الفصل الثاني

«أهو طائر؟ أهي طائرة؟ كلا، إنه الإعلام الخارق!»

الصحافة الشبكية

كي توفي الصحافة الإلكترونية نفقاتها يتعيَّن عليها أن تلبِّي معايير عالية المستوى على كلٍّ من الجانبين النظري والعملي؛ إذ لا بد أن يكون الوسيط الإعلامي ثوريًّا والصحافة فعَّالة. إن جودة الصحافة الإلكترونية حتمية التحسن بمرور الوقت، ولا سيما إذا انتقل المزيد من مزايا الصحافة التقليدية إلى الإنترنت. غير أنه على الرغم من تمتُّع هذا الوسيط الإعلامي بقدرات كبيرة، منها على الأخص طريقته في فتح الحوار وبسط نطاقه وتسريع وتيرته، فإنه ليس شديد الاختلاف عن الوسائط السابقة له كما يدعي مناصروه.

(نيكولاس ليمان، ٢٠٠٧)1

أُخبرُ تلاميذي بأنه لم يكن هناك قطُّ وقت أفضل من الآن لأن تصير صاحب عمل صحفي؛ أن تبتكر العمل الخاص بك، وتصبح جزءًا من الجيل الذي يكتشف كيف ينتج، وبالطبع كيف يبيع، الصحافة التي نحتاجها بشدة كمجتمع ومواطنين يعيشون على كوكب متقلص. إن الصحفيين الشبان الذين يبدءون بمفردهم اليوم، والذين يجربون تقنيات ونماذج أعمال، سيخترعون ما هو آتٍ.

(دان جيلمور، ٢٠٠٧)2

(١) مقدِّمة

يتراءى لي أن كلًّا من الشخص شديد الشك في الإنترنت والمروِّج له يمكن أن يكون على حق. في الواقع لا بد أن يكون كلٌّ من نيكولاس ليمان ودان جيلمور على حق؛ فلو كان مُقدَّرًا للصحافة التمتع بأي قيمة، فلا بد أن تُبقي على أخلاقياتها الأساسية ومهاراتها الجوهرية. لكن لو كان مقدرًا لها البقاء فلا بد من أن تتكيف، ولا بد أن تكون أكثر كفاءة وأن تقدم المزيد. شرحت بإيضاح في الفصل السابق المشكلات الهيكلية التي تواجه الصحافة الآن وفي المستقبل، وأشرتُ إلى أنه ببساطة ليس أمامها خيار سوى تبنِّي أنماط عمل جديدة إن كانت ترنو إلى النجاح في خلال الفترة القادمة. لن يختلف الكثير من الإعلاميين بقوة مع هذا. غير أنني أوضحت أيضًا أن الطريقة التي تعمل بها الصحافة لا بد أن تتغير تغيرًا جذريًّا. وفي هذا الفصل سوف أقدِّم منظور غرفة الأخبار حول تلك التغيرات، وسوف أُعيد الصحافة إلى مكانها في قلب هذا النقاش، كما سأستطلع بعض التحديات العملية والأخلاقية والسياسية التي تطرحها.

أريد استخدام فكرة الصحافة الشبكية لوصف الطريقة التي يمكن أن تتغير بها الصحافة لتلبية تحديات العصر الرقمي، وفي فصول لاحقة سنتناول كيف تتعامل الصحافة الشبكية مع القضايا الأساسية مثل السياسة والإرهاب والتنمية. بعد ذلك سوف نلقي نظرة على قدرة الصحافة الشبكية على تقديم فرص إبداعية لوسائل الإعلام الإخبارية، وسنتناول فكرة التنوع الصحفي، وأخيرًا أهمية محو الأمية الإعلامية على نحو أوسع؛ بهدف دعم الصحافة الشبكية.

لكن دعوني أولًا أوضح ما أقصده في السياق الأوسع لوضع إطار مفاهيمي للصحافة. لن أقدِّم ها هنا تناولًا لتاريخ الصحافة أو عرضًا للأدب النظري أو المتعلق بعلم الاجتماع الذي سعى إلى تعريف مصطلح «صحافة». لكن كي نعرف إلى أين نحن متجهون فمن الضروري أن نرجع إلى الماضي والحاضر والجدل الأيديولوجي حول طبيعة ما نواجهه.

بداية، نحتاج إلى أن ندرك أن الصحافة ليست حقيقة مسلَّمًا بها؛ فلطالما تغيرت بمرور الزمن لتتخذ أشكالًا مختلفة وتستخدم إجراءات متنوعة، فما لدينا في الوقت الحالي في الغرب — ولا يزال النموذج الغربي هو الغالب — هو شكل ثقافي واقتصادي حديث نسبيًّا من الصحافة، ففيما توجد جوانب ترجع أصولها إلى وسائل الاتصال الجماهيري في القرن التاسع عشر، فإن معظم المواثيق وهياكل العمل مستمدة من الفترة ما بين منتصف القرن العشرين وأواخره. تشبه الصحافةُ السياراتِ؛ فكلاهما تمتد جذوره إلى أواخر القرن التاسع عشر. أصبحت الصحافة مجالًا رائدًا في مطلع القرن العشرين، ووصلت إلى قمة ازدهارها في أواخره، غير أنها موضع جدلٍ الآن، وعلى غرار السيارات في عصر الاحترار العالمي فهي موضع جدل؛ ليس من أجل أدائها الفني وإنما ببساطة لأنها لا تلبي احتياجات العصر القادم وطموحاته.

بعد ذلك، سنلقي نظرة على طبيعة مهنة صحفي الإنترنت أو الصحفي الذي يتعيَّن عليه أن يتعامل مع الوقائع الجديدة للإعلام المتعدد المنصات. سوف نتناول بعض المشكلات الصحفية القديمة، ونرى كيف يمكن أن تتغير من خلال الصحافة الشبكية، وماذا سيكون تأثير الصحافة الشبكية على الآتي:
  • الطبيعة المؤقتة للصحافة.

  • علاقة الشد والجذب بين بُعد الخبر وطريقة تقديمه.

  • اهتمام الصحفيين الشخصي بالخبر.

  • دور الجمهور.

  • الثقة والسلطة.

تكاد تبدو هذه المسائل فلسفية، إلا أنها آليات عمل الصحافة الأساسية. إذا لم تستطع فكرة الصحافة الشبكية التصدي للصعوبات اليومية الناتجة عن اجتياز هذه الاختبارات العملية فإنها لن تَمُتَّ إلى أرض الواقع بِصِلَةٍ.

لا أشير إلى أنه يتعيَّن على الصحافة كلها أن تكون شبكية؛ فسيظل الكثير من الإنتاج الإعلامي مألوفًا للغاية للصحفي التقليدي. البعض سوف يظل بمنأى عن الاتصال بشبكة الإنترنت دون تزحزح. وسوف يكون هناك اختلافات كبيرة في درجة اتصال صحفي معين أو مؤسسة إخبارية معينة بالشبكات؛ إذ تتوقف هذه الاختلافات على الخبر الفعلي والسوق والظروف القومية أو المحلية والموارد المتاحة. غير أن تعريفي يسعى إلى المضيِّ إلى ما هو أبعد من التعريف الضيق لِلَفْظةِ «شبكي» التي تشير إلى شخص يستخدم شبكة معينة من أجل حدث صحفي محدد؛ فثمة غرض أكبر من فكرة الصحافة الشبكية. يمكن أن تكون الصحافة الشبكية وصفًا لما سيحدث، ويمكن أن تكون مجرد نهج جديد للصحافة؛ على أنني آمل أن تكون أكثر من ذلك كثيرًا. وفي نهاية المطاف آمل أن تقدِّم مساهمة في إصلاح المجال العام العالمي. إن الصحافة الشبكية هي عودة إلى بعض من أقدم مزايا الصحافة: الاتصال بالعالم وراء غرفة الأخبار، والاستماع إلى الناس، ومنح الأفراد صوتًا في الإعلام، والاستجابة لما تخبرك به الجماهير في حوار، ولكنها من الممكن أن تكون أكثر نجاحًا من ذلك عبر تحويل علاقة توزان القوة بين الإعلام والجماهير وإعادة صياغة سبل الإنتاج الصحفي.

(٢) منشأ الصحافة الشبكية وتاريخها

في الماضي، كانت الصحافة عبارة عن: طائفة، واتحاد، ورابطة. وقد طوَّر أعضاؤها طقوسهم واتخذوا لهم لغة وعادات تعرف مهنتهم وتميِّز مجال تخصصهم. تسود أدب الصحافة ثقافة غرفة الأخبار الخانقة، بدءًا من السلوك القبلي للمراسلين متوسطي الكفاءة في رواية «سبق صحفي» للكاتب إيفلين ووه بينما يتتبعون الأدلة الزائفة في أنحاء أفريقيا،3 ووصولًا إلى رواية الدراما الاجتماعية الهزلية «بالقرب من نهاية الصباح» للكاتب مايكل فراين.4 ويُقدَّم الإعلام البريطاني بشكل صحيح على أنه مزيج بين مدرسة حكومية وحانة عامَّة، أما في الولايات المتحدة، فقد استطاعت هوليوود بإدراكها السديد للواقع والخيال التقاط الدراما المثيرة والجادة للصحافة الأمريكية، وتمكنت عبر أفلام مثل «المواطن كين» (سيتزن كين)، و«فتاته المخلصة» (هز جيرل فرايداي)،5 و«كل رجال الرئيس»6 (أول ذا برزدينت مِن)،7 و«نشرة الأخبار» (برودكاست نيوز)، من ترسيخ عرض أخلاقيٍّ مبهر وخالد للعمل الإعلامي.8 تلك هي الأساطير التي يتشبث بها العاملون في الصحافة عند الغرق في بحار المساومات اليومية. يروق للصحافة أن تتخيَّل أنها سوبرمان، بينما هي في الحقيقة كلارك كينت. يروق لملَّاك المؤسسات الصحفية ورؤساء التحرير مخالطة الأشخاص المهمين، غير أن الصحافة كمهنة لن تشعر بالارتياح في مقعد دائم حول مائدة كبار الشخصيات، ومع ذلك، أتاحت حقيقة أن الصحافة ليست قوية من الناحية المؤسسية كما تظن، مكانةً فريدة في السياسة لوسائل الإعلام الإخبارية؛ فقد منحها هذا الاستقلال النسبي دورًا ومساحة في المجتمع، بعيدين إلى حدٍّ ما عن كلٍّ من الأفراد والمؤسسات الأخرى؛ فواحدة من الخصائص المميزة للصحافة هي علاقتها المتقلِّبة بالسلطة. وأؤيد في هذا المعلق البريطاني سايمون جينكنز:
لا تَأْبَهُ وسائل الإعلام البريطانية للمسئولية وإنما كل ما يعنيها هو الأخبار، والأخبار تكون أفضل عندما تدور حول أفراد وليس جماعات. لا تبالي وسائل الإعلام بما يجده أشخاص مثلي ملائمًا أو مهمًّا؛ فهي تقتحم الأبواب وتفضح الأركان الخفية للوضع البشري. هي تحارب المنافسة، وتسلك طرقًا غير نزيهة وتخالف القواعد، ولا تتورع أعينها الثاقبة الفضولية عن كشف الأشياء مهما كانت درجة قبحها أو بذائتها. لا تعمل الصحافة بأي حس من الاتساق أو التقدير أو ضبط النفس؛ لأنها تبيع أخبارًا وليست معنية بإدارة البلد. أحيانًا ما تسيء الصحافةُ المتروكُ لها الحبل على الغارب وغير المسئولة، فَهْمَ الأمور. على أنني لا زلتُ أُوثرها بكل ما فيها من عيوب على الصحافة المقيدة والمسئولة. (سايمون جينكنز، صحفي)9

تلك الممارسة الثقافية التي تتمتع بمنطق داخلي منفصل عن المجتمع هي شرط رئيسي لفهم ما نعنيه بكلمة صحافة، وكيف يمكن أن تتغير مع تحوُّلها إلى صحافة شبكية.

أرى أن الأنشطة الأساسية للصحافة هي المراسلة والتحليل والتعليق على العالم، وهي أنشطة موجهة من فرد إلى جمهور، ويعرِّف كلٌّ من المُنتِج والمستهلك هذا النشاط وطبيعته بأنه صحافة. إن «بيع الأخبار» — كما جاء في عبارة جينكنز — مستمر منذ وقت طويل، ولا يزال هناك الكثير من الأمور المشتركة بين البدائل الصحفية القديمة وبين الأشكال الأحدث والأكثر تطورًا التي يقدِّمها ممارسو الصحافة اليوم.

