الفصل الثاني

ملكية بيئة الإعلام الجديدة والسيطرة عليها

(١) أنماط ملكية الإعلام والسيطرة عليه

تخيل أنك تستعد للسفر إلى الصين، وسوف تقضي أسبوعًا في بكين، تلك هي المرة الأولى التي تسافر فيها إلى هذا البلد، وسترغب بطبيعة الحال في معرفة كل ما يمكن معرفته قبل أن تسافر؛ لذلك تفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم؛ تستخدم الإنترنت. (بالطبع نفترض ها هنا أن لديك إمكانية الاتصال بالإنترنت وسرعة اتصالٍ لا تؤدي إلى الإحباط أكثر مما تُقدم من معلومات.)

ستقوم بعدة عمليات بحث باستخدام محرك البحث جوجل لمعرفة ما ينبغي لك زيارته عندما تصل إلى العاصمة الصينية، وأخيرًا، تختتم بإدخال عبارة (ميدان السلام السماوي) Tiananmen Square. يتضمن الجدول ٢-١ الصفحة الأولى من نتائج هذا البحث. وتخبرنا القراءة المتمعنة والتحليلية لهذه النتائج بالكثير عن بيئة الإعلام الجديدة، من حيث ما قد تغير، وبنفس القدر من الأهمية ما لم يتغير أيضًا. ويمهد هذا المثال السياق لبقية مناقشتنا في هذا الفصل عن أهمية فهم أنماط ملكية وسائل الإعلام والسيطرة عليها.
جدول ٢-١: الصفحة الأولى من نتائج البحث باستخدام جوجل لعبارة Tiananmen Square. (المصدر: Google.com، ١٧ سبتمبر ٢٠٠٧.)
عنوان الويب الموضوع
http://en.wikipedia.org/wiki/Tiananmen_Square_protests_of_1989 (1) Tiananmen Square protests of 1989; from Wikipedia, the Free Encyclopedia.
http://en.wikipedia.org/wiki/Tiananmen_Square (2) Tiananmen Square; from Wikipedia, the Free Encyclopedia “Tiananmen Square is the large plaza near the center of …”
http://news.bbc.co.uk/onthisday/hi/dates/stories/june/4/newsid_2496000/2496277.stm (3) BBC ON THIS DAY | 4 | 1989: Massacre in Tiananmen Square “The Chinese army storms a mass demonstration in Tiananmen Square, killing several hundred people.”
www.christusrex.org/www1/sdc/tiananmen.html (4) Tiananmen, 1989 “The blood shed in Tiananmen Square has come to symbolize the triumph of the spirit over brute force.”
www.travelchinaguide.com/attraction/beijing/tianan.htm (5) Tiananmen Square: Beijing: China. “Information on Tiananmen Square in Beijing, with pictures.”
www.thebeijingguide.com/tiananmen_square/index.html (6) Tiananmen Square: 360-Degree Virtual Tour - Beijing, China “The name in Chinese, Yiheyuan, means garden of restful peace. It served as a suburban pleasance for emperors, a place in the countryside yet near the …”
www.gwu.edu/~nsarchiv/NSAEBB/NSAEBB16/index.html (7) Tiananmen Square; The Declassified History, 1989 “Useful collection of documents providing a US perspective of the events surrounding the Chinese government’s use of heavily armed military forces against …”
www.chinavista.com/experience/tiananmen/main.html (8) Beijing Tiananmen: ChinaVista “The Tiananmen Square in the center of Beijing is said to be the biggest square in the world.”
www.pbs.org/wgbh/pages/frontline/gate/ (9) Frontline: The Gate of Heavenly Peace “Tiananmen Square is a ‘theme park’ of the Chinese Revolution and 20th-century Chinese history.”
www.beijingtrip.com/attractions/square.htm (10) Beijing Attractions: Tiananmen Square, Tian’an Men Tower, Mao … “Tiananmen Square, the largest city square in the world, is a mixture of a lofty monument, a magnificent tower, solemn halls and a great museum.”
(11) News archive results for Tiananmen Square
“Chinese Citizens Block Troops From Reaching Central Square; For 2nd Time, …” Washington Post. 1989
“At Tiananmen Square, Exuberance Is Reined In” New York Times. 1997
“CLINTON IN CHINA: THE SITE; Clinton, in Beijing Square, May Tread on the Ghosts” New York Times 1998

أولًا، تأمل السهولة التي يمكنك بها الوصول إلى هذه المعلومات. فقبل ١٥ عامًا فحسب، قبل نمو شبكة الإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية، كنت ستُضطر على الأرجح إلى الذهاب إلى محلٍّ لبيع الكتب أو مكتبةٍ لتقرأ في الأدلة السياحية، وكثيرٌ منها يمكن أن يكون قديمًا. أو كنت ستُضطر إلى طلب المعلومات باستخدام البريد العادي البطيء؛ وهو ما قد يستغرق أسابيع كي يصل إليك. والآن، ودون أن تترك غرفتك، فإنك قادر على الوصول إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من المصادر في بضع ثوانٍ (مرةً أخرى، هذا يتوقف على سرعة الاتصال). وربما يكون كثير من هذه المصادر تم تحديثه خلال الأيام القليلة الماضية، أو حتى الساعات الماضية. ويعتبر الكثير منا الآن أن وجود المعلومات المحدَّثة في متناول أيدينا أمر مفروغ منه، ولكن تجدر الإشارة إلى أن تلك السهولة في الحصول على معلوماتٍ محدثةٍ باستمرارٍ من مصادرَ في جميع أنحاء العالم لم تكن متخيَّلة قبل ١٥ عامًا فحسب. في الواقع، إن هذا الوصول الفوري الخارق للمعلومات المتنوعة هو المسئول عن جزءٍ كبيرٍ من الإثارة حيال بيئة الإعلام الجديدة.

ثانيًا، لاحظ أنواع المراجع المختلفة في القائمة. فبعض الروابط (الروابط ٥ و٦ و٨ و١٠) هي روابط للمواقع التي تهم السياح، أي ما كنت تبحث عنه على الأرجح. ومع ذلك، يوجد المزيد من الروابط ذات الصلة بالاحتجاجات الديمقراطية التي قادها الطلبة عام ١٩٨٩ والتي بلغت ذروتها بمذبحة ميدان السلام السماوي (انظر الروابط ١–٤ و٧ و٩، والمقالات الموجودة تحت رقم ١١). إن كنت لا تعرف شيئًا عن هذه الأحداث، أو لديك ذكرى باهتة عنها، فإن بحثك يتيح لك التعرُّف عليها بنقرةٍ واحدة. ولو كنت قد ذهبت إلى المكتبة أو متجر الكتب وبقيت في قسم السفر، كان من غير المرجح أن تواجهك بوضوحٍ شديدٍ معلوماتٌ عن قضيةٍ سياسيةٍ كبيرة. إن درجة عثورنا على معلوماتٍ لم نكن نبحث عنها على وجه التحديد (ما يمكن أن نُسمِّيَه «اكتشافًا وليد الصدفة») هي سمة مهمة لأي نظامٍ إعلامي. ويرى بعض الباحثين أن الإجبار على التعامل مع المعلومات ووجهات النظر حول الموضوعات التي قد لا تكون مألوفةً لك، أو التي لا تتوق للبحث عنها، يُعَد سمة مهمة للمجال العام الفعال وشرطًا أساسيًّا للمواطنة المستنيرة (سنستين ٢٠٠٧). ويُعَد مدى نجاح عمليات البحث على الإنترنت على وجه الخصوص، والميزات الأكبر للبيئة الإعلامية الجديدة بشكلٍ عام، في خدمة هذا الغرض العام موضوعًا مهمًّا، ولكن غالبًا ما يتم تجاهله.1

ثالثًا، لاحظ مصادر المعلومات المختلفة في هذه القائمة؛ فبعض الروابط الموجودة تشير إلى مصادر تقليدية إلى حدٍّ ما؛ هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) (رابط ٣)، شبكة البث العام (بي بي إس) (رابط ٩)، و«دليل بكين»، وهو دليل سياحي (رابط ٦). ومع ذلك، فإن أول رابطَين إلكترونيَّين لموسوعة ويكيبيديا التي يُنشئها المستخدمون يستحقان التعليق؛ فالموضوعات في هذه الموسوعة يكتبها ويحررها المستخدمون أنفسهم. ويمكن للقراء تصحيح الأخطاء، والاعتراض على التحريف أو التحيز في القصص، وعمومًا يستطيعون المشاركة في عملية صنع المعرفة.

أوضحنا في الفصل الأول أثر البيئة الإعلامية المتغيرة على العديد من الخصائص الأساسية للمجتمع. والآن تأمل إظهار موقع ويكيبيديا وغيره من المواقع المشابهة — على الرغم من وجود الموسوعات منذ قرون — لإمكانية إنتاج الإنترنت (ووسائل الإعلام الجديدة عمومًا) نماذج جديدة لخلق المعرفة، سواءٌ أدَّى ذلك إلى نتائج أفضل أم أسوأ (سنستين ٢٠٠٦، ٢٠٠٧، تابسكوت وويليامز ٢٠٠٦، وللاطلاع على وجهة نظرٍ ناقدةٍ للغاية لهذه الظاهرة، انظر كين ٢٠٠٧).

رابعًا، لاحظ عدد روابط المواقع الخاصة بوكالات الأنباء التقليدية: شبكة البث العام (رابط ٩)، وهيئة الإذاعة البريطانية (رابط ٣)، وصحيفة نيويورك تايمز، وصحيفة واشنطن بوست (رابط ١١، أرشيف الأخبار). هل توفر لنا شبكة الإنترنت حقًّا مصادر جديدة للمعلومات إذا كان قدر كبير مما نجده عليها — والأهم من ذلك، أكثر المعلومات وثوقًا واستخدامًا — تنتجه منافذ إعلامية موجودة منذ فترة طويلة جدًّا — وإن كانت تستخدم منصة مختلفة — وببساطة تعيد تدوير الأخبار المنتجة لوسائل إعلامٍ أخرى (على سبيل المثال، التليفزيون أو الصحف)؟ كثير من المعلقين يشيدون بالدرجة التي تقوض بها شبكة الإنترنت سلطة النخب التقليدية وتسمح لمجموعةٍ كبيرةٍ من الأشخاص بطرح ونشر جميع أنواع المعلومات أو انتقادها. ولكن ما مدى حداثة واختلاف ما نقرؤه على شبكة الإنترنت، لا سيما أن معظم الأبحاث تشير إلى أن المستخدمين لا يكادون يتخطَّوْن أول صفحةٍ أو صفحتين من نتائج البحث؟

خامسًا، ماذا عن روابط المصادر غير المألوفة حقًّا؟ لاحظ الرابط ٥، وهو لموقعٍ يقدم تاريخًا مصورًا لمذبحة ميدان السلام السماوي، وروابط لحملة توقيع عريضة،2 وما شابه ذلك. ويكشف مزيدٌ من التدقيق عن أن الرابط ٥ تديره مؤسسة ChristusRex.org، والتي هي — وفقًا لمصادر أخرى على الإنترنت — موقع «غير رسمي» للفاتيكان. ما الفرق الذي يسببه كون هذا الموقع مُدارًا من قِبل مجموعةٍ داعمةٍ للكنيسة الكاثوليكية، وهي مؤسسة معادية تمامًا للحكومة الصينية؟ من يتحمل مسئولية شفافية مصدر المعلومات؛ إذا كان هناك مَن يتحمَّلها؟ ومن دون هذه الشفافية، هل من الممكن تقييم المعلومات التي نحصل عليها تقييمًا نقديًّا؟
سادسًا، ينظر تساؤلنا الأخير إلى ما وراء النتائج الموجودة على الشاشة، إلى ما يكمن «تحت القشرة الخارجية»، إذا جاز التعبير؛ وهو كيف يعمل محرك البحث؟ لماذا نحصل على هذه الروابط بعينها وليس أي روابط أخرى؟ إلى أي نوعٍ من الشركات تنتمي شركة جوجل، وكيف تعمل (فايدياناثان، تحت الطبع)؟ كيف يختلف محرك بحث جوجل عن غيره من محركات البحث؟ كيف تكسب جوجل المال من عمليات البحث؟ وفقًا للصفحة الرئيسية للشركة:

كشركةٍ تجارية، تُحقق جوجل الأرباح عن طريق توفير فرصة للمعلنين لعرض إعلانات ملحوظة وفعالة من حيث التكلفة على شبكة الإنترنت، والتي تكون ذات صلة بالمعلومات المعروضة في أي صفحةٍ معينة؛ ما يجعل الإعلان مفيدًا لك ومفيدًا كذلك للمعلن الذي يقدمه. ونحن نؤمن بأن المتصفح يجب أن يعلم أن شخصًا ما دفع مالًا مقابل وضع رسالةٍ أمامه؛ لذلك نميز دائمًا الإعلانات عن نتائج البحث أو أي محتوًى آخر في الصفحة. نحن لا نبيع أماكن في نتائج البحث نفسها، ولا نسمح لأحد بأن يشتريَ تصنيفًا أعلى في تلك النتائج. (جوجل ٢٠٠٩)

في حين أن هذا الكلام يتوافق تمامًا (وقد يزعم البعض أنه متسق) مع شعار شركة جوجل: «لا تكن شريرًا»، فإنه يطرح عددًا من الأسئلة التي أثارها المدون جوش ماكهيو: «هل يجب أن تتعاون جوجل مع الحكومات الأجنبية القمعية؟ هل يجب أن ترفض ربط المستخدمين بمواقع تنشر «الكراهية»؟ هل يجب أن تعاقب المسوقين الذين يُعلون ترتيب موقعهم على نحوٍ زائف؟ هل يجب أن تحارب محاولات الكنيسة العلموية (كنيسة الساينتولوجيا) لإسكات منتقديها؟ وما يجب عليها فعله حيال ذاكرة التخزين المؤقت؛ وهي أرشيف جوجل للصفحات المفهرسة في السابق؟» (٢٠٠٣).

