمل الديمقراطي الإسلامي (٣٤٪) والحزب الصربي الديمقراطي (٣٠٪) والاتحاد الكرواتي الديمقراطي (١٨٪) اقتربت تقريبًا من نسب المسلمين والصرب والكروات في عدد السكان. أول انتخابات حرة في كل الجمهوريات السوفيتية واليوغوسلافية السابقة، فاز بها تقريبًا زعماء ذوو ميول قومية وتوجُّهات نحو العمل العنيف لحماية قومياتهم ضد الجماعات الإثنية الأخرى. المنافسات الانتخابية تُشجع النزعات القومية، ومن ثم تزيد من اتساع صراعات خطوط التقسيم الحضاري وتُحوِّلها إلى حروب، وبعبارة «بوجدان دينتش»: «عندما يُصبح الإثنيون هم العامة.»34 تكون النتيجة الأولية هي الجدل العدواني أو الحرب.

ويظل السؤال: لماذا والقرن العشرون يوشك على الانتهاء، نجد أن المسلمين هم الأكثر تورطًا في مزيدٍ من العنف بين الجماعات، من شعوب الحضارات الأخرى … وهل كانت تلك هي الحال دائمًا؟ في الماضي كان المسيحيون يقتلون إخوانهم المسيحيين وغيرهم من الناس بأعدادٍ كبيرة. إن تحليل الميل إلى العنف في الحضارات عبر التاريخ قد يتطلَّب بحثًا مطولًا ليس هذا مجاله، ومع ذلك فإن ما يمكن أن نفعله هو أن نُحدد أسبابًا ممكنة لتيار العنف الجماعي الإسلامي سواءً داخل الإسلام أو خارجه، وأن نميز بين الأسباب التي تُفسر ميلًا كبيرًا نحو العنف الجماعي في التاريخ إن وُجِد، وتلك التي تفسِّر ميلًا نحوَه في نهاية القرن العشرين فقط. هناك ستة أسباب ممكنة تطرح نفسها، ثلاثة منها تفسِّر العنف بين المسلمين وغير المسلمين، وثلاثة تفسر كلًّا من ذلك والعنف داخل الإسلام نفسه، ثلاثة أيضًا تفسر فقط الميل الإسلامي المعاصر نحوَ العنف، بينما تفسر ثلاثة أخرى ميلًا إسلاميًّا تاريخيًّا إن وُجِد.

وإذا لم يكن هذا الميل التاريخي موجودًا، فإن أسبابه المفترضة التي لا يمكن أن تفسِّر عدم وجود ميل تاريخي، يفترض أيضًا أنها لا تفسر الميل الإسلامي المعاصر نحوَ العنف الجماعي. الأخير، إذن، يمكن تفسيره فقط بأسباب القرن العشرين التي لم تكن موجودة في القرون السابقة.

جدول ١٠-٤: أسباب مُحتملَة للمَيل الإسلامي للصراع
صراع خارج الإسلام صراع داخل وخارج الإسلام
صراع تاريخي ومعاصر القرابة العسكرية
صراع معاصر عدم القابلية للهضم التضخم الديموغرافي
وضع الضحية غياب دولة المركز
  • أولًا: هناك محاجَّة أن الإسلام كان دينًا للسيف منذ البداية، وأنه يمجِّد فضائله القتالية. الإسلام نشأ بين «قبائل بدوية رُحَّل متناحِرة»، هذه «النشأة» العنيفة مطبوعة في أساس الإسلام. يذكر عن «محمد» نفسه أنه كان مقاتلًا عنيفًا وقائدًا عسكريًّا ماهرًا.35 (لا أحد يستطيع أن يقول ذلك عن المسيح أو عن بوذا). تعاليم الإسلام كما يُقال تنادي بقتال غير المؤمنين به، وعندما تراجعَ التوسُّع الأول للإسلام كانت الجماعات الإسلامية، على عكس ما تقول به التعاليم، تحارب بعضها البعض.

    نسبة «الفتنة» أو الصراعات الداخلية إلى «الجهاد» تحوَّلت إلى حدٍّ كبير لصالح الأولى. «القرآن» وغيره من الإفادات في المعتقدات الإسلامية يحوي القليل مما يحضُّ على تحريم العنف، كما أن مفهوم اللاعنف غائب عن الفكر والممارسة الإسلاميين.

  • ثانيًا: منذ نشأته في الجزيرة العربية، فإن انتشار الإسلام عبر شمال أفريقيا ومعظم الشرق الأوسط، وفيما بعد إلى آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية والبلقان، وضع المسلمين في احتكاك مباشر مع شعوبٍ مختلفة شتى، هُزِمَت وتحولت ويظلُّ ميراث هذه العملية موجودًا بها. في أعقاب الفتوحات العثمانية في البلقان، تحول السلافيون الشماليون المدينيون غالبًا إلى الإسلام، بينما لم يتحوَّل فلاحو الريف. وهكذا وُلِد التمييز بين مُسلمي البوسنة والصرب الأرثوذوكس. وبالعكس، فإن توسع الإمبراطورية الروسية إلى البحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى، وضعها في صراعٍ مستمر لعدة قرون مع شعوبٍ إسلامية مختلفة. رعاية الغرب، في قمة قوته في مواجهة الإسلام، لوطنٍ يهودي في الشرق الأوسط وضعت الأساس لعداء عربي إسرائيلي مُستمر.