من الممكن القول إن كتَّاب النشرات في إنجلترا في القرن السابع عشر كانوا شكلًا أوليًّا من أشكال المدوِّنين.10 كان هناك تطور سريع في إنتاج المطبوعات ذات الطبيعة المحلية والسياسية إبَّان الحرب الأهلية الإنجليزية وفترة خلوِّ العرش؛ فقد استخدمتها الجماهير والصفوة السياسية سلاحًا في حربهم الأيديولوجية. كانت هذه النشرات عبارة عن خليط من الدعاية والتغطية الصحفية، وكان لها جمهور شديد الوعي بالرموز واللغة المستخدمتين بها لتحقيق أهداف خاصة وعامة، وكانت كلها تشبه كثيرًا نسخة مطبوعة من المدوَّنات السياسية اليوم.
يمكن أيضًا اعتبار الكتاب المعاصرين للروائي جوناثان سويفت الجالسين في مقاهي لندن في القرن الثامن عشر، والذين يحبهم هابرماس بشدة، مشابهين لصحفيِّي الإعلام الجديد اليوم. لقد عملوا ضمن حدود جغرافيَّة وثقافية ضيقة؛ لدرجة أن علاقتهم بجمهورهم تغلغلت في كل لحظة من عملهم، بدءًا من إسناد المهام لهم ووصولًا إلى النشر.11 لا أزعم أن هذه الفترة من الصحافة كانت نعيمًا بدائيًّا، بالرغم من وجود أوجه تشابه حسنة بينها وبين فكرة الصحافة الشبكية. ما أسعى إلى توضيحه هو أنه من الناحية التاريخية فإن ما جرى تقديمه كان صحافةً باعتراف الجميع، إلا أنه كان أيضًا مختلفًا اختلافًا جذريًّا عما أتى بعده. الصحافة تتغير، وهذا عين ما نعيشه الآن. لقد نَعِمَ كُتَّاب القرن الثامن عشر المحليون باتصال مشابه مع قرَّائهم لذلك الذي يوجد بين المدوِّن وقرَّائه، وإن كان هذا في محيط مدينة لندن إبَّان العصر الجورجي وليس في الفضاء الإلكتروني، حيث تتحدث لوحة المفاتيح مباشرة إلى شاشة أخرى. وكان لديهم نفس العلاقة المفككة مع الحيادية الكلاسيكية التي يُظهرها المدوِّنون، الذين ينتقلون ذهابًا وإيابًا بسلاسة من التغطية الصحفية إلى الدعاية. لكنهم كانوا كذلك رواد نقل الحقائق المهمة مثل تقارير البورصة، وساعدوا في تطوير الجدل السياسي من خلال وسائل الإعلام على نحو يحمل دون شك أوجه شبه مع الصحافة الإلكترونية المعاصرة.
غيَّر تحويل الصحافة إلى صناعة منذ عصر ديكنز12 فصاعدًا تلك العلاقة إلى الهيكل السِّلَعِي الذي يرتكز عليه الإعلام التقليدي اليوم، وصار الصحفيون «مهنيين» من خلال التدريب والنقابات المهنية والتخصص. جعلت التكنولوجيا الحديثة مثل التلغراف والقطارات والطباعة الآلية وسائل الإعلام الجماهيرية ممكنة، وأدت الزيادة الهائلة في ثراء الفرد وتعليمه ووقت فراغه إلى وجود سوق جماهيري للصحافة، وبفضل العباقرة من الرواد أمثال اللورد ألفريد هارمسورث13 في بريطانيا وجوزيف بوليتزر14 أو ويليام راندولف هيرست15 في الولايات المتحدة جرى «إضفاء الطابع الديمقراطي» على الصحافة لتصير جانبًا من جوانب ثقافة الاتصال الجماهيري. إن طريقة إنتاج وتوزيع الصحف تغيرت كثيرًا لدرجة أنها لا تتشارك مع أسلافها من القرن الثامن عشر إلا في القليل من الصفات بالرغم من أنها لا تزال صفحات تعرض أخبارًا.

وبينما كان الإعلام في السابق عبارة عن زمرة من الأفراد يتسامرون فيما بينهم، يمكن أن يَزعم الإعلام الآن، زعمًا منطقيًّا إلى حد ما، أنه يجسِّد حوارًا قوميًّا شعبيًّا. وبالفعل، كثيرًا ما ادعت صحف كبيرة مثل صحيفة الديلي ميل التي أنشأها ألفريد هارمسورث، أو نيويورك ورلد التي أنشأها بوليتزر، أنها تتحدث بلسان الناس، وقطعًا استهوت الصحيفتانِ الناسَ الذين اشتروا ملايين الأعداد منهما. بدت هاتان الصحيفتان، وهما طرفان في عملية الإنتاج الإعلامي الجماهيري، تمثلان توجهات وطموحات عامَّة، وفي نهاية المطاف كان يملكهما أفراد أو مجالس إدارة، وكان ينتجهما موظفون بالشركة. لم تبذل الصحافة على الراديو أو التليفزيون الكثير من الجهد لتغيير هذا الهيكل الهرمي الذي يتبع مبدأ فورد للعمل وتنظيم الإنتاج.

بلغ هذا النوع من الصحافة أوجَهُ في الفترة بين عامي ١٩٥٠ و١٩٩٠، وقد أسفر عن تشكيلة رائعة من الصيغ والبرامج الصحفية، كما منح الصحافة نطاقًا عالميًّا حتى في أنحاء المجتمعات الخاضعة للقيود أو المتأخرة، وقد ساعدت الصحافة الجماهيرية «التي حُولت إلى صناعة» في نقل التاريخ والتأثير فيه بدءًا من الصحيفة النازية دير شتورمر16 وما مثلته من وحشية مروعة، إلى صحيفة ديلي ميرور17 المتحمسة لإدارة الحملات، والتي كان يعمل بها الصحفي هيو كودليب، ووصولًا إلى برنامج سي بي إس «أخبار المساء» (إيفنينج نيوز).18 الذي كان يقدِّمه المذيع الصحفي والتر كرونكايت. أصبحت الصحافة صناعة عالمية رئيسية ومؤسسة ثقافية قائمة بذاتها، وصارت بما تقدِّمه لنا من تقارير عن الواقع جزءًا لا يتجزأ من أسلوب تعاملنا مع حياتنا واستعادة تاريخنا، ويعد النمو الهائل للعلاقات العامَّة في المنظمات السياسية والتجارية والمدنية هو في حد ذاته شهادة للطريقة التي تُرى بها الصحافة باعتبارها قوة يُعتد بها في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ببساطة لم يكن هذا هو الحال فيما قبل عصر التصنيع، ولم يصل إلى هذا الحد من قريب أو بعيد حتى منتصف القرن العشرين.

ومع ذلك لم تكن الصحافة «شبكية» طوال ذلك الوقت، إلا أنه يمكنها أن تصبح شبكية الآن؛ فما تقدِّمه الثورة الرقمية هو تحوُّلٌ عميق آخر في طبيعة الصحافة، على الأقل له نفس الزخم الذي صاحَب الانتقال من المقاهي إلى غرفة الأخبار.

(٣) تعريف الصحافة الشبكية

لطالما ارتبطت الصحافة الجيدة بالعلاقات الشبكية. إن صورة المراسل الوحيد الذي يجمع الحقائق معًا من خلال الملاحظة البحتة، مثل شيرلوك هولمز، لكنه مطالب بحل اللغز قبل موعد نهائي، خرافة؛ فأفضل الصحفيين هم دومًا من ينصتون ويتحاورون ويبحثون، ولطالما كانوا يتابعون الأخبار ويفهمون تغطية حدث أو قضية ما من خلال سياق أوسع، وهم الذين يعدلون تغطيتهم وفقًا للملاحظات التي يتلقَّونها من الزملاء والعملاء. على أن فكرة الصحافة الشبكية ترتقي بهذا إلى مستوًى ونموذج جديدين. إليكم تعريف المدوِّن جيف جارفيس للصحافة الشبكية:
تضع «الصحافة الشبكية» في حسبانها الطبيعة التعاونية للصحافة الآن؛ إذ يعمل المهنيون والهواة معًا للوصول إلى الخبر الحقيقي، فيتواصلون متخطِّين العلامات التجارية والحواجز القديمة؛ بهدف مشاركة الحقائق والأسئلة والأجوبة والأفكار ووجهات النظر، وهي تقدِّر العلاقات المعقدة التي ستصنع الأخبار، وهي تصب تركيزها على العملية أكثر من المنتج … أرى أنه كلما تصرف الصحفيون كمواطنين، انعكس ذلك على متانة صحافتهم. في الصحافة الشبكية يمكن للجماهير المشاركة في الخبر قبل تغطيته من خلال بسط الحقائق وطرح الأسئلة وتقديم الاقتراحات، ويمكن للصحفيين التعويل على الجماهير في المساعدة في تغطية الخبر؛ أثق في أننا سوف نرى المزيد والمزيد من هذا. يمكن للصحفيين — بل ويجدر بهم — إيجاد الصلة مع صور التحقيق الأخرى المتعلقة بنفس الخبر، ومع المصادر، بل وربما مع تدوينات من المصادر، وبعد نشر الخبر — سواء على الإنترنت أو في الصحف أو أينما كان — يمكن للجماهير مواصلة المساهمة في التصحيح وطرح الأسئلة وعرض الحقائق ووجهات النظر. (جيف جارفيس، معلق إعلامي)19
هذا تعريف عملي أقبله لكن مع الوضع في الحسبان أوجه قصوره، فكما يعترف جارفيس نفسه، فالمصطلح له جذور أعمق في نظرية وتحليل الاتصالات. أرى أنه كي تعني الصحافة الشبكية ما هو أكثر من مجرد التفاعلية، لا بد من وضعها في الحسبان في السياق الأوسع للتكنولوجيا والسلوك الاجتماعي المتغيرين. هكذا تصف مجموعة من باحثي الاتصالات التدفق الجديد للأفكار:
مع ظهور الإنترنت متعدد الوسائط، يمكن للجماهير التعامل مع كلٍّ من الإعلام المهني والشخصي في أشكال جديدة من التواصل الموجَّه من مجموعة أفراد إلى مجموعة أخرى من الأفراد الذي كثيرًا ما يتحاشى الإعلام التجاري. تتعارض تكنولوجيات الإعلام والاتصالات الشخصية؛ مثل الاتصال الهاتفي والبريد الإلكتروني والمراسلة النصية والصور اليومية والعمل الصحفي، مع الإعلام التجاري والجماهيري؛ مثل التليفزيون والسينما والموسيقى التجارية. (مركز آنينبرج للاتصالات، جامعة جنوب كاليفورنيا)20

إذن أين المكان المناسب للصحافة وسط هذا الإعلام الجديد؟ مبدئيًّا أرى أنه من الصعب فصلها عن بقية الإعلام، وهذه ميزة مهمة للصحافة الشبكية؛ فهي إلى حدٍّ كبير جزء أصيل من جميع أشكال الاتصال الأخرى التي تحدث رقميًّا. إن الحرب بين الإعلام القديم والجديد إلى زوال، فالتمييز بين الجبهتين أصبح تمييزًا زائفًا. لكن دعونا نبدأ بمحاولة فحص بعضٍ من العوامل التي تغيرت أثناء التحول من الإعلام القديم إلى الجديد، بالنسبة للصحافة، قبل أن نتعمق أكثر في تناول الصحافة الشبكية.

