الفصل الأول

«النجدة! النجدة! من سينقذنا؟»

المشهد الإعلامي الجديد

(١) مقدِّمة

انجرفنا كلنا في أعظم ثورة واجهها مجالنا ومؤسستنا الصحفية على الإطلاق. (روبرت روزنثال؛ مدير تحرير صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل. في بيان استقالته)1

تشهد الصحافة حاليًّا تغيرات جذرية؛ وكأنها تستقل عربة في قطار الملاهي الذي يمكن أن يكون مثيرًا ومبهجًا لكن في الوقت نفسه مرعبًا للغاية. يفقد آلاف الصحفيين حول العالم وظائفهم، ومئات فقدوا أرواحهم. هي ليست مهنة «آمنة» بأي مدلول الآن. قد يزعم البعض أن ذلك لا يستدعي اهتمامًا؛ إذ فَقَدَ عمال شركة ديترويت للسيارات وظائفهم أيضًا، ولا ينعم العاملون بمجال الإغاثة بوقت هانئ في أماكن مثل دارفور أو العراق أيضًا. لكني أعتقد أن تلك قضية تستحق النظر لأن الصحافة تلعب دورًا اجتماعيًّا وسياسيًّا، وفي وسعها أن تصبح مصدر نفع لك. وهي قضية مهمة أيضًا لأن الصحافة مجال عمل عالمي ينطوي على قدر كبير من آليات توليد الثروة، وهي تلعب دورًا لا غنًى عنه في التشغيل الفعال للاقتصادات ولا سيما الأسواق المالية. فكيف يمكن للمرء أن يدير حياته المعقدة بدون معلومات جيدة؟ وكيف يتمكن من اختيار مدرسة أطفاله أو نوع سيارته التالية؟ إذن حتى وإن لم تكن مشفقًا على الصحفيين المساكين، أدعوك إلى أن تفكر في مصلحتك الشخصية.

ما مشكلة مجال عمل وسائل الإعلام الإخبارية؟ إنها تمتطي موجة من الابتكارات التكنولوجية، أليس كذلك؟ كيف يمكن أن تهدد كل هذه المدوَّنات والمواقع والأدوات البارعة الصحافة؟ ما الذي حدا بمحرر على الإنترنت لصحيفة بريطانية مدوية النجاح أن يقول لي — بشكل غير رسمي:

في خلال السنوات القلائل التالية سوف يُضْطَرُّ المساهمون إلى أن يضعوا في حُسْبانهم التخليَ عن نصيبهم في الأرباح، أو سيُضْطَرُّ ملاك المؤسسات التي نعمل بها إلى التفكير هل بمقدورهم قضاء بضع سنوات بدون أرباح ريثما نعيد هيكلة المجال.

ما نشهده الآن هو ليس تقادمًا وشيك الحدوث لصناعة منقرضة، بل حتى الإعلام التقليدي مثل الصحف لا يمكن مقارنته مثلًا بصناعة صنادل القنوات قبل عصر القطارات مباشرة. لكنه ليس أيضًا مجرد خطوة على طريق التقدُّم يجسدها التطور، من استخدام الآلة الكاتبة إلى برنامج معالج الكلمات على الكمبيوتر. سوف يتعيَّن إعادة هيكلة أنماط نظم العمل على مستوًى عميق وشامل تمامًا، ما سيسبب كمًّا هائلًا من المخاطر للاستراتيجيات الاقتصادية. تتلاشى عوائد الإعلانات أسرع بكثير من ظهور عوائد جديدة، وتبتلع المنافسة المكاسب التي تجلبها الكفاءة. يغير المستهلكون أذواقهم وعاداتهم ويعيدون توجيه قوتهم الشرائية، ويُضْطَرُّ المُنتِج، الذي هو رأس المال البشري، إلى التغير كليةً. المسألة ليست مجرد استثمار في تكنولوجيا وأنظمة جديدة؛ لأنه لا أحد يعرف أي تكنولوجيا ستكون هي الأوقع في خلال بضع سنوات، إنما يتعلق الأمر بثورة سوف تقودها واحدة من أهم قوى الكوكب الثقافية والاقتصادية، وكما يعرف كلٌّ منا من التاريخ، عادة ما تكون الثورات كريهة للغاية، وكثيرًا ما ينتهي بها الحال أن تسير في الاتجاه الخطأ تمامًا.

منذ أن تأسست مؤسسة «بوليس» البحثية (المنتدى الجديد المعني بالنقاش والبحث في الصحافة والمجتمع في كليتي لندن للاقتصاد ولندن للاتصالات)2 في صيف ٢٠٠٦، وأنا أتحدث إلى قادة الإعلام وممارسيه عن الكيفية التي سوف يبقى ويزدهر بها عملهم في ظل معالم الإعلام الجديد، ويروق لي استخدام استعارة رحلة عبر معالم مختلفة لأنها توحي بالكيفية التي ستختلف بها الرحلة على حسب من أين تبدأ، والاتجاه الذي تسلكه، والمناظر التي تمر بها. تتحرك أسواق الإعلام المختلفة بسرعات متفاوتة، وسوف يسلك الصحفيون الأفراد، أو الوكالات الإخبارية، أو الجماهير، طرقًا مختلفة ويكون لهم آراء مختلفة.
سمعت إبَّان جلسات نقاش منتدى بوليس أفكار في غاية الإبداع لطرق جديدة لجني المال من الصحافة من خلال إعادة تقديمها في أشكال لم تكن ممكنة من الناحية التقنية — ناهيك عن أن تكون مربحة — منذ بضع سنوات. بعضها مستمد مباشرة من التكنولوجيا الجديدة، مثل صحفي الجريدة المحلية الذي يحيل مجلة على الإنترنت لمشجعي كرة القدم إلى منصة إعلامية لمواقع رياضية تجلب أرباحها من الإعلانات.3 تبدو أفكار أخرى طُرحت أشبه بوسائل الإعلام «القديم» لكنها لا تزال تنتفع من الظروف الاقتصادية وظروف المستهلكين الجديدة التي بدأت في الظهور. على سبيل المثال في العصر الذي تكون فيه الأخبار على الإنترنت رخيصة ومتوفرة بغزارة قد يكون هناك سوق لمنتج يجمع ما بين المباهج الملموسة للإعلام التقليدي وبين محتوى صحفي حصري عالي الجودة على الطريقة القديمة. ما المانع في أن نبيع إصدارات يومية فاخرة تعج بكتابات كبار الكتاب إلى كبار الأثرياء مقابل ١٠ دولارات يوميًّا؟ أو لماذا لا تنفق المليارات للتغلب على أقرب منافسيك في مناقصة لشراء إحدى المؤسسات العالمية المنافسة؟ حسنًا، الفكرة الأخيرة ليست جديدة على الأرجح، فهي استجابة تقليدية من جانب أعضاء مجلس الإدارة للاحتفاظ بهوامش ربح ضئيلة، لكن سيكون من المثير للاهتمام أن ترى أي نوع من الاستراتيجيات ينجح.
ليست جميع التغيرات في نماذج العمل بمجال الصحافة ناتجة عن تغير تكنولوجي. تأمَّل على سبيل المثال النمو السريع في مجلات الرجال في المملكة المتحدة ثم تراجعها بعد ذلك؛ إذ نتج ذلك عن تغيرات تحريرية وثقافية واقتصادية في تركيبة اجتماعية لفئة فرعية بقدر ما نتج عن تكنولوجيا جديدة.4 شهدت مجلات مثل مجلة «جي كيو» و«لوديد» انتعاشًا في سوق المملكة المتحدة في تسعينيات القرن العشرين نتيجة لزيادة فئة ثرية من الشباب في عصر ما بعد الحركة النسوية، وقد تهاوتا مؤخرًا جزئيًّا نتيجة لزيادة المواقع الإباحية على الإنترنت التي يسهل الوصول إليها، ولأنهما أيضًا أصبحتا عتيقتي الطراز. من الممكن أن تتطور كلٌّ منهما في بعض الجوانب التحريرية، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن محتواهما أصبح متاحًا على الإنترنت وأن جمهورهما اتجه إلى الإنترنت، وهذا شيء لم يحدث بعد، بمثل هذه الطريقة اللافتة للنظر، مع سوق مجلات المرأة، لكن ربما يكون هذا مسألة وقت فحسب لأن معدل دخول النساء على الإنترنت في تزايد. لطالما كان لا يروق للنساء حالة العزلة الاجتماعية المرتبطة بالإنترنت. لكن، وفي نفس الإطار التنميطي لصورة المرأة، هل التسوق والتواصل الاجتماعي بلا شك ضمن نقاط قوة شبكة الإنترنت؟5 النقطة التي أريد التأكيد عليها هي أن الأمر يتعلق بالأشخاص وليس بالبرمجة، والأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن التغير الجوهري في اقتصادات الصحافة يتمحور حول الطريقة التي تسهل بها التكنولوجيا هذه التغيرات في نموذج استهلاك الأخبار.
ثمة ثورة موازية تحدث في نماذج العمل بمجال إنتاج الأخبار. تأمَّل كيف أصبح العمل بالصحافة أسهل وأرخص كثيرًا الآن مقارنة بخمس أو عشر سنوات مضت؛ فباستخدام هاتف محمول وكاميرا فيديو من تلك التي تُحمَل في اليد، وكمبيوتر محمول متصل بالإنترنت، أصبح الصحفيون الآن أكثر إنتاجية على نحو مطرد مما كانوا منذ خمس سنوات. تقدِّر جهة بثٍّ مثل هيئة التليفزيون المستقل في المملكة المتحدة نسبة التكاليف التي نجحت في تخفيضها ﺑ ٤٠٪ في الخمس سنوات الماضية، نتيجة تقليل عدد العاملين في المقام الأول. وفيما يلي يصف الشخص المسئول عن هذا التوفير في هيئة التليفزيون المستقل هذه العملية:

كانت التكنولوجيا الرقمية هي المحرك الرئيسي لهذه العملية؛ فقد أتاحت للصحفيين أداء الكثير من المهام التي كان يؤديها متخصصون مثل المونتير، والباحثين، وأمناء المكتبات؛ بل وحتى المصورين. وستستمر هذه العملية لكنني أرى تخفيض التكلفة الهائل التالي سينبع من إمكانية النقل الأسهل للصور؛ فجميع مكونات البنية التحتية المرتبطة بنقل الصور عن طريق الأقمار الاصطناعية، مثل مسارات الأقمار الاصطناعية، والمنسقين الفنيين، وعربات التغطية الإخبارية عن طريق الأقمار الاصطناعية ومراكز التحكم الرئيسي، من المحتمل تخفيضها، فيما يسود نقل الصور القائم على الملفات ويصبح شائعًا وسهلًا.

أما بعد؛ فأود أن أشير إلى أن التكاليف ستنخفض أيضًا لأن شرط توافر ميزانيات مرنة يمكن استخدامها لتغطية أية أحداث إخبارية محتملة، بَدْءًا من البث المباشر من أماكن ذوبان القمم الجليدية ووصولًا إلى شراء آخر مقطع فيديو رعب رخيص لإحدى فاتنات لوس أنجلوس زُجَّ بها في السجن — لم يكن ملحًّا بهذا الشكل من قبل؛ فقد اتسعت مكونات الأخبار أكثر من أي وقت مضى. (جاي كير؛ مدير العمليات في آي تي في نيوز، بهيئة التليفزيون المستقل)6

كما صرح جاي كير بأن المطالب الجديدة الموضوعة على كاهل الصحافة قد استنزفت جزئيًّا ما وفرته سياسة الترشيد. إلا أن تقديم تلك الصحافة قد أضحى الآن أسهل كثيرًا وأرخص. إن الإعلام التقليدي، مثل الصحف، أكثر تطورًا الآن بكثير لكن بتكلفة أقل بفضل التكنولوجيا الحديثة؛ فهي تتيح تغيرات سريعة في الطبعات، والطباعة بالألوان، وأن يُعِد الصحفيون النسَخ الخاصة بهم. سمح هذا ببقاء الصحف القديمة وبُزوغ صحف جديدة.

إن انخفاض تكاليف الأقمار الاصطناعية وتوسيع الأطياف الترددية الرقمية يعني أن النخبة القديمة من القنوات الأرضية الرئيسية قد ذهبت أدراج الرياح؛ بسبب العدد الهائل من القنوات الإخبارية الجديدة التي تُبث على مدار ٢٤ ساعة وغيرها من قنوات الأقمار الاصطناعية الإخبارية، والآن يتيح الإنترنت وغيره من التكنولوجيا مجموعة كاملة من المنصات الإعلامية للجماهير تمكِّنهم من الوصول إلى الأخبار. تُنقل الصحف الإخبارية والراديو والصحافة التليفزيونية الآن عبر الكمبيوترات والهواتف المحمولة. ناهيك عن المجموعة المتزايدة باستمرار من المدوَّنات ومنتديات شبكة الإنترنت ومواقع وسائط التواصل الاجتماعي التي تنشر أخبارها الخاصة على الإنترنت.

لن يخوض هذا الكتاب في تفاصيل التغير التكنولوجي، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن معدل التغير سيحوِّل أي شيء أكتبه هذا الشهر إلى أمور عفا عليها الزمن بحُلول العام القادم. أود التأكيد على أن هذا الكتاب يتمحور حول ديناميكيات الصحافة بينما ترتبط بالتكنولوجيا؛ فهو يتناول بالأساس قضية اقتصادية، لكن لا ينبغي اختزال هذه القضية في أمور مالية أو إدارية. سوف تنجح مؤسسات الإعلام الإخبارية في البقاء على المدى القصير إذا اتخذت القرارات السليمة فيما يتعلق بالتوظيف والتسويق، لكنها لن تنجح على المدى الطويل إلا في حال تفهُّم الديناميكيات الاجتماعية والسياسية والتحريرية الأكبر المؤثرة في مجالها، ويتعيَّن عليها إدراك أي نوع من الصحافة يحتاجه الجمهور ويرغب به وكيف تقدمه.

يطرح ظهور صحافة الإنترنت تحدِّيًا جوهريًّا أمام التنظيم الاقتصادي الذي تطبقه وسائل الإعلام الإخبارية حاليًّا، إلا أن الشكل الذي سيأخذه هذا التحدي وإلى أي مدى سيكون جوهريًّا بها لا يزال أمرًا في أيدينا تحديده؛ فالصحافة ليست مصدرًا ثابتًا مثل النُّحاس الذي يعتمد على قدرتنا على استخراجه من الأرض، وهي يمكن أن تصير مُدَرَّة للأرباح من خلال إدارة الموارد الموجودة ببساطة. لكن هذا على المدى القصير في أفضل الأحوال. إن الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة ومكاسب الكفاءة التي يجلبها معه لن يكون كافيًا للنجاح الاستراتيجي بعد السنوات القليلة المقبلة. لقد بُذلت جهود عظيمة لاستغلالٍ أكبر لكفاءة الصحفيين لقاء مقابل مادي أقل على مدار العقود الماضية، وتلك ضرورة حتمية تحرك أي نشاط تِجاريٍّ. ما نشهده الآن هو تحوُّلٌ أعمق في العلاقة بِرُمَّتها بين مُنْتِج الأخبار والمستهلِك؛ ومن ثم فإن أي شخص لديه رغبة في ضمان قابلية نجاح مؤسسته في مجال الإعلام الإخباري لما بعد الخمس سنوات المقبلة، فلا بد أن يتعامل مع التحولات الجذرية التي تكمن في صميم طبيعة الصحافة ومدى النفع التي تعود به على الجمهور ومدى جذبها له. منذ بضع سنوات فحسب لم يكن هناك يوتيوب ولا جوجل، والآن استحوذ جوجل على يوتيوب، في واحدة من أكبر الصفقات في مجال الإعلام في الآونة الأخيرة، وهما من بين أقوى اللاعبين في مِضْمار الإعلام، ويزداد تأثيرهما في الصحافة. إذا ركزت أكثر من اللازم على بنية المؤسسة التِّجارية كما هي، أو توقعات الأرباح على المدى القصير، فستفشل. وإن ما سيؤتي ثماره هو فكرة الصحافة وفكرة الصحافة الشبكية في المستقبل، وتلك الفكرة دون شك فكرة جيدة.