ثَمَّةَ مجموعة أخرى من الأسئلة تخص نهج جوجل حيال خصوصية أولئك الذين يستخدمون محرك البحث الخاص بها وغيره من الخدمات، منها: ماذا عن المعلومات التي تجمعها عن عمليات البحث الخاصة بك؟ هل تستطيع جوجل بيع هذه المعلومات؟ هل تفعل ذلك، وهل يحق لها فعله؟ وأخيرًا، بالنظر إلى أن جوجل هو أكثر محرك بحثٍ شعبيةً وأن محركات البحث هي الآن البوابات الرئيسية لجمع المعلومات على شبكة الإنترنت، ما الالتزامات العامة — إن وجدت — الواقعة على جوجل؟ هل ينبغي أن تُحدَّد هذه الالتزامات من قِبل الحكومة من خلال سياسةٍ عامةٍ أم من قِبل قادة الشركة في جوجل؟ وإذا كان ينبغي أن تُحدِّدها الحكومات، فأي حكومةٍ إذًا؟

السؤال الأخير يثير تخوُّفًا آخر كثيرًا ما نغفل عنه عندما نستخدم الإنترنت: هل يُشكل المكان ومزود خدمة الإنترنت الذي نستخدمه عندما نبحث باستخدام محرك جوجل أو عند استخدام شبكة الإنترنت أيَّ فارق؟ ما الدور الذي يلعبه التنظيم الحكومي في طريقة عمل الإنترنت؟ ما الشروط التي تُفرض على الشركات التي نعتمد عليها من أجل الدخول على الإنترنت؟ على سبيل المثال، إذا انتظرت حتى تصل فعلًا إلى الصين، وأجريت البحث السابق نفسه هناك، فربما تكون النتائج مختلفةً إلى حدٍّ كبير. يبدو أن جمهورية الصين الشعبية تستخدم نظامَ ترشيحٍ شاملًا ومتطورًا وفعالًا لمنع الوصول إلى المواقع التي تُعالج موضوعات تعتبر مرفوضة من قِبل الدولة (زيترين وإيدلمان ٢٠٠٣). لذلك، من المرجح أن بحثك في الصين لن يتضمن روابط لمواقع ويكيبيديا أو دائرة البث العام أو هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أو جريدتَي نيويورك تايمز أو واشنطن بوست. وحتى لو ظهرت الروابط، فستكون على الأرجح محظورةً ولا يمكن الدخول عليها من الصين. وفي الواقع، يظهر كل ٣٠ دقيقة أو نحو ذلك رسم كاريكاتوري لاثنين من ضباط الشرطة الشباب على الشاشة لتذكيرك بأن أنشطة الإنترنت الخاصة بك مراقبة ويقدمان رابطًا لإحدى الصفحات الحكومية التي يمكنك من خلالها الإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة من قِبل مستخدمي الإنترنت الآخرين (شكل ٢-١). لذلك، على الرغم من الطبيعة اللامركزية الظاهرية للإنترنت — التي توحي بها مصطلحات مثل «الواقع الافتراضي» أو «الفضاء الإلكتروني» — يتضح أن مكان الولوج إلى الإنترنت وسياسات الحكومة في هذا المكان تصنع قدرًا كبيرًا من الاختلاف.
وأخيرًا، ما الدور الذي يلعبه التعاون من جانب شركات الاتصالات مثل جوجل أو تايم وارنر أو أمريكا أون لاين أو سيسكو سيستمز في جهود الرقابة التي تبذلها الحكومة الصينية (شيلر ٢٠٠٧)؟ هل البرامج والأجهزة التي تسمح بتنفيذ الرقابة تستخدمها الحكومة الصينية فقط، أم أن حكومات أخرى تستخدمها، بما في ذلك الولايات المتحدة؟3
fig2
شكل ٢-١: الرسم الصيني الذي يُذكرك بأن أنشطتك على الإنترنت مراقبة. (المصدر: www.uberreview.com.)
تُلقي مناقشتُنا الوجيزة حول البحث باستخدام محرك جوجل للحصول على معلوماتٍ عن ميدان السلام السماوي؛ نظرةً عامة على المشكلات التي سنتعامل معها في هذا الفصل:
  • كيفية تنظيم شركات الإعلام وامتلاكها وتشغيلها؟

  • ما الفارق — إن وجد — الذي تفرضه تلك الأنماط على المحتوى الإعلامي الذي نتلقاه بالفعل؟

  • كيف تختلف وسائل الإعلام الجديدة — إذا كانت تختلف بأي حالٍ من الأحوال — عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الملكية والمحتوى؟

  • ما الفارق الذي تصنعه سياسة الحكومة؟

من خلال التركيز على أسئلةٍ من هذا النوع، تنتقل بنا الدراسات الإعلامية إلى ما هو أبعد من مجرد استخدام وسائل الإعلام (واستغلالها لنا)؛ أي إلى فهمها. وتعتمد «المعرفة الإعلامية» الحقة والمواطنة الفعالة في الوقت الحالي على هذا الفهم.

(٢) ملكية وسائل الإعلام والسيطرة عليها: الافتراضات والحقائق

عندما نفكر في بيئة الإعلام الجديدة — الإنترنت والتليفزيون والشبكات الخاصة والأقمار الصناعية، وأجهزة تسجيل الفيديو الرقمية، ومشغلات ملفات إم بي ثري، والهواتف الخلوية، وما شابه ذلك — فمن السهل أن تغمرنا مشاعر الدهشة والتعجب عندما تُوضع كل تكنولوجيا جديدة في أيدينا (إذا كنا قادرين على تحمُّل تكلفتها). في الواقع، يركز كثير من النقاشات العامة والبحثية على تأثير هذه الأنواع من تكنولوجيا الاتصالات الجديدة على حياتنا. على سبيل المثال، بينما نكتب هذا الكتاب، فإن تأثير تويتر4 على مختلِف جوانب الحياة الأمريكية — بدءًا من تأثيره على مدى الانتباه لدى المراهقين، ووصولًا إلى مدى ملاءمة كتابة نواب مجلس الشيوخ أو مجلس النواب تغريدات خلال خطاب الرئيس أوباما إلى الكونجرس والأمة — هو محل جدلٍ محتدمٍ وسخريةٍ لاذعةٍ عبر المشهد الإعلامي (بدءًا من الصحف ومرورًا بالمدونات ووصولًا إلى برنامج «العرض اليومي» (ذا دايلي شو)).

ما يلقى قدرًا أقل من الشهرة هو مجموعات الافتراضات حول وسائل الإعلام التي تكمن وراء تلك المناقشات؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، عندما نُركز على منتجاتٍ وتكنولوجياتٍ جديدةٍ محددة، فإننا نفترض دون تفكيرٍ ما يسمى «الحتمية التكنولوجية»؛ بمعنى وجود شيءٍ متأصلٍ في سمات تكنولوجيا معينة يؤدي حتمًا (أو أدَّى) إلى تغييراتٍ محددةٍ في حياتنا. وتُنبهنا الدراسات الإعلامية إلى مراعاة التشكُّك حيال هذه الافتراضات السهلة.

كمثال على ذلك، يُدَّعى في كثيرٍ من الأحيان أن المزيج الجامع بين التفاعل على الإنترنت، والانتشار الواسع لأجهزة الكمبيوتر الشخصية، والاتصال العالي السرعة بالإنترنت؛ له تأثيرات عميقة على طريقة عمل النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويُنظر إلى مزيج التقنيات هذا على أنه يؤدي إلى تسوية التسلسلات الهرمية الاجتماعية حيث يصبح كل مستخدمٍ منتجًا وأيضًا مستهلكًا للإعلام، وقادرًا على نشر الآراء الفردية والمنتجات والقدرات الفنية (تريبِّي ٢٠٠٥). وتشير حجج أخرى إلى أن هذه التقنيات سوف تُلغي الزمان والمكان بينما نتواصل عبر العالم، بصرف النظر عن المسافة أو المنطقة الزمنية، وأن هذا سيكون له أثر «حتمي» على إحساسنا بالمكان والهوية والقومية، وما شابه ذلك (شيركي ٢٠٠٨).

وعلى نحوٍ مماثل، وإن كان أقل تفاؤلًا بكثير، لطالما دفع النقاد الاجتماعيون أن التليفزيون، وغيره من وسائل الإعلام الإلكترونية اللاحقة، أدَّى إلى مجموعةٍ متنوعةٍ من العواقب الاجتماعية السلبية، من انتشار الأمية (الأمية الثقافية والسياسية، فضلًا عن أمية القراءة والكتابة)، إلى انخفاض في الحياة المدنية، إلى إضفاء طابعٍ فظٍّ على الثقافة الشعبية والسياسية، حتى انهيار الحدود الاجتماعية الراسخة وأدوار الجنسين (ميرووِيتز ١٩٨٥؛ بوستمان ١٩٨٥؛ بوتنام ٢٠٠٠). ومع ذلك، عبر التركيز على الخصائص الطبيعية المفترضة والتي لا يمكن تجنُّبها لتكنولوجيا الاتصالات، فإن تلك التحليلات تُقلل في كثيرٍ من الأحيان من شأن السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تُستخدم فيها هذه التقنيات.

في حالة التليفزيون، على سبيل المثال، ما الفرق الناتج عن وجود نظام بثٍّ مملوكٍ للدولة يلتزم التزامًا قويًّا تجاه الخدمة العامة، مثل النظام البريطاني أو الكندي، في مقابل نظامٍ تجاريٍّ مملوكٍ للقطاع الخاص يهدف إلى الربح، والتزامُه تجاه الخدمة العامة ضعيفٌ نسبيًّا، كما هي الحال في الولايات المتحدة؟ هل هذان النموذجان المختلفان للملكية والسيطرة يؤديان إلى محتوًى ونتائجَ مختلفةٍ على الرغم من أن كلًّا منهما يستخدم تكنولوجيا الاتصالات نفسها؟ وبالمثل، هل سيكون للإنترنت العواقب نفسها على الحياة السياسية والثقافية إذا كان مقدمو الخدمات من القطاع الخاص هم مصدر الاتصال الرئيسي بالشبكة، بدلًا من أن تكون متاحةً مجانًا عبر أنظمة لا سلكية يملكها ويديرها القطاع العام؟ هل سيكون لها نفس الآثار إذا تغيرت القواعد التي تفرض معاملة جميع حزم المعلومات على نحوٍ متساوٍ — والمعروفة باسم «حيادية الإنترنت» — من أجل السماح بوجود مستوياتٍ مختلفةٍ من الخدمة؟ باختصار، هل يمكننا فصل التقنيات المحددة المنتشرة في البيئة الإعلامية عن نظام الملكية والسيطرة على البيئة الإعلامية تلك؟

يشير باحثو الدراسات الإعلامية إلى أن الإجابة عن هذا السؤال الأخير هي لا؛ ففهم تطوُّر أي تكنولوجيا اتصالات معينة يتطلب تحليلًا للقرارات السياسية (بالمعنى الواسع لكلمة سياسية) التي تُشكل هذا التطوُّر. وهذا السؤال حيوي في جميع الأزمنة، ولكنه حيوي بالأخص في الوقت الراهن، بينما نجتهد للتعامل مع الآثار المترتبة على تكنولوجيا الاتصالات الجديدة والدور المناسب للحكومة والقطاع الخاص في تشكيل البيئة الإعلامية في العقود القليلة القادمة.