إليكم قائمة من الاختلافات التي سأحاول تبسيطها في حينه. يمكننا أن نرى في كل حالة الكيفية التي تقدِّم بها تكنولوجيا الإعلام الجديد فرصًا للتعامل مع مشكلات أزعجت الصحفيين في ظل الإعلام القديم. يجلب الإعلام الجديد معه أيضًا مخاطره ومشكلاته، لكنني أريد أولًا استكشاف كيف يمكن أن تلبي هذه التغيرات احتياجات مستهلك الإعلام في القرن الحادي والعشرين:

مشكلات الإعلام القديم حلول الإعلام الجديد
عوائق دخول المجال قابل للنفاذ
غير تفاعلي تفاعلي
تكنولوجيا بدائية تكنولوجيا بلا حدود
باهظ التكلفة رخيص
مواعيد تسليم نهائية يعمل على مدار الساعة
منصة واحدة متعدد المنصات الإعلامية
خطِّي متعدد الأبعاد

(٣-١) من عوائق الدخول إلى قابلية النفاذ

في الماضي، كانت هناك عوائق كبيرة تَحُول دون الدخول إلى صناعة الصحافة، ولا أقصد بهذا عوائق على المستوى الفردي تحديدًا، فبوجه عامٍّ، فيما يتعلق بالتعيين لطالما كانت الصحافة متاحة على نحو نزيه للمواهب كافةً (بل وفي بعض الأحيان لعديمي المواهب). يشير الصحفي السياسي المخضرم أندرو مار في كتابه الذي يدور حول تاريخ الصحافة البريطانية21 إلى ظهور توجُّه في العصر الحديث نحو تعيين خريجي الجامعات فقط بمجال العمل؛ نتيجة لتوسع التعليم العالي، والدراسات الإعلامية، والتدريب المهني. لكن في الواقع يظل الحصول على شهادة عليا شرطًا غير إلزامي، أو ليس عائقًا إلى حدٍّ كبير في عصر يشهد اتساع نطاق التعليم العالي. على أن إنشاء مؤسسة صحفية، ولا سيما في مجال البث الإذاعي والتليفزيوني والإعلام الجماهيري، كان في غاية الصعوبة حتى عهد قريب؛ حيث كان يتطلَّب قدرًا هائلًا من الالتزامات القانونية والتشريعية، وحتى عهد قريب كان إنشاء المشروعات الإعلامية الإخبارية في معظم البلدان يخضع للرقابة؛ لأسباب سياسية في المقام الأول. كان البث الإذاعي والتليفزيوني يخضع للرقابة، وبالأخص كطريقة لترشيد استخدام نطاق الطيف الترددي المحدود. وفي عصر رقمي، يبدو من السخافة أن تنفق حكومةٌ وقتَها وأموالَ الضرائب التي تَجْبِيها من الأفراد، في محاولة لغلق محطات الراديو «غير القانونية». لكن كان هذا هو الحال في الجزء الأكبر من تاريخ البث في الكثير من البلدان. وبالرغم من تأكيد معظم المجتمعات على دعم حرية التعبير، فإن هذه المجتمعات صعَّبت إنشاء مشروعات صحفية؛ إذ كانت تكاليف الاستثمار مرتفعة نسبيًّا، وبخلاف تكاليف التوظيف والمعدات، هناك تكاليف أنظمة التسويق والتوزيع الإضافية. وبالطبع الأمر كله نسبي؛ فذات مرة سألتْ محطةُ راديو ريفيةً أوغنديةً عن أي استثمار كانوا في حاجة إليه لتغير إنتاجهم النشط لكن البدائي، فأجابوا: «ميكروفون آخر؛ حتى نتمكن من إجراء مقابلات ومناقشات على الهواء». الآن بإمكانك إنشاء موقع إلكتروني جديد ببضع نقرات على الفأرة. قد لا يكون هذا كافيًا للتنافس في الحال مع مؤسسة إعلامية كبيرة. لكن إذا كانت لديك فكرة وقاعدة عملاء، فإن رأس المال المخاطر أو التعاوني سوف يأتي تباعًا. لقد انخفضت عوائق دخول المجال والنمو فيه كثيرًا الآن.

(٣-٢) من إعلام غير تفاعلي إلى إعلام تفاعلي

فيما مضى كان الإعلام القديم تفاعليًّا فقط فيما يتعلق بالمبيعات وعرض الأرقام والدعاية. وبعبارة أخرى، كان معنيًّا فقط بالأولويات التجارية، وكان الاتصال الفرعي (غير المباشر) بالجمهور محدودًا للغاية. وبخلاف تبادل السعر النقدي، فإن الاتصال المباشر مع العميل كان عادة ما يتم عن طريق مسابقات الكلمات المتقاطعة وصفحات بريد القرَّاء، والآن فإن لكل منفذ إعلام تقليدي عنوانَ بريدٍ إلكتروني على الأقل، ومعظمها له منتديات حيث يمكن للعميل التعليق، وكثير منها يشجع المحتوى الذي يعدُّه المستخدم، وفيما كانت وسائل الإعلام الإخبارية من قبل تُنتج محتواها في عزلة تامة، فإنه يمكن الآن للعميل أن يقدِّم معلومات وآراء تسهم في صنع شبكة من الإنتاج التحريري. لدى البي بي سي مركز إعلامي للمحتوى الذي ينتجه المستخدمون، فيما تملك صحف مثل «ذا ديلي تلغراف» و«هيوستن كرونيكل» مساحة إلكترونية خاصة بها لاستضافة مدوَّنات القرَّاء (انظر شكل ٢-١).22
fig2
شكل ٢-١: غرفة الأخبار الجديدة بصحيفة ديلي تلغراف التي يعكس تصميمها الإشعاعي المشابه لإطار العجلة الواقع الجديد للإنتاج متعدد المنصات (تصوير مات براون/شبكة نيتشر، لندن).

ساعد هذا في تحويل ميزان القوة بين الإعلام والعميل، ففيما كان الصحفيون أو رؤساء التحرير مِنْ قَبْلُ يُقَرِّرون، وما كان على العميل سوى الإنصات، أصبح العميل الآن جزءًا ضروريًّا من العملية. وعندما يحدث هذا بطريقة إيجابية، إذن تكون الصحافة الشبكية فعالة. ويرجع هذا جزئيًّا إلى دافع تِجاري أكبر؛ فمع تضاؤل جمهور الإعلام القديم، يتعيَّن على المؤسسات الإخبارية أن تتطور في قياس ما يريده المستهلكون، ثم تقدمه لهم. وإذا تم هذا بطريقة غير متقنة، فإنه يتخذ ببساطة شكل توزيع أقراص دي في دي مجانية مع الصحف أو تقديم برامج تليفزيون الواقع بدلًا من نشرات الأخبار، وإذا تم بطريقة أكثر تطورًا، فإنه يتخذ شكل تطوير منتج مصمم خصوصًا وفقًا لاحتياجات المستهلك ومجموعة كبيرة من مختلف الوسائل للبقاء على اتصال بالعميل. تتيح التكنولوجيا الآن للعملاء اختيار ملقم الأخبار آر إس إس الخاص بهم، أو التنقل بين القنوات، أو تسجيل عدد غير نهائي تقريبًا من الإصدارات الرقمية. لا بد من أن تسعى مؤسسات الإعلام الإخباري والصحفيون وراء العميل. يتعيَّن على مؤسسات الإعلام الإخباري الآن إدراك الموارد التي تقدِّمها الجماهير. والآن، ففي كل مرة تقع حادثة خطيرة، تناشد الوكالاتُ الإعلاميةُ المشاهدين إرسالَ الصور ومقاطع الفيديو المُلتقَطة بالهواتف المحمولة. هذه هي بداية الصحافة الشبكية.

(٣-٣) من تكنولوجيا بدائية إلى تكنولوجيا بلا حدود

تبدو سبل الاتصال التي تستخدمها وسائل الإعلام القديم بدائية للغاية الآن. تخيَّل مراسلًا صحفيًّا في مهمة قبل ظهور الهواتف المحمولة، أتذكَّر حينها أننا كنا نفتِّش باستمرار عن أكشاك التليفون لإرسال نسخة من الخبر، ويتذكر زملائي انتظار تحميض الفيلم. وفي الولايات المتحدة تشير عبارة «الفيلم سيُذاع الساعة الحادية عشرة» في التليفزيون إلى هذه الظاهرة؛ إذ كانت تُضْطَرُّ المحطات الإخبارية إلى تحميض الفيلم من أجل بثِّه، ولم يكن بمقدورهم إتمام هذه العملية قبل موعد نشرة السادسة مساءً؛ ومن ثم كان مذيعو نشرة السادسة يَعدون المشاهدين بإذاعة الفيلم في وقت لاحق بقولهم: «الفيلم سيُذاع في الساعة الحادية عشرة.» كانت التكنولوجيا المتاحة والمسافة والوقت، تعيق الصحافة بشكل مادي. كانت هناك عوائق مادية صارمة تعيق قدرة الصحفيين على نقل المعلومات أو تقديمها. كان الصحفيون يكتبون على الآلة الكاتبة بكل ما أوتوا من قوة لنسخ المقالات التي كانت تُسلَّم إلى مساعدي رؤساء التحرير، الذين كانوا يُسلمون النسخة إلى عمال الطباعة، الذين كانوا يرصُّون حروفًا معدِنية كي تطبعَها الماكينات الثقيلة على الورق. كانت العملية بِرُمَّتها شاقةً وطويلة، والآن، فبفضل تطور وسائل النقل وظهور الهواتف المحمولة والأقمار الصناعية والكاميرات الرقمية والمونتاج الرقمي والزيادة السريعة في سعة الخوادم وسرعات النطاق العريض، صارت الاتصالات الجديدة سريعة وكبيرة في السعة بما يفوق قدرة الصحفي على استغلال جميع إمكانياتها. تتيح التفاعلات بين الأقران للمؤسسات الإعلامية الاستفادة من قدرات الخوادم الخاصة بجميع عملائها. بلا شك هناك قيود إنتاجية، لكن مقارنة بعَقْدٍ مضى فهي أقل تقييدًا بمراحل من قيود المواعيد النهائية أو الميزانيات المفروضة ذاتيًّا.

(٣-٤) من إعلام باهظ التكلفة إلى إعلام رخيص

كانت كل تلك الوسائل التكنولوجية القديمة باهظة التكلفة إلى أبعد حد، فإرسال مراسل بالطائرة لتغطية خبر صحفي برفقة طاقم، يتطلب قدرًا كبيرًا جدًّا من الموارد يفوق ما يكلِّفه إرسالُ صحفي متعدد المهارات. لقد انخفضت تكلفة نقل الخبر بفضل ظهور الألياف البصرية وشرائح السيليكون، وفي نهاية المطاف، ليس هناك ما هو أرخص من موقع على شبكة الإنترنت. يشير انخفاض تكلفة الإنتاج والبث إلى أن نشر المنتج عبر مختلف المنصات الإعلامية صار أسهل من أي وقت مضى. يمكن بسهولة نسخ المواد الرقمية وإعادة تشغيلها وإعادة توزيعها على التليفزيون المحمول والنشرات الصوتية ومقاطع الفيديو على الإنترنت، وهذا معناه أن تكلفة الأخبار آخذة في الانخفاض والتراجع.

(٣-٥) الانتقال من العمل بموجب مواعيد نهائية إلى البث المستمر للأخبار

يشير كل ما ذكرناه أعلاه إلى أنه لم يَعُدْ لدى الصحفيين موعد نهائي محدد يعملون من أجله. ليست القنوات الإخبارية التي تعمل على مدار أربع وعشرين ساعة هي وحدها التي تعمل على مدار الساعة؛ فقد قررت مؤخرًا العديد من الصحف المحلية التي تصدر يوميًّا أن تبدأ في نشر الأخبار على مواقعها حال حدوثها، فمن الواضح أن الصحف ترغب في الاحتفاظ بقيمة الكتابة الصحفية المحترفة لنُسَخِها المطبوعة. لكن في عالم الأخبار الإلكترونية والقنوات الإخبارية التي تعمل على مدار ٢٤ ساعة هناك دائمًا خطر أن يبادر المنافس بنشر سبق صحفي على نحو حصري، بل وحتى الصحفي الذي يعمل في الأساس لدى منفذ إعلامي واحد وليس لديه سوى موعد نهائي واحد يتعَيَّن عليه أن يضع في حسبانه المساهمة في مدوَّنة خاصة بالعمل، أو تسجيل نشرة صوتية، أو الاتصال بالإنترنت للرد على أسئلة الجمهور. إن النشرات الإخبارية «التي يخصص المرء وقتًا لمشاهدتها» والصحف التي تبتاعها في وقت محدد من النهار لن تختفي، لكنها يستحيل أن تصمد بمفردها.

(٣-٦) من صحافة ذات منصة واحدة إلى صحافة متعددة المنصات

يتعيَّن على الصحفي الذي يعمل ٢٤ ساعة على مدار الأسبوع أن يمارس عمله الآن على نطاق مجموعة متنوعة من المنصات الإعلامية. يُعدُّ هذا جزئيًّا إحدى نتائج التحول من الإعلام القديم إلى الإعلام الجديد؛ إذ تداوم الصحف في المعتاد على طباعة الصحف ولكن تُنشئ لها موقعًا على الإنترنت أيضًا، ويعد هذا جزئيًّا أيضًا نتيجة لتفتت الجماهير، ففيما نتمكن من استخدام مجموعة متنوعة أكبر من أجهزة الاتصال، يتعيَّن على مقدِّم الخدمات وضع محتواه على تلك المنصات الإعلامية. وتشير الأدلة إلى أن المسألة لا تقتصر على «قص الخبر ونسخه». على سبيل المثال، أظهر أحد استطلاعات الرأي حول كيفية استهلاك الأفراد للأخبار على هواتفهم المحمولة23 أن المحتوى لا بد أن يكون مختلفًا اختلافًا كاملًا، فمجموعات الفيديو التي كانت تعمل على الإنترنت أو على التليفزيون كانت مشاهدتها مملة أو غير مشجعة على التليفزيون المحمول. في الوقت نفسه ثمة هدف منشود يتمثل في اندماج التكنولوجيات المختلفة، وهو هدف مبالغ فيه. قطعًا يبدو معقولًا أن يفعل الكمبيوتر والتليفزيون المهام نفسها، لكني لا أتوقع أن أرى في القريب العاجل عالمًا يؤدي فيه جهاز واحد جميع المهام. يستمتع الأفراد بشكل متزايد بالتنوع الذي تقدِّمه المنصات الإعلامية المنفصلة، وعلى الصحافة أن تبدع في التغلب على العوائق التكنولوجية بطريقة تستهدف إمتاع العميل وتمكينه من توظيف الإمكانيات التكنولوجية المختلفة. الصحافة الشبكية هي طريقة لاستغلال إمكانيات الاتصال المتزايدة.