يعِد مجال عمل الصحافة بتوفير معلومات تمس الواقع يمكن أن يستخدمها الأفراد لبناء حياتهم. في المجتمعات التي تزداد ثراءً سوف يدفع الأشخاص مزيدًا من المال للحصول على معلومات جيدة. هم يحتاجون هذه المعلومات لصنع قرارات لا حصر لها تريد الحكومات الآن تركها للفرد أو للعائلة. تساعدك وسائل الإعلام الإخبارية في صنع القرارات من المهد إلى اللحد. أي مستشفى للولادة سوف تذهبين إليه؟ أي تطعيمات يحتاجها طفلك؟ أي نظام رهن عقاري ستلجأ إليه؟ أي منهج جامعي ستدرسه؟ هذا إلى جانب كل المعلومات المتعلقة بأنماط الحياة والخاصة بالأمور الترويحية التي تحتاجها من أجل التخطيط للإجازات، أو تغيير نظامك الغذائي، أو اختيار وسيلة ترفيهية. يبدو كذلك أن الناس يرغبون في جعل السياسة أكثر ذاتية وأن يقرروا لأنفسهم الدور الذي يَنْوُونَ لعبه في قضايا مثل التغير المناخي. تساعد الصحافة الأشخاص في صنع تلك القرارات، وتلك ظاهرة عالمية، فحيثما ترتفع الدخول يُتوقع أكثر من الأشخاص فعل المزيد من الأمور لأنفسهم. بصفة عامَّة هم يَبْدُونَ مستمتعين بهذه الحرية. لكن أفضل الاختيارات هي تلك المبنية على اطلاع واسع، والصحافة في أفضل أحوالها تساعد في توفير الحقائق والتحليلات المستقلة للقيام بهذا.

لكن الناس يرغبون فيما هو أكثر من الصحافة الاستهلاكية، على الرغم من قدر الأهمية التي يحظى بها هذا الشكل الذي كثيرًا ما يُستخفُّ به من الصحافة لدى الأفراد والأسر، فهم أيضًا على ما يبدو يرغبون في توافر المزيد من الفرص لمناقشة عالمهم، وهم يرغبون كذلك في مستوًى أكثر تنوعًا وأوسع اطلاعًا من التعليق عليه؛ كما يريدون معرفة المزيد عن بقية العالم، بالإضافة إلى معرفة الكثير عن أنفسهم وبيئتهم المباشرة. ثمة إحساس عامٌّ بأن السياسة والساسة الرسميين تحيط بهم سمعة سيئة، إلا أن هذا لا يعني أن الناس أضحَوا غير مهتمين بالسياسة؛ فقد زاد عدد الأفراد النشطين في الجماعات المحلية أو جماعات المصالح أو الضغط في الوقت الذي انخفضت فيه عضوية الأحزاب التقليدية، وفي المجتمعات الأقل تقدمًا التي تُتاح فيها فرص للمشاركة السياسية، يغتنم الأشخاص تلك الفرص؛ انظر إلى طوابير الانتخابات في جنوب أفريقيا أو العراق. إذن فيما نشهد تراجعًا في الطلب على التغطية الرسمية للسياسة — مثل تغطية الجلسات البرلمانية وجلسات الكونجرس — نجد زيادة في الاهتمام بتغطية جميع جوانب المجتمع المدني الأخرى؛ فكثير من هذه الجوانب ثقافي واجتماعي في محتواه، إلا أن له تبعات سياسية من حيث إنها لا تزال تؤثر على الآداب العامَّة والقرارات الأساسية والتنظيم الاجتماعي. كانت وسائل الإعلام الإخبارية بطيئة في استيعاب هذا التغير في اهتمامات الجماهير؛ ومن ثم فإن كثيرًا من وسائل الإعلام التي تتناول هذه القضايا هي من إنتاج المواطن، وقد بنى كلٌّ من جوجل وماي سبيس وفيسبوك إمبراطوريات أعمال ضخمة على أساس هذه الفكرة في المقام الأول.

وهكذا، ومع كل هذا الطلب على المعلومات والنقاش، لماذا تعاني المؤسسات العاملة بالصحافة من أزمة؟ لماذا تعج صفحات المؤسسات الإعلامية في الغرب بالحديث عن انخفاض العوائد وتقليص الوظائف؟ ولماذا يوجد عدد كبير جدًّا من المتشائمين الذين لديهم قناعة بأن الأسواق الإعلامية المتأخرة مثل أفريقيا لن تنهض أبدًا؟

أظن أن هذا يُعزى في جزء منه إلى الميل إلى النظر إلى مجال عمل الصحافة من منظورين على طَرَفَيْ نَقِيضٍ؛ فيذهب أحدهما إلى أن لزامًا علينا الدفاع عن الحالة المتعثرة للصحافة كما هي؛ فيما يبشِّر الآخر بقدرة الإعلام الجديد على طمس معالم الإعلام التقليدي وتوليد توجُّه جديد. ربما لا يكون أيٌّ منهما صحيحًا.

(٢) معالم الإعلام الإخباري الجديد

إن الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه هذا الكتاب هو أنه يستحيل ولا يحبَّذ فصل الإعلام الجديد عن ذلك القديم. تأمَّل على سبيل المثال الأخبار المطبوعة في مقابل الأخبار الإلكترونية في الولايات المتحدة. من الجليِّ أن معظم المواقع الإخبارية تستقي الكثير من معلوماتها الرئيسية من الألف والأربعمائة صحيفة الصادرة في البلاد أو من وكالات إخبارية مثل وكالة أسوشيتد برس. وفي القرن الأخير فقدنا أكثر من ألف صحيفة من هذه الصحف في الولايات المتحدة وحدها. نستنتج من ذلك أنه لا يزال هناك الكثير من الموارد الصحفية، إلا أن كلًّا منا سوف يعاني من تقلُّص مقدار المعلومات الصحفية المتاحة إذا ما واصلت تلك الصحف الإخبارية «التقليدية» انحسارها بنفس المعدل. إن الإعلامين «الجديد» و«القديم» مرتبطان بالفعل ارتباطًا وثيقًا، وكما سنرى في فصول لاحقة، هذا شيء يحتاج إلى تسريع وتيرة حدوثه لا مقاومته. لكن من الضروري محاولة فهم «حجم العمل الصحفي» الذي يجري على الإنترنت وبدء فهم «الطريقة» التي يحدث بها.

الأرقام في الغرب مذهلة؛ ففي المرة الأخيرة التي تفقَّدتُ فيها محرك بحث المدوَّنات «تكنوراتي» وجدت أنه كان يتعقَّب حوالي ١٠٠ مليون مدوَّنة. وتشير بعض التحليلات إلى أن ٣ بالمائة من المدونات متخصصة بالأساس في السياسة.7 ما يعني ظهور ٢,٤ مليون صوت تحريري سياسي لم يكن موجودًا من قبل، وتلك الأرقام تتزايد طوال الوقت. لا يوجد تعريف دقيق للمدوَّنات الإلكترونية؛ ومن ثم من الصعب أن نصف تحديدًا متى تصبح صحافة إخبارية وليست أحاديث شخصية. هكذا يحاول محرك تكنوراتي أن يحدد الفارق بينهما:
تختلف المدوَّنات الإلكترونية عن الإعلام التقليدي، فالمدوِّنون يميلون إلى أن يكونوا أكثر تحزبًا وتشبثًا بآرائهم وتركيزًا على موضوعاتهم المفضلة من الصحفيين الذين يناضلون من أجل الوصول إلى الحيادية التحريرية. تشجِّع المدوَّنات الحوار مع القرَّاء، وهو السبب الذي جعل كثيرًا من الصحفيين التقليديين ينشئون مدوَّنات أيضًا الآن. يمكن وصف العلاقة بين التدوين والصحافة بأنها تكافلية وليست تنافسية؛ فكثيرًا ما يكون المدوِّنون مصدرًا للصحفيين، ويحتوي الكثير من المدوَّنات على تعقيب أو تعليقات قصيرة على ما كتبه الصحفيون في هذا اليوم، وباستمرار تستخدم الشخصيات التي تتناولها الأخبار المدوَّنات للرد على ما كتبه الصحفيون عنهم، وفيما يتعلق بالإعلام التقليدي، يمكن للمدوَّنات الإلكترونية أن تعرِّف القرَّاء الجدد على الصحفيين وإصداراتهم.8
فيما تتجه الصحافة إلى الإنترنت أرى أن هذا الفارق يزداد ضبابية، وفي رأيي فإنه من الأنفع تصنيف كتَّاب المدوَّنات إلى «مدوِّنين شخصيين» و«مدوِّنين صحفيين»، يمثلون بالفعل «صحفيين شبكيين». وتشير الأبحاث الأخيرة9 إلى أن نحو ٤٠٪ من موضوعات المدوَّنات هو «حياتي وتجاربي». لكن حتى إذا لم تكن لديك رغبة في إدراج هذا ضمن نطاق أحد تعريفات الأخبار، فثمة حوالي ٢٠٪ من موضوعات المدوَّنات تتناول السياسة والأعمال التجارية والأحداث الجارية صراحةً.10 وكما سنرى في الفصل التالي، لا يدور الجدل حول كون هذه صحافة، وإنما حول كون هذا النوع من النشاط يعيد تعريف الصحافة نفسها. لكن في الوقت الحالي، لا تهتم بالدلالات والمعاني، فقط انتبه للأرقام؛ فهناك أكثر من ١,١ مليار نسمة من سكان العالم البالغ عددهم ٦,٦ مليارات نسمة تقريبًا يستخدمون الإنترنت، حوالي ثلثهم يمكنهم الاتصال بالإنترنت من خلال خطوط سريعة.11 تُرى الهواتف المحمولة على أنها المنصات الإعلامية التالية للتليفزيون والكمبيوتر الشخصي، وتصل نسبة حيازة الهواتف المحمولة حول العالم إلى ٣ مليارات شخص، ومن المتوقع بيع مليار هاتف كل عام بحلول ٢٠٠٩، والدليل على هذا هو أن الشاشة الصغيرة التي تُحمل في اليد مصممة بحيث تصبح بوابة إلكترونية فعالة للاتصال بالإنترنت.12 وفيما تستطيع حيازة هذا الهاتف المحمول مقابل بضعة دولارات أسبوعيًّا، فإن تكلفة الحصول على الخدمات على الهاتف تنخفض بالمثل. إن تكلفة توصيل خدمات الإنترنت والأقمار الصناعية آخذة في الانخفاض؛ مما يشير إلى أن تكلفة تشغيل قناة رقمية في المملكة المتحدة قد انخفضت إلى حوالي ١٠٠ ألف جنيه إسترليني، وبالطبع فإن البث التليفزيوني المباشر على الإنترنت أرخص. إن تكلفة تشغيل قناة على تليفزيون برتوكول الإنترنت مثل قناة «كارنت تي في»13 لا تنبع من تكلفة الطيف الترددي أو تكلفة استخراج الرُّخَص، وإنما هي تكلفة المحتوى في المقام الأول، وقد انخفضت تكلفة صنع البرامج نفسها. وحتى في المحطات الأرضية انخفضت التكلفة بنسبة حوالي ثلث القيمة الفعلية في فترة لا تتجاوز عَقْدًا من الزمان.14

يعني هذا أنه يمكن لأي شخص الانخراط في الإنتاج على نحو أكثر سهولة. لكن هذا لا يعني أن هذا المجال خرج من تحت سيطرة «الكبار»؛ كل ما هنالك أن «الكبار» اختلفوا؛ فأكبر مؤسسات إعلامية في العالم لم تَعُدْ تقتصر الآن على البي بي سي أو إن بي سي أو رويترز، وإنما تشمل أيضًا ديزني وجوجل. كانت الصحافة تلعب دورًا مركزيًّا في تاريخ كل عمالقة الإعلام السابقين في العالم، على الرغم من صغر الدور التي كانت تلعبه في نهاية المطاف في بيان الميزانية. ولا ينطبق هذا على الإعلام الجديد؛ إذ غالبًا ما تمتلك شركات قابضة عملاقة — تصب تركيزها على المصابيح الضوئية أو الرعاية الصحية وليست الصحافة — المنافذ الإعلامية؛ مثل شركة جنرال إلكتريك. على مستوى القاعدة، نجد أن مشروعات الإعلام الجديد المعنية بالصحافة فحسب أكثر ندرة من ملايين المشروعات التي تولِي انتباهها وطاقاتها للحكي أو وسائط التواصل الاجتماعي أو المواقع الإباحية أو الثقافة أو الرياضة.

إن المواقع الإخبارية التي توجد على الإنترنت فحسب كانت غالبًا مدوَّنات أو منتديات متخصصة للغاية في الأساس، عادة ما تكون مكَرَّسة لمجتمع بعينه واحتياجاته. في الأيام الأولى للإنترنت عادة ما كانت هذه المواقع تعرض أخبارًا عن الإنترنت ذاته؛ ومن ثَمَّ كانت مواقع الإنترنت المعنية بالأخبار، والتي تتنافس مباشرةً مع وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية، غير مألوفة نسبيًّا، وهي المواقع التي بدأت تظهر الآن. بعض هذه المواقع رفيع الثقافة وغزير المعرفة مثل المنصة الإعلامية ذات النزعة الأكاديمية «أوبن ديموكراسي دوت نت» opendemocracy.net،15 التي تنشر تحليلات وتحقيقات صحفية عالية المستوى، أو يخدم مجموعة من الصفوة المثقفة، مثل المجلة الأمريكية السياسية «سليت دوت كوم»  Slate.com16 التي تُنشر على الإنترنت، وتتسم بسعة الاطلاع وبطابعها العصري، وتستهدف المهووسين بالسياسة. البعض الآخر مواقع سياسية على نطاق ضيق مثل الموقع الإلكتروني لمقاطع الفيديو «كارنت تي في»،17 الذي هو عبارة عن موقع معتدل لتقديم محتوًى من صنع المستخدم، ويدعمه أفراد ليبراليون. وبعض المواقع، مثل «ديج دوت كوم»  Digg.com،18 هي بمثابة بوابات ربط إلكترونية يتحكم بها المستخدمون، وتقدم اقتراحات لا محتوًى خاصًّا بها. لا تزال هذه العلميات الإخبارية التي تتواجد كليًّا على الإنترنت جزءًا ضئيلًا من إجمالي العرض الإخباري. تُنتج المجموعات الإعلامية التقليدية التي بدأت النشر على الإنترنت مثل نيويورك تايمز أو البي بي سي كمًّا أكبر بكثير من الأخبار على الإنترنت؛ وعليه فإن التهديد الأكبر الذي يواجه الصحافة التقليدية المطبوعة يأتي من المواقع غير الإخبارية لا من المواقع الصحفية التي نشأت على الشبكة. إلا أن هذا سوف يتغير؛ فتجاهل الصحافة التي تعمل بابتكارية كبيرة على الإنترنت هو تجاهل المستقبل. لهذا فإن «الإعلام التقليدي» محقٌّ في خوض كفاحه من أجل البقاء على الإنترنت.

