الفصل الأول

مقدمة

الحياة الحديثة تجربة إعلامية

لماذا ندرس الإعلام؟ الجواب واضح للغاية لدرجة أن العديد من الأكاديميين والتربويين يُغفلون أهميته القصوى. يلعب الإعلام دورًا حيويًّا في الحياة اليومية في القرن الحادي والعشرين؛ بل الأكثر من ذلك أن الإعلام هو العدسة التي من خلالها نرى العالم وما نعتبر أنه واقع ذلك العالم.

وأي ملاحظةٍ سريعةٍ لأطفال اليوم سوف تكشف الأهمية المحورية لوسائل الإعلام لا في التأثير على حياتهم فحسب بل في تكوينها. إن ابنتنا البالغة من العمر خمسة عشر عامًا تستيقظ في الصباح وتُشغل جهاز الكمبيوتر والراديو في الوقت نفسه. وبينما ترسل الرسائل النصية لصديقاتها قبل الذهاب إلى المدرسة، فإنها تُحمِّل أغانيَ جديدةً إلى مشغل الأغاني الخاص بها. وعندما تعود إلى المنزل تستخدم جهاز الكمبيوتر في أداء الواجبات المنزلية، بينما تتابع أصدقاءها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.

أما ابننا البالغ من العمر أحد عشر عامًا فينهض من فراشه مبكرًا جدًّا بحيث يكون لديه ساعتان لممارسة ألعاب الكمبيوتر قبل أن يُبعده النظام المدرسي عنها لبضع ساعات. وعندما نسأله عن سبب حُبه للَّعب من خلال أجهزة الكمبيوتر، يقول إن اللعب مع الأطفال الآخرين أكثر متعة. ولكن عندما لا يكونون موجودين، فإن الكمبيوتر يُقدِّم تقريبًا القدر نفسه من المتعة والتفاعلية، لا سيما عند ممارسة الألعاب على الإنترنت. وفي الواقع، الكمبيوتر أكثر متعةً بكثيرٍ من الإمكانات التي تُقدِّمها له وسائل الإعلام القديمة؛ ففي رأيه، مشاهدة التليفزيون أو قراءة الكتب نشاط سلبي للغاية. ومن نافلة القول أن الطفلين كثيرًا ما يشاهدان مقاطع الفيديو أو يشاهدان التليفزيون كجزءٍ من الروتين المدرسي اليومي. وهكذا تمضي أيامهما.

وبالنسبة إلينا، غالبًا ما يكون أول عملٍ في الصباح هو استعراض البريد الإلكتروني وتفقُّد الرسائل الواردة. وعندما نُشغل الكمبيوتر يتيح لنا ذلك أيضًا تصفُّح عدد اليوم من صحيفة نيويورك تايمز، وفي هذه الأثناء ربما نُشغل الراديو ونستمع إلى الإذاعة الوطنية العامة، كي نستمع إلى الأخبار أو الموسيقى. وإذا ما تمشَّينا إلى الباب الأمامي نحصل على نسخةٍ مطبوعةٍ من صحيفة واشنطن بوست. فقبل أن يُفيق أيٌّ منا نحن الأربعة تمامًا، نكون قد انغمسنا في وسائل الإعلام: القديمة والجديدة، المطبوعة والإلكترونية، المسموعة والمرئية، السلبية والتفاعلية، المتزامنة وغير المتزامنة.

هذه هي عادات أسرةٍ واحدةٍ فقط، ولكنها عادات تزداد شيوعًا في الولايات المتحدة. ويجد مُزوِّدو خدمة الإنترنت — الذين اعتادوا أن يشهدوا زيادة نسبة استخدام الشبكة فقط في بداية يوم العمل — أن نسبة الاستخدام ترتفع الآن «مثل الصاروخ» في الساعة السابعة صباحًا؛ إذ يَستخدم البالغون والأطفال الإنترنت بمجرد أن يستيقظوا (ستون ٢٠٠٩). إن تجربة عيش حياتنا بين فترات استخدام وسائل الإعلام تتحوَّل سريعًا إلى واحدةٍ من الظروف الحياتية العامة بالتأكيد في العالمَين المتقدِّم والنامي، وعبر الثقافات، والطبقات الاجتماعية والعرقية.1 وهذا الانتشار الكلي لوسائل الإعلام في العالم الحديث هو ما نسعى إلى توضيحه لقُرائنا، مع وصفنا لمجال الدراسات الإعلامية الأكاديمي الجديد وما يُقدِّمه لنا جميعًا بينما نخوض غمار الحياة العصرية؛ فنتناول كيفية تأثير الوجود الدائم لوسائل الإعلام على جميع أبعاد حياتنا، وكيف أن «الطريقة» التي كانت توجد بها وسائل الإعلام دائمًا قد تغيرت تغيرًا هائلًا خلال العقود القليلة الماضية.

ثَمَّةَ مقارنة صغيرة ستساعدنا على تجاوُز أسرتنا والوقت الذي نعيشه في تاريخ وسائل الإعلام كي نُبرز على نحوٍ عامٍّ للغاية كيفيةَ عمل وسائل الإعلام على هيكلة تجربتنا، وكيف تَغير دور الإعلام تغيرًا جذريًّا على مدى القرن الماضي.

(١) قصة إعصارَين

ضرب الإعصار الولايات المتحدة برياحٍ تصل سرعتها إلى أكثر من ١٤٥ ميلًا في الساعة، بانخفاضٍ طفيفٍ عن مستوياتها فوق المياه المفتوحة التي بلغت الفئة الخامسة، الأعلى على مقياس الأعاصير. وعلى الرغم من تداول تحذيرات الإجلاء لعدة أيامٍ وإخلاء الأحياء الغنية، تخلَّف سكانٌ آخرون — معظمهم من الفقراء والسود — في المنطقة. بعد ساعات، وبعدما مرَّت العاصفة، بدت الأضرار الناجمة عن الرياح والأمطار في البداية خطيرة، ولكنها لا ترقى لأن تكون كارثية. للأسف، لم يكن ذلك هو الحال؛ إذ انهارت الحواجز الترابية المقامة لاحتواء بحيرةٍ ضخمة، وبينما ارتفعت مياه الفيضان، الْتمس الأشخاص اليائسون الأمان في عُلِّيَّات المنازل وعلى أسقف منازلهم الغارقة. مات آلاف الأشخاص في واحدةٍ من أسوأ الكوارث الطبيعية في التاريخ الأمريكي.

كانت الاستجابة الحكومية بطيئةً وغير كافية؛ حيث أُرهقت سلطات الولاية والسلطات المحلية بسرعة، وبدا أن الحكومة الاتحادية قد اختفت. وأثارت حقيقة أن أكثر القتلى كانوا من الفقراء والسود تساؤلاتٍ حول العنصرية في كلٍّ من جهود الإخلاء والإنقاذ. وفي حين أن هذه القضايا نُسيت بسرعةٍ من قِبل المجتمع الأبيض والمجتمع الأكبر، فإنها ظلت مصدرًا للمرارة في مجتمع السود.

ربما يشير هذا الوصف إلى إعصار كاترينا الذي ضرب ساحل الخليج عام ٢٠٠٥، والذي نعرفه جميعًا (لأن معظمنا تابعه في الإعلام)، لكنه يصف في الواقع إعصارًا آخر ضرب ولاية فلوريدا عام ١٩٢٨.2 يُسمَّى هذا الإعصار أحيانًا «الإعصار المنسي» وخلَّف وراءه ٢٥٠٠ حالة وفاة، وهو ثاني أكثر الأعاصير فتكًا في تاريخ الولايات المتحدة؛ فيحل في المركز الثاني بعد إعصار جالفستون عام ١٩٠٠، الذي تَسبَّب في وفاة ٨٠٠٠ شخص. وعلى سبيل المقارنة، يُقدَّر عدد قتلى كاترينا بحوالي ١٦٠٠ شخص. إن تأمُّل أوجُه الشبه والاختلاف بين إعصارَي عام ٢٠٠٥ و١٩٢٨ يساعد على تقديم العديد من النقاط الرئيسية التي نريد توضيحها حول الدراسات الإعلامية في بقية هذا الكتاب.
في المقام الأول والأهم على الأرجح، تأمَّل الاختلافات الشاسعة في حالة الإعلام عام ١٩٢٨ مقارنةً بعام ٢٠٠٥. تتبَّعت الأقمار الصناعية وطائرات البحث إعصار كاترينا، وكانت تتواصل باستمرارٍ مع دائرة الأرصاد الجوية الأمريكية التي نقلت على الفور تقريبًا المعلومات عن العاصفة إلى الجمهور عن طريق الإذاعة والتليفزيون والإنترنت، وغيرها من وسائل الاتصال. كانت التحديثات حول وجهة العاصفة وشدتها متواصلةً وتكاد تكون فورية، وكان من السهل إرسال التوجيهات بشأن التحضير للعاصفة — وأوامر الإخلاء في نهاية المطاف — من قِبل السلطات إلى المواطنين القلقين الذي يعيشون في المناطق التي سيضربها الإعصار.3 ولم تقتصر المعلومات حول العاصفة والاستعدادات لبلوغها اليابسة على أولئك الذين يعيشون في تلك المناطق، بل نُقلت أيضًا على الفور إلى المستمعين والمشاهدين في أنحاء العالم كافةً.