(٣-٧) من النظام الخطِّي إلى النظام متعدد الأبعاد

تحمل لفظة «خطِّي» معاني24 متنوعة بلغة الإعلام الإخباري؛ فهي تعني في سياق الإنتاج تناول المؤسسة الإعلامية فكرة الخبر ثم خوض عملية خطِّية تتضمن تجميع الأبحاث والمواد وطريقة التقديم معًا لتصنيع منتج إخباري، وتعني بلغة الاستهلاك الفكرة التي سوف يلتقطها المشاهد أو القارئ في بداية المنتج ويستمر معها حتى النهاية. يعني الإعلام الجديد أنه بينما كانت الأخبار راكدة من قبل، فهي متعددة الأبعاد الآن. هي الآن عملية أكثر من كونها منتجًا، وتتمتع بخصائص مختلفة على حسب المنصة الإعلامية المُقدَّمة فيها، ومع ذلك ربما كان من أعدها في أشكالها كافة هو شخص واحد، وفيما كانت الجماهير من قبل متلقية سلبية للأخبار، فإنه بمقدورها الآن التدخل في أي مرحلة من مراحل العملية. سوف تتصل الصحافة الشبكية متعددة الأبعاد عمدًا بالجماهير في المراحل كافة؛ إذ ستدعو إلى الاشتراك في عملية انتقاء الموضوعات وتغطية الأخبار وإعادة تشغيل المنتج على حسب استجابات الجمهور. سوف يساعد الجمهور في الاختيار والبحث والإنتاج ونشر الصحافة.

(٤) شكل الصحافة الشبكية

هكذا إذًا تختلف صحافة الإعلام الجديد عن الماضي، وتستغل الصحافة الشبكية تلك الظروف الجديدة؛ حيث تتمحور حول العمل مع اتجاه الإعلام الجديد، لكنها تنطوي على ما هو أكثر من ذلك؛ ففيها يصبح الصحفيُّ مُيَسِّرًا أكثر من كونه المتحكم في العملية الصحفية. لكن هذا إذا نظرنا إلى الصحافة من منظور الإعلام الإخباري فحسب واعتبرناها مجرد عملية إنتاجية. وفي عالم الإعلام الجديد يتعيَّن علينا باطِّراد أن نفهم أن الجماهير تستخدم هذه المعلومات وترتبط بها بطرقٍ، نحن في مستهل تصورها فحسب، فما بالك بفهمها أو باستكشافها. في هذه المرحلة نحن نطأ أرض «المبدعين»25 وهم الأشخاص الذين يحاولون فهم الكيفية التي سوف يغير بها استخدامنا للتكنولوجيا الجديدة طريقة تواصلنا. هذا ليس خيالًا علميًّا لأنه في الغالب ما يستخلص المعلومات من النماذج الموجودة. كما يوضح شين ريتشموند المدوِّن المتخصص في مجال التكنولوجيا بصحيفة ديلي تلغراف:
بالإضافة إلى كون التواصل الاجتماعي عبر الشبكات ممتعًا ومسلِّيًا لدرجة الإدمان وملهيًا وما إلى ذلك، فإنه يلبي احتياجًا إنسانيًّا أساسيًّا؛ إذ يتيح لنا الشعور بأننا ننتمي إلى شيء ما. التحدي الحالي هو ضمان بقاء الأفراد على منصتك الإعلامية بدلًا من تركها مع ظهور البدعة التالية، وهذا ليس تحديًا يمكن لمنتجي الأخبار تجنُّبه أيضًا؛ فالشباب يطَّلعون على الأخبار باطراد من الشبكات الاجتماعية على الإنترنت. (وهم دائمًا ما كانوا يفعلون هذا، كل ما هنالك أننا لم نكن نصنف الشبكات الاجتماعية غير المتصلة بالإنترنت.) في الماضي، وصل هؤلاء الأشخاص في النهاية إلى الصحف والإعلام المطبوع. لكن ماذا عن المستقبل؟ (شين ريتشموند، صحيفة ديلي تلغراف)26
لا بد أن يقبل الصحفي الشبكي فكرة هذا التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت؛ فالطريقة التي يكوِّن بها الأفراد مجتمعات صغيرة على الإنترنت، وفي الوقت نفسه يتمتعون بإمكانية الوصول إلى مجموعة أكبر، تعكس إلى حدٍّ كبير الطريقة التي بها اعتاد الأشخاص التواصل مع الإعلام القديم؛ ففي الماضي كنا نتشارك تجربتنا مع الأخبار عن طريق التحدث عما قرأناه في الصحف أو شاهدناه في التليفزيون. والآن سوف يفعل الأشخاص نفس الشيء بشكل متزايد على الإنترنت، فلا بد أن يصبح أفضل منتجي الأخبار جذابين للأفراد الذين يتواصلون اجتماعيًّا عبر شبكات الإنترنت، ولا بد أن يصبحوا هم أنفسهم أيضًا أشخاصًا يتواصلون اجتماعيًّا عبر شبكة الإنترنت. يعني ذلك أن نفعل مثلما فعلت صحيفة ديلي تلغراف عندما أطلقت منصة «ماي تلغراف»27 حيث تقدِّم خدمة استضافة مدوَّنات إلكترونية سهلة وجذابة للغاية، وتضم مجتمعًا مكوَّنًا بالفعل من المدوِّنين وقرَّاء المدوَّنات الذين تجذبهم علامة «تلغراف» التجارية ومواردها التحريرية الواسعة. وأصبحت صحيفة التلغراف نفسها واحدة من المدوِّنين بما تعرضه من تعقيب وتغطية إخبارية على مدوَّنة غرفة الأخبار التابعة لها. غير أنه بخلاف التدوين يتعيَّن على الصحفي الشبكي العثورُ على طرق جديدة للانخراط في مدًى أوسع من شبكات التواصل الاجتماعي، أو إنشاؤها.

تتمتع التعليقات البسيطة التي تُكتب على صفحة شخصية على فيسبوك بقوة كتلك التي تتمتع بها آلية تعهيد الجماهير. ألقِ نظرة على المواقع التي يُنشئها المرشَّحون الرئاسيون بالولايات المتحدة ولربما ترى فيضًا من التعليقات الشيقة (والسخيفة أيضًا) التي يكتبها الشباب، وهي فئة من المعروف أنه يصعب على الإعلام التقليدي الوصول إليها. لا بد أن يكون الصحفيون الشبكيون على دراية بالموارد الكامنة التي يقدِّمها هذا النوع من المنصات الإعلامية، فيما يتعلق بكلٍّ من جمع المعلومات وأيضًا بناء مجتمع عملاء.

ستتمثل مهمة الصحفي في ضمان اغتنام كل فرصة لإتاحة مساهمة «الهواة» في كل مرحلة من مراحل العملية، فما من سبب يبرر عدم مساهمة الجماهير، فهم يساهمون بالفعل. على سبيل المثال، يتيح ملقم الأخبار آر إس إس لنا جميعًا اختيار البيانات التي نود استقبالها مباشرة، وتتيح الروابط والبريد الإلكتروني للجماهير «تعديل» المعلومات من خلال اختيار بعض المعلومات والإشارة إليها، وكما يظهر بوضوح في موقع يوتيوب وأي من مواقع بثِّ مقاطع الفيديو على الإنترنت، يستطيع الجماهير ببراعة استخدام معدات وبرامج تسجيل رخيصة وسهلة لتقديم وبث المعلومات التي لديهم. بالطبع قد نطبق قاعدة الواحد في المائة التي يستخدمها الأستاذ جاي روزِن بجامعة نيويورك مع صحافة المواطن؛ حيث يكون ١ بالمائة فقط من المحتوى عالي الجودة، و١٠ بالمائة مقبول الجودة والباقي رديء الجودة أو تافهًا. على أن جميعها يمكن أن تسهم في الصحافة الشبكية.

يحدث هذا بالفعل؛ انظر كيف استخدم الجماهير الهواتف المحمولة لالتقاط صور المظاهرات في بورما في أواخر عام ٢٠٠٧. بعض من هذه الصور نُشر على مدوَّنات شخصية، لكن عددًا أكبر بكثير أُرسل إلى وكالات إخبارية لم تستطع إرسال مراسليها إلى مواقع التظاهر. لم تكن التغطية مثل تلك التي يمكن أن يقوم بها صحفي مهمته إرسال تقرير؛ ومن ثم كان يتعيَّن على الوكالة الإخبارية أن تكون واعية بمدى حيادية الأشخاص الذين يرسلون المواد وصعوبات إثبات صحتها. كان الكثير من الصور ضبابيًّا أو غير واضح. لكن هل يشكك أحد للحظة واحدة في أن صحافة المواطن في بورما قد عززت فهمنا لما كان يحدث؟

قدمت صحيفة ذا فورت مايرز نيوز بريس، التي تصدر بولاية فلوريدا، مثالًا آخر على الاشتراك الفعال والإبداعي للجماهير، وهي مثال رائع لما يُطلق عليه «تعهيد الجماهير»؛ بمعنى الاستعانة بالجماهير كمصدر صحفي، فبعد إعصار كاترينا اتخذت الصحيفة إجراءً قانونيًّا ضد الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ بالولايات المتحدة للحصول على كافة البيانات المتعلقة بتعويضات الإغاثة للمواطنين المحليين. نتج عن هذا مجموعة بيانات هائلة وضعتها الصحيفة على الإنترنت، ثم طلبت من قرَّائها تنقيب المعلومات، وفي غضون ٢٤ ساعة جرت ٦٠ ألف عملية بحث. أسفر هذا عن مئات قصص الغش في تعويضات الإغاثة كي يتتبعها الصحفيون. لم يكن بمقدور الصحفيين ولا المواطنين تحقيق هذا المنتج الصحفي كلٌّ على حِدَةٍ. كان هذا مثالًا ضخمًا للصحافة الشبكية أثناء العمل، وهي كلها حالات فردية رائعة للاتصال الإبداعي. لكن في رأيي هي بمقدورها أن تضيف شيئًا من شأنه أن يقدِّم نفعًا أكبر للإعلام الإخباري.

(٤-١) غرفة الأخبار الشبكية

سوف أتناول في الفصل الخامس الطريقة التي ستغير بها الوسائل الشبكية كلًّا من الإنتاج والتدريب الصحفيَّين. لكن كجزء من تعريف هذه الصحافة الأكثر اتصالًا أو «انتشارًا»، أود تخيُّل نوع مختلف من «غرف الأخبار». بالطبع أصبحت فكرة غرفة الأخبار كمكان مادي فكرة مكررة كثيرًا، وفيما تتصل المنظمات الإخبارية بالإنترنت، فإنها تنقل مكاتبها لتعكس التغير في طرق الإنتاج، على أن التغيير من الإنتاج الخطي إلى الإنتاج متعدد الأبعاد يفوق هذا بكثير. أود تحاشيَ الوقوع في خطأ استبدال مجموعة نماذج بأخرى؛ وعليه قد يكون ما يأتي تخطيطيًّا ولكن ليس توجيهيًّا، وفيما يبدو ما سأقدمه معقدًا، لا بد أن نتذكر دائمًا أن الصحافة الإخبارية المحلية بصفة عامَّة والأخبار العاجلة بصفة خاصة يتطلبان بساطة وسرعة ومرونة تنفيذية. سيتعيَّن على الصحافة الشبكية في بعض الأحيان أن تدخل في صلب الموضوع مباشرة، وليست جميع العناصر التي سأصفها ستحدث طوال الوقت، وأدين في محاولتي لتقديم نوع من الهيكل المفاهيمي لهذه العملية لعمل بول برادشو بجامعة بيرمنجهام سيتي وعمله «نموذج لغرفة أخبار في القرن الحادي والعشرين» المنشور على موقعه onlinejournalismblog.com.

(٤-٢) حريق في مخزن – نشاط الصحافة الشبكية

أوضح في المثال البسيط التالي الكيفية التي يمكن بها أن تعمل تشكيلة منوعة من تقنيات الإعلام الجديد إلى جانب التغطية التقليدية (انظر الشكل ). سوف نأخذ مثالًا لصحيفة بإحدى المدن تملك جميع المرافق اللازمة للاتصال بالإنترنت، ونرى كيف تتفاعل مع حادث حريق في أحد المخازن. الأمر المختلف بشأن هذا الشكل من الصحافة الشبكية هو خضوعها المستمر لمدخلات الجماهير منذ لحظة نشوء الخبر حتى الآثار المترتبة عليه بعدها بأيام وأسابيع. في ظل هذا الشكل العملي للصحافة المبني على الحدث ثمة درجة من التعقيد، على أن العمليات كافة موجهة نحو تغطية إخبارية وإعداد تقارير إخبارية سريعة ومركزة، وهو لا يشمل عناصر أخرى من المساهمات الشبكية المحتملة مثل مشاركة الجماهير في اختيار الخبر. يأخذنا هذا الشكل عبر المراحل المختلفة التي يمر بها خبر ما والتي لن تكون محددة المعالم من الناحية العملية؛ فهو ينتقل من مرحلة الإشعار بالخبر إلى مرحلة نسخ المسودة الأولى التي تزيد بقليل عن الأنباء العاجلة، وصولًا إلى مجموعات أكثر تعقيدًا من المعلومات. ثم فيما تظهر الحقائق يدخل الخبر مرحلة التحليل، وأخيرًا مرحلتي التوطد والتفاعلية. بعدها يستمر الخبر كقضية أطول مدًى وكحوار مطول بين الخبراء والمقيمين والساسة، ينقله الصحفيون جزئيًّا.