(٣) الإعلام التقليدي يقاوم

نجح نسبيًّا الكثير من وسائل الإعلام التقليدي حول العالم في مواكبة التغير التكنولوجي؛ فلا يزال الناس يقرءون الصحف حتى في المدن التي تسود بها التكنولوجيا الحديثة مثل لندن ونيويورك، ولا يزالون يلتفُّون حول التليفزيون لمشاهدة النشرات الإخبارية المسائية في المدن التي أصبحت مراكز لوسائل الإعلام الجديدة مثل سياتل ولوس أنجلوس. ارتفعت مبيعات الصحف على مستوى العالم بنسبة ٢,٣٪ عام ٢٠٠٦، وارتفعت بنسبة حوالي ١٠٪ على مدار الخمسة الأعوام الماضية، مع ارتفاع عوائد الدعاية بنسبة ٤ بالمائة و١٦ بالمائة تقريبًا في خلال الفترتين الزمنيتين نَفْسَيْهِمَا. بالطبع ساعد في هذا حدوث طفرة في الصين (حيث ارتفعت مبيعات الصحف بنسبة ١٥,٥ بالمائة منذ ٢٠٠٢) والهند (ارتفاع بنسبة ٥٣,٦ بالمائة)، بل وحتى في أوروبا حققت الصحف اليومية التي تُباع بمقابل مادي مبيعات أعلى بنسبة ٠,٧٤ في المائة عام ٢٠٠٦، وبإضافة الصحف اليومية المجانية ستكون نسبة الارتفاع في التوزيع ١٠,٢ بالمائة.19 إن أرقام إحصائيات التليفزيون قريبة من هذه الأرقام؛ انظر إلى الصين؛ ففي أوائل ثمانينيات القرن العشرين كان هناك ٢٠ جهاز تليفزيون فقط لكل ١٠٠ عائلة، لكن بحلول عام ٢٠٠٥ كان عدد أجهزة التليفزيون أعلى بنسبة ٣٠ بالمائة من عدد العائلات.20 كل هذا قد يبثُّ بعض الراحة في نفوس أولئك الذين لا يريدون التخلي عن الحقائق اليقينية المطمئنة المرتبطة بالإعلام القديم. لكن ماذا عن الأسواق التي يفرض فيها الإنترنت أكبر قدر من السيطرة؟
في الولايات المتحدة كان هناك انخفاض هائل في إحصاءات مشاهدات النشرات الإخبارية الرئيسية في التليفزيون، لكن يبدو أن هذا الانخفاض قد تباطأ على الأقل مؤخرًا وفقًا لما جاء عن تقرير مركز بحوث بيو لعام ٢٠٠٦:
على الرغم من توافر مذيعين جدد، وملايين العاملين بالتسويق، واهتمام الصحافة وغيرها، فقدت أخبار الشبكة المسائية مليون مشاهد آخرين، وهو ما يعادل تقريبًا نفس النسبة التي كانت تفقدها كل عام من الخمسة والعشرين عامًا الماضية، ولكونها نسبة مئوية، فإن العدد في ازدياد بالطبع … عدد الأفراد الذين يتصلون «بالإنترنت» لمتابعة الأخبار أو أي شيء آخر قد استقر الآن؛ مما يؤكد شيئًا رأيناه أول ما رأيناه العام الماضي. مجمل عدد الأفراد الذين يتصلون بالإنترنت الآن لمتابعة الأخبار هو ٩٢ مليون شخص.21
إذن ما يحافظ جزئيًّا على استمرار الإعلام التقليدي في الغرب هو تمسُّك السوق به؛ إذ لم يتخلَّ الجميع عن الصحافة التقليدية بين عَشِيَّة وضُحاها، وسيظل هناك مكان للأخبار التقليدية في المنصات الإعلامية التقليدية لبعض الوقت. وتوضِّح استطلاعات الرأي أن أغلبية السكان لا تزال تؤثِر متابعة الأخبار في التليفزيون أو الصحف.22 لا يتقبل الجميع فكرة مشاهدة الأخبار على الإنترنت أو على هواتفهم المحمولة، وهكذا لن يحتاج الإعلام التقليدي إلى البَدْء من الصفر مرة أخرى. إذا كنت ممن يستقلُّون القطار إلى العمل، فإن الصحف قد تظل وسيلة جيدة للغاية لاستهلاك المعلومات بطريقة ممتعة وفعالة. وإذا كنت قد أمضيت يومًا عصيبًا في العمل فإن مشاهدة نشرة أنباء مدتها نصف ساعة يمكن أن يكون طريقة أقل إرهاقًا لمتابعة آخِر تطورات أحداث اليوم من التدقيق في التحديثات الإخبارية التي يجمعها لك الملقم الإخباري آر إس إس على الإنترنت. تأمَّل الطريقة التي نجح بها الراديو في العالم الحديث. إن «الراديو اللاسلكي»23 هو أقدم طراز من وسائل الإعلام المذاعة، فهو يذكِّرنا بعصر ما قبل الكمبيوتر، ومع ذلك يثبت الراديو أنه الأبرع في مواكبة أنماط حياتنا المزدحمة وجداول مواعيدنا متعددة المهام في أوقات راحتنا.
سببٌ آخر للقوة المستمرة التي تتمتع بها المنصات الإعلامية التقليدية هو أن الأخبار التقليدية تعكس المهارةَ والخبرة؛ فالمشتغلون بالصحافة على مدار العشرين أو الثلاثين أو الأربعين عامًا المنصرمة أتقنوها للغاية. إن «ابتكار» أساليب لتقديم الصحافة لجمهور عريض، مثل صحافة التابلويد المصغرة، أو المذيع التلفزيوني، أو استقبال برنامج الراديو للمكالمات الهاتفية على الهواء، كلها أساليب جرى صقلها على مدار عقود من المنافسة والتطوير التحريري والتقني المتزايدين. كما صرح مارتن فيويل، نائب رئيس تحرير نشرة أخبار القناة الرابعة المملوكة لهيئة الإذاعة المستقلة: «مشكلتي مع الإنترنت بوصفه شجرة المعرفة ومع المدوِّن بوصفه صحفيًّا تكمن في مدى كفاءتهما في اكتشاف الأمور. إن أكبر خطر أمام الإعلام التقليدي ليس التطور التكنولوجي وإنما يتمثل الخطر في قدرتنا على تقديم منتج إخباري عالي الجودة.»24

حقًّا، إن مرءوسيَّ السابقين في نشرة أخبار القناة الرابعة هم خير مثال على قدرة الصحافة التقليدية على التكيف والنجاح. تتبنى النشرة، من إحدى النواحي، صيغةً صحفية عتيقة الطراز جدًّا؛ فهي عبارة عن برنامج يومي يُبَث مباشرةً من داخل الاستوديو، ويعرض لمدة ساعة أخبارًا وتحليلات مصحوبة بمقابلات على الهواء، وأفلامًا جاهزة تتناول أحداث اليوم في المملكة المتحدة وبقية أنحاء العالم، ولطالما كانت نشرة القناة الرابعة رائدة في تطوير أشكال التقديم؛ مثل استخدام المقدِّمين الواقفين وشاشة فيديو ضخمة في الاستوديو. بَيْدَ أن للنشرة في الأساس نفس الشكل الذي يعرفه مقدِّمو برنامج «الليلة» (تونايت) بقناة البي بي سي منذ ستينيات القرن العشرين، ومع ذلك فإبَّان العَقْد الماضي من الثورة الإعلامية الجديدة، ارتفعت معدلات مشاهدتها كما نالت استحسان النقاد. يُعزى هذا في جزء منه إلى أن جميع المعنيين بها كدُّوا في العمل بإخلاص كبير ومخيلة واسعة للحفاظ على مستواها؛ فقد استهدفت وكوَّنت قطاعًا من الجمهور ذا احتياجات محددة يبلغ حوالي مليون شخص يرغبون في مشاهدة أخبار عالية الجودة تعرض نظرة غير تقليدية على الأحداث. على أنها استغلت أيضًا التكنولوجيا الجديدة لتخفيض التكاليف وتقديم خدمات جديدة.

عندما التحقتُ بفريق عمل النشرة، كانوا لا يزالون مضطرين إلى إجراء أبحاث أساسية عن الأخبار عبر السير ذهابًا وإيابًا في الممرات لجلب قصاصات صحف مصفَرَّة من الأظرف الورقية المخزنة في «مكتبة المعلومات». منذ ذلك الحين أضاف طاقم أكبر قليلًا من المحررين برنامجين يوميين مدة كلٍّ منهما نصف ساعة إلى ما تقدِّمه النشرة، إلى جانب نشر محتوًى على الإنترنت يتضمن مقاطع فيديو ونشرات صوتية وتدوينات يقدِّمها الفريق، وقريبًا سوف تُقدَّم نشرات إخبارية إذاعية بالمثل. بالطبع كان هناك جوانب سلبية؛ فقد أُلغي العديد من الوظائف غير الصحفية، وتبرَّم بعض الصحفيين والفنيين من زيادة عبء العمل وسرعته وشعروا بأنه ليس لديهم وقت كبير لإجراء الأبحاث الاستقصائية أو للإبداع. إلا أنها منحت الصحفيين أيضًا الحرية والتنوع اللذين لم يكونا موجودَين في ظل أقسام العمل القديمة، وتواصل نشرة القناة الرابعة نيل الجوائز، والأهم أن ذلك قد ساعد النشرة على أن تخلق لدى مشاهديها انطباعًا بأنها مجتمع مترابط. عندما التحقت بالبرنامج كان يستقبل بضعة خطابات من المشاهدين في اليوم (والأمر الغريب أن بعضها كان مكتوبًا بالحبر الأخضر). أما الآن فهي تستقبل مئاتِ — إن لم يكن آلافَ — الرسائلِ الإلكترونية. وفي الغالب قبل البث المباشر على الهواء وأثناءه، وفيما كانت الخطابات قبلًا عبارة عن شكاوى متحذلقة أو غريبة عادةً، فإنها غالبًا ما تكون الآن جزءًا نشطًا من عملية تجميع الأخبار، فبدلًا من الاكتفاء بسؤال المشاهد عن رأيه، فإن النشرة تدرك أن لديها جمهورًا متفانيًا حقًّا وذكيًّا ومثقفًا، كثيرًا ما يستطيع أن يساعد في خلق الأخبار نفسها. ينشر موقع النشرة بالفعل مدوَّنات، ونشرات صوتية، إلى جانب الرسالة الإخبارية الإلكترونية اليومية لجون سنو «سنوميل»، وهي تشغل أداة رائجة على الإنترنت تُسمَّى «تقصي الحقائق» (فاكت تشيك) ترصد وتتحقق من المزاعم الصادرة عن المنظمات السياسية إبَّان الحملات الانتخابية.25 وسوف يشمل محتوًى جديدٌ استطلاعاتِ رأي المستخدمين وخدمةَ نشرات إخبارية للهواتف المحمولة، وستُفعَّل خدمة عناوين الأخبار التفاعلية السريعة التي من شأنها أن تربط الأخبار بالخرائط ذات الصلة والمعلومات الأساسية والأطر الزمنية. كل هذا مجانًا كما أقرت نشرة القناة الرابعة عندما ألغت خدمة «ريل فيديو»:
هناك الكثير جدًّا من مقاطع الفيديو المجانية — بالأخص تلك التي تقدِّمها محطة بي بي سي — حتى إنه لا يوجد ببساطة مستقبل تِجاري لمحاولة تحصيل المال من الأفراد لقاء هذه الخدمة، مهما كانت مقاطع الفيديو التي تقدِّمها جيدة أو أصلية؛ ففي الأساس هذه بيئة اعتاد فيها الأشخاص الحصول على معظم الأخبار مجانًا على الإنترنت، ولكي يحظى موقعك بعدد الزيارات المطلوب لا بد لك من المنافسة وفقًا لتلك الشروط. (مارتن فيويل، نائب رئيس تحرير نشرة أخبار القناة الرابعة)26

ومِنْ ثَمَّ نجحت النشرة في البقاء حتى نهاية العَقْد الأول من الألفية الجديدة في شكل رائع، على أن مشكلة تقاضي مال مقابل المحتوى ربما لا تمكِّنها من البقاء لعشر سنوات أخرى.

لا أشير بذلك إلى أن وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية على وشك أن تنمحيَ عن وجه الأرض. وكما سأوضح في الفصل التالي، فأنا على قناعة بأن هناك سوقًا متناميًا لوظائف الصحافة الأساسية. وبالفعل في عصر غزارة المعلومات، أزعم أنه يوجد في الواقع حاجة متزايدة إلى الطريقة التي يرشِّح بها الصحفيون المعلومات ويقدمونها. يقول مارتن فيويل: إن البرامج التي تركز على نوعية الصحافة التي يقدِّمها الصحفيون وتعكس النقل المباشر للأحداث هي التي قد تنجح:
المحتوى هو الجوهر. إن نظرتنا عن المستقبل تقوم على اعتقاد أننا في حاجة إلى تطوير ودعم سمعتنا كبرنامج يقدِّم صحافة تليفزيونية — محتوًى — أصيلة ومميزة وسط سوق رقمي يتشبع باطِّراد بأخبار عامَّة. تحظى الأخبار التليفزيونية التي تُبثُّ على الهواء مباشرة بمكانة مميزة مقارنة بمعظم أشكال البرامج التليفزيونية، التي تُبثُّ في مواعيدَ محددةٍ على قنوات محددة؛ إذ تتأقلم مع احتياجات المشاهَدة عند الطلب، وتشير الأبحاث إلى أن احتمال تغيير مواعيد بثِّها أقل من بقية أنواع البرامج التليفزيونية الأخرى. وإذا تَمَكَنَّا من الحفاظ على أصالتنا، وتأثيرنا في المشاهدين، فسوف نواصل التميز والنجاح.27

أُكِنُّ إعجابًا كبيرًا لجيلي من الشخصيات البارزة في مجال تحرير الأخبار الذين دعموا الصحافة في أشكالها كافة. لكن ثمة قوًى أساسية تفرض تأثيرًا يشير إلى أن قدرة وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية على التكيف عند الحد الأدنى ليست كافية، مهما كانت جودة المنتج الأساسي الذي تقدِّمه. على سبيل المثال أمَّنت نشرة أخبار القناة الرابعة، التي أسَّستها هيئة التليفزيون المستقل، مستقبلها المباشر نتيجة لترتيباتها التعاقدية مع المسئولين المنظمين للخدمة العامَّة بالقناة الرابعة. إلا أن الخطر على عوائد الدعاية في التليفزيون والفشل في تحصيل المال من المستخدمين على الإنترنت مقابل المحتوى، يمثل خطرًا متوسط الأجل. ثمة نقطة تحوُّل تكنولوجي وتغيُّر في الأجيال هائلَين لدرجة أن من يتمنَّون منا دوام القيم الفضلى لصحافة وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية سوف يتعيَّن عليهم فعل ما هو أكثر من مجرد إصلاح النموذج القائم. يتعيَّن على الأبطال الذين واجهوا الهجمة الأولى للإعلام الجديد إدراك أنه قد آنَ الأوان للاستعداد للصَّوْلة الثانية، ولكن هذه المرة لا بد لهم من الخروج من الخنادق.