يوضح البروفيسور لورانس ليسيج — أستاذ القانون بجامعة هارفرد — هذه النقطة بينما يدرس التوقعات التي كانت تحيط بالعديد من ابتكارات الاتصالات في الماضي؛ فيشير إلى أنه عندما ظهرت الصحافة المطبوعة والتلغراف والراديو لأول مرة، توقع الكثير أن يكون لها تأثير هائل على بنية المجتمع من خلال زيادة قدرة الأشخاص العاديين على إنتاج الإعلام واستهلاكه؛ كما هي الحال اليوم أيضًا مع الإنترنت (ليسيج ٢٠٠٥؛ انظر أيضًا ستانداج ١٩٩٨). فعلى سبيل المثال، في أيام الراديو الأولى، اعتقد الكثيرون أن هذه الوسيلة الجديدة سوف تربط المواطنين بعضهم ببعض، وأن معظم الأفراد سيمتلكون أدواتٍ يمكنها بث واستقبال المحتوى (مثل هواة البث اللاسلكي). فلم يتوقعوا أن تُصنع جميع أجهزة الراديو تقريبًا في نهاية المطاف لاستقبال المحتوى الذي يُبث فقط، وأن هذا المحتوى سيُعده عدد قليل من الشبكات الرئيسية التي تسيطر على موجات الأثير بإذن الحكومة. ويشير ليسيج إلى أنه على كل حال لم تتحقق الإمكانات الديمقراطية للتقنيات الإعلامية الجديدة قطُّ بسبب البنى السياسية والاقتصادية التي كانت تُستخدم فيها؛ ففي كل حالة، على الرغم من أن التكنولوجيا زادت بالفعل من عدد الجمهور الذي يحصل على المعلومات المنقولة زيادة هائلة، فإنها في الوقت نفسه جعلت السيطرة على إنتاج هذه المعلومات مركزيةً إلى حدٍّ بالغ.5 باختصار، على الرغم من أن التقنيات الجديدة ربما كانت تملك داخلها إمكاناتٍ للتأثير على العلاقات الاجتماعية بطريقةٍ أو بأخرى، فإن الإمكانات التي تحققت في الواقع كانت تعتمد على النظم السياسية والاقتصادية المحددة التي نُشرت تلك التقنيات فيها.
بوضع هذا في الاعتبار، يصبح من المهم للغاية مراعاة السياسات العامة المحددة التي تحكم الإعلام في أي بيئةٍ معينة؛ فبالنسبة إلى الأمريكيين، معظم وسائل الإعلام الجماهيرية في الولايات المتحدة مملوكة للقطاع الخاص وتعمل من أجل الربح. وعلاوةً على ذلك، يُموَّل جزء كبير من وسائل الإعلام من خلال الإعلانات؛ ومن ثَمَّ يحكمها شرط إتاحة فرصة للمعلنين للوصول إلى أولئك الذين قد يرغبون في شراء منتجاتهم. وعند ظهور تقنيات إعلامية جديدة على الساحة، يُفترض أن هذا النمط من السيطرة والملكية الخاصة أفضل النظم وأكثرها طبيعيةً، سواءٌ أكانت نتيجته سيئة أم جيدة؛ مما يقودنا غالبًا إلى إغفال النظم البديلة التي لها تكاليف وفوائد مختلفة جدًّا.6

في بقية هذا الفصل، سوف نطرح سؤالَين مترابطَين حول النظم السياسية والاقتصادية المحددة التي تعمل ضمنها وسائل الإعلام. أولًا، مَن يملك ويسيطر على وسائل الإعلام؟ ليس هناك خلاف كبير حول الإجابة عن هذا السؤال؛ فإذا نظرنا إلى الولايات المتحدة أو العالم، فسنجد أن معظم وسائل الإعلام مملوكة من قِبل عددٍ قليلٍ جدًّا من الشركات الكبيرة جدًّا. ثانيًا، ما النتائج المترتبة على هذا النمط من الملكية والسيطرة المركزة على نحوٍ متزايد؟ هنا سنجد قدرًا كبيرًا من الخلاف حول الإجابة. وسوف نُلقي الضوء على الافتراضات التي تقف وراء الإجابات المتعارضة عن هذا السؤال الحيوي.

(٢-١) نماذج بديلة لملكية وسائل الإعلام

في حين يُسلِّم العديد من الأمريكيين بأن وسائل الإعلام تملكها الشركات الخاصة وتُموِّلها الإعلانات في المقام الأول، فإن هذا ليس النموذج الوحيد للملكية والسيطرة على وسائل الإعلام في المجتمعات الديمقراطية. وعلى الرغم من أن عبارة «مملوك للحكومة» كثيرًا ما ترتبط بالأنظمة القمعية التي تستخدم وسائل الإعلام المملوكة للدولة لأغراضٍ دعائيةٍ فجَّة، فإن هذه النتيجة تختلف للغاية في الأنظمة الديمقراطية؛ ففي المملكة المتحدة وكندا واليابان ومجموعة كبيرة من المجتمعات الديمقراطية الأخرى، معظم وسائل الإعلام هي ملكية عامة ومُموَّلة من قِبل الحكومة وتُكرِّس نفسها للمصلحة العامة لا لتحقيق الربح للشركات الخاصة.

على سبيل المثال، فإن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في المملكة المتحدة ملكية عامة وتُموَّل من خلال رسوم ترخيص يدفعها كل مَن يشتري جهاز تليفزيون. ويُشرف على هيئة الإذاعة البريطانية مجلس أمناء يخضع أعضاؤه للمساءلة أمام الجمهور ويقدمون ضمانًا لاستقلال الهيئة عن الحكومة. وبالطبع، تنتقد التقارير الإخبارية في هيئة الإذاعة البريطانية حكومات حزب العمال وحكومات حزب المحافظين وتتعرَّض لانتقادهم؛ لذا لا ينبغي لنا أن نضع في اعتبارنا نماذج ملكية وسائل الإعلام المختلفة المعتمَدة في جميع أنحاء العالم فحسب، ولكن يجب أيضًا أن نقيِّم مزاياها وعيوبها في ظل النظام السياسي المحدد الذي تعمل ضمنه. على سبيل المثال، وجود نظام بث قوي وحيوي ذي التزام تجاه الخدمة العامة في المملكة المتحدة يخلق سياقًا مختلفًا للغاية للاستجابة لتأثيرات وسائل الإعلام الجديدة على مجال السياسة الديمقراطية. وإلى حدٍّ ملحوظ، فإن ثقة العامة في هيئة الإذاعة البريطانية واستمرار اعتبارها أكثر المصادر اعتمادًا عليه للحصول على المعلومات السياسية تضع المعايير التي تلتزم بها المحطات التجارية الجديدة، وقد توفر كذلك ساحة لخطاب عام أقل تقسيمًا واستقطابًا مما هو ممكن في الولايات المتحدة.7
برزت نماذج جديدة للملكية والسيطرة مع ظهور شبكة الإنترنت؛ وهي وسيلة ذات ملكية جماعية، ولا تسيطر عليها جهةٍ واحدة، وتسترشد بالمبدأ الأساسي أن جميع حزم المعلومات يجب أن تُعامَل على نحوٍ متساوٍ، بصرف النظر عن مرسلها. ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن هذا النموذج للملكية الجماعية وحيادية الشبكة فيما يتعلق بحزم المعلومات ليس سمة أصلية من سمات الإنترنت، بل نبعت من السياق المحدد الذي طُورت فيه الشبكة، الذي كان في الغالب من خلال التمويل الحكومي الداعم لمحاولة العلماء بناء شبكةٍ من أجهزة الكمبيوتر؛ ولذلك، فإن شبكة الإنترنت تخضع للضغوط السياسية نفسها الدافعة إلى التغيير مثل أي وسيلةٍ أخرى (زيترين ٢٠٠٩).8

على الرغم من أن هذا نموذج جديد وفريد من نوعه للملكية والسيطرة، يوجد توتر بينه وبين المعتقد الأمريكي «الافتراضي» حول الملكية الخاصة والاستغلال التجاري الذي يطفو على السطح أثناء الصراعات السياسية حول سياسة الحكومة تجاه الإنترنت. في الواقع، وبينما نكتب هذا الفصل، ثَمَّةَ جهود جادة لتغيير الفكرة الأساسية لحيادية الإنترنت، عبر قراراتٍ متعلقةٍ بالسياسة العامة، عن طريق السماح لمقدمي خدمات الإنترنت بالحصول على رسومٍ إضافيةٍ من المواقع التي تريد معاملة تمييزية ومن ثَمَّ تحميل أسرع. وعلى نحوٍ مماثل، تُمثِّل مسائل الخصوصية (مَن الذي يُسمح له بجمع المعلومات عن عادات التصفح الخاصة بك، وقواعد بيع هذه المعلومات، وغيرها من المسائل) جزءًا من عملية صنع السياسات التي ستشكل شبكة الإنترنت في المستقبل. باختصار، لا يوجد شيء حتمي حيال نوع الوسيلة التي ستكونها شبكة الإنترنت في المستقبل؛ بل إن ذلك سيُحدَّد من خلال الصراعات السياسية حول قوانينها التنظيمية.

ونظرًا لأهمية هياكل ملكية وسائل الإعلام والسيطرة عليها، يجدر بنا أن نتساءل لماذا تمتلك الولايات المتحدة نظامًا مملوكًا للقطاع الخاص ويدار على نحوٍ تجاري. كما أشار روبرت ماكتشيزني (١٩٩٩ب)، الإجابة عن هذا السؤال فيما يتعلق بالإذاعة والتليفزيون تُبين أنه لم يوجد ما حتَّم تبنِّيَ هذا النمط بعينه؛ وأن النتيجة لم تُحدد من خلال سمات تكنولوجيا الاتصالات المعنية. بدلًا من ذلك، صاحب ظهور الإذاعة في ثلاثينيات القرن العشرين صراعات سياسية مريرة حول تحقيق توازن بين القيم التجارية والتعليمية والديمقراطية. ولعب حل هذه الصراعات دورًا رئيسيًّا في تشكيل البيئة الإعلامية الأمريكية خلال الفترة المتبقية من القرن العشرين.

كان الصراع الرئيسي حول ما إذا كان نظام البث الأمريكي الناشئ سيكون مملوكًا للقطاع العام وموجهًا نحو الأهداف التعليمية والثقافية (مثل هيئة الإذاعة البريطانية)، أم سيكون نظامًا مملوكًا للقطاع الخاص ومستهدفًا الربح لا يفرض على شركات الإعلام إلا التزاماتٍ محدودةً تخص المصلحة العامة، كما أصبح في نهاية المطاف. في ثلاثينيات القرن العشرين ظهرت حركة إصلاح قوية تعارض بث الإعلانات عبر الإذاعة ودعمت تركيزًا مهيمنًا على القيم العامة التي ينبغي للوسيلة الجديدة تعزيزها. وزعمت اللجنة الوطنية للتعليم عبر الإذاعة، باعتبارها واحدةً من تلك المجموعات الإصلاحية، أن «السماح لأصحاب المصالح الخاصة باحتكار أقوى وسيلةٍ للتواصل مع العقل البشري يدمر الديمقراطية؛ فمن دون حرية التعبير، ومن دون تقديمٍ صادقٍ للحقائق من قِبل الأشخاص الذين لا ينحصر همهم الأول في الأرباح، لا يمكن أن يوجد أي أساسٍ واعٍ لتحديد السياسة العامة» (مقتبسة في ماكتشيزني ١٩٩٩ب: ١٥٣). ومع ذلك، وعلى الرغم من ظهور جماعات الإصلاح التي طالبت بإعادة النظر بجديةٍ في نموذج الخدمة العامة (مثل هيئة الإذاعة البريطانية أو هيئة الإذاعة الكندية، التي كان يجري تطويرها في هذا الوقت) والمعارضة الشعبية الساحقة لإذاعة يمولها المعلنون، فإن الكونجرس اتخذ في النهاية قراره بشأن المسألة (دون جلسات استماع علنية)، وأنشأ النظام المملوك للقطاع الخاص الموجود لدينا اليوم. ويقول ماكتشيزني: «يوجد النظام الإعلامي بشكله الحالي لأن مصالحَ قويةً بَنَتْه بحيث لا يشارك المواطنون في اتخاذ القرارات الرئيسية المتعلقة بالسياسات التي شكلته» (١٩٩٩ب، صفحة ١٥).

(٢-٢) مَن يمتلك وسائل الإعلام؟

في الطبعات المتعددة لكتاب بن باجديكان الرائد «احتكار وسائل الإعلام» — الذي صدر للمرة الأولى عام ١٩٨٣، وبعد عام ٢٠٠٠ أُعيدَ نشره تحت عنوان «احتكار وسائل الإعلام الجديدة» — سجل الكاتب، وهو صحفي سابق وعميد فخري لكلية الصحافة في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، تَقلُّص عدد الشركات التي تمتلك معظم وسائل الإعلام (أي أكثر من ٥٠٪ منها) في الولايات المتحدة وتسيطر عليها؛ فبين أول طبعات كتابه وآخرها (التي ظهرت عام ٢٠٠٤)، كان عدد الشركات المسيطرة قد تَقلَّص من خمسين إلى خمس شركات (تايم وارنر، وديزني، ونيوز كوربوريشن، وفياكوم، وبرتلسمان). ومع حلول عام ٢٠٠٦ وانعكاسًا للطبيعة المتغيرة للبيئة الإعلامية، كان هناك ثماني مؤسسات إعلامية مهيمنة على المشهد الإعلامي الأمريكي:
  • جنرال إلكتريك (مالكة هيئة الإذاعة الوطنية (إن بي سي)، القيمة السوقية: ٣٩٠٫٦ مليار دولار).

  • ميكروسوفت (القيمة السوقية: ٣٠٦٫٨ مليارات دولار).

  • جوجل (القيمة السوقية: ١٥٤٫٦ مليار دولار).

  • تايم وارنر (القيمة السوقية: ٩٠٫٧ مليار دولار).

  • ديزني (القيمة السوقية: ٧٢٫٨ مليار دولار).

  • نيوز كوربوريشن (القيمة السوقية: ٥٦٫٧ مليار دولار).