بالطبع لا تتطابق الأخبار الحقيقية بسهولة مع مثل هذا الشكل البياني. لكن الشيء الجدير بالملاحظة هو الدرجة العالية من التواصل بين الصحفي والجماهير. ليس فقط فيما يتعلق بالمعلومات؛ لأنه فيما «يُنشر» الخبر، فإنه يتألف من مواد من إنتاج الجماهير مقدَّمة في شكل مباشر نسبيًّا بدون تدخل. يشير هذا إلى أن الخبر لا يكون ثابتًا، فالانطباع الأول عن حادثة مباشرة يتطور إلى خبر آخر عن الخطر الذي بدوره يجري التشكك فيه فيما ينضم المزيد من الأفراد إلى شبكة الراوي. هنا يأتي دور الصحفي كمنسِّق يجلب المشاركين إلى الشبكة، لا أن يقوم بدور الحارس الذي يحمي رؤية الإعلام للواقع.

(٤-٣) التعهيد الشبكي

fig3
fig4
شكل : تصور للصحافة الشبكية — حريق في مخزن.

سيواصل الصحفي الشبكي تتبُّع المصادر «التقليدية» مثل وسائل الإعلام الأخرى والوكالات الإخبارية الأخرى والعلاقات العامَّة والحكومة. على أنه سوف ينتفع على نحو متزايد بما يمكن أن تسهم به مجتمعات المصالح. فبدلًا من الانخراط العارض في المجال العام، سوف يتصل اتصالًا وثيقًا بهذه الشبكة بصفة دائمة، وفي هذا العالم سيقوم الصحفي الشبكي بالمهامِّ كافةً التي تتم على الإنترنت؛ من الاتصال بملقم الأخبار آر إس إس، إلى الاشتراك في مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، والتفاعل مع المدوَّنات الأخرى رابطًا الأجزاء المختلفة لشبكته ببعضها. لكن بصفته صحفيًّا فهو يملك أيضًا مهارات التواصل مع العالم غير المتصل بالإنترنت والانخراط في أجزاء المجتمع التي كان يتجاهلها الإعلام التقليدي. إن الهدف من مثال صحيفة فورت مايرز بريس المذكور أعلاه هو أنه فيما استغلت الصحيفة شبكة من المواطنين المتصلين بالإنترنت لتعزيز صحافتها فإنها تواصلت أيضًا مع الكثير من الناس بعيدًا عن الشبكة الرقمية.

وما «يلي» الخبر يكون بنفس القدر من أهمية مصدره وإنتاجه تقريبًا؛ فاستمرار العلاقة بين الصحفي والجمهور هو ما سوف يدعم الصحافة الشبكية كمجتمع؛ ومِنْ ثَمَّ كنموذج عمل. يعني هذا بالتبعية أن كل مقال لا بد أن يُصب في هيكلٍ من شأنه أن يُدِيم قيمته؛ فسوف يُدرج الخبر في مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الغالب سوف يُذيَّل؛ ومن ثَمَّ يمكن لأي شخص يستخدم العلامات والإشارات المرجعية أن يَجِدَهُ، وسوف يكون متصلًا بقواعد بيانات الموضوعات ذات الصلة وأنظمة رسم الخرائط الرقمية، وفي كل لحظة سيقدم الخبر لأي شخص يستخدم تلك البيانات طريقًا للرجوع إلى الشبكة الصحفية. من خلال الإشارة المرجعية أو الربط يحتفظ الخبر بقيمته ويبني مجتمع المصالح.

إذن هكذا تبدو الصحافة الشبكية، وأظن أنها سلسلة موثوق بها من النماذج الممكنة، وهي ليست الشكل الوحيد الذي سوف تتخذه الصحافة، لكنها تقدِّم كطريقة للعمل نهجًا عمليًّا وإبداعيًّا للصحافة في بيئة الإعلام الجديد. هي أيضًا استجابة ناجحة لتحدي المشكلات الأعمق التي تواجهه الصحافة حاليًّا. دعونا نفحص الآن الكيفية التي يمكن أن يواجه بها الشكل الأكثر اتصالًا من جمع الأخبار وتوزيعها بعض المشكلات النظامية والأساسية التي تواجه أي شكل من نقل الأخبار ولكن بالأخص في هذه اللحظة من التاريخ.

(٥) كيف يمكن أن تنقذ الصحافة الشبكية الإعلام؟

تناولْنا بالفعل أعلاهُ الكيفيةَ التي تَطرح بها التقنيات الإعلامية الجديدة حلولًا شبكية لأوجه قصور الصحافة فيما يتعلق بالعملية الصحفية؛ أي طريقة عمل الصحافة، ورأينا شكل الصحافة الشبكية مبدئيًّا وعمليًّا. وسوف نتناول في الفصلين الثالث والرابع كيف يمكن أن تحسِّن الصحافة الشبكية الصحافة عمليًّا في مجالات بعينها. بعدها سأقدم في الفصل الخامس بعض التدريبات والتعليم وأفكار الإنتاج لتعزيز إنشائها. لكن قبل كل شيء دعونا نرى أولًا الكيفية التي يمكن بها أن تواجه تقنيات الإعلام الجديد والصحافة الأكثر شبكية بعض المشكلات التحريرية الأعمق. تلك معضلات أبدية في الصحافة، غير أنها تزداد حدة بفعل الضغوط المتزايدة اليوم الناجمة عن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية. وسأصنف هذه المشكلات على أنها مشكلات تتعلق بالثقة والزمن والمكان والإنسانية والجمهور:
  • كيف نحافظ على ثقة الجماهير؟

  • كيف يمكن أن نقدِّم أخبارًا بدقَّة وفي إطار سياقٍ ما، في الوقت الذي نكون فيه مقيدين بإطار زمني محدود لتجميع المعلومات ونشرها؟

  • كيف نوصل الأفراد بعضهم ببعض في الأماكن المختلفة؟

  • كيف نوطد الإنسانية في صميم الصحافة؟

  • كيف نحتفظ بانتباه الجمهور؟

(٥-١) مشكلة المصداقية والثقة

إذن كيف يمكن أن تواجه الصحافة الشبكية أزمة المصداقية التي تهدد الإعلام الإخباري؟ الصحافة عديمة النفع كليةً ما لم تكن موضع ثقة؛ فإذا لم يصدِّق الجماهير المعلومات، تصير الصحافة شيئًا آخر: خيالًا أو جدلًا أو دعايةً. في العصر الرقمي سوف يقدِّم الإنترنت كمًّا هائلًا من الاتصالات والبيانات والأنشطة المعلوماتية. لكن إن لم يكن موثوقًا بها، فهي ليست صحافة إخبارية.

ليس المقصود بهذا أن الصحافة التقليدية لطالما عُرفت بكونها محل ثقة كبيرة. أحد الأسباب الرئيسية لالتزامي المليء بالحماس للعثور على طرق جديدة لإنتاج الأخبار هو إدراكي أن الصحافة عرضة للريبة والشكوك المتزايدة، فإلى جانب الساسة ومعظم شخصيات ومؤسسات السلطة، فإن الصحافة مشكوك فيها بدرجة أكبر من أي وقت مضى، وأنا أرحِّب بهذا، فلطالما كانت الصحافة في أوقات كثيرة من الماضي متحيزة وغير دقيقة ومزيفة بشكل صريح، وقد كانت متعجرفة وغير مبالية. إن اتباع الصحفي لنهج متشكك هو مطلب أساسي من مطالب الوظيفة، غير أن الاستهتار في تناول الموضوعات وازدراء الجمهور الذي أظهره بعض الإعلاميين في الماضي يمثِّل كارثة لمصداقية الإعلام على المدى الطويل.

ثمة أسباب «جيدة» وأخرى «سيئة» لهذا، فلطالما كانت الصحافة خاضعة دائمًا لقيود الزمان والموارد. كانت الصحافة تسيء فهم الأمور لأن الحقائق الكاملة لم تكن واضحة طوال الوقت. هناك عبارة تتداولها القنوات الإخبارية التي تعمل على مدار ٢٤ ساعة تقول: «لن نسيء فهم الأمور طويلًا!» لكن لطالما كانت هناك ضغوط أخرى لا تُطاق على صحافة الإعلام القديم.

يتعيَّن على الصحافة أن تدرَّ أموالًا أو تقدِّم قيمة، فحتى في الوقت الذي تتلقى فيه الدعم المادي، لا تزال في حاجة إلى الاحتفاظ بنِسبٍ من القرَّاء لتبرر وجودها. ذلك الدافع التنافسي يعني أن كل الصحفيين يمارسون عملهم بُغية تحقيق الدرجة الأكبر من «التأثير» حسب انتقاد توني بلير.28 من الواضح أن ثمة ضغوطًا من جانب المعلِنين لزيادة الجمهور إلى أقصى حد ممكن، وهو ما يعني أن الموضوعات والمعالجات الرائجة ستكون دائمًا أكثر جاذبية في نظر إدارات الصحف، فكثير من المؤسسات الإعلامية الخاصة يضع أصحابها خطط عمل خاصة لشركاتهم. لا يعني هذا أنهم يهيمنون على غرفة الأخبار مثل تشارلز فوستر كين.29 لكن حتمًا ستكون وجهة نظر المالك أو صاحب أكبر حصة من الأسهم أحد العوامل التي سيضعها العاملون في حسبانهم. المؤسسات الإخبارية لها صفات سياسية كذلك. حتى عهد قريب كان المذيعون أشد مَيلًا إلى الآراء الوسطية أو كانوا معتدلين بفعل تشريعات. بلا ريب يمكن أن تعني لفظة «وسطي» أن يصبح الشخص خانعًا للدولة، وقد أظهرت إذاعة البي بي سي هذا عندما ساعد ريث في خداع الأمة إبَّان «إضراب بريطانيا العام» عام ١٩٢٦.30 ثمة الكثير من المنظمات التي تؤمن بأن هيئات البث التقليدية تستمر في إظهار تحيز مؤسسي، وفي الوقت الذي تتهم فيه الشبكات التليفزيونية بالولايات المتحدة بأنها عميلة للشركات الكبرى، يُنظر إلى إذاعة البي بي سي على أنها مؤامرة ليبرالية.31 تنخرط الكثير من المؤسسات الإعلامية في السياسة بعمق، فتجدها تشن الحملات المتعلقة بقضايا معينة، وتؤيد الأحزاب السياسية، وتتشبث بمواقف أيديولوجية واضحة أو مستترة. تتحيز المؤسسات الإعلامية تحيزًا ثقافيًّا أيضًا؛ مما يعني أنها يمكن أن تبالغ في عرض خبر معين أو تخفق في تقدير أهمية خبر آخر. لم يكن البيت الأبيض وحده الذي تأخر في إدراك الكارثة البشرية التي جلبها إعصار كاترينا على نيو أورليانز، وإنما تأخرت أيضًا المنظمات الإعلامية بالولايات المتحدة — التي كان يهيمن عليها مديرون من الطبقة الوسطى يعيشون في المدن ويعملون وفق أجندات واشنطن أو الساحل الغربي للولايات المتحدة — في إدراك حدوث هذا الخبر الهائل والمهم وما كان ينبئ به عن أمريكا المعاصرة. كما كتب الكاتب ديفيد شيبلر الحائز جائزة بوليتزر، كان هذا كان فشلًا هيكليًّا في صحافة الولايات المتحدة وليس مجرد سهوٍ:
ما من فضيحة معبرة للصحفيين ورؤساء التحرير أكثر من الذهول الذي باغت معظم الأمريكيين لدى رؤية الفقر الْمُدْقِع بين سكان نيو أورليانز بعد إعصار كاترينا؛ ففي ظل مجتمع مفتوح، لم يكن من المفترض أن يتفاجأ أي شخص ممن كانوا يشاهدون التليفزيون أو يقرءون الصحف بما «فضحه» إعصار كاترينا، حسب التعبير الذي جرى تداوله على نطاق واسع في أعقاب الكارثة. كان يجدر بصحافة الولايات المتحدة الحرة أن «تفضح» كل يوم الفجوات العرقية والطبقية، فلماذا لا يحدث هذا؟ (ديفيد شيبلر)32

على حد قول شيبلر، في كثير من الأحيان ما يفشل الإعلام في تغطيته هو ما يقوض مصداقيته، مثلما تتسبب إساءة فهمه للأمور في تقويض سلطته.