(٤) المخاطر الجديدة التي يتعرض لها نموذج عمل الإعلام الجديد

إن المشكلة الأساسية التي تواجه الإعلام الإخباري التقليدي هي أن جمهوره يتضاءل. لا يرجع ذلك إلى مشكلة نزوح الجمهور إلى المنصات الإخبارية على الإنترنت فحسب، إنما يتمثَّل الخطر الأكبر في أن الجمهور يختفي ولا يظهر مرة أخرى دومًا في أي مكان آخر، فعلى سبيل المثال ليس جميع القرَّاء الذين يتوقَّفون عن شراء الصحف يحوِّلون انتباههم إلى النسخة الإلكترونية من الصحيفة على الإنترنت، بل وفي الواقع قد يتوقفون عن متابعة الأخبار التقليدية على الإطلاق، وحتى لو كانت إحدى المؤسسات الصحفية قادرة على تقديم منصة إعلامية لجمهورها على الإنترنت، فإنها لا تستطيع التيقُّن من أنها ستظل تجني أموالًا. بادِئَ ذِي بَدْءٍ، توجد مشكلةٌ في الطرق القديمة لإدرار الدخل؛ مثل الدعاية؛ فاللافتات الإعلانية على الإنترنت أو مقاطع الفيديو الإعلانية تعترض طريق القارئ بطريقة ملموسة تتداخل مع تجرِبته على الإنترنت؛ فهي أكثر إزعاجًا للقارئ على الإنترنت من إعلانات الصحف أو التليفزيون. ثانيًا، ثمة معضلة تاريخية ثقافية ترتبط بشبكة الإنترنت؛ فبعدما يدفع الأفراد مبلغًا من المال من أجل الحصول على خدمة الاتصال السريع بالإنترنت، فإنهم لا يرغبون في الدفع مرة أخرى لاستخدام الخدمات المتاحة على الإنترنت، فباستثناء خدمات المواقع الإباحية وبعض الخدمات الرياضية، ثمة توقُّع عامٌّ بأنه على غرار هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، ينبغي أن يكون الإنترنت متاحًا للاستخدام مجانًا. المعضلة الثالثة هي أنه فيما يكون الأشخاص متصلين بالإنترنت فإنهم يمتلكون جسارة إيجاد الكثير من الصحافة بأنفسهم، فهم يستخدمون محركات البحث للعثور على المعلومات وملقمات الأخبار آر إس إس لتنظيم استخدامهم الخاص للأخبار، بل والبعض منهم يقدِّم تغطية إخبارية بنفسه أو يعلِّق على المدوَّنات. وعدد كبير، وبالأخص الشباب، على ما يبدو يتصلون بالإنترنت وينسَوْنَ أمر الصحافة تمامًا أمام المغريات الأخرى مثل الألعاب، ووسائط التواصل الاجتماعي، والجنس.

(٤-١) فقدان الجمهور

أولًا دعونا نلقِ نظرة على حقيقة فقدان الجمهور. يصف محرر صحفي سابق بإحدى صحف المملكة المتحدة آلية هذه العملية على النحو التالي:
يقفز معدل مطالعة الأخبار على الإنترنت بسرعة مذهلة؛ حيث ارتفع بنسبة ٢٠٠٪ منذ عام ٢٠٠١. ثمة حقيقة مثيرة أثارت ذهولي، ألا وهي وجود صلة علمية وثيقة للغاية بين زيادة الاتصال عريض النطاق بالإنترنت وتوزيع الصحف؛ ففي مقابل كل ١٪ زيادة في الاتصال بالإنترنت، ينخفض توزيع الصحف بنسبة ٢٪، الأمر الذي ينبئ بدوره بموت الصحف الورقية بحلول عام ٢٠٩٠، على افتراض حدوث هذا بمعدل ثابت وأنه لا يوجد المزيد من التطورات. (ريتشارد أديس، شركة «شيك آب ميديا» للاستشارات الإعلامية)28

نتناول هنا النموذج الأمريكي/الغربي؛ لأنه من الجَلِيِّ أنه كلما ارتفع الاتصال بالإنترنت ازداد الخطر. تتغير الأرقام طَوال الوقت، غير أن المنازل التي يوجد بها إنترنت سريع تشهد انخفاضًا كبيرًا في استخدام وسائل الإعلام الإخبارية القديمة، وبالأكثر بين الشباب. جمهور الأمس يتضاءل فيما لا يظهر جمهور جديد بالغد.

إذن لا يتعلق الأمر بالأرقام فحسب، وإنما بفقدان ثقافة بأكملها من الاهتمام بوسائل الأخبار التقليدية، يتعلق الأمر بفقدان اهتمام الجمهور. لقد صار عدم استخدام وسائل الإعلام العامَّة ولا سيما التليفزيون الآن وسامًا من أوسمة الشجاعة بين بعض الشباب ممن يدَّعون كونهم مثقفين.29 الكثير من الآباء — بالأخص أولئك الذين هم في الثلاثينيات من العمر — يتفاخرون بقلة مشاهدة أطفالهم للتليفزيون، وهؤلاء الآباء يبتعدون الآن عن الشبكات «التقليدية» ويتجهون إلى برامج «ساخرة» ليتابعوا منها الأخبار، وفي الولايات المتحدة أصبحت الآن علامة على «تمدُّنك ومواكبتك للعصر الحديث» كمتحضر شاب ألا تكتفي فقط بقول: «هل شاهدت برنامج جون ستيوارت الليلة الماضية»،30 وإنما أن تقول أيضًا: «كنت أنصت إلى النشرة الصوتية بعنوان «انتظر، انتظر، لا تخبرني سأخمن أنا!» (وايت، وايت، دونت تيل مي) بالإذاعة الوطنية الأمريكية العامة في نهاية هذا الأسبوع.»31 ربما ما زالت هذه المجموعة نخبة صغيرة العدد في الولايات المتحدة، وإن كانت مجموعة من صانعي الآراء ممن يشكلون الاتجاه العام. لكن ثمة تغير أوسع في الطريقة التي يستوعب بها الجيل التالي المعلومات الإخبارية.
إن اليافعين في المجتمعات المتصلة بالإنترنت يتابعون الأخبار من خلال مواقع تجميع الأخبار على الإنترنت والأصدقاء وشبكات التواصل الاجتماعي في مقابل الصحف أو التليفزيون. من المعروف أن أولئك الذين يتصلون بالإنترنت يشاهدون التليفزيون بمعدل أقل؛ وهذا يبدو منطقيًّا. على سبيل المثال، ذكر ثلث مستخدمي اليوتيوب أنهم يشاهدون التليفزيون بمعدل أقل، ونحو ٨٠٪ من الشباب الذكور في الولايات المتحدة في الفئة العمرية ما بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين يستخدمون اليوتيوب؛ ومن ثم تُعدُّ هذه خسارة كبيرة في عدد المشاهدين.32 كل ما تفعله الزيادة في الاتصالات اللاسلكية هي أنها تعزز هذا الاتجاه؛ فإذا أمكن للأفراد أن يتصلوا بالإنترنت عن طريق الهواتف المحمولة، ووسائل المساعدة الرقمية الشخصية مثل البلاك بيري، والكمبيوترات المحمولة، عندئذٍ لن يضطروا إلى مشاهدة التليفزيون، وتشير الأدلة إلى أن نشرة أخبار التليفزيون التقليدية تخيِّب أملهم باطِّراد؛ لأنها تفتقر إلى مرونة المنصات الإخبارية على الإنترنت وفرص التفاعل معها وسهولة الوصول إليها. هم يستمتعون بالطرق الجديدة للتعامل مع المعلومات والمشاركة في صنعها وتوزيعها. يستخدم هذا الجيل الصاعد مواقع شبكات التواصل الاجتماعي مثل ماي سبيس وفيسبوك، فبالإضافة إلى المزايا العملية التي تقدِّمها المنصات الإعلامية الأخرى، فإن هذه الشبكات ممتعة وتمنح إحساسًا بوجود مجتمع يسمو على أي شيء يقدِّمه الإعلام التقليدي؛ فهي ببساطة تعيد تعريف الطريقة التي يتواصل بها جيل من الأجيال الجديدة، والأمر الأكثر رعبًا أنه لا يمكننا التنبؤ باتجاهها:
إن التحرك عشوائيًّا هو نتيجة حتمية لتقبل أهم مجموعة ديموغرافية اليوم، وهي عشرات الملايين من النخبة المستخدمة للإنترنت التي تأتي في طليعة ثقافة شبابية عالمية ناشئة بسرعة، فنتيجة لانتشار الهواتف الذكية والمدوَّنات وخدمة الرسائل الفورية ومواقع فليكر وماي سبيس وسكايب ويوتيوب وديج ودي. ليش. إس، يُلِمُّ الشبابُ المتفرقون في كل الأنحاء في الحال بما يحدث للآخرين مثلهم في كل مكان آخر. تتشارك هذه المجموعة كبيرة التأثير، التي تضم الكثير من الشباب الموسرين، أفكارًا ومعلومات عبر الحدود، ويحفزون الطلب على المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية، والوسائل الترفيهية، والسيارات، والأطعمة، والموضة. تخيَّل الأمر كما لو كان بوتقة افتراضية؛ فكلما ازداد عدد الشباب البارعين في استخدام شبكة الإنترنت ليصل إلى مئات الملايين، زاد تأثيرها. (ستيف هام؛ صحفي في مجال الإعلام)33

وسنستفيض في هذا الموضوع في الفصل التالي، لكن يكفي أن نذكر الآن أن هذا تحوُّل اجتماعي يعزِّز ويقوِّي فقدان الجمهور والاهتمام بالإعلام التقليدي.

(٤-٢) فقدان العوائد

حتى في القطاعات التي يبتكر فيها الإعلام التقليدي، فإنه لا يزال يعاني. في الولايات المتحدة بعض من أكثر الجهود ابتكارًا تقوم بها صحف محلية. صحف مثل «ميامي هيرالد» كدَّت في العمل من أجل الوصول إلى جماهير جديدة على الإنترنت من خلال تقديم نسخة باللغة الإسبانية من الصحيفة على سبيل المثال، وهو شيء ربما كان باهظ التكلفة للغاية على صحيفة، لكنه في بعض الأحيان يساعد في الحفاظ على مستوى المبيعات، ويعني أنه عندما يتصل القرَّاء بالإنترنت فإنهم لا يتجهون إلى جريدة أخرى. إلا أن الأرباح لا تأتي رغم ذلك؛ فكما يشير المحلل الإعلامي ميكا سويرز في الفقرة التالية فإننا لا نملك ببساطة البيانات اللازمة لإثبات قيمة الصحافة على الإنترنت للمعلنين.34
تعاني الصحف من ضغط كبير لإيجاد أدلة ملموسة على فوائد مشروعاتها على الإنترنت؛ فعلى الرغم من المزاعم التي تدعو إلى التفاؤل، فإن شبكة الإنترنت تجلب ٧٪ فقط من العوائد، وثمة القليل من التوثيق عن فاعلية الدعاية على الإنترنت ومدى الانتشار المحلي لمواقع الصحف. (ميكا سويرز، مدوَّنة المحررين الإلكترونية  Editor’s Weblog)35
تزداد صعوبة جني الأرباح نتيجةً لعزوف الأفراد عن دفع نقود لمتابعة الأخبار على الإنترنت فيما خلا بعض الاستثناءات النادرة. إذن ليس من المستغرب أن الدعاية على الإنترنت لم تعوِّض حتى الآن العوائد المفقودة. على سبيل المثال تأثرت الصحف المحلية في الولايات المتحدة بشدة بسبب المواقع المجانية على الإنترنت مثل «كريجزلست» الذي تنافس معهم من أجل الإعلانات المبوبة؛ وعليه فحتى عندما استطاعوا تدعيم التوزيع، انخفضت أرباحهم بشدة. كان لدى صحيفة ذا سان فرانسيسكو كرونيكل — في منطقة خليج سان فرانسيسكو التي بدأ فيها كريجزلست أول ما بدأ — متسع من الوقت أكبر من معظم الصحف لإعادة تشكيل نمط نشاطها، وقد أخفقت حتى الآن، وقد تتوقف عن الصدور كصحيفة ورقية، بل وقد تختفي ككيان تحريري في غضون بضع سنوات.36
يعاني التليفزيون من نفس المشكلة؛ فالأفراد الذين يشاهدون مقاطع الفيديو على الإنترنت يشاهدون التليفزيون التقليدي بمعدل أقل بكثير، وهذا خبر سيئ لشبكات التليفزيون. يعادل عدد الأفراد الذين يشاهدون مقاطع فيديو على مواقع شبكة تليفزيون الولايات المتحدة تقريبًا عدد الأشخاص الذين يشاهدون مقاطع الفيديو على يوتيوب، وهذا خبر جيد للشبكات. لكنها لا تجني أموالًا من وراء هذا؛ لأن عدد المعلنين أقل وتتقاضى الشبكات منهم أموالًا أقل؛ وعليه فحتى عندما يحصلون على الجمهور فإنهم يخسرون الأرباح.37

تزداد أرباح الدعاية على الإنترنت سريعًا، إلا أنها لا تزال تمثل جزءًا صغيرًا نسبيًّا من دخل قطاع الإعلام. ربما توقفت عوائد التليفزيون عن الزيادة عوضًا عن الانهيار في بلدان مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لكن في ظل اقتصاد سوق ديناميكي، يصبح انعدام الزيادة المقترن بالتضخم الناشئ عن ارتفاع التكلفة هو الطريق المثالي نحو كارثة مالية متوسطة الأجل. إن هوامش الربح هي التي تصنع الفارق، وهذه معضلة بالنسبة للصحافة بالأكثر؛ فبينما يُعد الإعلام مجالًا ضخمًا، قلَّما كانت الأخبار في حد ذاتها مصدرًا للأرباح السهلة. على سبيل المثال في التليفزيون التقليدي، تكون الأخبار جزءًا جوهريًّا من شهرة الشبكة لكنها في الغالب لا تتمكن من التنافس بنجاح مع المسلسلات الدرامية الاجتماعية أو الأفلام أو الرياضة على نسب المشاهدة. ما يساعد الأخبار هو انخفاض تكلفة إنتاجها نسبيًّا، لكن فيما تتآكل الهوامش يكون هناك ضغط كبير عليها لتخفيض النفقات وتحسين نسب المشاهدة. دائمًا ما يكون هذا مزيجًا مميتًا للصحافة الملتزمة بمعايير الجودة. في الماضي كانت الهيئات الإعلامية تدعم أقسام الأخبار لديها من أرباح أنشطة أخرى. لكن كبرى الشركات الإعلامية تفقد على نحو متزايد احتكارات الطيف الترددي، وفي عالم الأنماط الاستهلاكية المفتتة، يمكن أن تُرى الأخبار على أنها أقل أهمية لشهرة علامة تجارية. في المملكة المتحدة على سبيل المثال، تسوِّق شركة بي سكاي بي لنفسها من خلال قنواتها للأفلام وقنواتها الرياضية والترفيهية، وتمنحها قناتها الإخبارية الممتازة التي تعمل على مدار الساعة «سكاي نيوز» مكانة مرموقة، غير أنها جزء لا يشهد نموًّا من المؤسسة الإعلامية.

(٤-٣) التفتيت

يمكننا أن نرى أن التنوع نفسه الذي ساعد آلاف المؤسسات الإعلامية على النمو هو ما يهدد أيضًا هوامش الربح. على أن الاختيار له تأثير آخر على الأخبار بالأخص. يمكن وصف الاختيارات أيضًا بأنها نوع من التفتيت؛ أي تقسيم الجماهير أو المجتمعات إلى أجزاء متنوعة ومختلفة في الغالب.