  • فياكوم (القيمة السوقية: ٥٣٫٩ مليار دولار).

  • ياهو (القيمة السوقية: ٤٠٫١ مليار دولار).

هل ينبغي أن نشعر بالقلق حيال تركُّز ملكية وسائل الإعلام؟ إذا نظرنا ببساطةٍ إلى منافذ وسائل الإعلام — عدد المحطات التليفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف والمجلات ودور النشر واستوديوهات السينما، وما إلى ذلك — فسنجد قدرًا كبيرًا من التنوُّع على ما يبدو؛ فيوجد ٣٧ ألف منفذ منفصل لوسائل الإعلام؛ ٥٤ ألفًا إذا عددت جميع الصحف الأسبوعية، ونصف الأسبوعية، والصحف الإعلانية الأسبوعية، وأي «دوريات»، مهما كانت صغيرة أو محلية؛ وإذا ضمَّنَّا في التعداد شبكة الإنترنت، فإن الأعداد ستزيد أضعافًا مضاعفة. وبما أن شبكة الإنترنت مملوكة — كما أشرنا سابقًا — على نحوٍ جماعيٍّ ولا يوجد ممثل وحيد مسئول عنها، فلا توجد وسيلة حاسمة لمعرفة عدد المواقع وصفحات الويب الموجودة بالفعل. ومع ذلك، تشير التقديرات إلى وجود أكثر من مائة مليون موقعٍ مختلفٍ وأكثر من ٢٠ مليار صفحة ويب عند بداية عام ٢٠٠٧ (Boutell.com، ٢٠٠٧).
يتوقف بعض المحللين هنا على الأخص، ويجادلون في أن العدد الهائل لمنافذ وسائل الإعلام والعدد الأكبر لمقدمي المحتوى يدلان على وجود التنوُّع أكثر من أي وقتٍ مضى وأن تركُّز الملكية لا يمثل مشكلة ببساطة. على سبيل المثال، يطبق بنيامين كومبين — خبير اقتصاديات وسائل الإعلام — (٢٠٠١) المقاييس المحددة التي تستخدمها الحكومة الفيدرالية لتحديد الانتهاكات التي تحدث ضد مكافحة الاحتكار. ويخلص إلى أن وسائل الإعلام في الواقع واحدة من أكثر الصناعات تنوُّعًا في الولايات المتحدة. ومع ذلك، يختلف سي إدوين بيكر (٢٠٠٧) معه، مشيرًا إلى أن هذه الحجة تعتمد على اعتبار البيئة الإعلامية برُمَّتها سوقًا واحدة. ويرى بيكر أن هذا المنظور لا يفرِّق، على سبيل المثال، بين منتجي المحتوى الإعلامي — مثل محطات التليفزيون والصحف — والقنوات التي يُقدَّم المحتوى من خلالها إلى مواطنين مثل شركات القنوات الخاصة المدفوعة ومزودي خدمات الإنترنت وشركات الهاتف. ويواصل انتقاد نهج كومبين من خلال الإشارة إلى أنه يفترض أنه في حالة عدم رضا المستهلكين بالخيارات المحدودة في وسيلةٍ ما (على سبيل المثال، الصحيفة المحلية)،9 يمكنهم بسهولةٍ الاستعاضةُ عنها بوسيلةٍ أخرى (على سبيل المثال، المحطات الخاصة الإخبارية). لكن عندما يتعلق الأمر ببعض أشكال المعلومات، ربما يكون هذا النهج غير دقيقٍ حيال المشكلات التي يواجهها المستهلكون عند الانتقال من مصدرٍ للمعلومات إلى مصدرٍ آخر. على سبيل المثال، في حالة الأخبار المحلية، عندما اشترت شبكاتُ الإعلام الوطنية الكبيرة العديدَ من الصحف المحلية والمحطات الإذاعية، خفضت الموارد المخصصة لتغطية الشئون المحلية عبر وسائل الإعلام؛ ونتيجةً لذلك، لا توجد بدائل حقيقية للمستهلكين.

يشير نقد بيكر إلى مشكلةٍ أعمق حيال معاملة وسائل الإعلام باعتبارها سوقًا متنوِّعةً واحدة، وهي أن انتشار وسيلة جديدة — الإنترنت مثلًا — لا يعني أن المواطنين سيتوقفون عن الاعتماد على الأشكال القديمة من وسائل الإعلام مثل التليفزيون أو الصحف. والتركيز على الخصائص التَّحوُّلية للإنترنت يعد شكلًا من أشكال الحتمية التكنولوجية؛ وهذا لأنه يتغاضى عن مدى اعتماد المواطنين على أشكالٍ محددةٍ من وسائل الإعلام من أجل الحصول على أنواعٍ محددةٍ من المعلومات التي قد تكون غير متوافرة (على الأقل في الشكل الذي يحتاجه العديد من الناس) في وسيلة إعلامٍ أحدث أو مختلفة. وندعو في هذا الكتاب إلى التركيز على «وسائل الإعلام أثناء استخدامها» (كيفية استخدام وسائل الإعلام فعليًّا) بدلًا من التركيز على أي تكنولوجيا اتصالات جديدة معينة.

في بحثنا الذي تناول استخدام وسائل الإعلام خلال الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٠٤، وجدنا أنه على الرغم من أن العديد من المواطنين استخدموا الإنترنت بالفعل من أجل الحصول على مجموعةٍ كبيرةٍ متنوعةٍ من المعلومات، فإنه عندما تعلق الأمر بالسياسة ظلوا يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على المصادر الصحفية التقليدية، حتى عندما وجدوا تلك المصادر على الإنترنت (برِس وَويليامز وَجونسون وَمور ٢٠٠٥)؛ لذلك، لا تُعالج وسائل الإعلام الجديدة الانتقادات الموجَّهة للحالة الراهنة للصحافة المتخصصة (التي سنعود إليها في الفصل الثالث) بما أننا نجد ببساطةٍ المحتوى نفسَه، منتَجًا عن طريق أقسام الأخبار نفسها على الإنترنت بدلًا من عرضه على الهواء.

ونتيجةً لذلك، فإننا نتفق مع بيكر في أن البيئة الإعلامية تحتاج إلى تحليلٍ يراها سلسلةً من أسواقٍ مختلفةٍ ذات قابلية استبدالٍ محدودة. وعندما ننحاز إلى هذا الرأي، فإن صورة «التنوُّع الذي لا حدود له تقريبًا» تتغير كثيرًا؛ حيث إن الزيادة السريعة، على سبيل المثال، في عدد المواقع والقنوات الخاصة والقنوات الفضائية تحجب التراجُع الذي يحدث مع مرور الوقت في تنوُّع «مقدمي» المحتوى. وهذا له انعكاسات كبيرة على توافر المعلومات في أي مجتمعٍ ديمقراطي.

تأمل الصحف. على مدار القرن العشرين، تَقلَّص عدد الصحف؛ فبينما تضاعف عدد سكان الولايات المتحدة بين عامَي ١٩٠٠ و١٩٥٠، انخفض عدد الصحف من ٢٢٢٦ إلى ١٩٠٠ (باجديكان ١٩٩٢). وأكثر رقمٍ إيضاحًا هو أنه في عام ١٩٢٣ كانت ٥٠٣ مُدُنٍ أمريكية تمتلك أكثر من صحيفةٍ يوميةٍ واحدةٍ منفصلة الملكية؛ والآن تمتلك ٤٩ مدينة فقط أكثر من صحيفة واحدة (وفي ٢٠ من هذه المدن، تمتلك الصحف المتنافسة مقراتٍ ومطابعَ مشتركة)؛ ونتيجةً لذلك، يمتلك ٩٨ بالمائة من جميع المدن صحيفة يومية واحدة فقط. كذلك زاد تركُّز الملكية بين الصحف المتناقصة العدد. في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ٨٠ بالمائة من الصحف اليومية مملوكًا على نحوٍ مستقل، وبحلول عام ١٩٨٦، كان ٧٢ بالمائة من الصحف مملوكًا لشركاتٍ خارجية، وفي عام ١٩٨٩، كان ٨٠ بالمائة من الصحف مملوكًا لشركاتٍ خارجيةٍ وكان أكثر من نصف الصحف كافة مملوكًا لأربع عشرة شركة.10
ويتكرر هذا النمط من الملكية المركزة على نحوٍ متزايدٍ عبر العديد من أنواع وسائل الإعلام؛ ففي عام ١٩٨١، امتلكت ٢٠ شركة ٥٠ بالمائة من المجلات في أمريكا، والتي يبلغ عددها ١١ ألف مجلة، وفي عام ٢٠٠٤، امتلكت ثلاث شركات (تايم وارنر، وأدفانس، وهيرست) ٥٠ بالمائة (باجديكان ١٩٩٢؛ مشروع الامتياز في الصحافة ٢٠٠٦).11 وتنتمي أربع محطاتٍ تليفزيونيةٍ من بين كل خمس محطاتٍ في أكثر مائة سوقٍ كثافةً سكانية — والتي تخدم ما يقرب من ٩٠ بالمائة من الأُسَر في الولايات المتحدة — إلى مجموعات شركات متعددة الملَّاك. وقد زاد ظهور الأقمار الصناعية والتليفزيون الخاص عددَ المحطات التي يستقبلها المشاهد العادي على نحوٍ كبير. ومع ذلك، فعندما يتعلق الأمر بمزودي خدمة القنوات الخاصة، فإن ست شركاتٍ تملك ٨٠ بالمائة من جميع أنظمة القنوات ذات الاشتراك؛ وعندما يتعلق الأمر بمقدمي المحتوى، تتحكم سبع شركات في ٧٥ بالمائة من القنوات والبرامج الخاصة.
هيمنت ٦-٧ شركات إنتاج سينمائي على إنتاج الأفلام منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وفي عام ١٩٩٧، كانت أكبر ست شركات تحصل على أكثر من ٩٠ بالمائة من عائدات السينما في الولايات المتحدة. وأُنتجت جميع الأفلام عدا ١٦ فيلمًا من ١٤٨ فيلمًا وُزعت على نطاقٍ واسعٍ عام ١٩٩٧ عن طريق هذه الشركات الست (وحتى من بين هذه الأفلام الستة عشر، كثير منها أنتجته شركات باتفاقيات توزيع مع هذه الشركات الست).12 في عام ١٩٨٥، كانت أكبر ١٢ شركة عرض سينمائي تمتلك ٢٥ بالمائة من دور السينما، وفي عام ١٩٩٨، أصبحت تمتلك ٦١ بالمائة.

ويتزايد تركُّز الملكية بالفعل في مجال نشر الكتب والموسيقى أيضًا؛ ففي عام ١٩٩٨، سيطرت سبع شركات على نصف سوق النشر. فكان ثمانون بالمائة من الكتب يباع عن طريق عددٍ قليلٍ من الشركات العملاقة مثل بارنز ونوبل وعملاقة الإنترنت أمازون (التي تسيطر على أكثر من ٥٠ بالمائة من سوق الكتب الإلكترونية). فليس من المستغرب إذًا أن الحصة السوقية لبائعي الكتب المستقلين انخفضت من ٤٢ بالمائة عام ١٩٩٢ إلى ٩ بالمائة عام ٢٠٠٨. وبالمثل، تسيطر أكبر خمس شركات على ٨٧ بالمائة من صناعة الموسيقى. وفي حالة الموسيقى الرائجة، تُنتِج أربع شركات (فيفندي يونيفرسال، وسوني/بي إم جي، وتايم وارنر، وإي إم آي) ٧٥ بالمائة من الموسيقى الرائجة المسجلة (لونجهرست ١٩٩٥).