وأخيرًا، فالطريقة التي نمارس بها صحافة الإعلام القديم أحيانًا لا ترقى لإنجاز العمل المطلوب، وعندما تتعقد الأمور، فغالبًا ما تخفق الصحافة. لا أرى في أثناء الحشد لحرب العراق أن الإعلام في أي بلد قد تعامل فعليًّا مع ما كان يحدث ومع المعلومات التي كنا نُبلغ بها ومع المعلومات المخابراتية المقدَّمة، وهذه ليست مسألة سياسية. أيًّا كان رأيك عن مزايا الدخول في الحرب، فإن الصحفيين لم يقدموا خدمة جيدة للجماهير حيث أخفقوا في توضيح جميع جوانب الجدل وجميع الحقائق لهم.33 كان بعضٌ من أسباب هذا يتعلق بالإعلام نفسه. يصلح الإعلام الإخباري، ولا سيما التليفزيون، إلى حدٍّ كبير لنقل الحرب لأنه يقدِّم وصفًا دراميًّا للأحداث وصورًا مؤثرة، وقد كان هناك موقفٌ سياسيٌّ معيَّن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أدى إلى أن الإعلام الغربي بالأخص كان أقل نقدًا عما كان يجدر به أن يكون تجاه سياسة حكومة بوش في «حربها المزعومة على الإرهاب». قد يقول قائل34 إن ثمة مشكلة أعمق طويلة المدى مع الإعلام التقليدي من حيث إنه خاضع بشدة «للتفكير الجماعي»، وهذه هي عقلية القطيع التي تعني أن الإعلام الإخباري يسمح لنفسه باتباع أجندة أعمال تشكلها السلطات بسهولة. سأتعامل باستفاضة مع هذه القضايا في الفصل الذي يدور حول التنوع الصحفي لكن في الوقت الحالي آمل أن أكون قد أوضحت أن صحافة الإعلام القديم لا تحتكر المرجعية، ولا تتمتع بسمعة لا تشوبها شائبة بشأن إذاعة الحقيقة العارية.
علينا أن نَحْذَرَ الوُقوعَ في فخ النظرة السوداوية الشائعة التي تَنفي ثقة العامَّة في الصحافة في حد ذاتها. إذا نظرت إلى أرقام الإحصاءات سيبدو بوضوح أن نسبة الثقة متجهة إلى الانخفاض، وهي تختلف أيضًا باختلاف الوسيط الإعلامي؛ إذ يُفصح الناس عن درجة أكبر من الثقة في مذيعي النشرات الإخبارية بينما لا يبدو أنهم يصدِّقون ما يقرءونه في الصحف، ويرى الناس مؤسسات الخدمة العامَّة مثل البي بي سي وشبكة الإذاعة الأمريكية العامة أكثر مصداقية من منافسيها التجاريين، رغم أن أكثر هذه المؤسسات وقارًا أصبح يُعامل بريبة أكثر مما كان يُعامل في الماضي؛ فالناس يضعون الصحفيين بصفة عامَّة في فئة ذوي الطبيعة الملتوية شأنهم شأن الساسة وسماسرة العقارات.35
لكن قبل أن نفترض أن كل الصحفيين يُرَون على أنهم أفَّاكين مَرْضى، علينا أن نضع هذا في سياق تاريخي واجتماعي. أولًا، يجدر بنا أن ندرك أنه بالرغم من النزعة السوداوية الشائعة، فإن نِسَب الثقة في بعض الوسائل الإعلامية التقليدية يمكن أن تكون مرتفعة إلى حد ما؛ فعلى الرغم من زعم الأشخاص أنهم لا يصدِّقون الإعلام، فإنهم في الواقع يتشاركون بإمعان آراء الإعلام ويعيدون تداول الرؤى الإعلامية للأحداث. ويمكنني القول إن الجماهير ليسوا مرتابين في الإعلام بدرجة كبيرة. لكن إذا سلَّمنا بحدوث تراجع نسبي في الثقة، فعلينا أن نتساءل: من الملوم. لقد لخصتُ بالفعل بعضًا من العيوب الجوهرية في الإعلام التقليدي، لكن هذا لا يعبِّر عن الصورة الكاملة. عند النظر إلى مسألة فقدان الثقة في الساسة على سبيل المثال، فإنني لا ألوم الإعلام بالدرجة التي يلومه بها جون لويد36 أو لاني ديفيز؛37 فمع ارتفاع نسبة التعليم العالي وخصخصة العديد من الوظائف، أصبح لدى الجماهير توقعات أكبر بكثير من مجال السياسة، وأصبح ارتباطهم بحالة الاقتصاد أعلى من ذي قبل. يحثنا الساسة على الطموح والتطلعات، وعلى النقيض، تذكِّرنا الصحافة باستمرار بأن الساسة هم بشر وأن العالم ليس مثاليًّا، ولأن هذا يتعارض مع رغباتنا، فإنه يصيبنا بالإحباط لا مفر. عندما تُسأل في استطلاع رأي عامٍّ: هل هذا الإحباط يعني أنك فقدت الثقة؟ فمن السهل أن تُلقي باللائمة على حامل الرسالة، فإذا كان هذا يبدو لك موقفًا استسلاميًّا الآن، فأنت على حق. من المستحيل أن يستطيع كلٌّ من الساسة أو الإعلام التسليم بهذا الوضع ولا ينبغي عليهم قبوله حتى لو كان له ما «يبرره». لكن لا يجدر بهما أن يُلقيا باللائمة بعضهما على بعض؛ فهذه لعبة ليس فيها خاسر ورابح. ينبغي أن يقوم كلاهما بأعمالهما؛ فالصحافة يتعيَّن عليها أن تبرر نفسها ولا بد من أن تتغير كي تفعل هذا. وبطبيعة الحال، لا بد أن تحدث تغيرات اجتماعية أوسع إن كنا سنعيد بناء ثقتنا في مجال السياسة، لكن يمكن أن يبدأ الإعلام بالتصرف بتواضع ووعي بالذات أكبر والتأكيد على القيم الأكثر إيجابية التي يزعم أنه ينادي بها. ويمكن أن تساعد الصحافة الشبكية الإعلام الإخباري في مواجهة أزمة الثقة في الصحافة كطريقة لإعادة بناء أهميتها وسلطتها، ومن خلال مشاركة العملية مع الجماهير هي تقدِّم علاقة جديدة تتسم بشفافية ومسئولية أكبر، ولا تزال وظيفتها الأساسية أنها تتبع الأخبار التي تهم الرأي العام، لكن مع التركيز على نقل الأخبار بأمانة أكبر. يجبر إدماج الجماهير في العملية الصحفية العميلَ على تحمل مسئولية دوره في سوق الإعلام الإخباري.

(٥-٢) كيف يمكن أن تعيد الصحافة الشبكية بناء الثقة؟

كان الإعلام القديم يعلل نهجه الصحفي في فصل المُنتِج عن الجمهور بأنه كان يغرس روح الموضوعية، وكان الجمهور يقابل هذا بالثقة. ولا تعني الصحافة الشبكية استبعاد هذه المُثل. لا أظن أن مشاركة العملية الصحفية مع الجمهور السابق تعوق السعي من أجل تحقيق النزاهة والدقة والشمولية، بل في حقيقة الأمر أنا على يقين من أنها تُوَطِّده. ما هي الموضوعية على كل حال؟ في وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية لطالما كانت الضغوط التجارية والتنافسية والتحيز الثقافي حتى بين أكثر الصحفيين نبلًا ووعيًا بالذات تخلُّ بالموضوعية. دون التعمق كثيرًا في النظرية الفلسفية، من الواضح أن الموضوعية نسبية، وهي تتوقف على الأعراف السياسية السائدة، ويبنيها المجتمع. إذن ماذا يحمل الصحفيين على التفكير في أنه لديهم تبصُّر فريد بالطبيعة الجوهرية للموضوعية؟ ما يحملهم على ذلك بحق هو أنهم يملكون الخبرة والمهارات اللازمة للعمل جاهدين من أجل بلوغ الموضوعية؛ فهم لديهم مهارة التحرير. بعبارة أخرى هم أكْفاء نسبيًّا في الحكم على المصادر، وتقييم الحُجج المتنافسة، وتقديم نسخة من الواقع، إلا أن الصحافة الشبكية من شأنها أن تجعلهم أكثر كفاءة في فعل هذا.

في الغالب يستطيع الصحفيون المواطنون أو الهواة بلوغ مكانة عالية من الثقة؛ فهم يمارسون الصحافة بصفة عامَّة مدفوعين بنوايا طيبة؛ هم يؤمنون بما يفعلونه أو هم متحمسون، وهم عادة لا يمارسونها من أجل المال، وهم جزء من مجتمع — في الغالب مجتمع صغير للغاية ذاتي التنظيم — يحكم نفسه بنفسه. حاول البعض مثل المدوِّن السياسي البريطاني جاي فوكس38 البقاء بمنأًى عن أعين النقد لكنه لم يحقق إلا نجاحًا محدودًا في ذلك. لكن في المجمل قطع المدوِّنون شوطًا طويلًا لمحاولة بلوغ الشفافية والمعايير الأخلاقية. إن هذا ليس كمثل التمتع بالموضوعية والدقة، لكنه تمسُّك قوي بالمساءلة يفوق ما لدى الإعلام التقليدي. إن رأس مال المدوِّنين على الإنترنت هو مصداقيتهم، ويحرص المدوِّنون على الحفاظ على قيمتها، وعادة ما يتجاهل الناس المدوِّن الذي يفتقر إلى المصداقية أو الذي لا يمتُّ كلامُه إلى أرض الواقع بصلة. ويتراءى لي أن المدوِّنين لا يرغبون في الحلول محل الإعلام التقليدي، لكنهم بديل، ويرغب الصحفيون الأكثر مهنية وإبداعًا بدورهم في استخدم الصحفيين المواطنين، ودور يكاد يماثل دور الصحفيين المرافقين للوحدات العسكرية. ثمة أسباب للتعاون عملية ولها أسس.
لنتناول حالة صورة رويترز المزورة لقذيفة إسرائيلية تضرب بيروت إبَّان صراع عام ٢٠٠٦ مع حزب الله. كان مصوِّرٌ مستقل قد حسَّن صورة لأفق سماء المدينة عبر إضافة المزيد من السحب الدخانية السوداء، واستعان في ذلك بإجراء بدائي للغاية على برنامج فوتوشوب، غير أن ضوابط المراجعة العادية في رويترز لم تكتشفها. احتاج الأمر إلى موقع لمراقبة الصحافة على الإنترنت يُسمى «ليتل جرين فوتبولز»39 لإظهار الخطأ. تعاملت وكالة رويترز مع هذا بسحب الصورة وإيقاف المصوِّر ومراجعة سياستها لمعالجة الصور ثم نشرها. كانت هذه بمنزلة ضربة قصيرة الأمد لمكانتها الاجتماعية لكنها أيضًا كانت تجربة تعلُّم تقبَّلتها. أعلنت رويترز عن ترحيبها بتلقي تصحيحات من هذه النوعية؛ إذ أدركت أن هذا يمكن أن يوطد سمعتها بأنها تقدِّم تغطية صحفية موثوقًا بها. موقع ليتل جرين فوتبولز هو موقع يميني تستحوذ عليه هواجس سياسية معينة. ومن جهتي فسأتابع الأخبار دائمًا على موقع رويترز وليس على ليتل جرين فوتبولز، لكن باتصالهما معًا تتسم العملية الإخبارية بموضوعية أكثر. ينبغي على وكالة رويترز وغيرها من وسائل الإعلام الإخبارية إدماج هذا النوع من المراقبة الخارجية في العمليات الإنتاجية.
صحيفة واشنطن بوست هي مؤسسة إعلامية أخرى تسعى إلى التعامل بجدِّية مع الإعلام الإخباري، وإن كانت — على غرار وكالة رويترز — لم تنغمس بحماس بعد، وقد نشرت الآن عشر وصايا أو بالأحرى «مبادئ»، لصحافتها على شبكة الإنترنت.40 وفيها تعبِّر عن بعض التأكيدات المألوفة: «الدقة والنزاهة والشفافية مهمة على الإنترنت كما هي مهمة في الصفحات المطبوعة. لا بد أن تفي مرحلة ما بعد الصحافة في كلا الوسطين بتلك المعايير.» لكنها تتخذ أيضًا قرارًا صارمًا بنشر صحافتها النزيهة على الإنترنت: «سنقوم بنشر معظم حالات السبق الصحفي والأخبار الحصرية عندما تكون جاهزة، الأمر الذي سيكون غالبًا على الإنترنت.» وهي تدرك أن وسط الإنترنت مختلف من حيث الأسلوب والجوهر: «نقدِّر وندعم الدور المركزي الذي تلعبه الآراء والشخصيات والمحتوى الذي يُعدُّه القرَّاء على شبكة الإنترنت … نرحب بالمحادثات والمدوَّنات وعروض وسائط الإعلام المتعددة كمساهمات في صحافتنا.» ونقدِّر أن هذا سيعني تغير عادات كانت مستمرة مدى الحياة في أنماط العمل اليومية المعتادة: «سوف تستجيب غرفة الأخبار لإيقاعات شبكة الويب بنفس القدر من البراعة والمسئولية الذي تتعامل به مع إيقاعات الصحف المطبوعة. وسوف تتطور جداول المواعيد النهائية وهياكل غرف الأخبار وأشكال الصحافة لتواكب الإمكانيات الواعدة لشبكة الويب.»