ثم تأمَّل الاختلاف الكبير في وضع وسائل الاتصال عام ١٩٢٨. كانت المعلومات عن عاصفة عام ١٩٢٨ متناثرةً وغير دقيقةٍ في كثيرٍ من الأحيان وقديمةً إلى أبعد حد؛ إذ كانت السفن في عرض البحر تنقل معلومات العاصفة عبر اللاسلكي حينما تستطيع (أي عندما لا تكون قد تعرضت للغرق). جاءت معظم البيانات من مكاتب التلغراف والمحطات الأرضية اللاسلكية استنادًا إلى تقارير من محطات الأرصاد الجوية المحلية في جزر الأطلنطي التي دمَّرتها العاصفة قبل أن تضرب فلوريدا. وفي مرحلةٍ ما، «لم تعد» دائرة الأرصاد الجوية تتبع مسار العاصفة عندما دُمرت مرافق الاتصالات في بورتوريكو. وتسبَّب عدم القدرة على تتبُّع العاصفة بدقةٍ في زيادةٍ كبيرةٍ في عدد القتلى والجرحى بولاية فلوريدا؛ فعندما لم يظهر الإعصار بعد ساعاتٍ من موعد ظهوره المتوقَّع (بناءً على التحذيرات القديمة وغير الدقيقة)، ترك الناس الأماكن التي احتمَوْا بها، وعندما ضرب الإعصار بالفعل، كان الكثيرون في مواقع معرَّضة للخطر.

يجب دراسة مفهوم «التحذير» في حد ذاته ها هنا في ضوء الاختلافات الكبيرة في وسائل الإعلام بين عام ١٩٢٨ والوقت الراهن؛ فمن المسلَّم به بالنسبة إلينا أنه بمجرد اطلاع السلطات على معلوماتٍ حيوية، فإن هذه المعلومات ستُنشر بسرعةٍ عبر القنوات الإعلامية المتاحة على نطاقٍ واسع. في عام ١٩٢٨، لم تكن تلك القنوات موجودة (مثل التليفزيون، والهواتف المحمولة، والإنترنت)، أو لم تكن متاحةً إلا لعددٍ قليلٍ جدًّا (مثل الهاتف والراديو). كانت التحذيرات من الأعاصير تُرسَل عبر الصحف (ونتيجةً لذلك، كانت تصل بعد فوات الأوان بساعاتٍ أو حتى أيام)، أو عن طريق الهاتف (في إحدى مدن ولاية فلوريدا، كان هناك هاتف واحد فقط، وكان على مالكه الذهاب من منزلٍ إلى منزلٍ في محاولةٍ لتحذير جيرانه الأربعمائة)، أو عن طريق الإذاعة (والتي كانت متاحةً بدورها لنسبةٍ صغيرةٍ فقط من سكان فلوريدا)، أو الأعلام التي يُلوح بها الأفراد من على قمم المباني العامة. وكان معظم سكان فلوريدا، لا سيما الفقراء منهم الذين يعيشون في المجتمعات الريفية، بعيدين عن نطاق أي قنوات اتصالٍ جماهيرية، وكانوا مضطرين إلى الاعتماد على الشائعات التي تنتقل من أسرةٍ إلى أسرة.

إن تنظيم الإغاثة العاجلة للمنطقة المنكوبة هو قضية حياةٍ أو موت؛ فكلما زادت سرعة الاستجابة، أُنقذ المزيد من الأرواح. في عام ١٩٢٨ توقَّفت الحكومات المحلية عن العمل بسبب العاصفة، ولم تَرِدْ معلومات حول تأثير العاصفة إلى حكومة ولاية فلوريدا لما يزيد عن يوم. وظلت الحكومة الاتحادية بلا معلوماتٍ لمدةٍ أطول من ذلك.4

كانت المعلومات حول العاصفة بطيئةً في الوصول إلى جمهورٍ أكبر، ولم تظهر المقالة الأولى حول العاصفة في صحيفة نيويورك تايمز حتى ١٨ سبتمبر؛ أي بعد يومين من ضربها لفلوريدا. وحتى حينها، كانت الحقائق الأوَّلية الواردة غير دقيقةٍ إلى حدٍّ كبير (فقد قُدِّر في البداية أن ٢٤ شخصًا ماتوا غرقًا بالقرب من بحيرة أوكي تشوبي). وفي الأيام التالية، واصلت تقديرات عدد القتلى الارتفاع (وصلت إلى ٨٠٠ شخصٍ في مقالة الصفحة الأولى في جريدة تايمز في ٢١ سبتمبر). وعلى سبيل المفارقة، في الوقت الذي أصبحت المعلومات الدقيقة عن حجم الكارثة متاحة، لم يَعُد الخبر من أخبار الصفحات الأولى في الصحف؛ فقد ظهر تقرير في جريدة تايمز أفاد أن ما يُقدَّر بنحو ٢٥٠٠ شخصٍ (وهو عدد قريب مما نعتقد الآن أنه كان حصيلة ضحايا العاصفة) قد لَقُوا حتْفهم في ٢٢ سبتمبر، ولكنه كان مطبوعًا في الصفحة العاشرة من الصحيفة. وبحلول ٢٨ سبتمبر، انتقلت أخبار آثار العاصفة إلى صفحة ٣٨.

عمومًا، كانت التغطية الصحفية لهذه الكارثة الهائلة متقطعةً خارج المنطقة المنكوبة. وهي على طرف النقيض من التركيز الشديد على إعصار كاترينا في جميع أشكال وسائل الإعلام التي نراها طبيعيةً في الوقت الراهن؛ مثل التليفزيون والإذاعة والإنترنت ووسائل الإعلام المطبوعة. بينما في عام ١٩٢٨ لم يكن أحد ممن يعيشون خارج المنطقة المنكوبة ليهتمَّ بهذا الحدث تقريبًا؛ فإن الأمر كان مختلفًا فيما يتعلق بالحدث الإعلامي الذي وقع عام ٢٠٠٥. نعني بمصطلح «حدث إعلامي» واقعةً جذبت اهتمام جميع وسائل الإعلام، المطبوعة والإلكترونية، بما فيها الإنترنت. مثل هذا الحدث يتطلب منا «انفصالًا» فعليًّا عن الحياة العادية، وأن نُوليَه اهتمامًا إلى حدٍّ ما. إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر ومصرع الأميرة ديانا وغزو العراق كانت جميعها أحداثًا إعلامية. ومفهوم الحدث الإعلامي أمر ضروري لفهم دور الإعلام في الحياة الحديثة، وهو مفهوم رئيسي في مجال الدراسات الإعلامية.5

على الرغم من أن مقارنة إعصارَي ١٩٢٨ و٢٠٠٥ تُسلط الضوء على التحسينات الهائلة في طريقة إنتاج المعلومات ونشرها، فإن هذا لا يعني أن التغييرات في مجال الاتصالات أدَّت إلى تحسيناتٍ في جوانب المجتمع الأمريكي الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، من ناحية قضايا العرق والطبقات الاجتماعية، فإن العديد من جوانب الإعصارَين كان متشابهًا على نحوٍ ملحوظٍ ويعكس استمراريةً مهمةً في المجتمع الأمريكي من ١٩٢٨ وحتى الوقت الحاضر. وهذه الاستمرارية — على الرغم من التغيرات الجذرية في سماتٍ معينةٍ لتكنولوجيا الاتصالات — تُوضح كيف يؤثر الإعلام ويتأثر «على حدٍّ سواء» بالبِنى التي تُشكل المجتمع.

إن الإعلام الأمريكي — على غرار بقية المجتمع الأمريكي — لديه على أحسن تقديرٍ نجاحاته وإخفاقاته فيما يتعلق بالتعامل مع قضايا التفرقة العرقية والاقتصادية. ومع ذلك، كان أحد أكثر الجوانب لفتًا للنظر في التغطية الإعلامية لإعصار كاترينا هو أنه بفضل وجود الكاميرات والصحفيين الذين يُقدِّمون تقارير مباشرة من موقع الحادث، لم يكن هناك مفرٌّ من بث صورٍ وقصصٍ بالغة التأثير توضح إلى أي مدًى كان معظم الضحايا من الفقراء والسود. وكما قال المعلق جاك كافرتي من شبكة سي إن إن، أصبح العرق «مشكلة واضحة وضوح الشمس» (ديلي كوس ٢٠٠٥).

هذا النوع من التعليقات والقصص العاطفية القادمة من نيو أورليانز، والتي تسلط الضوء على محنة السكان السود والفقراء الذين تُرِكُوا أثناء إخلاء المدينة، حفَّز حوارًا وطنيًّا (حتى وإن كان حوارًا قصير الأمد) بشأن محنة الطبقة الدنيا السوداء في الكثير من المدن الأمريكية الداخلية؛ فقد أثارت تساؤلات حول خطط الإخلاء التي حتَّمت التخليَ عن العديد من سكان المدينة الفقراء عبر اعتمادها الرئيسي على السكان الذين يمتلكون سياراتهم الخاصة. وكذلك كان الأشخاص الذين أُجبروا على الاعتماد على المرافق العامة الكريهة والمزدحمة جدًّا — مثل ملعب نيو أورليانز سوبردوم — معظمهم من الفقراء والسود. لم تُثِر التغطية الإعلامية لعاصفة عام ١٩٢٨ أي حواراتٍ وطنيةٍ من هذا القبيل.

على الرغم من أن هذا التفاوت الصارخ في معاملة الأغنياء والفقراء بدا صادمًا للصحفيين والكثير من المشاهدين عام ٢٠٠٥، فإن التاريخ الطويل لذلك التفاوت في مواجهة الكوارث الطبيعة كان سيصبح أوضح بكثيرٍ لو لم يُنسَ إعصار عام ١٩٢٨. في عاصفة عام ١٩٢٨، كان العرق والطبقة عاملَي تحديدٍ مهمَّين لمَن نجا ومَن لقيَ حتفه؛ فمن بين ٢٥٠٠ حالة وفاة، كان ثلاثة أرباع هذا الرقم تقريبًا من السود (معظمهم من المزارعين وعمال المزارع المهاجرين الذين يعملون ويعيشون في شمال وجنوب حواجز البحيرة التي انهارت). وفي المقابل، لم يتكبَّد المجتمع الأبيض المفرط الغنى في بالم بيتش سوى عددٍ قليلٍ من حالات الوفاة، ويرجع السبب في ذلك إلى تمتُّعهم بقدرةٍ أكبر على الوصول إلى المعلومات المتاحة (الفجوة ها هنا ليست رقمية، بل فجوة في الاتصالات والمعلومات)، من بين أمورٍ أخرى.