وفيما يتحول الإعلام التقليدي إلى إعلام رقمي وعلى الإنترنت، تصير هناك اختيارات أكثر من أي وقت مضى. حتى قبلما تفكر في نطاق النشاطات المتاحة على الإنترنت فقط، ما من شك في أن الأشخاص متاح أمامهم المزيد من المصادر الإخبارية في حياتهم. إن التطور الحادث في أنظمة البث الرقمي يشير إلى أن هناك مجالًا جويًّا أكبر متاحًا للمزيد من جهات البث، جعل الانخفاض في تكاليف الطباعة وإنتاج الصحف أسهل وأرخص. وبلا شك فإن كثيرًا من هذه المنافذ الإعلامية الجديدة مملوك لنفس الأشخاص، لكن مقارنةً بالحال منذ ٢٠ عامًا، فإننا نعيش في عالم إخباري متعدد القنوات والنصوص حقًّا؛ فقد شهدنا منذ ميلاد شبكة سي إن إن التليفزيونية عام ١٩٨٠ إلى بدء تشغيل محطة الجزيرة الإنجليزية عام ٢٠٠٦ انفجارًا في عدد «الاختيارات»، وهذا قبل أن نلتفت إلى ما هو متاح من خلال الإنترنت.

على أن المزيد من المنافذ الإعلامية لا تُنتِج دائمًا تعددية تحريرية أكبر. في المملكة المتحدة، قللت القناة التجارية الرئيسية آي تي في بثِّ برامجها المتخصصة والدينية وبرامج الأطفال بشكل كبير.38 إذا كان الضغط يقع على عناصر الخدمة العامَّة تلك، فبالتأكيد سوف تواجه الأخبار تقليلًا بدورها. رأينا أرقام الإحصاءات التي توضح الطريقة التي يستخدم بها الشباب مختلف الوسائل الإعلامية، لكن الأمر مقلق فيما يتعلق بالأخبار على الأخص. ألقِ نظرة على أرقام الإحصائيات التي توضح متابعة الأخبار في العائلات التي لديها تليفزيون متعدد القنوات — لا يقتصر على استقبال القنوات الأرضية — في المملكة المتحدة، التي تعكس الاتجاهات في البلدان الأخرى. أثَّر التليفزيون متعدد القنوات في نسبة مشاهدة الشباب على نحو غير متناسب. انخفضت مشاهدة الشباب ما بين سن السادسة عشرة والرابعة والعشرين للقنوات الأرضية الرئيسية بنسبة ١٦ في المائة منذ عام ٢٠٠١ حتى عام ٢٠٠٥. في مقابل إجمالي انخفاض بلغ ١٠ في المائة. نظرًا لانصراف الشباب على مر التاريخ عن مشاهدة الأخبار، فإن هذا يشير إلى أن بعض الأنواع الرئيسية للأخبار تصل الآن إلى نسبة ضئيلة جدًّا من الشباب:
  • ٢٤ في المائة من البرامج المتعلقة بالشئون الراهنة (من إجمالي ٤٤ في المائة).

  • ١٢ في المائة من النشرات الإخبارية الإقليمية (من إجمالي ٣٣ في المائة).

  • ٣٤ في المائة من نشرات الأخبار الوطنية (من إجمالي ٦٠ في المائة).39
يقر إد ريتشاردز رئيس هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية (أوفكوم) بأن القضايا الرئيسية تتجاوز اقتصادات الإعلام:
إن الانصراف عن مطالعة الأخبار، سواء أكانت في الراديو والتلفزيون أم في وسائل الإعلام المطبوعة يبدو اتجاهًا طويل الأمد متصاعدًا بالأخص بين فئات معينة؛ فكثيرون يَسْتَقُونَ أخبارهم من مصادر أخرى؛ خاصة الإنترنت. لكن هل هم يغيِّرون أيضًا الطريقة التي يستوعبون بها الأخبار؟ بعبارة أخرى، هل يتابعون معلومات معينة عن قضايا مفردة تهمهم كمستهلكين بدلًا من متابعة الأخبار على نطاق أوسع كمواطنين؟ إذا كان الأمر كذلك، فما مدى أهمية ذلك فيما يتعلق ببناء مجتمع مدني ناجح؟40

الأقليات العرقية هي أول من تهجر وسائل الأخبار التقليدية بحثًا عن تشكيلة مما تقدِّمه الأقمار الصناعية والوسائل الرقمية. تشير الأدلة على ما يبدو إلى أنهم مهرة تكنولوجيًّا في العثور على مواد وثيقة الصلة باحتياجاتهم الثقافية. هذه أخبار سارَّة للأقليات العرقية، إلا أنها أخبار سيئة لهيئات البث التقليدية؛ فهي تثير تساؤلات أعمق حول كيفية تواصل المجتمع مع نفسه عندما يتزايد عدم مشاهدة فئات بداخله لنفس الأخبار. سوف نعود إلى هذه القضية في الفصلين الثاني والرابع.

لا تقتصر القضية على الفئات المجتمعية التي تنطلق بحثًا عن الإعلام «الخاص بها»؛ فثمة انقسام أعمق يصفه ماركوس برايور كالتالي:
إن الخط الفاصل الجديد في المشاركة المدنية يكون بين محبي الأخبار ومحبي الوسائل الترفيهية. يهجر محبو الوسائل الترفيهية النشرات الإخبارية والسياسة؛ ليس لأنه أصبح من الأصعب المشاركة فيها، لكن لأنهم عقدوا العزم على تكريس أوقاتهم لمحتوًى يعدُ بإشباعٍ فوري أكبر، وكنتيجة لذلك، هم يتعلمون مقدارًا أقل عن السياسة، ويقل احتمال أن يُدلوا بأصواتهم في الوقت الذي يصبح فيه محبو الأخبار أكثر اندماجًا. وعلى خلاف معظم أشكال التباين، فإن هذا التفاوت المتصاعد في المشاركة السياسية هو نتاج قرارات استهلاك إرادية. إن التأكد من أن الجميع لديهم فرصة لمتابعة الإعلام لن يحل المشكلة، بل هذا هو سبب المشكلة بعينه. (ماركوس برايور، جامعة برينستون)41

قطعًا برايور صائب في تحديد المشكلة، إلا أن إلقاء اللوم على الاختيار أو القدرة على الوصول للأخبار هو كلام انهزامي؛ فلطالما كان لدى الأفراد خيار الترفيه في مقابل تلقِّي المعلومات. كل ما هنالك أنه أصبح من الأسهل كثيرًا الآن أن تحصل على المزيد من الترفيه. كما ذكر جاي كير أعلاه، تحتاج الأخبار أن تُعرِّف نفسها على نطاق أوسع. هي تحتاج أيضًا أن توضح سبب أهميتها للأفراد وأن تظهر مراعاتها لجمهورها وإنصاتها إليه؛ فواحد من أهم التحديات أمام وسائل الإعلام الإخبارية في المستقبل هو كيف تخلق وتدعم مجتمعات على الإنترنت حول عملها. وسوف نتناول هذا بمزيد من التفصيل لدى تناول الصحافة الشبكية والتنوع التحريري ومحو الأمية الإعلامية.

(٤-٤) فقدان التنوع

في نفس الوقت الذي يوجد فيه تضاعف متزايد للجماهير، فثمة خطر ناجم عن نقص تنوع المنتجين. تجتاز جميع الصناعات فترات تغيير وتقشُّف، وتعد صناعة السيارات مثالًا على ذلك، لكن الصحافة مختلفة. أرى أننا في حاجة إلى سوق إعلام إخباري قوي ومتعدد من أجل مجتمع ناجح؛ وعليه فإن أي نقص في كمِّ الصحافة أو تعدديتها نتيجة لعوامل مالية هو أمر مثير للقلق لأسباب تفوق الأسباب الاقتصادية. توفر التكنولوجيا الجديدة الوقت ومن ثم تؤدي إلى تقليص الوظائف، ويُسمى هذا بالفاعلية. لكن من الواضح أن الصحفيين يُسرَّحون من وظائفهم الآن، ليس بسبب عدم قدرتهم على الابتكار، وإنما بسبب انخفاض الإيرادات. هل يمكن أن تتعامل صحيفة كبيرة مثل لوس أنجلوس تايمز بنجاح مع تقليص ٢٠ في المائة من هيئة التحرير دون الإخلال بمعايير الجودة؟42 وليست الوظائف وحدها هي التي تتقلص؛ فعدد القنوات الإعلامية التقليدية المستقلة في الولايات المتحدة يتهاوى. تشهد الولايات المتحدة منذ فترة طويلة اتجاهًا لدمج وسائل الإعلام، مدفوعًا جزئيًّا بقوًى أخرى، لكنه يتسارع دون شك مع خطر الإعلام الجديد.43 الصحافة ثقافة شديدة التنافسية، وهي نشاط تجاري غريب من حيث إنه يقدِّم منتجًا نادرًا — سَبْقًا صحفيًّا — يؤدي إلى تكوين جمهور عريض. ولكوني عملت في كلٍّ من قطاعَيِ الإعلام الإخباري الخاص والمدعوم من الدولة، فأنا على قناعة بأنه من الضروري أن يوجد الكثير من المنافسة بين مؤسسات الإعلام الإخباري قدر المستطاع. تنزع قوى سوق الصحافة إلى زيادة الميل إلى الحرية. وعلى مستوى غرفة الأخبار، تدفع التنافسية الناجحة الصحفيين إلى الاجتهاد لتقديم أخبار حصرية ومذهلة. وعلى مستوى العمل، يُشجَّع الصحفيون على التنافس من أجل بناء مجتمع يجمعهم مع قرَّائهم، والتمتع بدور في المجتمع وتحقيق تميُّز مهم على منافسيهم. إن الدمج والإفلاس وتقليص الحجم كلها تقلل هذه التنافسية المفيدة.
شهدنا في الولايات المتحدة بالفعل اختزال الاختيارات من خلال الدمج، مع أنه ثمة بعض الأدلة على تباطؤ العملية. وعلى المستوى العالمي شهدنا طومسون وهي تستحوذ على رويترز،44 ومع أنهما في الأساس مؤسستان لتغطية الأسواق المالية، فإن هذا قلل أيضًا التنافس في تغطية الأخبار العالمية، وفي المملكة المتحدة أجزم بأنه مع التحول الذي سيحدث عام ٢٠١٢ من تليفزيون الإشارات التناظرية إلى التليفزيون الرقمي،45 فإننا على مشارف الوصول إلى نقطة تحول. من المفترض أن تشجع الاختيارات الرقمية الأكثر منافسة أكبر لكنها سوف تعني في الواقع نهاية دعم الخدمة العامَّة المقدَّم لهيئة التليفزيون المستقل وللقناة الرابعة، وهما البديلان الرئيسيان اللذان يقدِّمهما القطاع الخاص لمحطة البي بي سي التي تموِّلها العامَّة. يشكك هذا في قدرتهما على الاستمرار في تقديم التنوع.
أرجِّح أن عمليات شبيهة تعمل في أوروبا. يقوِّض المحتوى الغزير على الإنترنت المؤسسات الإخبارية التقليدية؛ ففي فرنسا على سبيل المثال، انخفض توزيع الصحيفة الأولى «لوموند» على مدار السبع السنوات المنصرمة ليصل عام ٢٠٠٦ إلى ٣٥٠ ألف عدد في اليوم، ومن المتوقع أن يصل العجز في الصحيفة والإصدارات التابعة لها إلى ٤٠ مليون يورو عام ٢٠٠٧.46 وكنموذج للجرائد الفرنسية اليسارية نجد أن جريدة «ليبراسيون» تخسر ملايين اليوروهات، فضلًا عن خسارة روحها الفرنسية على حد زعم البعض:
الأمر أشبه بالأيام الأخيرة لسفينة تايتانيك … أو … شيء آخر ثقيل وكريه للغاية ذو عواقب مريعة محتملة. لقد حانت الساعات الأخيرة — لصحيفة ليبراسيون — مع أنها قد تدوم لزمن طويل. (كلود مويزي، محلل إعلامي)47

(٤-٥) كل شيء له ثمن

يترتب على فقدان الأرباح وفقدان المنافسة الصحية عواقب أخرى.

نرى بالفعل الكيفية التي تهجر بها صحف المملكة المتحدة العمل الصحفي من أجل إعداد نشرات مجانية عن الأفلام القديمة الموضوعة على أقراص الدي في دي. يتزايد اهتمام الصحف بالتحقيقات وموضوعات أنماط الحياة؛ لأنها، كما أخبرني أحد المحررين، تترك مهمة إذاعة الأخبار الأساسية للبي بي سي ووكالة أنباء بريس أسوسييشن، وهذا له بعض العواقب غير المتوقعة على المدى القريب.

في لندن تظهر أنباء مثل قطع أشجار الغابات وانفجار قطار مترو الأنفاق على صفحات الصحف المجانية، ويجرى توزيع ١,٥ مليون نسخة لأربع صحف مجانية رئيسية على المتنقلين بالقطار كل يوم، وهذا في العاصمة وحدها، وفي أنحاء أوروبا والولايات المتحدة يجرى توزيع نسخ مستقلة ومجانية من النسخ التي يدفع الأفراد نقودًا للحصول عليها.48
من وجهة نظر شخص مثلي بدأ حياته المهنية في صحيفة محلية مجانية أرى أن هذا اتجاه إيجابي في الغالب. ليست لديَّ أية مخاوف ثقافية تجاه سعر النسخة. آلاف الأشخاص الذين لم يقرءوا الصحف أصبحوا الآن يقرءونها في طريق ذهابهم إلى العمل أو عودتهم منه. جرى تعيين المئات من صغار الصحفيين غالبًا لحشو هذه الصحف، وإن كان مقدرًا لهذه الصحف البقاء والنجاح، فإن عليها إذن أن تحقق المطلوب منها. يخبرني رؤساء تحريرها أنه يتعيَّن عليهم تحسين المنتج إن كان مقدرًا لهم الاستمرار:
سوف نستحوذ على قرَّاء أيٍّ من الصحف غير المجانية من خلال الأخبار التي نقدمها. نحن نقتنص وقت القرَّاء ونقدِّم لهم معلومات تهمهم في عجالة، وذلك أمر نحسن فعله. إن طريقة التوزيع هي التي تغيرت، وينطبق هذا على الصحف المجانية أو مقاطع فيديو أو المقاطع المسموعة أو المقابلات أو التفاعلات أو ما شابه على الإنترنت. ما زالت تحتاج أن تخرج بحثًا عن خبر جديد وتكون أول من تذيعه. ما يزال هناك جمهور نحتاج أن نضمه، غير أن الفارق الكبير هنا هو أنه يوجد عالم أكبر تحتاج أن تسوِّقه له. (كيني كامبل، رئيس تحرير جريدة مترو (لندن))49
لكن في رأيي فإن هذه الصحف هي في الأساس إجراء مؤقت لسد الفجوة؛ فهي وسيلة لتوصيل الإعلانات إلى جمهور معين مع الاستعانة بقدر محدود من الأخبار الصحفية. قد يكون هذا حلًّا هامشيًّا لتحدي الإعلام على الإنترنت، غير أنه ليس القوة الإلهية المنقذة لقطاع الصحافة ككل. وبالنظر إلى مؤشرات الصحف المجانية حتى الآن، يتبين أنها لم تُجب عن سؤال أحد الصحفيين المحنَّكين الذي تحول إلى العمل الأكاديمي: «كيف تدعم تكاليف العمل الصحفي الجيد إذا تحولت الصحف غير المجانية إلى صحف مجانية؟ فالصحف المجانية مليئة بالافتتاحيات التي تعوزها الجرأة والحيوية والتي تفتقر إلى صحافة استقصائية كفؤة» (بول تشيرمان، كلية لندن للصحافة).50

(٤-٦) فقدان الجودة؟

تشير كل هذه الاتجاهات إلى فقدان الجودة. تحدَّث رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير عن هذا في سياق تغطية سياسية:
يواجه الإعلام شكلًا من أشكال المنافسة أكثر حدة للغاية من أي شيء واجهه قط من قبل، وهو ليس سيد هذا التغيير وإنما ضحيته، والنتيجة هي إعلام يقوده باطراد وبدرجة خطيرة «التأثير». التأثير هو المهم؛ فهو كل ما يمكن تمييزه، وما يمكن أن يعلو على الضجيج وما يمكن ملاحظته. يمنح التأثير ميزة تنافسية. لدقة الخبر أهميتها لا ريب، غير أنها تلي التأثير في الأهمية. يُضعف هذا التركيزُ المتفاني والضروريُّ على تحقيق التأثير — المعاييرَ؛ فيخفضها ولا يجعل تنوع الإعلام نقطة القوة المنشودة وإنما زخمًا هدفه الأنباء المثيرة قبل أي شيء آخر. (توني بلير من حديث له كعضو في البرلمان)51

أغلب الانتباه الذي استحوذ عليه هذا الحديث كان نتيجة لما شعرت بأنه هجوم غير حكيم على وسائل الإعلام بوصفها «حيوانات ضارية»؛ فقد كانت هذه سقطة من سياسي في نهاية حياته المهنية التي اعتمدت بدرجة كبيرة على إدارة محنكة — وقد يقول البعض عنها إنها مضللة — للإعلام. لكن قليلين أنكروا الفكرة العامَّة، التي مفادها أن الصحافة ترزح تحت ضغط أكبر بسبب تضييق هوامش الربح ومضاعفة عدد المواعيد النهائية.