يمثِّل كل ما سبق صيحة تحفيزية لأي وكالة إخبارية تواجه تعقيدات العصر الرقمي، وهم يقدِّرون أن الأمر أكثر من مجرد إنشاء موقع على الإنترنت إلى جانب الصحف؛ فالاثنان يجب أن يصيرا واحدًا: «من المفترض أن يجعلنا نشر صحافتنا على شبكة الويب أكثر انفتاحًا لتغيير ما ننشره في الصحف المطبوعة. لا يوجد اختلاف ذو مغزًى في صحيفة واشنطن بوست بين «الإعلام القديم» و«الإعلام الجديد».»

لكن كما أشار المدوِّن جيف جارفيس، لا يشير هذا فعليًّا إلى «الجمهور السابق». لا تزال صحيفة واشنطن بوست تنظر إلى العامَّة على أنهم عامل مساعد لعملها وليسوا جزءًا لا يتجزأ منه:
من وجهة نظري هم أغفلوا مبدأً آخر في غاية الأهمية: خليق بهم أن يسعَوا إلى العمل بطرق جديدة تنطوي على التعاون مع الأشخاص المعروفين سابقًا بكونهم القرَّاء. ويجدر بهم أن يعيدوا تشكيل علاقتهم — وعلاقة المؤسسة وعلاقة كل صحفي — بالمجتمع. (جيف جارفيس، معلق إعلامي)41
من الإنصاف في حق صحيفة واشنطن بوست أن نذكر أن مذكرة المبادئ العشرة أقرَّت أيضًا أن هذه الوصايا ليست منزَّلة من عند الله وأن على الصحيفة أن تكون واسعة الأفق بشأن المستقبل: «علينا أن نواصل تطوير المحتوى وأشكال الصحافة التي ننشرها في الصحف المطبوعة، جزئيًّا كردِّ فعل للتطور الصحفي على شبكة الويب واستلهامًا له.»42

إلا أنه عندما تتناول المذكرة كيفية الخروج والبحث عن الجمهور المتفرق، فإن الصحيفة لا تلجأ إلى المدوِّنين أو مواقع الويكي وإنما تستعين بمجموعة من الممارسين بداخلها، والمفارقة الكبرى هي أنه بدلًا من أن تذيع الصحيفة مبادئها على الملأ، فإنه تم تسريبها من خلال أحد المواقع الصحفية. في حقيقة الأمر، ربما تتعلق المبادئ العشرة أكثر بالسياسات الداخلية لصحيفة واشنطن بوست حيث الصحيفة والأقسام الإلكترونية في حاجة إلى هذه النوعية من خرائط الطريق التي تمهِّد للتعايش السلمي.

ينبغي أن تنشر كل المؤسسات الإعلامية قواعد مهنية كهذه، ليس لأنها تحتاج إلى توطيد السياسة، وإنما لتعزيز الالتزام المؤسسي ولكي تبعث برسالة إلى جماهيرها مفادها أنه مرحَّب بهم الآن في غرفة الأخبار؛ وستكون هذه بمنزلة خطوة مهمة إلى الأمام لخلق علاقة ثقة أكثر متانة.

(٥-٣) الصحافة والطبيعة المؤقتة

تتعلق الصحافة بالأحداث الجارية؛ فقوامها إطلاع الناس على شيء ما بأسرع ما يمكنك، وما خلا ذلك ليس مهمًّا. تعني الطبيعة المؤقتة للصحافة أن المواعيد النهائية والحدود المادية تفرض قيودًا على طريقة عمل الصحفيين وما يمكنهم إنتاجه، وقد رأينا الكيفية التي يخفف بها الإعلام الجديد هذه القيود؛ فقد أصبحت الصحافة الآن عملية غير خطية متعددة الأبعاد. ترحب الصحافة الشبكية بهذه الفرصة وتجعلها جزءًا لا يتجزأ من النظام الكامل.

يتيح الإعلام الجديد للصحافة الشبكية استخدام مصادر متعددة. البحث في الإنترنت هو الأداة الأساسية، لكن يوجد نطاق كامل من الروابط وملقمات الأخبار والعلامات وتنبيهات البريد الإلكتروني التي يمكنها أن توسع دائرة بحثك. أقامت وكالة أنباء رويترز الآن شراكة مع شبكة المدوَّنات جلوبال فويسز (الأصوات العالمية)،43 وبموجب هذه الشراكة تتمكن رويترز من استخدام شبكة عالمية من المدوِّنين الذين بمقدورهم إضافة وجهات نظر شخصية. وتأمُل رويترز أيضًا أن يصبحوا موردًا صحفيًّا يعزز تغطيتهم الصحفية، ومع ذلك فحتى لحظة كتابة هذا الكتاب لم توجد خطط خاصة بالدفع لهم مقابل هذا. أنشأت مؤسسة رويترز أيضًا خدمة ألرت نِت؛44 وهي عبارة عن أداة تعيين إخبارية للطوارئ تقدِّم معلومات عن كل شيء من العواصف إلى الحروب والأوبئة في أنحاء الكرة الأرضية. هذا تعهيد متعدد الأبعاد فعَّال مقارنة بشريط إرسال الأنباء تلغرافيًّا أو نموذج تغذية الأخبار القديمَين اللذين فيهما كانت آخر التطورات المقدَّمة بصورة دورية حول مواد منتقاة قبلًا هي المكونات الوحيدة لإنتاج الأخبار.

لا تزال هناك مواعيد نهائية يجب أن تلتزم بها الصحافة الشبكية، ويظل الالتزام بوقتٍ مستهدَف أداة تحفيزية نافعة. سيريد العملاء دائمًا معرفة إلى أي مرحلة وصلت العملية الصحفية، وسيظل هناك صحف ونشرات إخبارية «يخصص المشاهد وقتًا لمشاهدتها لاحقًا». لكن بصفة عامَّة سيكون للصحافة بُعدان جديدان مؤقتان؛ أولهما: أنها ستنشط فور بدء الصحفيين الشبكيين العمل؛ فمنذ لحظة التكليف بالمهمة ليس هناك ما يمنع الصحفيين من إذاعة المعلومات، هذا ما يفعله الصحفيون التقليديون بالفعل بالتحدث إلى الخبراء أو المعارف. سيكون المدوِّن على سبيل المثال هو الذي يتصل بصحفي «مهني» لتنشيط عملية سير خبر ما، وسيكون الصحفي هو المنسق الذي ينبه شبكة ما بشأن ظهور الخبر ويبدأ عملية تجميع المعلومات وفحصها وربطها، ويحدث هذا بالفعل في المدوَّنات السياسية في المملكة المتحدة؛ حيث يختبر الصحفيون الأخبار عن طريق المدوِّنين ليرَوا من يتجاوب معها، والمدوِّنون سيستقون الأخبار من الصحافة التقليدية ثم يعمقون البحث في الموضوعات أو يعرضونها من زوايا مختلفة. ويعد هذا تطورًا إيجابيًّا للغاية يمنح عملية سير الخبر مدًى مؤقتًا أطول.

تتمتع الأخبار في ظل الصحافة الشبكية بعمرٍ يتجاوز الموعد النهائي؛ نظرًا لأن التفاعل على الإنترنت يمكن أن يصبح جزءًا من أهمية الخبر. وقطعًا هذا أمر في غاية الإحراج إن كنت أحد أعضاء مجلس الشيوخ مثل جورج ألان الذي ألقى ملاحظة طائشة ظلت لوقت طويل على موقع يوتيوب.45 لكن هذا يشير إلى أن الأخبار التي لها أصداء ستظل مدوية حقًّا طالما ظل الجمهور مهتمًّا بها، وكلما اهتم الأشخاص بالخبر، استمر الخبر من خلال التفاعل على الإنترنت، ويمكن الآن للجهود الصحفية التي ربما انتهى بها الحال في سلة النُّفايات أو ذهبتْ أَدْراجَ الرياح أن تستمر في البقاء من خلال تسجيل البرامج لمشاهدتها في وقت لاحق ومن خلال الإنترنت. وإني متيقن من أن الصحفي الشبكي الذي يستخدم عمدًا هذه التكنولوجيا الجديدة في صنع المواد الإعلامية وتداولها، والذي ينخرط مع الجمهور بالكامل وبشكل مباشر، سيكون هو الصحفي الذي يبقى عمله عمرًا أطول، وبدلًا من أن تقرر زمرة إعلامية تقليدية أنه ينبغي تتبُّع خبر ما بشكل متكرر لدرجة مملة، سيكون للجماهير دور مباشر في مد أمد جوانب معينة من الفحص أو التحليل؛ فالجمهور هو من يحدد ما ينبغي تغطيته، لكن عمليًّا ستظل هذه العملية تتسم بالتعاونية وبالإدارة المشتركة.

(٥-٤) الصحافة والجغرافيا

تَمَثَّل القيد الكبير الآخر على الإعلام القديم في المسافة؛ فقد أضعفت المسافة كلًّا من التغطية الصحفية والنشر. كانت هذه ولا تزال مشكلة واقعية إلا أنها معضلة فلسفية أيضًا. المسافة مادية لكنها معنوية أيضًا؛ فطريقة فهمنا للآخرين وتمثيلنا لهم، لها عواقب فيما يخص الطريقة التي نعامل بها هؤلاء البعيدين عنا. وفي الفصل الختامي لهذا الكتاب سأبحث هذه الجوانب الأخلاقية والسياسية للصحافة الشبكية على نحو أعمق. لكنني أود التأكيد هنا على الكيفية التي تتيح بها الصحافة الشبكية الاتصال ومشاركة المعلومات والتواصل عبر المسافات البعيدة.

العالم يتقلص بفضل التكنولوجيا الجديدة وعوامل أخرى مثل نمو رحلات الطيران الرخيصة وانخفاض تكاليف الأقمار الاصطناعية. تمكننا الصحافة الرقمية من خلق الروابط. لنعُد إلى وكالة أنباء رويترز؛ ففي موقعها الخاص بقارة أفريقيا46 يوجد الآن مجموعة معقدة من المدوِّنين المؤلَّفين من طاقم عمل رويترز ومن «هواة» من داخل البلدان الأفريقية. يقدِّم هذا مثالًا على مشاركة الإعلام الإخباري مع قطاع المدوَّنات العملاق التي ينقل الأصوات المستقلة، ويضيف المدوِّنون عمقًا وقيمةً إلى تغطية رويترز المهنية. بعض من المدوَّنات عبارة عن انتقادات للإعلام، مثل هذا النقد اللاذع لخبر جاء بمجلة تايم يزعم أن جمهورية غينيا بيساو في طريقها لتصبح «عاصمة المخدرات» الأولى في العالم:
تخيَّل أن جريدة تايم قدمت خبرًا عن أن ولاية نيو جيرسي هي عاصمة سرقة السيارات بالولايات المتحدة، وكان نصف الصور بالخبر مأخوذًا في ولاية ماساتشوستس. هل سيبدو هذا منطقيًّا؟ كلا. وهل لدى أهل ولاية ماساتشوستس الحق في أن يشعروا بالمهانة؟ أجل. يفترض محررو جريدة تايم أن ثمة فرصة ضئيلة لأن يلحظ جمهورهم أو يفرق بين البلدان العديدة في أغوار أفريقيا المرعبة السوداء. علاوة على ذلك تجدهم ينشرون صورة لكومة من النقود المزعوم أنها حصيلة تجارة الكوكايين وكلها بالدولار الليبيري، ومن المفترض أن يعتقد القارئ أنها مبلغ ضخم من الأموال القذرة، لكنها ستبدو في نظر العارف أنها كم من الدولارات الليبيرية تعادل قيمته ٨ دولارات أمريكية فحسب. يا للعجب! لديَّ نفس هذا القدر من الدولارات الليبيرية في درج خزانتي بعد أن استبدلت ورقة نقود من فئة العشرة دولارات! (مدوَّنة «ليبيريا ليدجر»)47

هذا مجرد مثال واحد يعرض كيف منحت رويترز فرصة لمواطن أفريقي كي يرد على الغرب، ليس عبر مدوَّنة عشوائية وإنما عبر مدوَّنة متصلة مباشرة بشبكة الإعلام التقليدي. لكن لكي يكون هذا صحافة شبكية أصيلة على المدوِّنين أن يكونوا أكثر من مجرد مراسلين محليين على الإنترنت، ومن الضروري أن يُرى هذا على أنه أكثر من مجرد خاصية مكملة إضافية.