في كلتا الحالتين، أثارت جهود الإنقاذ وإعادة الإعمار على نحوٍ متماثلٍ تساؤلاتٍ حول العرق والطبقة؛ ففي حالة إعصار كاترينا، اتَّهم الكثيرون الحكومةَ الاتحاديةَ ببطء الاستجابة بسبب فقر الضحايا وانتمائهم العرقي. وفي عام ١٩٢٨، حُجزت التوابيت للضحايا البيض، بينما دُفن معظم الضحايا السود في مقابرَ جماعيةٍ لا تحمل علاماتٍ مميزة. وبالمثل، أُجبر العديد من الناجين السود تحت تهديد السلاح على العمل في جهود إعادة الإعمار. ونظرًا لضخامة العاصفة وأهوال عواقبها، تساءل إليوت كلاينبيرج (٢٠٠٣) — الذي ألَّف أحد أهم الكتب وأدقها حول إعصار عام ١٩٢٨ — عما إذا كانت هذه الكارثة ستتلاشى تمامًا من الذاكرة العامة لو كانت الغالبية العظمى من الضحايا من البيض أم لا.

أحد أسباب هذا «النسيان» شبه التام لإعصار عام ١٩٢٨ هو الطرق التي هيمنت بها، ولا تزال تهيمن، القضايا التي تهم الأمريكيين البيض من الطبقة المتوسطة على المنظومة الإعلامية. وينطبق هذا على الأخبار فضلًا عن الأشكال التي لا تُعد ولا تُحصى من وسائل الترفيه ذات الشعبية التي تساعد في تشكيل وعي واهتمام معظم الأمريكيين. وبالنظر إلى طرق معالجة قضايا العرق والطبقة — أو بعبارةٍ أدق: طرق تجاهُلها — فإنه ليس من المستغرب قدرة المجتمع على تجاهُل ظروف الأمريكيين السود الفقراء عام ٢٠٠٥ بنفس سهولة عام ١٩٢٨.

في الوقت نفسه، يمكن للثقافة الشعبية في بعض أشكالها أن تكون بمنزلة مستودعٍ للذكريات والمخاوف التي غفلت عنها وسائل الإعلام العامة (ليبسيتس ٢٠٠١). وبينما يحاول كثير من وسائل الإعلام رسم صورة حياة الطبقة المتوسطة البيضاء كنموذجٍ للحياة في أمريكا، فإن بعض أشكال الثقافة الشعبية تستطيع أيضًا أن تُعبِّر عن جماهير الأعراق أو القوميات أو نوع الجنس، أو الطبقات الاجتماعية الأخرى الأقل عددًا وتجتذبها. على سبيل المثال، لا تزال ذكريات الإعصار المنسي حيةً في أذهان قراء رواية عام ١٩٣٧ الشهيرة «عيونهم كانت تُراقب الرب» لزورا نيل هيرستون؛ وهي كاتبة سمراء شهيرة وُلدت في فلوريدا. وكما ذكرنا سابقًا، على الرغم من أن ذكرى عاصفة عام ١٩٢٨ قد تلاشت من أذهان عامة الناس، فإن المرارة إزاء المعاملة المتفاوتة التي تلقَّاها السود ظلت باقيةً لدى أُسَر السود التي ما زالت تعيش في المدن المنكوبة. ويتجلى الدليل على طول بقاء هذه المرارة في الاحتجاجات التي أدَّت إلى وضع أنصابٍ تذكاريةٍ فوق مواقع المقابر الجماعية عام ٢٠٠٢ (انظر شكل ١-١).
fig1
شكل ١-١: طريقتان مختلفتان لتذكُّر «الإعصار المنسي». على اليسار، رواية «عيونهم كانت تراقب الرب» لزورا نيل هيرستون، وعلى اليمين اللوحة التذكارية التي وُضعت عام ٢٠٠٢ لتكريم ضحايا الفيضان الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية الذين دُفنوا في مقابر جماعية.
باختصار، تُسلط قصة هذين الإعصارَين الضوء على العديد من النقاط التي سنُركز عليها في هذا الكتاب. النقطة الأولى والأكثر أهميةً هي أن الإعلام مهم؛ فمعالم بيئة الإعلام التي نعيش فيها تُحدِّد ما نعرفه عن العالم؛ وبالتأكيد، تُحدِّد بدرجةٍ كبيرةٍ فهمنا للواقع؛ ففي أقصى الظروف، يمكن أن يكون الوصول إلى وسائل الإعلام مسألة حياةٍ أو موت. من الواضح أن القدرة على الوصول إلى الهاتف والراديو عام ١٩٢٨ حدَّدت من نجا ومن لقيَ حتفه. وتَرجع الفروق الشاسعة بين مأزق السود الفقراء والبيض الأغنياء عام ١٩٢٨ على الأقل جزئيًّا إلى امتلاك الأغنياء لأحدث تقنيات الاتصالات. وهذا صحيح في الوقت الراهن أيضًا؛ فبينما نؤسس — على نحوٍ متزايد — الحياة العصرية على افتراض أن الجميع سوف يتمكَّنون من الوصول إلى أحدث أشكال وسائل الإعلام، فقد يتسبَّب افتقاد إمكانية الوصول إليها في عواقب وخيمة.6

ثانيًا، بيئة الإعلام الجديدة التي نعيش فيها قَسمت الجماهير بطرقٍ لم يكن من الممكن تصوُّرها حتى قبل ٢٥ عامًا؛ فالجمهور الواحد الضخم الذي ميَّز العصر الذهبي للتليفزيون أصبح شيئًا من الماضي. إن الأشكال الجديدة من تكنولوجيا الاتصالات تؤدي إلى زيادة استهلاك كلٍّ منا لوجبةٍ إعلاميةٍ تختلف عن الباقي؛ فما نشاهده ونستمع إليه ونفكر فيه (ووقت المشاهدة والاستماع والتفكير) يختلف على نطاقٍ واسعٍ عبر مختلِف شرائح الجمهور (تيرو ١٩٩٧، ٢٠٠٦؛ سَنستين ٢٠٠١). وبينما قد توجد مجموعات من الأشخاص المهتمين بمتاعب السود في المدن الداخلية، أو بتأثير تغيُّر المناخ على الأعاصير، يمكن لهؤلاء الأشخاص التعامُل مع الإعلام على نحوٍ يُلبي اهتماماتهم دون الاضطرار أبدًا إلى مصادفة الجمهور الأوسع، الذي يعرف القليل عن هذه القضايا و(ربما) يبدي اهتمامًا أقل بها؛ ونتيجةً لذلك، عندما تقع الأحداث الإعلامية التي تدفع جميع أشكال وسائل الإعلام التي لا تُعد ولا تُحصى إلى التركيز على الموضوع نفسه — سواءٌ أكان إعصار كاترينا، أم هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، أم الحملة الانتخابية الرئاسية — فإنها تصبح لحظات نادرة في الحوار العام حول المسائل الحيوية التي تتجاهلها عادةً الغالبيةُ العظمى من وسائل الإعلام والجماهير الذين يستخدمونها.

أخيرًا، على الرغم من أهمية وسائل الإعلام، فمن المهم أن ندرك أنها ليست كل ما يُهم. إن تركيزنا على قضايا العنصرية والطبقية وعدم المساواة بين الجنسين يُذكِّرنا بأن بعض المشكلات والقضايا الاجتماعية لا تزال مستمرة، على الرغم من التغييرات الجذرية في وسائل الإعلام التي أصبحت جزءًا من حياتنا جميعًا. وقبل الانتقال إلى دراسةٍ أعمق لوسائل الإعلام حاليًّا وطرق اختلافها عن وسائل الإعلام في الماضي القريب والبعيد، سنسلط الضوء أولًا على العديد من المفاهيم الأساسية التي سنستخدمها عبر هذا الكتاب.

(٢) ما هي بيئة الإعلام؟

في الدراسات الإعلامية، نُعرِّف «بيئة الإعلام» بأنها تكنولوجيا الاتصالات المعينة المستخدَمة (على سبيل المثال، أجهزة الكمبيوتر الشخصية والصحف والتليفزيون)، والهيكل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تُستخدم هذه التكنولوجيات ضمنه (على سبيل المثال، كيف تُمتلك وسائل الإعلام، وكيف يمكن للأفراد فعليًّا استخدامها من أجل مجموعةٍ واسعةٍ من الأغراض، وما اللوائح الحكومية التي تؤثر عليها). هذا أمر حيوي؛ لأنه من أجل فهم الإعلام، فإننا بحاجةٍ إلى معرفة ما هو أكثر بكثيرٍ من خصائص التكنولوجيات المحددة المتاحة والمستخدمة. كما رأينا في مثال إعصار عام ١٩٢٨، فإن معرفة أن الإذاعة والهاتف كانا متاحَين تخبرنا بالقليل عن طرق استخدامهما في أوقات الأزمة؛ لأنهما كانا متاحَين على نحوٍ متفاوتٍ لقطاعاتٍ من السكان نتيجةً لعدم المساواة الاقتصادية والعرقية.

لذلك يستقي باحثو الدراسات الإعلامية معلوماتٍ من المجالات الأخرى في كلٍّ من العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ فيساعدنا علم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم الاقتصاد في مناقشة أنواع السياقات المختلفة التي تعمل فيها وسائل الإعلام. على سبيل المثال، يساعدنا علماء الاجتماع في تحديد السياق الاجتماعي لوسائل الإعلام من خلال منحنا فهمًا نظريًّا وتجريبيًّا لمؤسساتٍ مثل الأسرة والمدرسة والحكومة والكنيسة؛ فوسائل الإعلام تعمل داخل هذه البِنى الاجتماعية كافةً وتؤثر فيها. علاوةً على ذلك، تُعد هذه المؤسسات مصدر القيم والاتجاهات التي تؤثر على طريقة تفكيرنا في الإعلام في حياتنا اليومية واستخدامه. وثَمَّةَ قضايا على غرار ما هي البرامج التليفزيونية المناسبة للأطفال، وما إذا كانت شبكة الإنترنت آمنة أم خطيرة، ومَن الذي ينبغي أن يتوافر لديه اتصالٌ بشبكة الإنترنت في المنزل؛ تتأثر جميعها بالاتجاهات والقيم الاجتماعية التي يدرسها علماء الاجتماع.