على أن الصحافة دائمًا ما تُتهم بضعف الجودة، وتلك سمة أصيلة في عملية إنتاجها، فالصحافة هي فن الممكن، وليست حرفة مناسبة لطالبي الكمال. سيوجد دائمًا توتر بين الرغبة في بلوغ أكبر عدد ممكن من الأفراد، والحاجة إلى تقديم أفضل منتج ممكن. إن صميم عمل الصحافة هو التقليل من حدَّة الواقع أو تخفيفها؛ فمن المستحيل تقديم العالم بكل تعقيداته الغنية عندما تكون بصدد ميعاد تسليم نهائي. لكن السؤال هو: هل الضغط الذي تتعرض له الصحافة من أجل حماية الأرباح أو تلبية تخفيضات الميزانية يقلل من قدرة الصحفي العامَّة على تقديم أخبار بشكل جيد واكتشاف الحقائق؟

تحدَّثْ إلى صحفيين محنكين وسوف يقولون لك إن تقليل الموارد — ولا سيما الوقت — سيُضعف المحتوى الصحفي، وهو أمر لطالما شهدته على الدوام في حياتي العملية في الطباعة وتليفزيون الخدمة العامَّة والبث التجاري، فكل عام شهد عددًا أقل من الصحفيين يقدمون إنتاجًا أكثر. يتحجج المديرون بأن هذا نتاج فاعلية التكنولوجيا الجديدة، وهم على حق. لكن يأتي وقت حينما يكون الصحفيون في غاية الفاعلية لدرجة أنه لا يكون لديهم متسع من الوقت للتشبيك، وإجراء الأبحاث الأساسية، والجهود التخمينية التي تُسفر عن المكافآت طويلة المدى من ناحية الجودة التحريرية. هذا أمر حقيقي بالأخص في سياق دورة الأخبار المعاصرة عالية السرعة التي تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة. أرى أن الصحافة تتغير إلى عملية متعددة المهارات ولكن في الوقت نفسه متعددة المستويات، فعلى غرار الجيوش الحديثة، يكون هناك قوات الجبهة الأمامية المنوط بها الاقتتال الدائم، ثم هناك القوات الاحتياطية التي يُفترض أنها تجلب بعدًا إضافيًّا إلى ساحة المعركة. إن هذه الوظائف المتعلقة بالصحافة العادية ثم بالصحافة «ذات الجودة» يجري الفصل بينها باطِّراد، وهناك خطر يتمثل في اختفاء الصحافة بِرُمَّتها.

يشير بعض النقاد بإصبع الاتهام إلى ثقافة الإعلام نفسها. يشعر أشخاص مثل جون لويد؛ الصحفي بجريدة فاينانشال تايمز والذي يعمل الآن بجامعة أكسفورد، أن تجاهل الإعلام التنافسي للقيم الأكبر قد أفسد جودة الخطاب العام:
قد تكون الصحافة الجيدة المتوافرة بكثرة عرضة لخطر الهزيمة أمام الصحافة التي تُولي القليل من الانتباه إلى الحقائق، والتي تصبُّ تركيزها على خبر أساسي عن التدهور العام وسوء النية السياسية، والتي تحفز بين قرَّائها ومشاهديها توجهًا إما بالازدراء أو انعدام الثقة، بينما تنتقد بشدة وطوال الوقت المسئولين الحكوميين والساسة لكونهم في السلطة إبَّان فترة «لا مبالاة الناخبين». (جون لويد، معهد رويترز)52
أغلب الظن أن يكون هؤلاء النقاد للصحافة الحالية غير واثقين في قدرة الأخبار على الإنترنت على فعل أي شيء باستثناء زيادة الموقف سوءًا. إن الافتراض النظري الذي يقوم عليه هذا النقد صحيح؛ فهو يقوم على أفكار مثل أفكار الفيلسوف السياسي يورجن هابرماس53 الذي رأى أن الإعلام ساعد في تكوين بناء من الخطاب الاجتماعي؛ أي مجال للمناقشة الديمقراطية العامَّة. الشيء المثير هو أن هابرماس نفسه قد عبَّر عن شعور متناقض حيال الإنترنت:
وسَّع استخدام الإنترنت سياقات التواصل وفتَّتها في الوقت نفسه. لهذا السبب يمكن أن يكون للإنترنت تأثير مدمر على الحياة الفكرية في ظل أنظمة الحكم الاستبدادية. لكن في الوقت نفسه يُضعِف التشابك الأفقي الأقل رسمية بين قنوات الاتصال إنجازات الإعلام التقليدي. يركز هذا انتباه جمهور مجهول ومتفرق من العامَّة على موضوعات ومعلومات منتقاة؛ مما يجعل المواطنين يركزون على نفس القضايا والآراء الصحفية المرشحة من منظور نقدي في أي وقت معين، والثمن الذي ندفعه لنمو المساواتية التي يقدِّمها الإنترنت هو إتاحة وصول لا مركزي لأخبار غير منقحة. في هذا الوسط، تُفْقِدُ المساهمات التي يقدِّمها المفكرون قدرتها على خلق تركيز. (يورجن هابرماس)54
سأتناول آراء هابرماس ومخاوفه بشأن تأثير الإنترنت الدافع نحو التسطيح بالمزيد من التفصيل لاحقًا، لكن أحد رواد الأعمال السابقين بوادي السيليكون كان أكثر يقينًا من أن الإنترنت هو الملوم؛ إذ اضْطَلَعَ أندرو كين بحملة بمفرده ليحذرنا من التأثير السيئ للإنترنت على كل ما هو متحضر:
إن الإعلام القديم يواجه الانقراض … القردة مسيطرون، ودِّع خبراء اليوم وحراس الثقافة؛ المراسلين ومذيعي الأخبار والمحررين وشركات الموسيقى واستوديوهات أفلام هوليود؛ ففي ظل ثقافة الهواة السائدة اليوم، يدير القردة المشهد؛ فهم من يكتبون المستقبل بالعدد اللانهائي من آلاتهم الكاتبة، وقد لا يروق لنا ما يكتبونه.55
يرى كين أننا نعتمد على الصحفيين باعتبارهم حراسًا مهنيِّين للحفاظ على صحة الأخبار. لا يمكننا ببساطة الثقة في الإنترنت؛ فالصور الرقمية يمكن تزييفها، والمدوِّنون غير محايدين وغامضون. صحافة المواطن لا يمكن التحقق من صحتها، وهي مهووسة بكل ما هو شخصي وتافه، وهي:
تتألف من حشدٍ من كتاب مجهولين وذاتيِّي المرجع في المقام الأول، هدفهم ليس تغطية الأخبار وإنما نشر الشائعات، والفضائح السياسية المثيرة، وعرض صور مخجلة للشخصيات العامَّة، وربط الأخبار بموضوعات تخيُّلية مثل مشاهدات الأطباق الطائرة أو نظريات المؤامرة حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر. (أندرو كين).56
يؤيد بعضٌ من كبار الشخصيات في هيئة الصحفيين ما ذهب إليه أندرو كين. قضى نيكولاس ليمان وقتًا طويلًا يكتب في أرفع المجلات والصحف الفكرية بالولايات المتحدة قبل أن يصبح عميدًا فخريًّا للصحافة بكلية الصحافة بجامعة كولومبيا، واحتقاره المتعالي واضح:
تضطلع المدوَّنات الأكثر طموحًا، مجتمعة معًا، بدور تقديم النشرات المعلوماتية سريعة الانتشار التي تعتمد بشدة على الإحالة لمصادر أخرى؛ فهي عبارة عن منتدًى مفتوح لكل رأي وارد فشل في شق طريقه إلى وسائل الإعلام الكبرى، أو ببساطة وسيط يعرض الفرد من خلال رأيه في الحياة كما يتبدَّى لنا في ملايين المدوَّنات الشخصية على نحو صِرْف. الإنترنت هو أيضًا مكان لنقد الصحافة («باستطاعتنا التحقق من كل شيء!» هي واحدة من الصرخات المحتشدة لجموع المدوَّنات) ومكتبة بحثية كبيرة عن الأخطاء الْمُربكة والمقتطفات والْمُزَح والنوادر والأداء المحرج للشخصيات الهامة. لكنَّ أيًّا من هذا لم يَرْقَ بعدُ إلى مستوى ثقافة صحفية غنية بما يكفي للتنافس بطريقة جادة مع الإعلام القديم — لكي تعمل كبديل وليس كإضافة.57

هذه الانتقادات بها شيء من الصحة؛ سيكون رائعًا لو أن مجالًا عامًّا شاسعًا مثل الإنترنت كان لا يشغله سوى أشخاص متعمقي التفكير يصنعون صحافة عميقة وملهمة. لماذا لا ينبغي أن يعكس الإنترنت الإنسانية بكل سخافتها وبكل مجدها؟ ما يشترك فيه هؤلاء النقاد هو حنين غريب إلى تاريخ وسائل الإعلام التقليدية، ومعظم هذه الاتهامات كان يمكن توجيها في أي وقت على مدار القرن الماضي تقريبًا لوسائل الإعلام الجماهيرية.

منذ فجر الصحافة وهناك دائمًا أشخاص يتفجعون من طبيعتها الحقيرة ومن الانحدار الحتمي نحو توافه الأمور ومن الإثارة. كان أنطوني سامبسون؛ مؤرخ تاريخ بريطانيا بعد الحرب، ناقدًا ينتمي إلى فئة نخبوية كلاسيكية وإن كانت تحررية، ومع ذلك يقتبس هو نفسه من أشخاص يعودون إلى عصر جوناثان سويفت يتأسَّفون على تدهور وسائل الإعلام الإخبارية. يقتبس سامبسون هذه الأبيات الرائعة التي سطَّرها شاعر القرن التاسع عشر الرومانسي ويليام وردزورث كردِّ فعل للاستخدام الجديد للصور المطبوعة في الصحف والمجلات:

قد عاد الدَّهرُ لمبدئهِ،
وارتدَّ الكهلُ لصَبْوَتِهِ
في الكهفِ لسابقِ مهنتهِ.
فليُقْلِع مَن ضلَّ بفعلتهِ
وأضرَّ بطبعة صفحتهِ!
(ويليام وردزورث، قصيدة «الكتب والصحف المصورة»)58
من يعلم ما كان عساه أن يكون رد فعل الشاعر تجاه المدوَّنات. يتأسف سامبسون في سبعينيات القرن العشرين على ما يراه انحدارًا في التغطية الصحفية الكلاسيكية الذكية: «هجر الصحفيون تقريبًا عمليات التحقيق الصحفي. لا يوجد الآن كُتاب جدد يحاكون جورج أورويل أو بريستلي في تقصِّي أحوال المدينة … وإنما يوجد طوفان من أعمدة المقالات التي تقدِّم تعليقات بدون حقائق.»59

يتأفَّف سامبسون من «ابتعاد» وسائل الإعلام الإخبارية عن العالم، ويشكو من أن الخُطب البرلمانية لم تَعُدْ تُسجَّل بالتفصيل في صحيفة «ذا تايمز أوف لندن»، ويخشى أنه فيما اعتادت وسائل الإعلام مقاومة السلطات، فإنها أصبحت الآن هي نفسها الأقرب لزمرة حاكمة نخبوية. ثمة نقاد معاصرون للإنترنت أمثال أندرو كين لديهم نفس هذا المنظور الذي يقضي بأن الحضارة الليبرالية النابضة بالحياة أصبحت عرضة للخطر.