وكما يشير روبرت ماكتشيزني، فإن هذه الدراسة لكل قطاعٍ على حدةٍ «تُقلِّل تقدير» درجة تركُّز وسائل الإعلام لأنها لا توضح شركات الإعلام التي تمتلك حصصًا كبيرةً في قطاعَين أو أكثر. ويعد «التكتل»، الذي يشير إلى ملكية أنواعٍ مختلفةٍ من وسائل الإعلام من قِبل الشركة نفسها، أكثرَ إزعاجًا من التركُّز في أي مجالٍ واحد. فعلى سبيل المثال، كل شركة إنتاج سينمائي من الشركات الست في هوليوود تمتلك أيضًا مجموعة من شبكات التليفزيون، ومحطات التليفزيون، وشركات الموسيقى، والقنوات الخاصة المدفوعة، ونظم التليفزيون الخاصة والمجلات، والصحف، وشركات نشر الكتب، وما إلى ذلك. ولخص سمنر ريدستون — رئيس فياكوم — دافِعَ الشركات لتملُّك حصصٍ في مجموعةٍ كبيرةٍ من وسائل الإعلام قائلًا: «عندما يكون بوسعك إنتاج فيلمٍ بمتوسط تكلفة ١٠ ملايين دولار ثم ترويجه وبيعه من خلال المجلات، والكتب، والمنتجات، والبرامج التليفزيونية التي تُصدرها شركتك الخاصة، فإن إمكانات الربح تصبح هائلة» (عبارة مقتبسة في ماكتشيزني ١٩٩٩أ). ولكي تدرك معنى ذلك على نحوٍ أكثر تحديدًا، انظر حصص أكبر شركة إعلام — تايم وارنر — الواردة في الجدول ٢-٢.
جدول ٢-٢: ممتلكات تايم وارنر. (المصدر: «مَن يملك ماذا؟» (٢٠٠٩).)
مجموعة تايم وارنر للنشر
وارنر بوكس ليتل، براون بوكس فور يونج ريدرز
ذا ميستريوس برِس باك باي
وارنر فيجين بولفينش برِس
وارنر بيزنس بوكس تايم وارنر بوك جروب يو كيه
أسبكت تايم وارنر أوديو بوكس
وارنر فايث تايم إنك
وارنر تريجرز ساذرن بروجرِس كوربوريشن
تي دبليو كيدز صنسيت بوكس
ليتل، براون آند كومباني أوكسمور هاوس
ليتل، براون أدالت تريد ليجير آرتس
تايم وارنر: القنوات الخاصة
إتش بي أوه سي إن إن راديو
سي إن إن سي إن إن إنتر أكتيف
سي إن إن إنترناشونال كورت تي في (شراكة مع ليبيرتي ميديا)
سي إن إن إن إسبانيول تايم وارنر كيبل
سي إن إن هيد لاين نيوز رود رانر
سي إن إن إيربورت نتوورك نيويورك وان نيوز (قناة إخبارية على مدار ٢٤ ساعة مخصصة لنيويورك)
سي إن إن إف إن كيبلفيجين (٥٣٫٧٥٪ التليفزيون الخاص في المجر)
قنوات بحسب الطلب
مترو سبورتس (مدينة كنساس)
تايم وارنر إنك: الإنتاج/التوزيع السينمائي والتليفزيوني
وارنر برذرز كاسل روك إنترتينمنت
وارنر برذرز ستوديوز وارنر هوم فيديو
وارنر برذرز تليفيجن (إنتاج) وارنر برذرز دومستيك باي تي في
ذا دبليو بي تليفيجن نتوورك وارنر برذرز دومستيك تليفيجن ديستريبيوشن
وارنر برذرز تليفيجن أنيميشن وارنر برذرز إنترناشونال تليفيجن ديستريبيوشن
هانا-باربرا كارتونز ذا وارنر تشانل (أمريكا اللاتينية، آسيا-منطقة المحيط الهادي، أستراليا، ألمانيا)
تليبيكتشرز برودكشن وارنر برذرز إنترناشونال ثييترز (تمتلك/تدير دور سينما متعددة الشاشات فيما يزيد عن ١٢ دولة)
ويت-توماس برودكشن
تايم وارنر إنك: مجلات
تايم كوستال ليفينج
تايم آسيا وايت واتشرز
تايم أتلانتيك رييل سيمبل
تايم كندا إيجاويك (أخبار آسيوية أسبوعية)
تايم لاتين أمريكا برزيدنت (مجلة تجارية يابانية شهرية)
تايم ساوث باسيفيك دانكيو (طبخ ياباني)
تايم موني وولبيبر (المملكة المتحدة)
تايم فور كيدز فيلد آند ستريم
فورتشن فريز
أول يو جولف ماجازين
بيزنس ٢٫٠ أوت دور لايف
لايف بوبلار ساينس
سبورتس إلستراتيد سولت واتر سبورتسمان
سبورتس إلستراتيد إنترناشونال سكي
إس آي فور كيدز سكيينج ماجازين
إنسايد ستاف سكيينج تريد نيوز
موني سناب
يور كومباني سنو بورد لايف
يور فيوتشر رايد بي إم إكس
بيبول تودايز هوم أونر
هو ويكلي (طبعة أستراليا) ترانسوورلد سكايتبوردينج
بيبول إن إسبانيول ترانسوورلد سنوبوردينج
تيين بيبول فيرج
إنترتينمنت ويكلي ياتينج ماجازين
إي دبليو مترو وورب
ذا تيكيت أمريكان إكسبريس بابلشينج كوربوريشن (ملكية/إدارة جزئية)
إن ستايل ترافيل آند ليجير
ساذرن ليفينج فود آند واين
بروجريسيف فارمر يور كومباني
ساذرن أكسينتس ديبارتشرز
كوكينج لايت سكاي جايد
ذا بيرانت جروب مجلات مدرجة تحت علامة وارنر برذرز
بيرانتينج دي سي كوميكس
بيبي توك فيرتيجو
بيبي أون ذا واي بارادوكس
ذيس أولد هاوس مايلستون
صنسيت ماد ماجازين
صنسيت جاردن جايد
ذا هيلث بابلشينج جروب
هيلث
هيبوكراتس
خدمات إلكترونية
كمبيوسيرف إنتر أكتيف سيرفيسيس وينبلاد فاندس (١٨٪)
إيه أوه إل إنستانت ماسنجر ماب كويست دوت كوم – في انتظار موافقة الجهات التنظيمية
إيه أوه إل دوت كوم بورتال سبينر دوت كوم
ديجيتال سيتي وين آمب
إيه أوه إل يوروب دكتور كوب دوت كوم (١٠٪)
آي سي كيو ليجيند (٤٩٪ – خدمة إنترنت في الصين)
ذا نوت، إنك – محتوى حفلات الزفاف (شراكة بنسبة ٨٪ مع كيو في سي ٣٦٪ وهامر)
تايم وارنر: خدمات نشر إلكترونية/أخرى
رود رانر أمريكان فاميلي بابلشرز (٥٠٪)
وارنر بابلشر سيرفيسيس باث فايندر
تايم ديستريبيوشن سيرفيسيس أفريكانا دوت كوم
تايم وارنر: بيع بالتجزئة/سلع تجارية
وارنر برذرز كونسيومر بروداكتس
مدن ترفيهية
وارنر برذرز ريكرياشن إنتربرايزيس (تمتلك/تدير المدن الترفيهية العالمية)
تايم وارنر إنك: ترنر إنترتينمنت
إنترتينمنت نتووركس ترنر كلاسيك موفيز
تي بي إس سوبرستيشن كارتون نتوورك في أوروبا
ترنر نتوورك تليفيجن (تي إن تي) كارتون نتوورك في أمريكا اللاتينية
ترنر ساوث تي إن تي وكارتون نتوورك في آسيا/المحيط الهادي
كارتون نتوورك
إنتاج الأفلام
نيو لاين سينما ترنر أوريجنال برودكشنز
فاين لاين فيتشرز
الرياضة
أتلانتا بريفز
إدارات أخرى
ترنر ليرنينج ترنر هوم ستالايت
سي إن إن نيوز روم (برنامج إخباري يومي للفصول الدراسية) ترنر نتوورك سيلز
ترنر أدفينشار ليرنينج (رحلات ميدانية إلكترونية للمدارس)
استثمارات أخرى
نتسكيب كوميونيكيشنز أمازون دوت كوم (شراكة جزئية)
نتسكيب نتسنتر بورتال كواك دوت كوم
إيه أوه إل موفي فون ستريت ميل (شراكة جزئية)
آي أميز سويتش بورد (٦٪)
ما الفرق الذي تصنعه شبكة الإنترنت في هذه الصورة؟ من ناحية، ربما نجادل بأن المائة مليون موقع المنفصلة وزيادة اعتماد أعدادٍ أكبر من الناس على هذه الوسيلة بهدف الحصول على معلوماتٍ يُغيِّر جذريًّا من مشكلة التركُّز والتكتل. وهي حجة يتبنَّاها كثير من المتخصصين والمعلقين وواضعي السياسات. لكن على الرغم من وجود عددٍ كبيرٍ لا يمكن تصوُّره من المواقع، فإذا نظرنا إلى المواقع التي يتصفحَّها الناس في أغلب الأحيان، فسنجد أن أكثر المواقع شعبيةً يملكها عدد قليل من الشركات، كما لاحظنا في حالة بحثنا باستخدام محرك جوجل كي نحصل على معلوماتٍ حول زيارتنا للصين. ويُبيِّن الجدول ٢-٣ أكثر المواقع شعبيةً عندما يتعلق الأمر بالحصول على معلوماتٍ إخبارية. تعود ملكية سي إن إن ومجلة بيبول لشركة تايم وارنر. وتعود ملكية إم إس إن بي سي لشركة جنرال إلكتريك. وفوكس نيوز جزء من شركة نيوز كورب المملوكة لروبرت مردوخ، بينما تُعد ياهو وجوجل بطبيعة الحال من أكبر شركات الإنترنت.
وبينما قد يوجد عدد لا نهائي تقريبًا من المواقع على شبكة الإنترنت، فقد اتضح أن جميع أولئك الذين يبحثون عن المعلومات يستخدمون عددًا قليلًا جدًّا من المواقع، معظمها مملوك لشركاتٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ جدًّا. والعديد من هذه الشركات يمتلك حصصًا كبيرة في أشكالٍ أخرى من وسائل الإعلام أيضًا. وفي الواقع، فإنه حتى في حالة البحث عن المعلومات، يستخدم المتصفحون عددًا محدودًا إلى حدٍّ استثنائيٍّ من بوابات البحث؛ ففي يوليو ٢٠٠٦، تم ٦٢٫٠ بالمائة من عمليات البحث في الولايات المتحدة عن طريق جوجل، وتم ٩٤٫٥ بالمائة من عمليات البحث عن طريق مواقع جوجل وياهو وأمريكا أون لاين مجتمعة (موقع MarketingVOX، ٢٠٠٦). ومع ذلك، وقبل المُضي قدمًا، من المهم أن نلاحظ أن إثبات سيطرة عددٍ قليلٍ من الشركات الكبيرة — في عالم وسائل الإعلام — لم يذكر شيئًا عن الأثر الفعلي لتركُّز الملكية هذا على المجتمع، وهو موضوع يدور حوله جدلٌ كبير.13
جدول ٢-٣: مواقع الشبكة الأعلى تصفحًا للأخبار. (المصدر: موقع Hitwise.com (٢٠٠٧).)
الترتيب الموقع العنوان الإلكتروني الحصة السوقية (٪)
١ ياهو نيوز news.yahoo.com ٨٫٠٥
٢ سي إن إن دوت كوم www.cnn.com ٣٫٨٠
٣ إم إس إن بي سي www.msnbc.msn.com ٣٫٧١
٤ ذا ويذر تشانيل – الولايات المتحدة www.weather.com ٣٫٦٦
٥ جوجل نيوز news.google.com ١٫٩٢
٦ درادج ريبورت www.drudgereport.com ١٫٥٨
٧ نيويورك تايمز www.nytimes.com ١٫٥٧
٨ فوكس نيوز www.foxnews.com ١٫٥٦
٩ ياهو ويذر weather.yahoo.com ١٫٤٨
١٠ بيبول ماجازين www.people.com ١٫٣٩
ما يتضح أمامنا هو أن القلق إزاء تقلُّص عدد الشركات المسيطرة على معظم وسائل الإعلام معروف لدى الرأي العام الأمريكي ومصدر إزعاج بالنسبة إليه. وقد وجدت دراسة أُجريت عام ٢٠٠٠ تحت رعاية مؤسسة فورد فاونديشن أن ٥٠ بالمائة من الأمريكيين كانوا «يشعرون بقلقٍ شديدٍ بشأن الاندماجات في قطاع الإعلام»، وكان ٢٦ بالمائة «قلقين إلى حدٍّ ما» على الأقل. ووجدت الدراسةُ نفسُها أن ٧٠ بالمائة من الأمريكيين يعتقدون أن شركات الإعلام تنمو على نحوٍ مفرطٍ، وأن ٦٠ بالمائة من الأمريكيين لا يعتقدون أن عمليات الدمج في قطاع الإعلام أدَّت إلى «محتوًى وخدماتٍ أفضل». وفي دراسةٍ بمعايير أقل علميةً، أجرى برنامج الأعمال «موني لاين ويذ لو دوبس» على قناة سي إن إن استطلاع رأي على الهواء في مايو ٢٠٠٣ لمعرفة «ما إذا كان عددٌ أقلُّ من اللازم من الشركات يمتلك عددًا أكبرَ من اللازم من وسائل الإعلام أم لا»، أجاب ٩٨ بالمائة من المشاركين ﺑ «نعم» (CNN.com، ٢٠٠٣).

(٢-٣) الملكية والسيطرة في سياق عالمي

إن تكتُّل وتركُّز الإعلام ليس سمةً تُميز الولايات المتحدة فحسب، بل هي سمة النظام الإعلامي العالمي كذلك؛ فعلى سبيل المثال:

تمتلك شبكة البث الأولى في أمريكا، إن بي سي، وتدير أكثر من ١٤ محطة، إضافةً إلى سي إن بي سي — شبكة أخبار تجارية — وتيلموندو؛ وهي ثاني أكبر محطة تليفزيونية ناطقة باللغة الإسبانية في البلاد. وتمتلك فياكوم استوديوهات في كندا (فايمس بلايرز) … ويمكن مشاهدة سي إن إن الدولية في ٢١٢ دولة، ويبلغ عدد جمهورها اليومي مليار مشاهد عالميًّا. (جوتييريز ٢٠٠٤)

استُخدمت هذه الحقائق لإثبات أن التكتل والتركُّز اللذين يميزان المؤسسات الإعلامية الأمريكية يمتدان إلى جميع أنحاء العالم. وفي حين أن هذه الحجج صالحة، كما يشير باحثو الدراسات الإعلامية، من المهم أيضًا مراعاة السياق التاريخي الذي تطوَّرت فيه وسائل الإعلام وطريقة استخدامها في الواقع.