تركز العلوم السياسية على مؤسسات الحكومة وممارسة السلطة؛ وتدرس كيفية اتخاذ القرارات السياسية والقوى التي تؤثر على النظام السياسي، مثل التصويت والنشاط السياسي والحملات والأحزاب السياسية وما شابه ذلك. تؤثر العملية السياسية على عمل المؤسسات الإعلامية؛ حيث إنها تُحدد اللوائح والقوانين التي تعمل تحت مظلتها. وكذلك في الوقت نفسه، تلعب وسائل الإعلام دورًا رائدًا في تقديم المعلومات للجمهور عن العملية السياسية نفسها، وفي تمكين المشاركة والتنظيم، وفي نواحٍ أخرى أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، يتلقَّى الأمريكيون جميع معلوماتهم تقريبًا عن الحملات الانتخابية الطويلة — بدءًا من المعلومات حول الانتخابات التمهيدية، ثم المؤتمر الذي يعقده كل حزبٍ، وحتى الحملة الانتخابية الفعلية نفسها، ونتائج التصويت ليلة الانتخابات — من خلال أحد أنواع وسائل الإعلام؛ سواءٌ أكان من الأشكال القديمة مثل التليفزيون والراديو والصحف، أم الأشكال الأحدث مثل الإنترنت والهواتف الخلوية.

في الوقت نفسه، القرارات السياسية المتخَذة من قِبل النظام السياسي تُشكل طبيعة تلك القنوات الإعلامية المختلفة وأنواع المعلومات التي تتدفَّق عبرها؛ فعلى سبيل المثال، منذ أن أنشأ واضعو السياسات في ثلاثينيات القرن العشرين النظام الإعلامي المملوك للقطاع الخاص والذي تُموله الإعلانات — على النقيض من نماذج الإعلام العام في العديد من الديمقراطيات الغربية — يُضطر المرشحون لجمع مبالغَ كبيرةٍ من المال لدفع ثمن إعلانات الحملة، بما يتضمنه ذلك من عواقبَ واضحةٍ على دور المال في السياسة (ماكتشيزني ١٩٩٣؛ هالن ومانشيني ٢٠٠٤).

يمنحنا علم الاقتصاد الأدوات اللازمة لتحليل الهيكل المالي للمؤسسات الإعلامية، ومنظورًا نقديًّا للطريقة التي تسمح بها الحكومة لهذه المؤسسات بتحقيق أرباح (على سبيل المثال، من خلال الإعلانات أو الاشتراكات)، ومدى تركيز الملكية المسموح به، وما إلى ذلك. وتُعد وجهة النظر الاقتصادية المقارنة التي تُقدِّمها الدراسات الإعلامية مفيدةً على نحوٍ خاصٍّ في إدراك القيود والاحتمالات التي تُميز أساليب التعامل المختلفة مع الملكية ومع السيطرة على وسائل الإعلام في الدول المختلفة.

يستفيد باحثو الدراسات الإعلامية أيضًا من تخصُّصات مثل اللغة الإنجليزية والدراسات السينمائية وعلم الإنسان، لفهم المعنى الذي يمكن أن يربطه المؤلفون والنقاد والمشاهدون/القراء بأي نصٍّ إعلاميٍّ معين. ويفعلون ذلك لفهم تعقيد هذه القضايا وتحليلها وإدراكها. وللباحثين العاملين في المجال المتعدد التخصصات الذي يُعرف باسم «الدراسات الثقافية» تأثيرٌ خاص؛ فعلى نحوٍ عامٍّ للغاية، نتعلم من هذه المجموعة من الدراسات أن الثقافة تُفهم على نحوٍ أفضل بوصفها الطرق التي يُناضل بها الأفراد والجماعات والمجتمعات من أجل «صُنْع معنًى». ويلعب الإعلام دورًا رئيسيًّا في صنع الثقافة.

على الرغم من أننا نستفيد من التخصصات الأخرى، ما زلنا ندفع بأن الدراسات الإعلامية تُشكل مجالًا فريدًا من نوعه وحيويًّا في حد ذاته. إن جميع التخصُّصات تقترض بعضها من بعض؛ تخيل محاولة دراسة علم الاجتماع دون الاستفادة من رؤى علم النفس أو محاولة فهم السياسة دون فهم التاريخ أيضًا. وتُعد الدراسات الإعلامية تخصُّصًا متميزًا نظرًا لأنها تضع بيئة الإعلام في بؤرة تركيزها. وتُصر على أن وسائل الإعلام هي ملمح أساسي للمجتمع الحديث ومحوري في أي تحليلٍ دقيقٍ للحياة في القرن الحادي والعشرين.

(٣) أهمية البيئات الإعلامية المتغيرة

أفضل مثالٍ على أهمية البيئة الإعلامية (أو على نحوٍ أكثر عمومًا، الشكل السائد من الاتصالات التي تُميز المجتمع) يظهر أحيانًا عندما تشرع بيئة الإعلام في التغيُّر. وكما يقول مارشال ماكلوهان: «التغيرات في بيئات التواصُل الأوسع تُغير هيكل الوعي البشري» (١٩٦٤).

ماذا يعني القول بأن التغيرات في بيئة الإعلام تُغير هيكل الوعي البشري ذاته؟ من الصعب رؤية هذه التغيرات بينما نعيش في بيئة الإعلام التي نحاول تحليلها؛ فالأمر أشبه بسمكةٍ تحاول وصف المياه؛ لذلك، قبل دراسة التغيُّرات الأحدث والمألوفة لدينا بدرجةٍ أكبر، خاصةً التحوُّل من ثقافة الطباعة إلى الثقافة الإلكترونية، فإن ذكر مثالٍ عن تغيُّرٍ سابقٍ قبل ذلك بفترةٍ طويلةٍ سيكون مفيدًا للغاية في توضيح التحوُّلات العميقة التي يذكرها ماكلوهان.

كان إيريك هافلوك (١٩٠٣–١٩٨٨) — وهو من متخصصي الأدب الكلاسيكي المؤثرين — أولَ من زعم أن الانتقال من البيئة الشفوية إلى البيئة الكتابية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد غيَّر الفكر الإنساني جذريًّا؛ وفي حالة الإغريق، غيَّر مسار الحضارة الغربية. وكان لأفكاره تأثير قوي على متخصصي دراسة الإعلام، بما في ذلك ماكلوهان. وفي كتاب «إيه بي سي: أبجدية العقل الغربي»، يوضح إيليتش وساندرز (١٩٨٨) كيف أن التحوُّل من البيئة الشفوية إلى البيئة الكتابية غيَّر طرق فهم الناس للواقع، وفهمهم لأنفسهم، وتنظيم مجتمعاتهم. على سبيل المثال، بينما اعتدنا التفكير في ذاكرتنا كمكتبة (حيث يُخزِّن مُخُّنا أجزاءً منفصلةً من المعلومات التي نستردها بعد ذلك مثلما نتناول الكتب من رفوف المكتبة ونفتحها على أجزاءٍ محددة) أو كجهاز كمبيوتر (حيث يعالج مُخُّنا المعلومات ويُخزِّنها كي يسترجعها في وقتٍ لاحق، مثلما يخزن الكمبيوتر ويسترجع المعلومات المحفوظة على القرص الصُّلب)، فإن هذا الفهم لم يكن بطبيعة الحال سابقًا على اختراع المكتبات أو أجهزة الكمبيوتر.

على غرار الكلمات والنصوص، الذاكرة هي وليدة الحروف الأبجدية؛ إذ لم تظهر فكرة إمكانية تخزين المعرفة — المعلومات — في العقل بوصفه مخزنًا لها إلا بعدما أصبح من الممكن صياغة بحور الكلام في صورة رموزٍ صوتية. واليوم، نعتبر هذه الفكرة أمرًا مسلَّمًا به تمامًا لدرجة أنه من الصعب علينا استرجاع عصر حيث لم تكن عملية استعادة الذكريات متخيَّلة في صورة رحلةٍ إلى القبو لإحضار بعض المؤن، أو نظرة في سجلٍّ من أجل التحقُّق من بندٍ معين؛ فمنذ القرن الرابع قبل الميلاد، أصبح البشر يتخيَّلون الذاكرة كمخزنٍ يمكن فتحه والبحث فيه واستخدامه. مع ذلك، من الواضح الآن أن التراث الشفوي الصِّرف لم يعرف حدًّا فاصلًا بين التذكُّر والفعل. (إيليتش وساندرز ١٩٨٨: ٥٤)

ومن الجدير بالذكر أن المعلمين قديمًا اعتقدوا أن الانتقال من البيئة الشفوية إلى البيئة الكتابية كان له تأثير سلبي على قدرات طلابهم بالضبط مثلما يعتقد كثيرٌ من المثقفين اليوم أن تراجُع معدل القراءة وزيادة الاعتماد على شاشات التليفزيون وأجهزة الكمبيوتر «يقلل من المستوى الفكري» لشباب اليوم. فكان أفلاطون — «أول كاتب لا يرتاح للكتابة» — مبتئسًا من تأثير الحروف الأبجدية على تلاميذه؛ «فاعتمادهم على النصوص السلبية الصامتة لا يُسبِّب سوى تضييق تدفُّق الذاكرة؛ مما يجعلها ضحلة وكسولة» (إيليتش وساندرز ١٩٨٨).

كيف تقرأ هذا الكتاب؟ على الأرجح أنت جالس في مكانٍ ما بمفردك وتُركز في صمتٍ على النص؛ فمن المستبعد جدًّا أنك تقرأ بصوتٍ عالٍ. ومع ذلك، عندما كانت الكتابة والطباعة آخذتَين في الظهور بوصفهما الشكل السائد للتواصل، لم تكن القراءة الصامتة ممكنة؛ لأنه في التراث الشفوي لا يوجد فصل بين التذكُّر والفعل أو الأداء؛ فلم يكن من الممكن أداء فعل القراءة إلا بصوتٍ عالٍ. في الواقع، لم تصبح المكتبات أماكن هادئة إلا مع حلول القرن الثالث عشر تقريبًا.