إن الحنين إلى الماضي ليس سببًا كافيًا للجزم بخطأ آراء من يتنبئون بالخراب القادم. أكاد أجزم أن الصراع المستمر لتعريف الجودة التحريرية والحفاظ عليها هو أمر في صميم طبيعة الصحافة، ومن هذا المنظور تعكس الصحافة المجتمع بالفعل؛ فتقدُّم شخص هو تراجعُ آخر. إلا أن أولئك الذين درسوا تاريخ وسائل الإعلام بطريقة أكثر منهجية قد وجدوا أنه من الممكن إثبات أن الصحافة قد تطورت كيفًا وأيضًا كمًّا. اعتلى ستيوارت بورفيس قمة نشرات الأخبار لبضعة عقود الآن قبل أن يصير معلقًا وأستاذًا في مجال الإعلام. جمع بورفيس أبحاثًا قارنت ما أنتجه الصحفيون بين عامي ١٩٦٥ و٢٠٠٥، فوجد أن النتاج المعاصر للنشرات الإخبارية والصحف أكثر شمولًا وتنوعًا وبالتأكيد أكثر جاذبية:
كثيرًا ما تبدو العصور الذهبية أقل بريقًا بعض الشيء عندما تنظر إليها لاحقًا، ولا يشذ عام ١٩٦٥ عن هذه القاعدة. على سبيل المثال، النشرة الإخبارية الرئيسية ذات المذيع الواحد والمحاور الواحد والرأي الواحد والخبير الواحد والمراسل الواحد ليست مدعاة للكثير من الانبهار، وقد قدَّم مذيع النشرة، بيتر سنو، أداءً متميزًا للحفاظ على جودة وتماسك النشرة، وبالمثل لم تكن النماذج المكافئة في الصحافة ملهمة بمقاييس اليوم. لقد وجدت بصراحة عند مشاهدة هذه النشرة ومطالعة الصحف التي تعود إلى عام ١٩٦٥ أن أغلبها مملٌّ في محتواه وفي طريقة تقديمه. إن الرؤية طويلة المدى تؤكد حتمًا على أن الثورة التقنية في الإنتاج قد جعلت وسائل الإعلام الإخبارية أكثر توفرًا، وبلا شك أكثر جاذبية أيضًا … فبدلًا من فرض تأثير تبسيطي، هناك قطاع من السوق في التليفزيون والطباعة قد تطور من أجل جذب أجيال ما بعد الحرب الذين كانوا أول من حصلوا على تعليم عالٍ في تاريخ عائلاتهم. (الأستاذ ستيوارت بورفيس، بجامعة سيتي).60
وجد بحث مشابه أن صحيفتين أمريكيتين معاصرتين ملتزمتين بمعايير الجودة كانتا تتمتعان بالكفاءة نفسها على الأقل في المعايير القابلة للقياس كما كانتا عام ١٩٧٢.61

ثمة الكثير من الصحافة «عالية الجودة» اليوم كما كان دومًا، وبينما تستثمر الوكالات الإخبارية في الخدمات التي تقدِّمها على الإنترنت أزعم أن هناك ما هو أكثر من ذلك بكثير، ويرتبط هذا الزعم جزئيًّا بنجاح وكالات إخبارية مثل صحيفة ذي إيكونومست، وصحيفة إنترناشونال هيرالد تريبيون، ونشرة أخبار القناة الرابعة، ومجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، وصحيفة فاينانشال تايمز، وبالطبع هيئة الإذاعة البريطانية البي بي سي. لكن كما يحذر بورفيس ربما نرى الكوب نصف ممتلئ الآن، غير أننا نعيش لحظة حرجة: وقد يصبح المتشائمون على حق، وأخشى أننا بلغنا بالفعل «نقطة التحول»؛ تلك المرحلة الحرجة في عملية تبني تكنولوجيا جديدة عندما تكون تطبيقاتها مُحددة فيما بتعلق بالمستقبل القريب، اللحظة التي يختار المجتمع عندها كيف سيشكل تأثيراتها. الأمثلة التي ضربتها للصحافة عالية الجودة هي لمؤسسات بإمكانها سدُّ نهم الصفوة المتلهفة للمعلومات والتي لديها الموارد لتمويل المزيد من الصحافة كثيفة العمالة. معظم تلك المؤسسات أيضًا هي الأفضل في استغلال الإمكانيات الرقمية والإمكانيات على الإنترنت لبناء علاماتها التجارية. لكن عالمًا تُتاح فيه الصحافة الجيدة لتلك الصفوة فحسب ليس عالمًا تسوده المنافع الناتجة عن جمهور مستنير. تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية بعضًا من أرفع المجلات والدوريات في العالم التي تُشبع النهم الفكري للصفوة واسعة الثقافة بأمريكا. لكن ماذا عن البرامج الإخبارية على الشبكات التليفزيونية؟ ثمة الكثير من الضغوط التي تواجهها الصحافة وتدفعها إلى الخوف من المستقبل.

(٥) ماذا يحدث للمجال العام؟

كل هذه قضايا مهمة لأن معالم وسائل الإعلام الإخبارية تساعد في تعريف العالم الذي نعيش فيه. إن التغيرات التي تطرأ على الإعلام لها آثار اجتماعية وتتسبب بدورها في تغيرات اجتماعية تشكِّل صحافتنا.62 لا تحدد التكنولوجيا التغيرات التي طرأت مؤخرًا على وسائل الإعلام الإخبارية بطريقة آلية بسيطة؛ إذ تتغير التكنولوجيا استجابةً للتغيرات المجتمعية بنفس القدر الذي تسبب به هي هذه التغيرات المجتمعية. لن نفهم مستقبل الصحافة دون إدراك أن القضية تتعدى مجرد تغيير في الآلات والأدوات، فالأمر ليس مجرد جيل جديد يستخدم ألعابًا ومواقع غريبة بطرق جديدة، وإنما هو حقيقة أن المجتمع يشهد تغيُّرًا جذريًّا على مدار الثلاثين عامًا الأخيرة للكثير من الأسباب الأخرى؛ ومن ثم يريد الناس نوعًا جديدًا من الإعلام، يمكن أن تساعد التكنولوجيا الجديدة في إنتاجه. يعني هذا أنه يتعيَّن علينا فهم أن نمط العمل ليس الأمر الوحيد المطروح للإصلاح، بل سبب وجود الصحافة نفسها مطروح كذلك؛ وعليه فعندما نتحدث عن «تبسيط» أو «انحدار» وسائل الإعلام، فإننا بصدد أمر يصعب تحديده.
طريقة أخرى للتعبير عن هذا هي قول إن المجال العام آخذ في التغير. هذا الكتاب ليس المكان المناسب لتناول المفهوم المحوري الذي يطرحه يورجن هابرماس تناولًا مفصلًا، غير أنه مفهوم نافع كطريقة لفهم ماذا نقصد بالمساحة التي تتشارك فيها وسائل الإعلام والمجتمع:
نقصد بالمجال العام قبل كل شيء نطاقًا من حياتنا الاجتماعية يمكن فيه تكوين ما يقارب الرأي العام، ودخول هذا النطاق مكفول لجميع المواطنين، فجزء من المجال العام ينبثق إلى حيز الوجود مع كل حوار فيه يجتمع أفراد عاديون لتكوين كيان عامٍّ، واليوم تمثِّل الصحف والمجلات والراديو والتليفزيون وسائل إعلام المجال العام. (هابرماس، «المجال العام: مقال موسوعي»)63

بلا ريب، الفكرة وراء مفهوم المجال العام عند هابرماس هي اعتقاده بأن الصورة المثالية للمجال العام قد تدهورت منذ نشأتها في مقاهي لندن في أواخر القرن الثامن عشر. يذكر هابرماس أنه في هذه المقاهي جرت مناقشة موضوعات تهم الصالح العام، لا على لسان طبقة ملاك الأراضي فحسب، وإنما أيضًا على لسان التجار والمواطنين العاديين. كان الهدف أن يحدث توافق في الآراء، وقد انصبَّ التركيز على قوة الحجة، وليس على الوضع الاجتماعي للمتحدث. لعبت الصحف دور الناقل لهذا النقاش؛ إذ كانت تنشر معلومات بحيث يتمكن القرَّاء من المشاركة في مناقشات حول موضوعات اليوم على أسس مستنيرة. يرى هابرماس أن هذه الصورة المثالية للمجال العام قد ضاعت في وقت مبكر من القرن العشرين عندما توقفت الصحف عن لعب دور الوسيط الذي ينقل الأخبار والمناقشات واقتصرت على المصالح التجارية. لا أقبل جميع جوانب هذه الرؤية شديدة الانتقائية والتي تكاد تكون ساذجة عن المجتمع ووسائل الإعلام. بَيْدَ أنني أشاركه تطلُّعه لدور للإعلام في السياسة، وأتفق معه على أن فكرة المجال العام الذي تنقله الصحافة وتشكِّله عوامل اجتماعية وسياسية تساعدنا في فهم ما نمر به الآن.

لا أريد ادعاء أن كل تكنولوجيا المعلومات الجديدة قد أعادت بطريقة ما تشكيل العالم بمفردها، بل أريد التأكيد على التغيرات الاجتماعية الأوسع؛ فقد شهدنا في خلال الثلاثين عامًا الأخيرة إعادة رسم تحالفات سياسية عالمية، وقد صاحب ذلك تحوُّل أعم في طريقة عيش الناس لحياتهم كأفراد ومجتمعات، وأي وصف على هذا النطاق العالمي سيكون غير دقيق في بعض المواضع، وسيشمل تعميمات كاسحة. حسنًا، ذلك المجال العالمي هو نطاق العمل الصحفي اليوم، وتلك قائمة بالموضوعات المقترحة: نهاية نظام الفصل العنصري، نهاية الشيوعية، الخصخصة، التغير المناخي، ندرة المياه، صعود الإسلام السياسي، عودة القوى العظمى الآسيوية الممثلة في الهند والصين، ارتفاع الدخول الآسيوية إلى المستويات الغربية، جهود مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، إنفلونزا الطيور، الهجرة، تكنولوجيا الدي إن إيه. أعاد كل هذا رسم ملامح عالمنا في العشرين سنة الأخيرة؛ الأفراد صاروا أقل مراعاةً، وأكثر استهلاكًا على المستوى العالمي، وأطول عمرًا، وأفضل تعليمًا، وأقل جوعًا، وأقل فقرًا، وأكثر تحكمًا في حياتهم الإنجابية. ببساطة هذا ليس العالم نفسه وهؤلاء ليسوا نفس الأفراد الذين كانوا موجودين منذ جيل؛ وعليه لماذا من المفترض أن يظل المجال العام هو هو نفسه؟

لا يزال هذا المفهوم في غاية النفع من الناحية النظرية، غير أن دور الإعلام في أي محاولة لفهم تصميم هذا المجال العام لا بد أن يتغير مع تغير المجال:
إن فكرة المجال العام المحفوظة في الديمقراطية الجماهيرية لدولة الرفاهية الاجتماعية — تلك الفكرة التي تنادي بعقلنة السلطة من خلال وسيط النقاش العام بين أشخاص عاديين — تواجه خطر التفكك مع التحول الهيكلي للمجال العام نفسه، ولا يمكن إدراكها اليوم إلا على أساس مُعَدَّل. (هابرماس)64

أرى أن الإنترنت ضروري لهذا «الأساس المُعَدَّل». سوف أناقش لاحقًا في هذا الكتاب أن الصحافة الشبكية الجديدة هي الاستجابة الحتمية، أو قطعًا الاستجابة الأكثر استحسانًا، لهذه الديناميكية المتغيرة، فيما يكون المجال العام مهددًا، لا بد أن تتغير الصحافة لتدعيم مهامِّها وقيمتها الأساسية؛ وعليه عندما نقرر ما هو آخذ في التدهور وما هو آخذ في الازدهار، يجب ألا نفترض أن الصحافة كيان ثابت. المجتمع يتغير؛ وعليه لا بد أن تتغير الصحافة أيضًا. الصحافة تتغير؛ ومن ثم يتعيَّن على المجتمع أن يُعير انتباهه.

(٥-١) الخدمة العامَّة في حالة تقهقر

أحد سبل قياس الخطر الذي يهدد الدور الإيجابي للصحافة في المجال العام هو الموقف من عنصر الخدمة العامَّة في الصحافة. حتى الآن لطالما كانت الدول مستعدة لتحمل مسئولية المساعدة في تقديم قيمة اجتماعية من خلال الصحافة، وبالأخص من خلال البث الإذاعي أو التليفزيوني. حيثما لا تقدِّم مؤسسات القطاع الخاص في أكثر صورها بدائية كمًّا كافيًا من الصحافة الإخبارية ذات الجودة، عندئذٍ تتدخل الدولة أو الهيئات العامَّة لتمويلها، وينفذ ذلك على أساس كلٍّ من «فشل السوق» والسياسة الثقافية. في هذا السياق أتبع تعريف جافين ديفيز، رجل الاقتصاد ورئيس مجلس الإدارة السابق لإذاعة البي بي سي.65 فهو يعرِّف ما يُطلق عليه البث «الريثي» [نسبة إلى سير جون ريث، أول مدير عامٍّ للبي بي سي] على أنه بضاعة أو منتَج عامٌّ، من المفترض في الوضع المثالي أن يقدِّمها السوق الحرُّ لكن هذا ليس ما يحدث. يعود هذا جزئيًّا إلى أنه لا يوجد سوق حر بالكامل في وسائل الإعلام الإخبارية؛ فالمجال الترددي محدود بإمكانيات التكنولوجيا التناظرية على سبيل المثال. كما يشير أيضًا إلى فشل التوزيع الذي يعاني منه القطاع الخاص، وبالطريقة التي يحدد بها السوقُ الحرُّ الأسعارَ؛ فإن بعض القطاعات من السكان لن تحصل على الخدمات لأنها لا تستطيع شراءها أو لأنها غير مستعدة لدفع هذا الثمن، وكما يقول ديفيز، يعني مجيء التكنولوجيا الرقمية اختفاء الكثير من الحُجج التكنولوجية التي تُبَرِّر فشل السوق.

لكن كما يوضح ديفيز، توجد أنواع أخرى من جوانب فشل السوق التي لا بد أن تعالجها خدمة البث الإذاعي والتليفزيوني العامَّة، ويقول إن أفضل من يقدِّم تلك الخدمة في المملكة المتحدة هي البي بي سي، غير أنه لا يستبعد النماذج الأخرى إن كان بمقدورها التعامل مع تحليله لفشل السوق، ويردف قائلًا إن الأشخاص يريدون في الأساس خدمة البث الإذاعي والتليفزيوني العامَّة مثلما يريدون خدمة مكافحة الحرائق أو الجيش، فحتى لو أنهم لا يستخدمونها كل يوم، فهم يَرَوْنَ أنه من الجيد أن تكون متاحة من أجل الصالح العام. هذه مسألة سياسية وثقافية، وفيما تتغير تلك القيم الاجتماعية مع التغير التكنولوجي، فإن ظروف السوق ستكون بالتأكيد عُرضة لإعادة الفحص أيضًا. وببساطة، فيما تزداد صلابة قوى السوق، تتعرض هياكل الخدمة العامَّة الحالية للخطر.

ثمة شيء واحد مؤكد: لقد تغير معنى الخدمة العامَّة وطريقة تقديمها. انظر إلى مثال حلقات البرنامج التعليمي «سكول هاوس روك»66 الذي علَّم ملايين من أطفال مدارس الولايات المتحدة عن كل شيء عن الحياة من الحكومة إلى القواعد النحوية. كان البرنامج ينتمي لسلسلة إعلانات الخدمة العامَّة الكرتونية التي كانت تُذاع على شبكة تليفزيون هيئة الإذاعة الأمريكية إيه بي سي أثناء فقرة البرامج الكرتونية التي تُعرض صبيحة كل سبت في سبعينيات القرن العشرين. إذا أنشدْتَ هذه الكلمات «أنا مجرد مشروع قانون» أمام أي أمريكي بالغ تقريبًا في الحقبة العمرية ما بين الثلاثين والأربعين، فسوف يجيبك: «جالس على سلالم مبنى الكونجرس الأمريكي.»67 جسدت هذه الحلقة تحديدًا من برنامج «سكول هاوس روك» مفهوم «مشروع القانون» في الولايات المتحدة كشخصية كرتونية تغني وترقص، حيث كانت تشرح العملية التي يمر بها مشروع القانون في الكونجرس الأمريكي كي يصبح قانونًا. يتذكر الأمريكيون من الجيل إكس (الجيل الذي ولد منذ أوائل ستينيات القرن العشرين حتى منتصف السبعينيات) هذه العملية، ليس لأنهم تعلَّموها في المدرسة، لكن لأنها كانت جزءًا من المشهد الإعلامي الذي عاشوا فيه. كان شعار البرنامج «لأن المعرفة قوة!»68 ومِنْ ثَمَّ شبَّ جيل من الأمريكيين وهو يؤمن بأن معرفة الأخبار والسياسة والقواعد النحوية كانت مهمة؛ لأنهم شاهدوها على شاشة التليفزيون. لقد اختفت هذه النوعية من برامج الخدمة العامَّة إلى حد كبير من التليفزيون الأمريكي في هذه الأيام، فقد حلَّت محلها برامج تنقصها البراعة تحت عنوان «افعل الصواب» التي يتجاهلها النشء البارع في قراءة الإعلام. يمكن أن يرجع هذا الفشل الواضح إلى أن الشباب أصبحوا شديدي التعقيد أو إلى عدم تخصيص ما يكفي من الموارد أو الجهد اللازم لإعداد الرسالة. في كلتا الحالتين يشير هذا إلى حقيقة أن تقديم خدمات عامَّة قد أصبح أصعب كثيرًا مما كان في تلك الأيام التي كانت تلعب فيها الخدمات العامَّة دورًا رائدًا. وفي الولايات المتحدة لم يكن قطاع الخدمات العامَّة قويًّا قَطُّ في أي مرحلة من المراحل، وجمهور الإذاعة الوطنية العامة صغير والميزانية تزداد تقلصًا.69 تمتلك الولايات المتحدة بعضًا من أرفع الصحف والمجلات في العالم، لكنها كما ناقشنا أعلاه تزداد انعزالًا.