وهكذا فإن التوسُّع الإسلامي وغير الإسلامي عن طريق البر نتج عنه معيشة المسلمين وغير المسلمين في تقاربٍ فيزيائي وثيق في أوراسيا. وعلى العكس من ذلك فإن توسُّع الغرب عن طريق البحر لم يؤد دائمًا إلى معيشة الشعوب الغربية في تقاربٍ مكاني مع شعوب غير غربية: فقد كانت تلك إما خاضعة لحكم أوروبا، أو — باستثناء جنوب آسيا — كان المستوطنون الغربيون يقومون بإبادتها فعلًا. مصدر ثالث ممكن للصراع بين المسلمين وغير المسلمين، يتضمن ما يقوله رجل دولة بالإشارة إلى بلاده ويُسميه «عدم القابلية للهضم لدى المسلمين». عدم القابلية للهضم على أية حال عملية ذات وجهَين: الدول الإسلامية لها مشكلات مع الأقليات غير الإسلامية تُشبه تلك التي عند غير الإسلامية بالنسبة للأقليات المسلمة. الإسلام عقيدة أكثر استبدادية حتى من المسيحية. الإسلام يمزج بين الدين والسياسة ويضع فاصلًا حادًّا بين أولئك في «دار الإسلام» وأولئك في «دار الحرب». ونتيجة لذلك فإن الكونفوشيين والبوذيين والهندوس والمسيحيين الغربيين والمسيحيين الأرثوذوكس يجدون صعوبةً أقل في التكيف والعيش معًا، عما يجده أيٌّ منهم في التكيف والعيش مع المسلمين. الصينيون الإثنيون مثلًا وهم أقلية اقتصادية مسيطرة في معظم دول جنوب شرق آسيا، تم استيعابهم بنجاح في مجتمعات تايلاند البوذية والفلبين الكاثوليكية، ولا يُوجَد بالفعل أي دلائل عنف ضدَّهم من قِبل الأكثرية في تلك المجتمعات. وبالعكس، فإن أعمال الشغب و/أو العنف قد وقعت في إندونيسيا المسلمة وماليزيا المسلمة، ويظل دور الصينيين في تلك المجتمعات حساسًا، كما يظل قضيةً قابلة للانفجار وبشكلٍ لا مثيل له في تايلاند والفلبين.

النزعة القتالية، عدم القابلية للهضم ولفكرة القرب من جماعات غير إسلامية … كل ذلك ملامح مُستمرة للإسلام ويمكن أن تفسِّر الميل الإسلامي للصراع عبر التاريخ إذا كان الأمر كذلك. هناك ثلاثة أسباب أُخرى محدودة وزائلة، قد تُساهِم في تفسير هذا الميل في أواخر القرن العشرين. أحد التفسيرات وهو التفسير الذي يُقدمه المسلمون: أن الاستعمار الغربي وإخضاع المجتمعات الإسلامية في القرن التاسع عشر والعشرين، قد صنعا صورة عن الضعف العسكري والاقتصادي للمسلمين، ومن هنا شجع الجماعات غير الإسلامية أن تنظر إلى المسلمين كهدفٍ مغرٍ. المسلمون، طبقًا لهذه المحاجة، ضحايا تعصُّبٍ واسع مُعادٍ للمسلمين يُشبه معاداة السامية التي سادت المجتمعات الغربية تاريخيًّا. الجماعات الإسلامية مثل الفلسطينيين والبوسنيين وأهالي كشمير والشيشان — كما يزعم «أكبر أحمد» — يشبهون «الهنود الحمر، جماعات منبوذة، مجزوزة الكرامة، معتقلة فوق بقايا من أرض الأجداد.»36

محاجَّة «المسلم كضحية» على أية حال، لا تُفسِّر الصراعات بين الأغلبيات المسلمة والأقليات غير المسلمة في دولٍ مثل السودان ومصر وإيران وإندونيسيا. وهناك عامل آخر يبدو أكثر إقناعًا، ويمكن أن يفسر كلًّا من الصراعات داخل وخارج الإسلام، وهو غياب دولة مركز أو أكثر في الإسلام.

المدافعون عن الإسلام يزعمون دائمًا أن نُقَّاده الغربيين يعتقدون أن هناك قوةً مركزية تآمُرية موجهة، تُعبئ الإسلام وتُنسِّق بين أعماله ضد الغرب والآخرين. إذا كان النقَّاد يعتقدون ذلك فهم مخطئون. الإسلام مصدر عدم استقرار لأنه ينقُصُه وجود مركز مُسيطر. الدول الطامحة لزعامة الإسلام مثل السعودية وإيران وباكستان، وربما إندونيسيا، تتنافس على النفوذ في العالم الإسلامي. لا أحد منها في موقفٍ قوي ليتوسَّط في الصراعات داخل الإسلام، ولا أحد منها يستطيع أن يعمل بسلطة نيابة عن الإسلام في تناول الصراعات بين الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية. وأخيرًا، وهو الأكثر أهمية، ذلك الانفجار الديموغرافي في المجتمعات الإسلامية، ووجود أعدادٍ كبيرة من الشباب الذكور بين ١٥ و٣٠ سنة والعاطلين غالبًا عن العمل. هذه البطالة مصدر طبيعي لعدم الاستقرار والعنف سواء داخل الإسلام أو ضد غير المسلمين. ومهما كان من أسبابٍ أُخرى هناك، فإن هذا العامل وحدَه قد يصمد طويلًا لتفسير العنف الإسلامي في الثمانينيات والتسعينيات. إنَّ تقدُّم هذا الجيل البائس في العمر بحلول العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، والنمو الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية إذا حدث، وعندما يحدُث، قد يؤدي في النهاية إلى تخفيضٍ هائل في الميول الإسلامية للعنف، وبالتالي إلى انخفاضٍ عامٍّ في عدد حروب خطوط التقسيم الحضاري ودرجة حدتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