يحكي ألبرتو مانجِل في تأريخه للقراءة قصة حيرة القديس أوغسطينوس عام ٣٨٣ ميلاديًّا عند اكتشافه أن أمبروزيوس — أسقف ميلانو — كان يقرأ في صمت.

وقال أوغسطينوس: «عندما يقرأ أمبروزيوس، تتصفح عيناه الصفحة ويبحث قلبه عن المعنى، ولكن صوته يصمت ولا يتحرك لسانه. كان يمكن لأي شخصٍ الاقتراب منه بحرية، وكان لا يُعلن عن حضور الضيوف عمومًا، وهكذا في كثيرٍ من الأحيان عندما كنا نذهب لزيارته، كنا نجده يقرأ بهذه الطريقة في صمت؛ إذ إنه لا يقرأ بصوت عالٍ أبدًا.» عينان تتصفحان الصفحة، واللسان لا يتحرك؛ هكذا بالضبط أصف أي قارئٍ اليوم، يجلس بيده كتاب في مقهًى.

ومع ذلك، بالنسبة إلى أوغسطينوس، بدت طريقة القراءة تلك غريبةً إلى درجةٍ تستحق الملاحظة في كتابه «الاعترافات». وهذا يعني أن طريقة القراءة تلك، هذا التصفح الصامت للصفحة، كان في عصره شيئًا خارجًا عن المألوف، وأن القراءة العادية كانت تتم بصوتٍ عالٍ. وعلى الرغم من أنه يمكن تتبُّع تاريخ حالات القراءة الصامتة إلى تواريخ سابقة، فإن هذا النمط من القراءة لم يصبح معتادًا في الغرب إلا بحلول القرن العاشر. (١٩٩٧: ٥١)

يحمل الشكل السائد من وسائل التواصل في طياته على نحوٍ أساسيٍّ العديدَ من الافتراضات عن العالم من حولنا؛ وبالتأكيد يُشكِّل التواصل الواقع ذاته؛ فالواقع وطريقة التواصل التي ندرك الواقع من خلالها ليسا كيانَين مختلفَين، ولكن بالأحرى تَبني طريقة التواصل الواقع؛ ومن ثَمَّ فإن تطوُّر وانتشار ثقافة الطباعة والكتابة حفَّزا تغييراتٍ جوهريةً في طرق تنظيم المجتمعات والدولة، وطرق تعريف الأفراد لأنفسهم وعلاقتهم بالآخرين. على سبيل المثال، المبدأ الأساسي الذي تأسست عليه الولايات المتحدة — أن سلطات الحكومة يَحدها عقد — يعتمد بالطبع على دستورٍ مكتوب.

هدفنا هنا ليس تقديمَ تحليلٍ شاملٍ للتغيرات التي تلت ظهور ثقافة الطباعة؛ بل نستخدم هذا المثال للتأكيد على كيفية بناء طريقة التواصل لكل شيءٍ تقريبًا من حولنا، حتى أبسط مفاهيمنا لماهية الواقع. ومن أجل الوقوف على الآثار المترتبة على بيئةٍ إعلاميةٍ جديدة، فإننا بحاجةٍ إلى تحليل طرق تشكيلها لواقعنا. ونحن نرى أن أدوات مجال الدراسات الإعلامية هي أفضل وسائل جعْل هذه المبادئ البنائية واضحةً ودراسة أهميتها.

(٣-١) وسائل الإعلام الإلكترونية

مثلما غيَّر ظهور الكتابة والطباعة ثقافات العالم الشفوية، كذلك فعل ظهور وسائل الاتصالات الإلكترونية والأشكال الجديدة من وسائل الإعلام المرئية التي غيرت ثقافة الطباعة الحالية ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر.7 فعلى سبيل المثال، ظهور التلغراف غيَّر إلى الأبد طريقة تفكير الناس في الزمان والمكان؛ فمن خلال التلغراف، وللمرة الأولى على الإطلاق، انتقلت المعلومات بسرعةٍ أكبر من أسرع ناقلٍ ماديٍّ (قطار، على سبيل المثال)؛ مما فكَّ الصلة بين الاتصالات والنقل (كاري ١٩٨٨).

كمثالٍ على مدى الغرابة — بل والإعجاز — التي بدا عليها الأمر في ذلك الوقت، أدَّى التلغراف إلى ظهور موضة استشارة الوسطاء الروحانيين الذين يدَّعون أنهم يتحدثون إلى الموتى؛ إذ بدت إمكانية نقل الرسائل دون وسيطٍ ماديٍّ وعلى الفور عبر المسافات الشاسعة لا تقل إدهاشًا عن التواصل مع الموتى (بيترز ٢٠٠١).

ننتقل الآن إلى التغيرات الناجمة عن التحوُّل من ثقافة الطباعة إلى الثقافة الإلكترونية عبر التطرُّق إلى التليفزيون؛ وهو وسيلة تتمتع بأهميةٍ محوريةٍ منذ منتصف القرن العشرين. ونبدأ من موضعٍ رائعٍ وهو الكتاب المهم الذي كتبه نيل بوستمان تحت عنوان «تسلية أنفسنا حتى الموت» ونُشر لأول مرةٍ عام ١٩٨٥. من خلال التركيز على الانتقال من وسائل الإعلام المطبوعة إلى وسائل الإعلام الإلكترونية، يُلقي الكتاب الضوء على الخصائص الفريدة للثقافة التي يُهيمن عليها التليفزيون وغيره من وسائل الإعلام الإلكترونية المرئية. ويتيح لنا معرفة الملامح المهمة لتلك البيئة الإعلامية؛ ومن ثَمَّ يُعدُّنا لاستكشاف البيئة الإعلامية التي نعيش فيها في الوقت الراهن.8 القضية الأساسية ها هنا هي كيف يمكن لأي بيئةٍ إعلاميةٍ معينة — بما تتضمَّنه من مجموعةٍ متنوعةٍ ومتميزةٍ من تكنولوجيات الاتصالات التي تعمل داخل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتؤثر عليها — أن تُشكِّل رؤيتنا للعالم، وتؤثر على العملية الديمقراطية، وتضع حدودًا لما نراه «طبيعيًّا» وحتميًّا.

للإشارة إلى الدور المهم الذي يلعبه الإعلام في أبسط صور فهمنا للعالم، يزعم بوستمان (١٩٨٥) أن الحديث بجديةٍ عن التليفزيون (أو عن أي شكلٍ آخر مهيمن من أشكال وسائل الاتصال) هو حديث عن نظرية المعرفة (نظرية أو علم دراسة طرق أو أسس المعرفة): «لقد كان التليفزيون — في النصف الثاني من القرن العشرين — وسيلة مجتمعنا الرئيسية للتعرُّف على نفسه.» ماذا يعني بهذا؟ يعني ببساطةٍ أن معرفتنا عن العالم — فكرتنا الأساسية عن الحقيقة — تعتمد على الوسائط الإعلامية المعينة التي تهيمن على ثقافتنا.

إن التليفزيون وسيلة بصرية، ويعزز — على أبسط المستويات — الفكرة القائلة بأننا لا نُصدق إلا عندما نرى. وهو أيضًا وسيلة إعلامية جماهيرية، تعتمد على تواصُل عددٍ قليلٍ من الأفراد (أولئك الذين يتحكَّمون فيما يُبث عبر موجات الأثير) مع كثيرٍ من الأشخاص (الجمهور الضخم الذي يجلس في المنزل لمشاهدته). وكما سنرى، كان «عصر التليفزيون» بيئة إعلامية تتسم بعددٍ محدودٍ من المصادر الموثوقة للمعلومات حول العالم؛ ثلاث شبكات بثٍّ وصحيفة واحدة في معظم البلدان والمدن. وتتناقض هذه البيئة مع البيئة الطباعية المبكرة (من أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر) في أمريكا؛ حيث كان هناك عدد أكبر بكثيرٍ من المنافذ الإعلامية — بما في ذلك الخبرة المباشرة — للحصول على معلوماتٍ أكثر تركيزًا عن البيئة المحلية؛ ومن ثَمَّ عن أشياء أقل في عددٍ أقل من الأماكن.

بعض الآثار المترتبة على تأثير التليفزيون تبدو واضحةً لنا. فيما يتعلق بالسياسة على سبيل المثال، يجب أن يتمتع الساسة بالجاذبية؛ لأن عليهم التواصل مع الجمهور من خلال وسيلةٍ مرئية. وقد تجلَّى تأثير التليفزيون هذا في المناظرات الرئاسية المتلفزة الأولى عام ١٩٦٠ بين جون إف كينيدي وريتشارد نيكسون؛ إذ وقف كينيدي — الشاب الوسيم ذو السمرة الجذابة التي اكتسبها أثناء جولته الانتخابية في ولاية كاليفورنيا — في تناقضٍ بصريٍّ صارخٍ مع نيكسون، الذي كان يبدو منهكًا نتيجة التعافي من إصابةٍ في الركبة ورفض وضع مساحيق تجميل. مال المواطنون الذين استمعوا إلى المناقشة في الإذاعة لاعتبار نيكسون الفائز، في حين أن أولئك الذين شاهدوا المناظرة نفسها في التليفزيون مالوا لاعتبار كينيدي الفائز (متحف الإذاعة والتليفزيون، لا يوجد تاريخ محدد).