أولًا، لا يوجد شيء جديد أو مفاجئ في عولمة وسائل الإعلام؛ فعلى الأقل منذ أوائل القرن العشرين، أصبحت وسائل الإعلام عالمية. ويتمثل أحد الأمثلة على ذلك في إشارة ليزا جيتلمان إلى أن وسيلة الأصوات المسجلة كانت جزءًا من نظام عالمي للإنتاج والاستهلاك منذ أيامها الأولى في بداية القرن العشرين (٢٠٠٦). وجاءت المواد الخام لإنتاج التسجيلات نفسها من ألمانيا والهند. وبحلول عام ١٩١٠، كانت شركة بريتيش جرامافون كومباني تمتلك شركاتٍ تابعةً لها في الهند وروسيا وإيران، في حين كان لشركة إديسون ناشونال فونوجراف كومباني شركات تابعة لها في أوروبا وأستراليا وأمريكا اللاتينية. وبحلول هذا التاريخ نفسه، «كانت التسجيلات الموسيقية المنتَجة بكميات كبيرة متاحة للمستهلكين في بودابست وسيدني، وسانتياجو وبكين، وجوهانسبرج وجيرسي سيتي.» وظهرت شركات التسجيلات في كل أنحاء العالم، وقُبيل الحرب العالمية الأولى مباشرةً كانت هناك تسجيلات محلية مصنوعة في بيروت، ومطبوعة في برلين، وموزعة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط. وبالمثل، سُوِّقت تسجيلات التانجو الأرجنتينية على نحوٍ واسعٍ في أمريكا الجنوبية وأوروبا (جيتلمان ٢٠٠٦: ١٦-١٧).

من منظورٍ أعم، كانت التغيرات في تكنولوجيا الاتصالات نفسها هي التي سمحت للحكومات والشركات على حدٍّ سواءٍ بتوسيع عملياتها ونفوذها في جميع أنحاء العالم؛ ففي أوائل القرن العشرين، زادت سيطرة المملكة المتحدة على إمبراطوريتها المترامية زيادة هائلة، بسبب ملكية الكابلات العابرة للمحيطات، وما تُقدِّمه من مزايا مهمة للصناعة البريطانية. وفي وقتٍ لاحقٍ في هذا القرن، ساعد الهاتف والكمبيوتر الشركات على إدارة العمليات يوميًّا في جميع أنحاء العالم، بصرف النظر عن مكان العميل أو المورد أو المصنع أو المقرات الرئيسية المتعاونة في الواقع. والاستخدام الحالي لمراكز الاتصال الموجودة في جميع أنحاء العالم ليس إلا أحدث تطوُّر لتوسعة «الانتشار العالمي» للشركات المتعددة الجنسيات (بارنيت ومولر ١٩٧٤).

وكذلك فإن التركيز على التأثير العالمي لوسائل الإعلام الأمريكية والغربية ينطوي على خطر المبالغة في تقدير تأثير وسائل الإعلام الجديدة على حياة كثيرٍ من سكان العالم؛ فعلى الرغم من أننا نركز على تأثير الإنترنت على حياتنا، فإن ما يقرب من ثلث سكان العالم لم يُجروا أو يتلقَّوْا مكالمة هاتفية.14 وفي كثيرٍ من المناطق الحضرية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فإن إرسال بريد إلكتروني إلى شخصٍ في العالم الغربي أسهل من الاتصال بشخصٍ يعيش في قرية ريفية تبعد مسافة أميال (ريش ١٩٩٦). إن فهم ما يُسمَّى بالفجوة الرقمية بين الأغنياء والفقراء (بين الدول وداخلها على حدٍّ سواء) أمر حيوي إذا أردنا أن نفهم إمكانات ومخاطر البيئة الإعلامية المتغيرة على نحوٍ كامل.
ونتيجةً للفجوة الرقمية فإنه من المهم عدم المبالغة في تقدير التأثير الثقافي لوسائل الإعلام الغربية في المجتمعات غير الغربية؛ إذ ربما يكون مزيج وسائل الإعلام المستخدمة وتأثيرها مختلفًا تمامًا. وكما تشير سوزان سونتاج (٢٠٠٣)، فإن ثَمَّةَ افتراضًا شائعًا لدى العديد من المفكرين الغربيين في العالم الغربي المشبع إعلاميًّا يدفع بأن المَشاهد المنقولة أصبحت أكثر أهميةً من الأحداث الفعلية التي تُمثلها؛ وهذا الافتراض يتجاهل معظم العالم؛ حيث لا يتشابه تغلغل وسائل الإعلام وتأثيرها مع تغلغلها وتأثيرها في الدول الغنية.15

بوضع هذه الأمور المهمة في الاعتبار، ننتقل إلى مناقشة الجدل حول الآثار المترتبة على تركز ملكية وسائل الإعلام وتركُّز السيطرة عليها.

(٣) أهي قضية مهمة؟ عواقب التركز والتكتل

مع وجود استثناءاتٍ قليلة، لا يوجد نقاش تقريبًا حول العدد المتناقص من الشركات الذي يسيطر على المزيد والمزيد من الشركات المنتجة للمحتوى الإعلامي والشركات التي تمتلك قنواتٍ يتدفق من خلالها هذا المحتوى. والتساؤلات حول الفارق الذي يصنعه ذلك أكثر إثارةً للجدل. فهل ينبغي لنا كمواطنين ومنتجين ومستهلكين للإعلام أن نشعر بالقلق حيال ذلك؟ والأهم من ذلك، هل ينبغي للحكومة أن تفعل شيئًا للحد من التركُّز والتكتل؟ إلى حدٍّ كبير، لا يتعلق هذا النقاش بإثباتاتٍ أو أدلةٍ تجريبية (على الرغم من أن الأدلة يمكن أن تؤثر بالتأكيد على النقاش)، بل يتعلق بكيفية فهم المرء للعلاقات بين النظم والأسواق والسياسة الديمقراطية في مجال الإعلام.

(٣-١) الحجج المؤيدة لإعلام تحكمه السوق

يزعم البعض أنه لا يوجد سبب وجيه للقلق بشأن التركُّز أو التكتل؛ لا سيما في ضوء الزيادة الرهيبة في مصادر المعلومات التي تُقدِّمها وسائل الإعلام الجديدة مثل الإنترنت؛ فعلى سبيل المثال، يقول جيمس جاتوسو من مؤسسة هِريتيدج فاونديشن ذات التوجُّه المُحافظ:

خلال حرب العراق الأخيرة، كان الأمريكيون المتابعون للحرب يستطيعون الاختيار من بين نصف دستةٍ أو نحو ذلك من شبكات الأخبار؛ بما في ذلك ثلاث قنوات إخبارية ضمن القنوات الخاصة تعمل على مدار ٢٤ ساعة.

بالإضافة إلى ذلك، توافرت أخبار لا حدود لها تقريبًا على شبكة الإنترنت؛ كان يمكن للأمريكيين من خلال الشبكة متابعة التقارير الواردة من كل مكانٍ بدءًا من تقارير برنامج مات درادج حتى تقارير قناة الجزيرة. وكانوا يفعلون ذلك بأعدادٍ كبيرة؛ فوفقًا لمركز بيو للدراسات، فإن غالبية الأمريكيين الذين يمتلكون اتصالًا بالإنترنت حصلوا على معلوماتٍ عن الحرب في العراق من خلال الإنترنت. وتقريبًا واحد من كل ستة أشار إلى أن شبكة الإنترنت كانت مصدره الأساسي للأنباء.

قارن هذا الوضع بوضع جيلٍ سابق؛ عندما كانت تغطية حرب فيتنام تتطلب من المُشاهد اللحاق بأحد التقارير الإخبارية الممتدة لنصف ساعة على الشبكة الإخبارية، والتي تكمل تغطية إحدى الصحف أو المجلات. أو قارنه بحرب الخليج عام ١٩٩١، والتي كانت تقدم شبكة واحدة فقط — سي إن إن — تغطيةً لها على مدار ٢٤ ساعة، وكانت شبكة الإنترنت غير معروفة تقريبًا. (٢٠٠٣)16
تُطوِّر باحثة التواصل السياسي البارزة دوريس جرابر هذه الحجج أكثر بزعمها أنه حتى عند افتراض وجود تركُّز في ملكية وسائل الإعلام، فإن التنوُّع الهائل للمصادر ورغبة أصحابها في كسب المال يعني وجوب أن تظل وسائل الإعلام مستجيبة لمطالب المستهلكين؛ فتقول: «الصحفيون الأمريكيون في المؤسسات الكبيرة — على غرار زملائهم في الشركات الصغيرة المملوكة لجهاتٍ مستقلة — يهتمون بجذب جمهورهم؛ ومن ثَمَّ تعكس قصصُهم عادةً قيمَ المجتمع الأمريكي السائدة، بصرف النظر عن التوجُّه السياسي الشخصي للصحفيين (١٩٩٤: ١٠٢).»
ويشير كلٌّ من جرابر وجاتوسو إلى أن رغبة الشركات في تحقيق الربح وطلب المستهلكين لها والمصادر المتنوعة للمحتوى الإعلامي ستضمن جميعها استمرار استجابة مقدمي الإعلام لمطالب المستهلكين. باختصار، فإنهما يفترضان وجود منافسةٍ كافية — على الرغم من ملكية وسائل الإعلام المركَّزة — لضمان أن «اليد الخفية» للسوق سوف توفر المحتوى الإعلامي الذي يرغب فيه المستهلكون.17 وإذا كانت هناك مطالب غير مُلبَّاة، فإن مقدِّمًا ما للخدمات الإعلامية، سواءٌ أكان فرعًا من تكتُّل إعلامي كبير أو شركة جديدة (وهي التي قد تصبح في النهاية جزءًا من تكتل كبير)، سوف يُلبِّي هذه المطالب.

ومن ثَمَّ إذا قرر المرء، على سبيل المثال، الاطلاع على الجدول الزمني للبرامج التليفزيونية لأي نظام قنوات باشتراك أو نظام قنوات فضائية، فسيجد، فيما يتعلق بالمسلسلات الكوميدية القصيرة أو المسلسلات الدرامية أو برامج تليفزيون الواقع، مجموعةً متنوعةً إلى حدٍّ محيرٍ من البرامج التي يبدو أنها تلبي تفضيلات أي شخصٍ تقريبًا؛ فقنوات الكيبل والقنوات الفضائية وفرت أسواقًا متخصصة لهواة التاريخ أو مشجعي الجولف أو عشاق ألعاب الفيديو. وبالمثل، إذا ألقى المرء نظرة على رفوف المجلات في أي متجر لبيع المجلات، فسيبدو أنه توجد مجلات تستهدف أي هواية أو اهتمام تقريبًا. ويحدث كل هذا في قطاعات يكثر فيها تركُّز الملكية؛ وهي الإنتاج التليفزيوني وملكية قنوات الكيبل والقنوات الفضائية والمكتبات، ونشر المجلات.

(٣-٢) الحجج الرافضة لإعلام تحركه السوق

الباحثون الذين يرَوْن أن تركُّز ملكية وسائل الإعلام موجودٌ ومتنامٍ وفي غاية الأهمية يرفضون الحجج السابقة لسببين أساسيين؛ أولًا، بصرف النظر عن مدى تنوُّع وتعدُّد منافذ وسائل الإعلام، فالملكية المركَّزة تعني أننا لا نستطيع أن نفترض أن المحتوى يُعتبر بأي شكلٍ من الأشكال نتاجًا للسوق.18 ثانيًا، وهو أكثر سببٍ محوريةً، فالأسواق نفسها، حتى لو كانت تعمل على نحوٍ جيد، هي آلية غير كفء لضمان تقديم معلومات كافية للناس في دورهم كمواطنين — خلافًا لدورهم كمستهلكين — في المجتمع الديمقراطي (ماكتشيزني ٢٠٠٨).

السبب الأول للانتقاد ينبع من الحجة المقدمة سابقًا بأنه لا يمكننا التعامل مع النظام الإعلامي بأكمله كما لو كان سوقًا واحدة؛ فربما كان العدد الكبير من منافذ الإعلام يخلق منافسة شديدة لتلبية أنواعٍ معينةٍ من طلبات المستهلكين في أنواعٍ معينةٍ من وسائل الإعلام، حتى مع وجود الملكية المركَّزة؛ فشركات التسجيلات الموسيقية، حتى عندما تكون مملوكة للمؤسسة الإعلامية العملاقة نفسها، تتنافس لتلبية طلب الجماهير على الموسيقى الرائجة. ومع ذلك، فإن وجود منافسةٍ لتلبية طلبات المستهلكين في قطاعٍ واحد — الموسيقى الرائجة أو البرامج التليفزيونية التي تذاع في وقت الذروة، على سبيل المثال — لا يعني وجود منافسةٍ في القطاعات الأخرى؛ لذلك، لا يوجد سوى القليل من المنافسة — إن وُجدت من الأساس — فيما يتعلق بمزودي خدمات القنوات ذات الاشتراك أو القنوات الفضائية أو خدمة الإنترنت. كذلك، وحتى في عالم المحتوى، قد لا يوجد سوى قليلٍ من المنافسة على تقديم أشكالٍ أقل شعبيةً من الترفيه (مثل موسيقى الجاز أو الموسيقى الكلاسيكية)، أو التغطية السياسية ذات الجودة العالية والمتمرسة. والأهم من ذلك أن المنافسة في بعض قطاعات سوق الإعلام ربما تُخفي التواطؤ والتعاون والسيطرة — باختصار، فشل السوق — عندما يتعلق الأمر بأنواعٍ أخرى من المعلومات المنقولة، لا سيما المعلومات السياسية.