في أماكن أخرى، ثمة دلائل تشير إلى رزوح الخدمات العامَّة تحت ضغط مماثل؛ لا نتيجة منافسة وسائل الإعلام الجديد فحسب، وإنما جزئيًّا بسبب التكنولوجيا الجديدة وسياسة رفع القيود؛ فقد أتاح إدخال النظام الرقمي وذيوع القيم التحررية، انتشارَ منافذ البث في بلدان مثل إيطاليا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة؛ حيث لم تواصل الحكومات موقفها المتميز في التدعيم المادي للإعلام الحكومي. وفي بريطانيا فإن الموعد النهائي لحدوث ثورة في عالم التليفزيون هو عام ٢٠١٢، عندما ينتهي فعليًّا تليفزيون الخدمات العامَّة بشكله الحالي. إن سوق المملكة المتحدة ذو وضع فريد؛ من حيث إن حكومة حزب العمال التي اعتلَتِ السلطة عام ١٩٩٧ اختارت أن تعزز المركز المهيمن الذي تتمتع به إذاعة البي بي سي بدلًا من أن تقوِّضه، من خلال تسوية طويلة المدى مكَّنتها من أن توسع خدماتها الرقمية تمهيدًا لإيقاف تشغيل البث التناظري عام ٢٠١٢، وهي النقطة التي تنتهي عندها فعليًّا مهام الخدمة العامَّة الخاصة بالقناة الرابعة والقناة الخامسة والتليفزيون المستقل؛ وهم المنافسون الرئيسيون للبي بي سي. سوف تفقد الشركات شبه التجارية «دعم» الطيف الترددي الذي يتيح لها البث عالميًّا بمنافسة محدودة؛ ما سيترتب عليه أنه في حالة تراجع عوائدها، لن يصبح في وسع المنظمين الإصرار على بقاء عناصر الخدمة العامَّة بها مثل تليفزيون الأطفال والتغطية المحلية للأخبار. بالطبع سوف تستمر البي بي سي، وإن كانت لن تستطيع تعويضَ كَمِّ صحافة الخدمة العامَّة الذي سيضيع، وكما ناقشنا أعلاه، تعتمد جودة صحافة البي بي سي بشكل كبير على منافسة الجودة مع جهات البث الأخرى. تعوِّل التعددية على وجود عدد من جهات البث التي تتشارك إلى حدٍّ ما في نفس قيم الخدمات العامَّة التي تتلقى الدعم مباشرة من الضرائب في حالة هيئة الإذاعة البريطانية البي بي سي، ومع اختفاء المنافسة وبقاء البي بي سي وحدها، يتمثل الخطر في أن الجماهير قد يتشككون في مركزها المتميز الذي لا نظير له.

في المملكة المتحدة تضع أوف كوم في حسبانها حلًّا طويل المدى في صورة مقدِّم للخدمة العامَّة، عبارة عن صندوق لتمويل بثِّ الخدمة العامَّة أيًّا كان المُنتِج أو المنفذ أو الشكل الذي تُقدم فيه، بل ويمكنه نقل الموارد إلى الصحافة الإلكترونية. أشعل هذا فتيل غضب متوقع، يعكس إلى أي مدًى يشعر مقدِّمو الخدمات العامَّة أن الصروح المصممة بعناية والتي تحمل أفضل قيم البث تتدمر بالكامل باسم المنافسة. من الصعب تخيُّل السبيل العبقري لإنشاء مقدِّم خدمة عامَّة نزيه ومبدع وماهر بما يكفي؛ للعثور على المال اللازم لمحاولة إنعاش خدمة البث العامَّة المستقلة الآخذة في التدهور وأرصدتها الآخذة في التراجع.70 تلك مسألة لا تنحصر أهميتها داخل حدود بريطانيا. إن التحدي أمام مستقبل صحافة الخدمة العامَّة سوف يعتمد جزئيًّا على تأسيس نماذج مثل مقدِّم الخدمة العامَّة الذي يستطيع إصلاح فشل السوق، والاستثمار في وسائل إعلام إخبارية نافعة اجتماعيًّا.

وثمة خطر من أن تصير صحافة الخدمة العامَّة مجرد أثر لكيان كان عظيمًا؛ تتلقى تمويلًا من حكومات العالم الأكثر رفاهة مثلها مثل السكك الحديدية في بريطانيا ما بعد الحرب أو خدمة البريد في إيطاليا؛ أيْ كيانًا في غاية التدهور ومنقطع الصلة بآخر التطورات التكنولوجية ويخدم قطاعًا من الناس متقدمًا في العمر. وسنتناول هذا الموضوع مرة أخرى في الفصل التالي، أما الآن فدعونا نُبحر في عالم آخر، عالم أسعد، عالم مهتم بالمستقبل؛ حيث يتطلب إنشاء شركة ناشئة تكاليف ضئيلة، وكل شيء ممكن. إنه مكان يتطلع فيه كل شخص — بدءًا من وكالة رويترز ووصولًا إلى رجل الأعمال روبرت مردوخ — إلى فرصة ثانية.

(٦) فرصة ثانية في لعبة سكند لايف!

كما رأينا أعلاه، ثمة خطر حقيقي من ألا يكتسب الجيل القادم عادةَ متابعة الأخبار، وثمة خطر أيضًا ألَّا يتعلم الصحفيون عادات الإعلام الجديد التي تجعل معلوماتهم مستساغة للجيل القادم. يتعلق هذا جزئيًّا بالطريقة التي يتواصل بها الأفراد عندما يكونون متصلين بالإنترنت؛ فهي عملية أكثر فردانية وشخصانية مما كانت مع الإعلام التقليدي. إن تجربتنا مع التواصل عبر الإنترنت هي مزيج من العالمي والفوري — في الوقت نفسه غالبًا. باستطاعتنا إنشاء شبكات اجتماعية غير مقيدة بحدود المكتب أو العائلة أو حتى الواقع المعتادة. يستخدم الأفراد الهواتف المحمولة في إرسال الرسائل القصيرة، وبرنامج المراسلة الفورية إم إس إن، والبريد الإلكتروني إلى جانب الطرق التقليدية مثل التخاطب أو الحديث عبر التليفون. لم يعد يولِي الأفراد ميزة خاصة لمنصات التواصل التقليدية؛ إذ أصبح بمقدورهم مشاهدة أفلام على متن طائرة على جهاز دي في دي محمول أو كومبيوتر محمول مثلما نشاهده على التليفزيون، فضلًا عن هجرهم للسينما. إني على قناعة بأن هذا يؤثر في طريقة استهلاك الأفراد للأخبار؛ وعليه إن لم يكن بمقدورك تغيير طريقتهم، فلتنضمَّ إليهم!

يمكن أن يصل الأمر إلى حدود متطرفة؛ حيث يحصل الأفراد على الأخبار الآن عن طريق الواقع الافتراضي. «سكند لايف»،71  Second Life، هي لعبة اجتماعية مستمرة على الإنترنت؛ حيث يدفع اللاعبون نقودًا حقيقية للانضمام إليها، وتُقدم لهم موارد داخل لعبة لخلق حياة ثانية لأنفسهم على شبكة الإنترنت، وهي حتى الآن تقدِّم لك محاكاة للواقع. لكن ما يجعل هذا مختلفًا هو أن الفرد الذي تخلقه ليس جاهز الصنع، بل أنت من تحدد وظيفتك، وتكوِّن حياتك الشخصية، ونمط حياتك في مجتمع ما مكوَّنٍ من ملايين الأشخاص الحقيقيين الذين يلعبون نفس اللعبة، وهي ليست خيالًا مطلقًا، فثمة شروط، أحدها النقود. سكند لايف لها عملة؛ إذ يمكنك مقايضة عملة لعبة سكند لايف على موقع إيباي مقابل دولارات أمريكية حقيقية. بحلول نهاية عام ٢٠٠٧ كان الناتج المحلي الإجمالي للعبة سكند لايف يفوق تقريبًا إجمالي الناتج المحلي لكلٍّ من دولتَي جامبيا وساموا ومقاطعة غرناطة بإسبانيا.72 وحيثما يكون المال، يكون الساسة أيضًا؛ فعلى الأقل ثلاثة مرشحين رئاسيين في عام ٢٠٠٨ كانوا منضمين إلى لعبة سكند لايف.73
fig1
شكل ١-١: سكند لايف: أهي فرصة ثانية للصحافة؟
شرط آخر من شروط لعبة سكند لايف هو المعلومات؛ فهي مجتمع غني بالمعلومات؛ حيث تُلعب على الملأ (أو على الأقل مع ثلاثة مشتركين). والآن تَفتح وكالة أنباء رويترز ومؤسسات إعلامية أخرى مكتبًا في لعبة سكند لايف،74 بل وأدخلت المجلة الإلكترونية الأمريكية صالون دوت كوم مراسلًا في لعبة سكند لايف. تتمتع الشخصية الافتراضية (الأفاتار) الخاصة بالمراسل واجنر جيمس أوو بمظهر مثير للإعجاب، وقد كان متواضعًا بما يكفي لوضع صورة شخصيته الافتراضية وإلى جانبها صورة حقيقية له (انظر شكل ١-١). اشتملت بعض المهام التي كُلِّفَ بها أخيرًا على تغطية أحدث صيحات أزياء الشاطئ في هذا العالم الافتراضي، ونقد لأول «رواية» في سكند لايف، وتغطية مباشرة لأول مهرجان موسيقي في سكند لايف، وقد أخبرني واجنر أن كونك صحفيًّا في سكند لايف له مزايا كبيرة على أن تكون مراسلًا في العالم الحقيقي:
بإمكانك إجراء حوارات مع أشخاص من مختلف أنحاء العالم عن طريق شخصياتهم الافتراضية؛ مما يمنحهم قدرًا من الحماية وإخفاء هويتهم، وبافتراض أنك لست المذيع جيرمي باكسمان، فإن هذا يشجعك كمراسل أن تطرح أسئلة استفزازية — وربما وقحة — يصعب أن تطرحها في العالم الحقيقي. بالطبع ثمة قدر إضافي مطلوب من تقصِّي الحقائق، إذا كنت بحاجة لأن تسأل عن تفاصيل معينة خاصة بالعالم الحقيقي عن الشخص وراء الشخصية الافتراضية، غير أن هذا ليس مستحيلًا. (واجنر جيمس أوو، صالون دوت كوم)75
يقول واجنر جيمس أوو إنه بعيدًا عن الاختلافات العملية، فثمة ثلاثة أنواع مختلفة من التغطية الصحفية التي يمكنك القيام بها على سكند لايف:

أولها التعامل معها على أنها قناة أخرى للتحقيق الصحفي في العالم الحقيقي؛ أي أداة أخرى إلى جانب المراسلة الفورية وبرنامج سكايب … إلى آخره. على سبيل المثال، حاورتُ أحد أعضاء سلاح مشاة البحرية الأمريكية عن حصار مدينة الفلوجة، وعن الإسرائيليين أثناء معركتهم الأخيرة مع حزب الله، وعن موقف أهل فنزويلا تجاه إغلاق الرئيس تشافيز لمحطة تليفزيونية معارضة، كل هذا على سكند لايف.

المستوى الثاني بالطبع هو التغطية الصحفية للعبة سكند لايف نفسها باعتبارها منصة ناشئة وجديرة بالانتباه من محتوًى من صنع المستخدم في فضاء ثلاثي الأبعاد له اقتصاده الداخلي الخاص به الذي من المفترض أن يصل عدد مستخدميه إلى مليون مستخدم نشط بنهاية عام ٢٠٠٧.

المستوى الثالث لا يحظى بقدر كافٍ من الاستطلاع، وهو أمر محزن؛ لأنه يتمتع بالكثير من الإمكانيات، وثمة الكثير من القصص الإخبارية؛ فهناك: الصحافة الرمزية، والكتابة عن الصراعات والمآسي في سكند لايف باعتبارها إيضاحًا لقضايا إنسانية مهمة، وأكثر ما يثير حماستي صراحةً هو رؤية الكيفية التي تُعاد بها صياغة موضوعات السياسة والجنس والدين وما إلى ذلك في عالم بديل. (واجنر جيمس أوو، مجلة صالون دوت كوم)76
تلك كلها أمور في غاية الإمتاع، وقد تقدِّم دروسًا لنا يمكن أن نستفيض فيها في الفصل التالي حول الصحافة الشبكية. لكن انتبهوا لي لحظة من فضلكم: سكند لايف هي عالم مزيَّف؛ فهي تلفيق افتراضي. إن التغطية الصحفية على سكند لايف لا يمكن تعريفها فعليًّا بأنها صحافة إلا إذا أدرجتها في فئة متخصصة مثل الرياضة أو الفنون أو إذا صنفتها كنوع من الكتابة الإبداعية. مع أن واجنر جيمس أوو قدَّم مثالًا إلكترونيًّا مثيرًا للصحافة، فإن وجود وكالات إخبارية مثل رويترز داخل اللعبة هو لغرض تسويقي أكثر من كونه حلًّا للتحديات التي تواجهها في العالم الحقيقي، ومع أن ثمة شواهد على أن المزيد من شركات الترفيه تتجه إلى سوق العالم الافتراضي،77 فإن هناك أيضًا أمارات على أن هذا العالم ليس منجم ذهب لقطاع أعمال الإعلام في العالم الحقيقي. وعلى ما يبدو يتجه الأفراد إلى سكند لايف كوسيلة للهروب من الطابع التجاري لعالم الواقع؛ وعليه فهم ببساطة لا ينفقون الكثير من النقود الحقيقية وهم هناك.78

إن فكرة أن لعبة سكند لايف لا تقدِّم سوى عالم مجازي يمكن فيه إحياء الصحافة هي ببساطة وهمٌ انهزامي. تتعلق وسائل الإعلام الإخبارية بحافة نافذة مبنًى مشتعل؛ فلا تستطيع القفز ولا التشبث بحافة النافذة إلى الأبد وهي تصرخ قائلة: «النجدة، النجدة، من سينقذنا؟» حان الوقت كي يمد الإعلام الخارق يد الغوث.

ملخص الفصل

• الصحافة تمر بثورة ذات أبعاد تاريخية.

• الصحافة جيدة كما كانت دائمًا، غير أنه يتعيَّن عليها أن تتغير، وأن تفعل هذا وهي تتعامل مع تهديدات سياسية واقتصادية.

• ثمة خطر هائل على نمط عمل الصحافة الحالي.

• الجمهور يتغير في طبيعته وسلوكياته.

• بالرغم من انخفاض تكاليف الإنتاج، فإن العوائد عرضة للخطر نتيجة لزيادة المنافسة.

• يملك الإعلام التقليدي موارد تاريخية، وتاريخًا خاليًا من الابتكار، ومع ذلك يتعيَّن عليه أن يُصلح نفسه مرة أخرى.

• ثمة خطر من تفتت الجمهور وانعدام التنوع في الإنتاج.

• ثمة خطر من فقدان كبير لصحافة الخدمة العامَّة وانخفاض هائل في جودة الصحافة الجماهيرية.

• ببساطة، فإن اتجاه الصحافة إلى الإنترنت ليس هو الحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