وبالمثل، يصبح الأسلوب الإعلاني هو الأسلوبَ الذي نتوقع استخدامه في معالجة جميع القضايا، سواءٌ أكانت صحية أم سياسية أم شخصية. ويتضمن هذا الأسلوب تقديم الرسائل في مقاطع طولها ثوانٍ، والقطع السريع، وتجنُّب المناقشات المفصلة أو المعقدة. ومع تبنِّي المناظراتِ السياسيةِ القطعَ السريعَ والصورَ التي تأسر البصر من أجل التنافُس على اهتمامات الجمهور المتقلبة، اختُزلت إلى مقاطعَ صوتيةٍ قصيرةٍ يُلقيها طرفان متعارضان تظهر صورتهما على الشاشة، بدلًا من الخطب المطولة التي تُجسد خصائص النقاش السياسي في القرن التاسع عشر حسب وصف بوستمان (١٩٨٥).9 على سبيل المثال، بين عامَي ١٩٦٨ و٢٠٠٤، تقلص طول المقاطع الصوتية المخصصة لمرشحي الرئاسة على شبكات الأخبار من ٤٨ ثانية إلى ٨ ثوانٍ (هالن ١٩٩٨). ويرى بوستمان أنه في عصر الطباعة (أي في الفترة التي تمتدُّ بين الاعتماد الواسع النطاق على الصحافة المطبوعة وظهور وسائل الإعلام الإلكترونية في أوائل القرن العشرين)، كانت الخطابة في أمريكا عمومًا «جادة ومتماسكة ومنطقية»، بينما في عصر التليفزيون أصبحت «متقلصة وغير منطقية … وخطيرة».
على شاشة التليفزيون، تصبح الصور جزءًا ضروريًّا لا يتجزأ من عملية سرد القصة، وهذا ما يعطي التليفزيون قوته المميزة؛ فالجمهور «لا يُصدق إلا عندما يرى»، تلك كانت الفكرة الرئيسية في تاريخ التغطية الإعلامية للأحداث الجارية؛ ففي حالة الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣، تعلَّمنا على نحوٍ مستمرٍّ قوة هذا القول المأثور، بينما كنا نُجاهد من أجل فهم العلاقة بين واقع الحرب والقصة المنقولة في الصور المتلفزة. بالطبع، ليس التليفزيون هو تكنولوجيا الاتصالات الوحيدة المسئولة عن الأهمية المتزايدة للصورة. إن ظهور التمثيل الفوتوغرافي في منتصف القرن التاسع عشر — عبر التصوير أولًا ثم عبر تطوُّر الأفلام في نهاية القرن التاسع عشر — سبق ظهور التليفزيون. وقدَّم التصوير الفوتوغرافي والأفلام مستوًى أعلى من الحقيقة مقارنةُ بالصور القادمة من وسائل الإعلام؛ أو هكذا كان يُعتقد في البداية.10
إن ظهور شكلٍ سائدٍ جديدٍ من وسائل الاتصال لا يقضي بالطبع على الأشكال القديمة؛ فلم يَكُفَّ الناس عن التكلم عندما بدءوا القراءة والكتابة. ومع ذلك، بينما ظلت هذه الأشكال القديمة، فإنها تغيَّرت أيضًا؛ ففي عصر التليفزيون، يقتحم منطق الوسيط المرئي، مثل التليفزيون، جميع المجالات في بيئة الإعلام، بما في ذلك الكلمات المطبوعة.

لا يزال هناك قُراء والعديد من الكتب المنشورة، لكن لم تَعُد استخدامات الكتب المطبوعة والقراءة هي نفسها كما كانت من قبل؛ ولا حتى في المدارس التي كان يُعتقد أنها المعقل الأخير المنيع للكتب المطبوعة. واهمٌ مَن يعتقد أن التليفزيون والكتب المطبوعة يمكن أن يتعايشا معًا؛ فالتعايش يقتضي ضمنيًّا التكافؤ. لا يوجد تكافؤ هنا؛ فالكتب المطبوعة الآن مجرد بقايا لنظريةٍ معرفية، وسوف تظل كذلك، ويدعم ذلك إلى حدٍّ ما الكمبيوتر والصحف والمجلات التي أصبحت تبدو وكأنها شاشات تليفزيون. (بوستمان ١٩٨٥: ٢٨)

وحتى التواصل الشفوي تغيَّر عن طريق التليفزيون. تأمَّل محاضرات الجامعة؛ إنها طريقة قديمة لدى المعلمين لنقل المعلومات للطلاب، ومع أنها لا تزال باقيةً حتى اليوم، فقد تبدَّلت مع ظهور التليفزيون؛ فعندما بدأ مؤلفا هذا الكتاب في التدريس لأول مرة، حذَّرَنا زملاؤنا الأكبر سنًّا من أن طلابنا اعتادوا على إيقاعات التليفزيون؛ ومن ثَمَّ، لنكون ناجحين، كان على محاضراتنا تقليد هذا الإيقاع؛ ألا وهو ١٠ دقائق من الشرح ثم فاصل إعلاني و١٠ دقائق أخرى ثم فاصل إعلاني وهكذا. هذا يعني أن علينا تقديمَ جزءٍ صغيرٍ جدًّا من المعلومات (١٠ دقائق) ثم نكسر جدية المحاضرة بنكتةٍ أو حكايةٍ مسليةٍ أو تفاعلٍ وجيزٍ مع الطلاب (الفاصل الإعلاني). واليوم، تطوَّرنا عن ذلك بكثير؛ فنستخدم على نحوٍ منتظمٍ شرائح برنامج باوربوينت ومقاطع الفيديو وما إلى ذلك؛ فنحن الآن نُحاكي إيقاعات مقاطع الفيديو الموسيقية.

بهذا المنطق، فإن بيئة الإعلام في النصف الأخير من القرن العشرين كانت نظامًا شاملًا؛ إذ أثرت على كل شيءٍ تقريبًا في المجتمعات التي انتشرت فيها. وكما يشير بوستمان:

لا يوجد جمهور صغير السن لدرجةٍ تمنعه من التليفزيون. ولا يوجد فقر مدقع يُحتم التخليَ عن التليفزيون. ولا يوجد تعليم رفيع المستوى لدرجةٍ تمنع تعديله من قِبل التليفزيون. والأهم من ذلك كله لا يوجد أي موضوعٍ يخص الصالح العام — سياسةً أو أخبارًا أو تعليمًا أو دينًا أو علومًا أو رياضة — لا يجد طريقه إلى التليفزيون؛ وهو ما يعني أن كل فهم الجمهور لهذه الموضوعات يتشكَّل من خلال انحيازات التليفزيون. (١٩٨٥: ٧٨)

في حين يرى بوستمان أن صعود التليفزيون نوع من الانحدار عن الرُّقي المميز لثقافة الطباعة، فإننا لا نحتاج إلى الوصول إلى الحكم نفسه كي نلاحظ أن التليفزيون شكَّل تغييرًا عميقًا في بيئة الإعلام وفي بقية المجتمع كذلك. على سبيل المثال، احتفى بوستمان بالمناظرات بين لينكولن ودوجلاس باعتبارها نموذجًا للنقاش السياسي في القرن التاسع عشر. مع ذلك، يشير جاري ويلز (٢٠٠٦) إلى أن لينكولن نفسه كان معجبًا بأثر التلغراف وأدرك تأثيره على طريقة تواصُلنا. وليس من قبيل الصدفة أن خطاب جيتيسبيرج — المكون من ٢٣٧ كلمة فحسب والذي تأثر بمتطلبات الإيجاز التي يفرضها التلغراف — أصبح أعظم الخطابات وأكثرها تأثيرًا في التاريخ الأمريكي. ويشير ويلز أيضًا إلى أن الشخصيات المهمة الأخرى في القرن التاسع عشر أدركت مزايا الإيجاز والحديث المباشر التي نتجت عن التلغراف. وكما قال مارك توين: «يُنقَذ عدد قليل من النفوس بعد العشرين دقيقةً الأولى من العِظة الدينية.»

هل ما زلنا نعيش في عصر التليفزيون؟ هل تَطوُّر الإنترنت والاتصالات عبر الأقمار الصناعية وما إلى ذلك مجرد امتدادٍ للتليفزيون؛ أي «صور مقواة ومحسَّنة من التليفزيون» كما كتب بوستمان؟ نودُّ القول إن بوستمان كان مخطئًا؛ إذ كتب ذلك قبل أن يصبح التأثير الكامل للإنترنت واضحًا. يحدث الآن تغيير لا يقل في عمقه بأي حالٍ من الأحوال عن التغيير من الطباعة إلى التليفزيون. وهذا التغيير الهائل المستمر هو ما سنناقشه في الجزء التالي. وبالوضع في الاعتبار أن الطرق التي تتغيَّر بها وسائل الإعلام على المدى الطويل — كما في حالة التحوُّل من بيئة التواصل الشفوي إلى التواصل المكتوب ثم إلى بيئة وسائل الإعلام الإلكترونية — أو على المدى الأقصر، كما في حالة الإعصارَين؛ تُغيِّر الكثير مما نراه بديهيًّا في مجتمعنا، فإن التغييرات التي نسرد تاريخها في الجزء التالي من المتوقَّع أن تفرض تأثيراتٍ مهمةً وعميقة.

(٤) الإعلام في القرن الحادي والعشرين: ما الذي تغير؟

إن سرد التطوُّرات التي حدثت في مجال الاتصالات على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية لا يُذكِّرنا إلا بالاختلافات الجذرية في بيئة الإعلام في مطلع القرن الحادي والعشرين عما سبقتها. نحن هنا نُركز على التغيرات التكنولوجية المحددة التي حدثت، ولكن من المهم أن نتذكَّر أن هذه التغييرات حدثت في سياق تغييراتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ أوسع، من بينها نهاية الحرب الباردة، والظهور المتسارع للاقتصاد العالمي، وتغير وضع الفئات المهمَّشة سابقًا — الملوَّنين والنساء والمثليين جنسيًّا — وازدياد قدرتهم على التعبير عن أنفسهم (سنعود إلى هذا الموضوع في الفصل التالي).11

تتأثر التغيرات في بيئة الإعلام بهذه الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأوسع، وتؤثر فيها بدورها. رأينا هذا في مثال الإعصارَين عندما تفاعلت البيئة الإعلامية مع بِنى التفرقة العرقية في الولايات المتحدة للتأثير على تحديد من نجا ومن لم ينجُ. وفي حين لا تزال التفرقة العرقية قضيةً مهمة، فإن بيئة الإعلام في القرن الحادي والعشرين — على النقيض من البيئة الإعلامية سنة ١٩٢٨ — أوضحت هذا التفاوت العرقي للأمة على نطاقٍ أوسع؛ ومن ثَمَّ حفزت إجراء حوارٍ وطنيٍّ حول محنة الفقراء، لا سيما ذوي الأصول الأفريقية من سكان نيو أورليانز.