درس جيمس تي هاملتون — الأستاذ بجامعة ديوك — (٢٠٠٤) تأثير زيادة المنافسة في السوق على محتوى البرامج الإخبارية التليفزيونية. وقد وجد أنه مهما كانت الآثار الإيجابية للزيادة الهائلة والسريعة في القنوات ذات الاشتراك والقنوات الفضائية — رغم تركُّز الملكية — على خيارات البرامج الترفيهية المتاحة للمشاهدين، فإن المنافسة المتزايدة من القنوات ذات الاشتراك، والتركُّز المتزايد للملكية (الذي يفرض مزيدًا من الضغوط على أقسام الأخبار لتحقيق الربح)، وتراجع ضغوط الخدمة العامة نتيجةً لرفع القيود الحكومية، أدَّت إلى حدوث تراجُع عام في «الأخبار الجادة المهمة» وزيادة في الأخبار حول الترفيه والمشاهير.

ثَمَّةَ مثال آخر لتهديدات الملكية المركَّزة نجده فيما يُطلِق عليه سي إدوارد بيكر تأثير «برلسكوني» (٢٠٠٧: ١٨). استخدم سيلفيو برلسكوني — وهو أحد أقطاب الإعلام وأحد أغنى الأشخاص في إيطاليا — ممتلكاته الواسعة في مجال الإعلام لإنشاء حزبه السياسي، والذي قاده كرئيس للوزراء في أطول حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية استمرارًا في إيطاليا. وتسيطر شركته ميدياسِت على ٤٥ بالمائة من التليفزيون الإيطالي والعديد من الصحف المهمة. وفي حين أن ملكيته المركَّزة ربما لم تؤدِّ إلى أي تشويهٍ للسوق عندما تعلق الأمر بتوفير أنواعٍ معينةٍ من البرامج والمحتوى المطبوع للمستهلكين، فإن الوضع كان مختلفًا تمامًا في المجال السياسي؛ فوفقًا لما كتبه ألكسندر ستيل في مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو»:

بمجرد أن وصل برلسكوني إلى السلطة، كان لزامًا على الصحفيين في التليفزيون الحكومي الالتزام الصارم بصيغة أخبارٍ معروفةٍ باسم «الشطيرة»، حيث يبدأ كل تحقيقٍ سياسيٍّ تقريبًا بذكر وجهة نظر الحكومة (أو برلسكوني)، ثم تليها عبارة مقتضبة أو عبارتان للمعارضة، وينتهي بتفنيدٍ لها من الحكومة. واحتل برلسكوني نفسُه نسبةً مذهلةً من وقت البث في نشرات الأخبار الحكومية تصل إلى ٥٠ بالمائة، في حين احتلت المعارضة ٢٠ بالمائة بالكاد.

وعندما ألقى برلسكوني خطابًا في الأمم المتحدة في قاعةٍ تخلو تقريبًا من الحضور، قطع التليفزيون الحكومي الإيطالي مشهدًا لجمهور خطاب الأمين العام كوفي عنان ولصقه في مشاهد خطاب برلسكوني لخلق انطباعٍ لدى المشاهدين الإيطاليين بأن زعيمهم لقي تصفيقًا شديد الحماس من قِبل جمهورٍ يملأ القاعة بأكملها. وعندما عانى الاقتصاد الإيطالي خلال ثلاث سنواتٍ متتاليةٍ من الركود وكان معدل النمو يقترب من الصفر، كانت قناة راي (وهي شركة البث الحكومية) تعرض عالمًا مليئًا بالرخاء والسعادة.

… في الواقع، عندما فاز برلسكوني عام ١٩٩٤ ثم مرةً أخرى عام ٢٠٠١ … دُهش متخصصو العلوم الاجتماعية عندما وجدوا أن أقوى عاملٍ متنبئٍ بتوجُّه الناخبين لم يكن الانتماءَ الطبقيَّ أو الكَنَسيَّ، ولكن كان القنوات التليفزيونية التي شاهدها الشخص وطول فترة مشاهدته لها؛ فكان الأشخاص الذين شاهدوا قنوات ميدياست أكثر ميلًا إلى التصويت لصالح برلسكوني، وكان الذين شاهدوا شبكة راي المملوكة للدولة أكثر ميلًا إلى التصويت لصالح حزبٍ آخر. وكلما زاد عدد ساعات مشاهدة الأشخاص للتليفزيون في اليوم، زادت احتمالية تصويتهم لصالح برلسكوني. (٢٠٠٦)

على أقل تقديرٍ إذًا، قد لا يمثل تركُّز السيطرة على وسائل الإعلام في أيدي قلةٍ من الأشخاص (رغم الزيادة الكبيرة في عدد منافذ الإعلام) مشكلةً كبيرةً في نطاقاتٍ معينةٍ من وسائل الإعلام، لكن الخطر رغم ذلك قد يكون شديدًا جدًّا في النطاقات الأخرى؛ لا سيما السياسة والصحافة. والأكثر إثارةً للقلق — كما يشير ستيل — هو الوقع الأكبر لتأثير برلسكوني على الطرق التي يرى من خلالها المشاهدون إمكانية الحصول على معلوماتٍ كافيةٍ ونزيهةٍ حول الأمور السياسية:
أحد الأشياء التي فعلها برلسكوني عبر دخول معترك السياسة وعسكرة إمبراطوريته الإعلامية الخاصة كان استقطابَ جموع الصحفيين الإيطاليين بالكامل والقضاء على أي فكرةٍ حول إمكانية عمل الصحافة كمنتدًى مستقلٍّ تُقيَّم فيه ادعاءات المجال السياسي دون تحيُّز. (٢٠٠٦)19

وهذه الآثار الضارة على الطريقة التي يفكر بها المواطنون في المعلومات السياسية ويبحثون عنها لا تُعالَج بسهولةٍ في إطارٍ يُقيِّم وسائل الإعلام وفقًا لمبادئ السوق فحسب.

تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من مزاعم الفساد التي أحاطت فترة تقلُّد برلسكوني منصب رئيس الوزراء، فإنه اختير عام ٢٠٠٨ ليحتل المنصب ذاته مرةً أخرى (ومرةً أخرى واجه العديد من الفضائح). ومع أن المثال على العلاقة بين قوة الإعلام والسلطة السياسية ليس ذا صلةٍ مباشرةٍ بالسياسة الأمريكية — فليس لدينا أي شخصية سياسية تمتلك سيطرة مماثلة على وسائل الإعلام — فإنه عبارة عن ملاحظةٍ تحذيريةٍ حول مدى تأثير الإعلام على السياسة عندما تتَّحد مع وجهات النظر والأهداف السياسية.

في الولايات المتحدة وُجهت إلى فوكس نيوز اتهامات — مبررة غالبًا — بضبط تغطيتها الإخبارية خصوصًا لدعم «نقاط المناقشة» التي يتبنَّاها الحزب الجمهوري؛ فعلى سبيل المثال، في الآونة الأخيرة، أذاعت لقطاتٍ مضللةً بالغت كثيرًا في تقدير حجم الحشود المتجمِّعة في مسيراتٍ مناهضةٍ لإصلاح نظام الرعاية الصحية وفي توقيع كتاب سارة بالين. وبالمثل، فقد حرَّفت تفسير نتائج استطلاع الرأي حول قضية التغيُّر المناخي من أجل المبالغة في تقدير الشكوك حيال حقيقة الاحترار العالمي. ومع ذلك، وخلافًا لما حدث في إيطاليا، يتوازن تأثير هذا النوع من التحريف في الولايات المتحدة إلى حدٍّ ما من خلال التنوُّع الأكبر في وجهات النظر السياسية التي يُعبَّر عنها في وسائل الإعلام؛ فعلى سبيل المثال، كشف جون ستيوارت في برنامج ذا ديلي شو هذه الأخطاء وسخر منها، مشيرًا إلى أن فوكس نيوز «تُغيِّر الواقع ليتناسب مع قصةٍ محددةٍ سلفًا» (ديلي شو، ٢٠٠٩).

إن التركيز على تأثير تركُّز ملكية وسائل الإعلام على المعلومات السياسية يؤدي إلى نوعٍ ثانٍ أكثر أهميةً من الانتقادات، وهو تقييم النظام الإعلامي فقط من منظورٍ اقتصاديٍّ يُغفِل الكثير مما ينبغي أن يهمنا إلى أقصى حدٍّ عندما يتعلق الأمر بملكية وسائل الإعلام المركَّزة. يعني هذا أن منطق السوق يضع تسعير نصوص ومنتجات الاتصالات وما إذا كانت تلبي طلبات المستهلكين لوسائل الإعلام أم لا كمعاييرَ رئيسيةٍ للتقييم. ومع ذلك، ربما تكون عواقب النفوذ الذي يتأتى للتكتلات الإعلامية الكبيرة خارج نطاق اقتصاديات السوق إلى حدٍّ كبير؛ فملكية وسائل الإعلام المركَّزة تهمنا في سياق دورنا كمواطنين في مجتمعٍ ديمقراطيٍّ وكصناعٍ للثقافة، وليس كمجرد منتجين ومستهلكين للسلع والخدمات في السوق.

ويجادل بيكر (٢٠٠٧) على نحوٍ مقنعٍ بأننا نخطئ كثيرًا عندما نحاول أن نفهم وسائل الإعلام بأكملها في سياق الأسواق ومجازات السوق (مثل «سوق الأفكار»). وبدلًا من ذلك يشير إلى أنه عند تأمُّل تأثير ملكية وسائل الإعلام المركَّزة، فإننا بحاجةٍ إلى الاعتراف بأن تنوُّع السيطرة على وسائل الإعلام إلى أقصى حدٍّ هو ميزة إيجابية تزيد العمليات الديمقراطية والإبداع الثقافي. وكلها قضايا منفصلة تمامًا عن اهتمامات السوق. وكما يوضح تأثير برلسكوني، يمكن للنظام الإعلامي تقديم مجموعةٍ واسعةٍ من الخيارات الإعلامية الجذابة بسعرٍ منخفضٍ للغاية بينما لا يزال أبعدَ ما يكون عن تطبيق الكيفية التي ينبغي أن يعمل بها النظام الإعلامي في الدولة الديمقراطية. وكما يرى باجديكان، فإن العدد المتزايد للمنافذ الإعلامية إضافةً إلى العدد المتناقص للمالكين لها يعني أن «كل مالك يتحكم في قوة اتصالاتٍ هائلةٍ على نحوٍ مخيف» (٢٠٠٠: ٢٢٢).

ويضيف بيكر نقطةً أخرى وهي أن المطلوب هو أقصى تنوُّع في الملكية وفي إمكانية الوصول إلى الإنتاج الإعلامي، وليس بالضرورة أن يكون تنوُّعًا في المحتوى أو وجهات النظر؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، يمكن للديمقراطية أن تؤديَ إلى توافقٍ في وجهات النظر، ينبثق من النقاش العام المفتوح. والتمييز بين الصراع والتوافق في الآراء أمر حيوي للسياسة الديمقراطية، ولكن يجب أن يقوم على الحوار المفتوح. فالفارق شاسع للغاية — من وجهة نظر السياسة الديمقراطية — بين ما إذا كان الدعم الشعبي لحربٍ على سبيل المثال ناتجًا عن النقاش الحر والمفتوح في مقابل كونه ناتجًا عن الإعلام المُسيطَر عليه بإحكامٍ والذي يعامل الحرب بأنها مبررة. ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن أن تؤديَ ضغوط السوق أحيانًا إلى مغالاة وسائل الإعلام في التركيز على الصراع بينما يوجد في الواقع قدر كبير من التوافُق بين المواطنين. بعبارةٍ أخرى: يمكن أن تؤديَ ضغوط السوق في بعض الأحيان إلى التركيز الزائف على الخلاف من أجل تقييمات المشاهدة لا بسبب القناعات السياسية الراسخة.