تُشير بعض الأرقام إلى تغييراتٍ جذريةٍ في بيئة الإعلام على مدى عقدَين ونصف مضت؛ ففي عام ١٩٨٢ — وهي السنة الأولى التي استطعنا إيجاد إحصائياتٍ لها — بِيعَ أقل من مليونَي جهاز كمبيوتر شخصي في الولايات المتحدة. وبحلول عام ٢٠٠٤، زادت المبيعات السنوية إلى ١٧٨ مليونًا، وأصبح ثلاثة أرباع الأُسَر في الولايات المتحدة يمتلكون جهاز كمبيوتر شخصيٍّ واحدًا على الأقل بحلول عام ٢٠٠٨ (مقال «بحث ظاهرة أجهزة الكمبيوتر المنزلية» ٢٠٠٨). في عام ١٩٨٢، كان المنزل العادي يستقبل ما يقرب من ١٠ قنوات تليفزيونية، وكان ٢١ بالمائة فقط من المنازل الأمريكية تمتلك جهاز تسجيل تليفزيوني (فيديو)، ولم تكن شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة موجودةً فعليًّا. وبحلول عام ٢٠٠٦، ارتفع متوسط عدد القنوات المستقبَلة إلى أكثر من ١٠٠ قناة، وكان ما يقرب من ٩٠ بالمائة من المنازل تمتلك جهاز تسجيل تليفزيوني أو جهاز تشغيل أقراص دي في دي، وحوالي ثلاث من كل أربع أُسَر في الولايات المتحدة كان لديها اتصال بشبكة الإنترنت (٥٠ بالمائة منها اتصال عالي السرعة). وبحلول عام ٢٠٠٨، كان أكثر من ثلاثة أرباع البالغين الأمريكيين يمتلكون هاتفًا خلويًّا أو مساعدًا رقميًّا شخصيًّا.12 أدت هذه التطوُّرات إلى وصولٍ غير مسبوقٍ إلى المعلومات المنقولة وسرعةٍ غير مسبوقةٍ في الحصول عليها، فضلًا عن تبايُنٍ في شكل ومضمون ومصادر هذه المعلومات أكثر من أي وقتٍ في التاريخ.

بطبيعة الحال، يظل التليفزيون وسيلةً مهمة، ولكنه تعرَّض لتغيراتٍ جذريةٍ على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية. خلال الفترة التي كان فيها عدد محطات التليفزيون محدودًا، كان المحتوى متماثلًا تمامًا في القنوات. تبث كل شبكة جدول برامج مماثلًا مصممًا لجذب أكبر عددٍ ممكن من الجمهور. وخلال وقت الذروة كانت المواد المعتادة هي الأعمال الدرامية والكوميدية، مع تخصيص الساعة السابقة لها في جميع أنحاء العالم تقريبًا للأخبار المحلية والوطنية.

واليوم، حطمت الزيادة الهائلة في عدد القنوات الإعلامية المتاحة هذا الترتيب؛ فمؤخرًا عام ١٩٨٠، كان متوسط عدد المحطات المشاهَدة في الأسبوع أقل من ست، يُخصص لكلٍّ منها ما يزيد على ثماني ساعاتٍ في الأسبوع من وقت المشاهد. ومع ذلك، بحلول عام ٢٠٠٣، أصبح المشاهد العادي يشاهد ١٥ قناة في الأسبوع، مخصصًا فقط ٣٫٤ ساعات لكلٍّ منها. وهكذا، في حين أن الأمريكيين باتوا يشاهدون التليفزيون أكثر من أي وقتٍ مضى، فإن نطاق ما يشاهدونه أصبح أكبر، وجمهور أي برنامج بعينه أصبح أصغر. ونوضح تأثير هذه المنافسة المتزايدة عبر مثالٍ واحد:

عندما كان مسلسل «ساينفيلد» رقم واحد في أمريكا عام ١٩٩٥، كان له حصة كبيرة من الجمهور؛ إلا أن حصة الجمهور تلك قبل ٢٠ عامًا، عام ١٩٧٥، لم تكن ستضعه ضمن أكثر ٢٠ برنامجًا مشاهدةً على شاشة التليفزيون. فكان يمكن أن يكون البرنامج الحادي والعشرين من حيث الشعبية في الولايات المتحدة عام ١٩٧٥. (برويت ٢٠٠٠: ١٥)

يمكن أيضًا ملاحظة انقسام مشاهدي التليفزيون في نشرات الأخبار التليفزيونية؛ فعلى الرغم من أن النشرات الإخبارية سيطرت عليها في السابق ثلاث شبكات، فإنه في عام ٢٠٠٣ كان هناك «مشاهدون منتظمون» لنشرات الأخبار الوطنية عبر القنوات الخاصة التي تتطلب دفع اشتراك (٦٨ بالمائة) أكثر من مشاهدي نشرات الأخبار الوطنية الليلية على قنوات إيه بي سي، وسي بي إس، وإن بي سي (٤٩ بالمائة مجتمعة).13 وفي الوقت الذي يتنافس فيه واضعو جداول البرامج التليفزيونية تنافسًا محمومًا على جذب انتباه الشباب، فإن متوسط عمر مشاهدي الشبكات الإخبارية أكثر من ٦٠ عامًا، وانخفضت حصتها من القطاع الأعلى قيمةً من الجمهور (أي مَن تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٤٩ سنة) في السنوات العشر الماضية من ٤٦ إلى ٢٩ بالمائة (كورتز ٢٠٠٢).14 وأعمار جمهور النشرات الإخبارية عبر القنوات الخاصة تزداد أيضًا؛ فمتوسط أعمار مشاهدي قناة هيدلاين نيوز هو ٥٤، ومتوسط مشاهدي قناة سي إن إن هو ٦٤ (روتنبرج ٢٠٠١).

أشار باحثو مجال الإعلام مثل جوزيف تورو (١٩٩٧، ٢٠٠٦) وجيمس وبستر وباتريشيا فالن (١٩٩٧) إلى أن التحوُّلات في تكنولوجيا الاتصالات تُغيِّر العديد من التوقعات الأساسية حول جماهير الإعلام والمحتوى الإعلامي. إن فكرة الجمهور الضخم — على الأقل كما عُرفت في النصف الأخير من القرن العشرين — تُنبَذ سريعًا في ظل تنافس الشبكات ومنافسيها للحصول على حصةٍ من الجمهور عبر تسويق محتواها لقطاعات مختلفة من السكان؛ ونتيجةً لذلك، سعت شبكات مثل دبليو بي، وفوكس، وإيه بي سي، وإم إس إن بي سي، ولايف تايم (والمعلنين فيها) إلى تعظيم الاختلافات في محاولةٍ لتطوير هوياتٍ فريدةٍ من نوعها وولاء «للعلامة التجارية». وتطوَّرت هذه الشبكات في إطار الوعي الأكبر باختلاف الهويات الثقافية على أساس العرق والجنس والعمر والميول الجنسية والمعتقدات الدينية والأيديولوجيات، وكانت نتيجةُ هذا التغيير في تكنولوجيا الاتصالات واستجابة وسائل الإعلام إليه انقسامًا أكثر للجمهور وتنوعًا أكبر في أنواع البرامج والمحتوى.

يزيد من تعقيد هذه الصورة القدرة المتنامية لدى المشاهدين على السيطرة على الكثير من المعلومات المنقولة التي يتلقَّوْنها، على الرغم من أن الخط الفاصل بين السيطرة الحقيقية والتلاعب خط رفيع للغاية هنا أيضًا. التليفزيون الآن بمنزلة بوابةٍ لأشكالٍ أخرى من وسائل الإعلام عبر الأجهزة التكنولوجية التي يتزايد انتشارها مثل مشغلات الدي في دي ومسجلات الفيديو الرقمية ومشغلات ألعاب الفيديو. ورغم أن تلك الأرقام كبيرة في حد ذاتها، فإنها تقديرات أقل من الحجم الفعلي لتقسيم الجمهور. على سبيل المثال، كان أقل من ٥٠ بالمائة من الأُسَر يمتلكون عدة تليفزيونات عام ١٩٨٠، وفي عام ١٩٩٦ ارتفع هذا الرقم إلى ٧٤ بالمائة.15 هذه التطوُّرات التكنولوجية وغيرها ذات الصلة تُغيِّر طريقة مشاهدة التليفزيون، وتُغيِّر العلاقة بين منتجي المحتوى ومستهلكيه.

تأمل على سبيل المثال نمو جهاز تكنولوجي يبدو بسيطًا وهو جهاز التحكُّم عن بُعد. أتاح هذا الابتكار البسيط التنقُّل بسهولةٍ بين القنوات، أو بين البرامج المباشرة والبرامج المسجلة من قَبلُ على مشغل دي في دي، أو حتى بين التليفزيون والإنترنت، وكل ذلك دون أن يُضطر المشاهد على الأقل إلى النهوض من على الأريكة. لقد جعل جهاز التحكُّم عن بُعد «إدمان مشاهدة التليفزيون» ممكنًا. ومؤخرًا عام ١٩٨٥، كان ٢٩ بالمائة فقط من جميع الأُسَر يمتلكون جهاز تحكُّم عن بُعد، في حين أنه بحلول عام ١٩٩٦ كان جهاز التحكُّم عن بُعد في كل منزلٍ تقريبًا (٩٤ بالمائة). وثَمَّةَ تكنولوجيات جديدة أكثر ثورية مثل أجهزة تسجيل الفيديو الرقمية «تيفو»، والتي كانت موجودة في أكثر من ٢٠ مليون منزل في يوليو ٢٠٠٨. وتُيسر هذه الأجهزة للمشاهدين تسجيل البرامج التليفزيونية وإعادة تشغيلها تلقائيًّا بِناءً على التفضيلات وجداول المواعيد الشخصية.

(٤-١) عصر الإنترنت

على الرغم من مستوى الإبهار الذي وصلت إليه التغيُّرات في التليفزيون على مدى العقدين الماضيين، فإنها تتضاءل بالمقارنة مع تأثير الإنترنت. فكما ذكرنا سابقًا، كان ثلاثة أرباع الأسر في الولايات المتحدة يستطيعون الاتصال بالإنترنت بحلول عام ٢٠٠٦، وكان لدى نصف هذا العدد إنترنت عالي السرعة في منازلهم. وفي أي يومٍ من أيام عام ٢٠٠٧، كان ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكيين البالغين الذين يمتلكون اتصالًا بالإنترنت يتصلون بالشبكة. وبحلول عام ٢٠٠٧ كان ما يقرب من ثلاثة من كل أربعة أمريكيين تزيد أعمارهم على ١٨ عامًا يستخدمون الإنترنت، وكان ٨٥ بالمائة من الذين تتراوح أعمارهم بين ١٢ و١٧ عامًا (عام ٢٠٠٨) يستخدمون الإنترنت «أحيانًا» على الأقل (تقرير مركز بيو للأبحاث عن الإنترنت والحياة الأمريكية ٢٠٠٨).

تتلاءم طبيعة استخدام الإنترنت المرنة والمتنوعة والشاملة مع مضمون وشكل المعلومات التي تُعد وتُطرح. على سبيل المثال، تأمل الصفحة الرئيسية لموقع ياهو، أكثر بوابة للإنترنت شعبيةً (جمهور ياهو يحقق ٥٠٠ مليون زيارة في الشهر). يزور واحد من كل مستخدمَين للإنترنت موقعًا يحمل علامة ياهو مرة واحدة على الأقل في الشهر، وتتباهي شركة ياهو بأن عدد مرات التصفح لصفحتها يبلغ ٣٫٨ مليارات مرة يوميًّا (بولتون ٢٠٠٦). وتحتوي الصفحة على مجموعة مذهلة من المعلومات؛ إذ توجد روابط ﻟ «الأخبار» وتحقيقات في مجالات الأعمال والرياضة والمشاهير والثقافة الشعبية. ويوجد أيضًا وصفات طعام وأخبار عن الطقس وروابط للبريد الإلكتروني وإعلانات، وما إلى ذلك. لكن على عكس التكنولوجيا في العصور السابقة، فإن صفحة ياهو الرئيسية وغيرها من البوابات الإلكترونية (مثل جوجل) تُمثل بواباتٍ لملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم، تقودهم إلى أي صفحة ويب من مليارات الصفحات حول مختلِف الموضوعات ومن شتى المصادر والأنواع ووجهات النظر.16 وتقسِّم الروابط التشعبية في هذه الصفحة — وغيرها من صفحات الويب — الجمهور بينما يتبع المشاهدون أكثر الروابط إثارةً لاهتمامهم؛ فحتى عندما يستعرض شخصان الصفحة نفسها، فإنه من غير المرجح أن يريا حقًّا المحتوى نفسه.

ثَمَّةَ أمثلة أخرى عديدة تُسلط الضوء على السبل التي تُمكِّن الإنترنت من تحدِّي افتراضات «عصر التليفزيون» التي ذكرها بوستمان. فتنامي ظاهرة المدونات الإلكترونية يقلص الفوارق بين منتجي الإعلام ومستهلكيه، بل وحتى بين النخب والمجتمع الأكبر. وبالنسبة إلى مشاهير مثل بريتني سبيرز وتايجر وودز ولينزي لوهان، فإن قدرة أي شخصٍ يمتلك هاتفًا خلويًّا به كاميرا أو اتصال بالإنترنت على نشر صورٍ محرجةٍ وادعاءاتٍ مثيرةٍ للجدل حول سلوكٍ شائن قد قَلصت كثيرًا من قدرة هؤلاء المشاهير على الحفاظ على صورة عامة مُعدة بعناية ومنفصلة عن السلوك الشخصي. وسنناقش في الفصل الثالث الطرق التي مكَّنت المدونين من لعب أدوارٍ رئيسيةٍ في العملية السياسية، متحدِّين هيمنة الصحفيين المحترفين والنخب السياسية.

تزيد الجوانب الأخرى للإنترنت من تعقيد بيئة المعلومات وصعوبة السيطرة عليها؛ إذ توفر مجموعات الدردشة والمناقشات على الإنترنت أماكن جديدة تتيح للجماهير مناقشة البرامج التليفزيونية والموسيقى والأفلام، وللمرضى مناقشة مرضهم ومهنة الطب، وللمواطنين مناقشة القضايا العامة مباشرة، وما إلى ذلك. المواقع ذات التوجُّه البعيد عن التوجُّه السائد و/أو المواقع الدولية تُمثل مصادر بديلة للمعلومات والآراء حول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتُشكل تحديًا لمهام «السيطرة على البوابات الإعلامية» التي يقوم بها منتجو وسائل الإعلام القديمة. وتستخدم شبكات من النشطاء السياسيين والاجتماعيين شبكة الإنترنت بهدف تنظيم المعارضة في العالم الافتراضي والحقيقي للنخب السياسية التقليدية أو لخلق مساحاتٍ بديلةٍ لمناقشة القضايا التي تتجاهلها وسائل الإعلام والنخب الرئيسية.17

وعمومًا، تتحدى هذه البيئة الإعلامية الجديدة النخب — السياسية والاجتماعية والاقتصادية — من خلال توفير قنوات اتصالٍ للمواطنين العاديين لتقديم معلوماتٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوصول إليها مباشرة، متجاوزين كليًّا المتحكمين التقليديين والجدد في وسائل الإعلام. على سبيل المثال، أدَّى انتشار الهواتف المحمولة وغيرها من أجهزة الفيديو المحمولة الصغيرة، في كل مكانٍ بالإضافة إلى سهولة رفع المعلومات على شبكة الإنترنت، إلى وجود العديد من المواقع المخصصة للسماح لأي شخصٍ تقريبًا بنشر رسائله الإعلامية الخاصة. ويوفر موقع يوتيوب — أكثر المواقع شعبيةً بين هذه المواقع — منتدًى لجميع فئات المعلومات، من الموسيقى الرائجة إلى الخطابات السياسية وحتى المحاكاة الساخرة البارعة وغير البارعة. وعززت هذه القدرة في بعض الحالات قدرة المواطنين على تحدِّي سطوة أشد الأنظمة استبدادًا؛ فعلى سبيل المثال، التقطت الهواتف المحمولة عام ٢٠٠٩ صورًا لامرأةٍ إيرانيةٍ شابةٍ تنزف حتى الموت بعد إطلاق النار عليها من قِبل الميليشيات الموالية للحكومة. وانتشر مقطع الفيديو بسرعةٍ في جميع أنحاء العالم وساعد على كسب التأييد الدولي للمحتجين الذين يُشكِّكون في نزاهة الانتخابات الإيرانية.

بالطبع، فإن النخب السياسية والاقتصادية والثقافية ونخب وسائل الإعلام التقليدية تستخدم الإنترنت أيضًا؛ ولا تزال تهيمن عليه من نواحٍ عدة؛18 فعلى سبيل المثال، تمتلك إيران والصين أجهزة شاملة لفرض الرقابة على أنشطة مواطنيها على الإنترنت ورصدها. ولكن عبر القيام بذلك، فإنها تُغيِّر الطريقة التي تتفاعل بها مع الجمهور، فتُقلص من مبادئ عصر التليفزيون أكثر. بالإضافة إلى ذلك، تتنافس نخب جديدة — من صناع السينما المستقلين الجدد، والموسيقيين، والصحفيين إلى ممثلي وجهات النظر الأيديولوجية البعيدة عن التوجُّه السائد، وحتى ممثلي وسائل الإعلام الجدد مثل جوجل وياهو وميكروسوفت — من أجل السيطرة على البيئة الإعلامية. باختصار، في حين أن شبكة الإنترنت تغيرت، وسوف تستمر في التغيُّر، فإن طريقة نشر المعلومات واستخدامها — أي الشكل النهائي ﻟ «عصر الإنترنت» — لا تزال مبهمة.

(٥) خاتمة

بدأنا في هذا الفصل شرح كيف يمكن للدراسات الإعلامية أن تساعدنا على فهم العالم المنقول لنا والذي نعيش فيه جميعًا، وأوضحنا كيف يمكن للتغييرات في بيئة الإعلام، خلال فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا من الزمن (على سبيل المثال، ١٩٢٨–٢٠٠٥) والفترات الزمنية الأطول بكثيرٍ على حدٍّ سواء (مثل الانتقال من الثقافات الشفوية إلى ثقافات الكتابة والطباعة ثم إلى ثقافة الإعلام الإلكتروني)، أن تؤثر تقريبًا في كل شيءٍ يتعلق بالعالم الذي نعيش فيه، من بِنية وَعْيِنا إلى مَن سيعيش ومَن سيموت في مواجهة الكوارث الطبيعية. وتوضح هذه الأمثلة أن وسائل الإعلام مهمة، وأن التغيرات فيها لا بد أن تحتل مركز فهمنا للتغيرات التي تحدث في العالم من حولنا؛ ونتيجةً لذلك، يبدو واضحًا أن التغيرات في فترة العقدين ونصف الماضية سوف يكون لها بالمثل آثار عميقة على عالمنا في القرن الحادي والعشرين. وتستكشف بقية الكتاب كيف يمكن لدراسات الإعلام أن تساعدنا على فهم وتحليل تلك التغيرات على نحوٍ نقدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