قدم برنامج «ذا جون ستيوارت شو» — وهو برنامج يذاع على كوميدي نتوورك كان يقدَّم قبل أن يصبح المذيع الساخر مقدمًا لبرنامج «ذا ديلي شو» — ذات مرةٍ محاكاةً ساخرةً لبرامج «الصراع» التليفزيونية تلك مثل «هانيتي آند كولمز» أو «هاردبول». وفي فقرةٍ بعنوان «ستيفن ضد ستيفن» — بما أن المضيفَين كليهما كان اسمهما ستيفن — قلد ممثلان كوميديان أسلوب المواجهة بين هانيتي وكولمز. وبعد عدة جولات من الجدل، يلتفت ستيفن المنتمي إلى الجناح اليميني إلى نظيره المنتمي إلى الجناح اليساري ويقول: «أتعلم؟ أنا لم أفكر في ذلك قط. أعتقد أنك على حق.» وعند هذه اللحظة، يسود صمت تام ثم يهمس ستيفن اليساري المصدوم سائلًا ستيفن الآخر: «ما الذي تفعله؟ إنهم يدفعون لنا مقابل أن نتجادل.» ومع ذلك، يواصل ستيفن اليميني تقييم حجج خصمه بعناية، وغالبًا ما يقر رأيه. يصبح ستيفن اليساري في غاية الاضطراب وأخيرًا ينهار باكيًا ويقول إن البرنامج هو مصدره الرئيسي للدخل وإذا استمر هذا الوضع فسوف يفقد منزله وسيارته. ويهدأ فحسب عندما يرق ستيفن اليميني لحاله في النهاية وينعته بالأحمق. في البيئة الإعلامية حيث تصوغ الشبكات الإخبارية الخاصة تغطيتها بحيث تروق لأنصار اتجاهٍ معين (على سبيل المثال، المحافظون لدى شبكة فوكس نيوز والليبراليون لدى شبكة إم إس إن بي سي)، وحيث تبحث أعداد متزايدة من الأمريكيين عن معلوماتٍ تتفق مع ميولهم السياسية على شبكة الإنترنت، ندرك أن الإعلام ربما يلعب — بالفعل — دورًا رئيسيًّا في خلق الاستقطاب في الخطاب السياسي.20
من المهم أن نلاحظ أن فكرة وجوب تقييم النظم الإعلامية من حيث مطابقتها للمنطق الاقتصادي للأسواق هي في حد ذاتها فكرة زادت شعبيتها زيادةً كبيرةً من خلال تداولها في وسائل الإعلام. وهذا مثال على تأثير السيطرة على النظم الإعلامية من قِبل الشركات الخاصة. يروي توماس فرانك بأسلوبٍ كاشفٍ وناقدٍ تاريخَ ظهور ما يُسمِّيه «شعبوية السوق»، والتي تساوي الأسواق الخاصة بالحرية والديمقراطية. وفي هذه الصيغة، لا تصبح الأسواق مجرد وسائل للتبادل التجاري ولكنها أيضًا وسائل للتوافق (٢٠٠٠: xiv). مع ذلك، وكما يشير فرانك، فمن الأفضل اعتبار شعوبية السوق أداةً أيديولوجيةً لا بيانًا للواقع؛ لأنها معتمدة على تفسيرٍ مبسطٍ وغير دقيقٍ للتاريخ؛ فالأسواق بالكاد تمثل آليات شعبوية للمساواة. وإذا ما تُركت وشأنها، فإنها تؤدي حتمًا إلى تفاوتٍ كبير، كما اعترف الاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث بنفسه. لم توجد الأسواق قط (في المجتمعات الحديثة، على الأقل) من دون دعمٍ حكومي؛ تأمل على سبيل المثال الدور المهم الذي لعبته الحكومة في تطوير مكتب البريد والتلغراف والراديو والإنترنت. وأخيرًا، الأسواق ودورها السليم قضية خلافية تخضع باستمرارٍ للنقاش والنزاع السياسي، إما من قِبل النقابات العمالية أو أنصار حماية البيئة أو الرأسماليين الذين يسعَوْن إلى حماية أنفسهم من المنافسة (بولاني ١٩٤٤).

في الواقع، أحد الانتصارات التي حققتها الليبرالية الجديدة كأداةٍ أيديولوجيةٍ هو أن مؤيديها تمكَّنوا من جعْل انتشار الأسواق — من حيث أنواع السلع والخدمات التي تحتويها وكذلك انتشارها العالمي على نحوٍ متزايد — يبدو طبيعيًّا؛ ومن ثَمَّ، حتميًّا. (من المهم أن نلاحظ أن «الليبرالية الجديدة» تعني الليبرالية الاقتصادية؛ أي الإيمان بسوقٍ حرةٍ ذات أقل عددٍ ممكن من القواعد. ويجب عدم الخلط بينها وبين الليبرالية السياسية.) وأدَّى القَبول الواسع لمنظور السوق إلى مطالباتٍ أقلَّ من جانب الأصوات المهيمنة بوضع سياساتٍ تسعى إلى تدعيم القيم الديمقراطية عن طريق فرض حدودٍ على الأسواق أو تنظيمها.

في وسائل الإعلام عمومًا وفي وسائل الإعلام التليفزيونية والإذاعية خصوصًا، يقوض انتصار شعبوية السوق فكرة أن تقديم المعلومات يجب ألا يسترشد بمعيار العرض والطلب خصوصًا؛ وذلك لأن منطق الأسواق يختزل النصوص الإعلامية إلى منتجاتٍ بسيطة، ويجردها من آثارها الجماهيرية الأوسع نطاقًا (لايز ٢٠٠١: الفصل الخامس). ومن هذا المنظور، فإن «مسئولية» المؤسسات الإعلامية هي ببساطةٍ إنتاج البرامج التي تطلبها الجماهير، وأي انتقادٍ لوسائل الإعلام تلك التي يحكمها السوق يوصف بأنه نخبوي ومناهض للديمقراطية. ويضيع في هذه النسخة من الديمقراطية التي تفرضها شعبوية السوق أيُّ إدراكٍ للصالح العام خلافًا للذي ينبثق من سلوك المستهلك الفردي. ومع ذلك، وكما يشير الباحث القانوني كاس سنستين (٢٠٠١)، فبما أن أنظمة الاتصالات تخدم «حتمًا» هدفًا جماعيًّا في المجتمعات الديمقراطية، فلا يكفي أبدًا تقييمها ببساطةٍ على أساس ما إذا كانت تمنح المستهلك الفردي ما يريده أم لا.

مثال على التعارض بين ما تُقدِّمه السوق الخاصة والأهداف الجماعية لدى المجتمع الديمقراطي نجده في «أزمة الصحافة» الحالية في أمريكا؛ إذ يوجد انخفاض حاد في عدد الوظائف والتمويل المخصص للصحفيين المحترفين في الصحف والمجلات وأقسام الأخبار في شبكات الأخبار، وقد أعقب ذلك انخفاض في توافر المعلومات الموثوقة حول العالم. في أوائل فترة تأسيس الجمهورية، قال توماس جيفرسون إن توافر المعلومات الدقيقة شرط أساسي لمجتمعٍ ديمقراطيٍّ يعمل على نحوٍ جيد؛ ما يعني أن هذا النوع من المعلومات المنتَجة من قبل الصحفيين هو فائدة جماعية تخدم الديمقراطية. ومع ذلك، فإن جذور الأزمة الحالية تكمن في فشل السوق الخاصة؛ بسبب التراجُع الحاد في عائدات وربحية الإعلانات بالنسبة إلى الصحف وشبكات التليفزيون. وما دام تفكيرنا مقصورًا على منطق الأسواق، فلن نُلبِّيَ أبدًا الكثير من الاحتياجات الجماعية لدى مجتمعٍ عادلٍ وديمقراطيٍّ (نيكولز وماكتشيزني ٢٠٠٩؛ داوني وشادسون ٢٠٠٩).

(٣-٣) ماذا يعني ذلك في الوقت الراهن؟

إن ظهور مثل هذه المخاوف بينما نكافح من أجل صياغة سياساتٍ عامةٍ لتنظيم البيئة الإعلامية المتغيرة بسرعةٍ في الوقت الحالي ليس مفاجئًا، نظرًا للتاريخ الطويل لهذه الصراعات. إن النقاشات المثارة بشأن حيادية الإنترنت وفرض قيودٍ على الاستغلال التجاري لوسائل الإعلام الجديدة تستدعي إلى الذهن نقاشات إصلاحيي اللجنة الوطنية للتعليم عبر الإذاعة في ثلاثينيات القرن العشرين التي ناقشناها سابقًا.

وفي حين أن الصراع على مدى قدرتنا على تقييم وسائل الإعلام بمنطق السوق، والآثار المترتبة على الاستغلال التجاري، وما إلى ذلك قد خاضه أناس قبلنا، فمن المهم أيضًا ألا تغيب عن بالنا السمات الجديدة والمبتكرة حقًّا لدى وسائل الإعلام الجديدة التي نراها اليوم؛ فيوجد نقطة التقاء بين الإمكانات الثقافية لوسائل الإعلام الجديدة وإمكاناتها السياسية؛ ففي كلٍّ من الثقافة والسياسة أصبح من الممكن الآن أن نتصوَّر تغيرًا هائلًا في عدد الأفراد الذين يمكنهم أن ينتجوا موسيقاهم وفنهم ونقدهم وتعليقاتهم السياسية؛ مما يغير المجال العام الذي تنتشر فيه الثقافة والسياسة (جنكينز ٢٠٠٦). ومع ذلك، فإن نتيجة الصراعات السياسية هي التي ستحدد مدى نجاح النظام الإعلامي الناشئ في تحقيق هذه الإمكانات من أجل تحسين حياتنا الثقافية والسياسية. تضع هذه المناقشات السياسية أجوبة الأسئلة التالية على المحك: ما الفارق الذي يصنعه التفاعل وإمكانات الإنترنت الموسعة؟ كيف يمكننا استغلال إمكانات الإنترنت المذهلة لتوفير سهولة الوصول إلى المعلومات وإعطاء مساحةٍ لعددٍ ضخمٍ من الناس؟ هل ستتحقق هذه الإمكانات إذا قيَّمنا وسائل الإعلام فقط من وجهة نظر كفاءة السوق؟ هل توجد قيم نود أن نحتفيَ بها لا يتضمنها هذا المنطق؛ على سبيل المثال، احتمالات التنويع الكبير في عدد الأصوات ووجهات النظر التي يمكنها الآن أن تشارك في المناقشات العامة؟ ما سبل الإبداع الثقافي التي تفتحها وسائل الإعلام الجديدة؛ البث الصوتي وتصميم صفحات الويب والتقطيع والتركيب الموسيقي، وما إلى ذلك؟ هل سنمنح هذه القيم الاهتمام الكافيَ إذا نظرنا إلى وسائل الإعلام من وجهة نظر كفاءة السوق فحسب؟

(٤) خاتمة

قدَّمنا في هذا الفصل لمحة عامة عن بنية ملكية وسائل الإعلام والسيطرة عليها. وتُقدِّم هذه اللمحة دليلًا واضحًا على زيادة التركُّز والتكتل. وقد مررنا أيضًا على مختلِف النقاشات حول مدى القلق الذي ينبغي أن نشعر به كمواطنين حيال هذه النزعة. إن فهم هذه الديناميات أمر حيوي خاصةً في أوائل القرن الحادي والعشرين بينما يجري حاليًّا اتخاذ القرارات السياسية التي ستشكل بيئة الإعلام الجديدة على مدى العقود المقبلة.

وأيًّا كان موقف المرء بشأن هذه القضايا، فإن أبحاث المتخصصين في الدراسات الإعلامية توضح الأسئلة الرئيسية التي تقوم عليها المناقشات الحالية؛ فعلى سبيل المثال، هل وسائل الإعلام في شكلها الحالي توفر المحتوى المتنوع وذا الجودة العالية — فيما يخص المعلومات والمنتجات الثقافية — الذي نستحقه في دورَينا المتزامنَين كمواطنين ومستهلكين للثقافة والمنتجات المادية؟ وعلينا أيضًا أن نكون واضحين حول المعايير التي نستخدمها في الإجابة عن هذا السؤال: على سبيل المثال، ما حدود استخدام السوق ومنطق الاقتصاد؟

يعد اهتمام الدراسات الإعلامية بتاريخ الإعلام والمقارنات على مستوى الدولة ذا أهميةٍ خاصةٍ في فهم أنماط الملكية والسيطرة التي نشهدها الآن. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن التغيرات في البيئة الإعلامية لها تأثير كبير على كل جانبٍ من جوانب حياتنا تقريبًا. ومع ذلك، لا يوجد شيء حتمي في طريقة إنشاء البيئة الإعلامية. يمكننا بالتأكيد التعرُّف على الإمكانات الرائعة أو الشراك الخطرة فيما يتعلق بالابتكارات في مجال تكنولوجيا الاتصالات، سواءٌ أكانت التلغراف أو الراديو أو الإنترنت. ومع ذلك، يعتمد تحقيق هذه الإمكانات أو عدم تحقيقها على البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تُستخدم فيها. وفي الواقع، يوجد العديد من النماذج البديلة لملكية وسائل الإعلام والسيطرة عليها، ظهرت على مر الزمن وعبر الدول؛ من الملكية الخاصة كما هي الحال في الولايات المتحدة، مرورًا بأنظمة البث العامة في كثيرٍ من البلدان الديمقراطية، ووصولًا إلى الملكية الجماعية للإنترنت. وإذا أردنا تعظيم إمكانات البيئة الإعلامية المتغيرة، فمن المهم جدًّا للنقاش أن يكون على علمٍ بمجموعة البدائل كاملةً وعواقبها المحتملة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