لقد بدأ بالفعل التغلب على عائق المسافة عن طريق الصحفيين المواطنين بطرق غير متوقعة، ولا يحدث ذلك عن طريق التدوين فحسب. ينبغي أن نتذكر أن صور سجن «أبو غريب» كانت في حقيقة الأمر من إنتاج المستخدم، مع إنه لم يكن ممكنًا أن تظهر إلى حيز المجال العام لوسائل الإعلام إلا بفضل البرنامج التليفزيوني الأمريكي ٦٠ دقيقة والصحفي سيمور هيرش. عندئذٍ قدمتها قناة الجزيرة إلى الجمهور العربي الذي تمكَّن من الاشتراك في القضية عن طريق المكالمات الهاتفية التي تتلقاها القناة وعن طريق موقعها، وبالطبع عُرضت الصور ذاتها أكثر من مليون مرة على المدوَّنات في شتى أنحاء العالم، وأصبحت مواد لمزيد من التحقيق الصحفي. إن خبر «أبو غريب» وطريقة تفسيره وتقديمه على نحو مختلف حول العالم مع التفاعل الممتد بين الهواة والمهنيين كان واحدًا من أكبر الأمثلة على الصحافة الشبكية التي رأيناها حتى الآن.

لا يتعلق الأمر فقط بالمؤسسات الإعلامية، فإذا كانت الحكومات والهيئات الأخرى مثل المنظمات غير الحكومية لديها الرغبة في التواصل؛ فعليها إذن أن توفر للناس فرصًا أكبر لدخول منصات الإعلام الجديد للتواصل فيما وراء حدودهم. على سبيل المثال يمكِّن صندوق الإنماء العالمي التابع لإذاعة البي بي سي الجماهير المتحدثة باللغتين البشتوية والدارية داخل وخارج أفغانستان من الاستماع إلى برامج الراديو المفضلة لديهم باستخدام الإنترنت.48 ويستهدف مشروع مماثل تابع لنفس الصندوق يُسمى زيج زاج49 الشبابَ في إيران الذين يستخدمون لغة سرِّيَّة للتواصل؛ فهو يتيح لهم الفرصة لسماع أصوات بعضهم بعضًا، والاندماج عبر الإنترنت مع شخصيات معروفة مثل القادة الدينيين. وسوف أبحث قدرة الصحافة الشبكية على عبور حدود كهذه في الفصل الخامس، لكن من الواضح أن التكنولوجيا الجديدة تستطيع عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام الإخبارية اجتياز كلٍّ من العوائق المادية والاجتماعية.

(٥-٥) الصحافة ودورة اهتمام الصحفي بالخبر

يمكن أن تتيح الصحافة الشبكية للصحفي اندماجًا وتروِّيًا أكبر في موضوعه، وهذا هدف يحمل وجهين متناقضين لدى أي صحافة جيدة.

أصفُ هذا بأنه دورة اهتمام الصحفي بالخبر، ومن خلال الصحافة الشبكية يمكننا أن نأخذ هذه العملية إلى ما وراء غرفة الأخبار.

في عملية إنتاج الأخبار التقليدية، وبالأخص في غرفة الأخبار التقليدية، يدخل الصحفي في دورة من الاهتمام الشخصي بالخبر. أعني بالاهتمام الانشغال — العاطفي والفكري — بالموضوع الذين هو بصدده. عند مستوى ما يجتاز معظم الصحفيين المهنيين هذه المرحلة مع تقدُّمهم في حياتهم الوظيفية. هم يلتحقون بهذه الوظيفة لأنه يساورهم فضول حول العالم، وفي الغالب يكونون مندمجين سياسيًّا أو شخصيًّا مع قضايا المجتمع، وعلى الأرجح يكونون قادرين على رؤية الأمور من وجهة نظر الآخر، وهم مهتمون بما يفكر فيه الآخرون، وكذلك منفتحون على فهم أفكار ومشاعر الآخرين كطريقة لفهم العالم. هذا هو ما أقصده بكونهم مهتمين. غير أن خبرة الصحفي وتدريبه يُحِيلانِ النهجَ الشخصي إلى نظام موضوعي.

كي تنجح غرف الأخبار لا بد أن يتوافر بها أفراد يؤدون عملهم بصفة عامَّة وفقًا لأعراف المؤسسة الصحفية ويكافحون من أجل بُلوغ أهداف صحفية متشابهة ذات قيم صحفية مشتركة. وفي الوضع المثالي قد يجد الصحفيون المكان والزمان والموارد في أوقاتٍ ما من حياتهم الوظيفية كي يعيدوا الاتصال مع «اهتمامهم الشخصي» ويجددوا هذه الدوافع المحفزة الأصلية، لكن هذا نادرًا ما يحدث في الواقع.

تحدث دورة مماثلة بصفة يومية؛ إذ يدخل الصحفي مقر العمل قادمًا لتوِّه من العالم الحقيقي، ممتلئًا بالانفتاح والشغف بالعالم. عندئذٍ يتعيَّن عليه التعامل مع موضوع ما وفرض نظام المؤسسة الصحفي؛ وعليه أن ينحِّي مشاعره الشخصية ومنظوره الفكري الشخصي كي يبذل قُصارى جهده للوصول إلى منتج موضوعي؛ أي تقديم للخبر قابل للتوصيل.

ولا بد أن يحرص الصحفيون على أن تكون صحافتهم شاملة ونقدية ودقيقة قدر الإمكان، ومع ذلك تحاول صحافتهم عندئذٍ ربط الموضوع بالمشاهد، وإحدى طرق تحقيق هذا هي «الاهتمام الإنساني»؛ إذ يحاول الصحفي نقل الخبر بطريقة يمكن للجمهور التعاطف معها حتى عندما يكون الموضوع بعيدًا عنه اجتماعيًّا وجغرافيًّا. في تلك المرحلة من عملية الإنتاج يحاول الصحفي إعادة تقديم العنصر الإنساني وخلق رد فعل عاطفي. في يوم انفجارات لندن على سبيل المثال دخل الصحفيون الذين عملت معهم في هذه الدورة؛ ذهبنا إلى العمل كالمعتاد تاركين وراءنا حياتنا الطبيعية، ثم اضْطُرِرْنا إلى التعامل بمهنية مع خبر كان مثالًا متطرفًا لحدث مزعج ومربكٍ عاطفيًّا. لكن بالطبع أردنا أن تعكس تغطيتنا البعد الإنساني لأحداث اليوم، وهو ما حققناه؛ عبر الحرص أكثر على منح الضحايا فرصة للتحدث عما حدث بعواطف غامرة، حتى يمكن للمشاهد الإحساس مباشرة بالمشاعر التي أثارتها الأحداث. بعد البث يكون الصحفي قادرًا على إعادة الاندماج في العالم الحقيقي، وربما يصطحب معه أنواع ردود الفعل العاطفية كافة، من إحساس بالذنب أو كرب أو تعاطف، فيما يتعلق بالأحداث التي تولَّى تغطيتها خلال تلك الأيام.

الجانب السلبي لهذه الدورة أنها يمكن أن تُنتج نوعًا من الوعي الزائف في طريقة عمل الصحفي على مدار الأخبار، وهي تؤدي في أردأ تجلياتها إلى صحافة نمطية؛ إذ تخلق القوالب النمطية المضْجِرة التي فيها يسأل المذيعون الضحايا «ما شعورهم» أو يعرض المراسلون أطفالًا أفارقة يتضوَّرون جوعًا وأعينهم ملوثة بيرقات الذباب، ويمكن أن تخلق فجوة بين الصحفي والموضوع لا يمكن رأبها أبدًا. أرى أن هذا يؤدي إلى صحافة أقل إشباعًا لكل المعنيين.

لا تقتصر دورات الاهتمام هذه على الصحافة؛ إذ يمكن القول إن الأطباء يُضْطَرُّونَ إلى المرور بدورات مشابهة. إلا أن الصحافة الشبكية توفر فرص تحويل هذه الدورة إلى دورة أكثر فاعلية، وفوق ذلك هي تمنح فرصة تحويلها إلى شبكة. تتيح الصحافة الشبكية — التي فيها يُسمح باشتراك «الهاوي» والمواطن في العملية بأكملها — للصحفي الحفاظ على الصلة بين الخبر والقرَّاء دون اللجوء إلى الصيغ المقولبة. لا يزال قوام الصحافة هو العرض؛ فكيف لها بخلاف ذلك أن تؤدي مهامها الأساسية من ترشيح وتنقيح وتقديم نهائي؟ على أن العملية متعددة الأبعاد بأكملها ستكون أقل هرمية وغير خطية. حدث بعض من هذا يوم تفجيرات السابع من يوليو في لندن؛ حيث أحدثت صحافة المواطن تأثيرًا؛ إذ راح الأفراد يرسلون صورًا ملتقطة بهواتفهم المحمولة وينشئون المدوَّنات الشبكية لربط أحداث اليوم. في هذا اليوم تعلم الكثير من المؤسسات الإعلامية دروسًا حول كيفية تسخير محتوًى من إنتاج المستخدم، وقد تعلمت مشاركة مجالهم الصحفي مع العامَّة. غير أن هذا كان لا يزال بعيدًا كل البعد عن نوعية الصحافة الشبكية الاستباقية التي يمكن أن تمد دورة اهتمام الصحفي بمعنًى أكبر، وفي عالم وسائل الإعلام الإخبارية المتصلة بحق يمكن لهذا أن ينعكس في صورة إدراك متجدد لإمكانيات الصحافة. وسنتناول هذا بمزيد من التفصيل في الفصل الذي يدور حول التنوع الصحفي.

(٥-٦) الصحافة والجمهور

رأينا بالفعل كيف بدأ الجمهور يتفتت ويهجر وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية. إليكم فئتين من الناس يرى دان جيلمور أنه يمكن للإعلام الجديد المساعدة في إعادة جذبهما:
الفئة الأولى هي فئة الأفراد الذين كانوا نشطاء على طريقتهم الخاصة حتى قبل أن تصير الصحافة الشعبية في متناول الجميع؛ هم كُتَّاب الخطابات التقليديون إلى المحررين؛ فهم مندمجون ونشطون، على المستوى المحلي عادة. الآن بمقدورهم كتابة المدوَّنات وتنظيم اللقاءات، وبصفة عامَّة إثارة القضايا التي تهمهم سواء أكانت سياسية أو غيرها … الفئة الثانية من الجمهور، والتي آمُل أن تكون أكبر من الفئة السابقة، هم أولئك الأفراد الذين يرتقون بهذا النشاط إلى المستوى التالي؛ إذ نشهد حاليًّا ظهور المتمكنين من المدوِّنين أو منشئي مواقع الويب أو أصحاب قوائم المراسلات أو مرسلي الرسائل القصيرة الانتقادية — الوسيط أقل أهمية من الهدف والموهبة — الذين يصيرون مصدرًا رئيسيًّا للأخبار للآخرين وفيهم الصحفيون المهنيون. وفي بعض الحالات يصير أولئك الأشخاص هم أنفسهم صحفيين مهنيين، ويجدون طرقًا لتحويل هوايتهم إلى مشروع تجاري. (دان جيلمور)50

وأضيف أنا فئتين أُخريين؛ فئة الأشخاص الذين ليسوا من نوعية النشطاء الذين يصفهم جيلمور، وهي فئة غائبة عن عالم الواقع الافتراضي؛ وسيظل أفراد كثيرون يرغبون في العلاقة القديمة مع الإعلام الإخباري، سوف يرغبون في الأخبار المجهزة مسبقًا المقدَّمة لهم، وأعتقد أن أشخاصًا كثيرين سوف يواصلون استهلاك معظم المحتوى الصحفي المقدَّم لهم بهذه الطريقة. أما الفئة الرابعة فهي «المستخدمون الاجتماعيون» الذين سوف يتابعون الأخبار ويشاركون فيما يطلق عليه جيلمور «الحوار» كجزء من التواصل الاجتماعي عبر الشبكات. هم ليسوا نشطاء بالطرق التي يصفها، لكنهم يظلون يقدمون محتوًى وتفاعلًا مع تدفق الأخبار. جزء من فيض الأخبار الاجتماعية الخاصة بهم سيكون متمركزًا بشدة حول السياقين المحلي والشخصي حتى إنه لن يمثل أهمية للصحافة الشبكية. غير أن البنى التي تخلقها هذه الأخبار ستكون موردًا مهمًّا لاندماج أوسع نطاقًا. إن الأمر لا يتعلق بالبحث عن ماضي شخصية سياسي صغير من خلال تفقُّد الصور غير اللائقة له على فيسبوك من أيام الشباب العابث، وإنما يتعلق الأمر بتتبُّع الصحافة الشبكية وبدئها للحوارات على هذه المواقع التي تجذب المستخدمين بالأخبار والقضايا التي تنقلها وسائل الإعلام الإخباري.

قطعًا هذه ليست فئات متعارضة؛ فكلنا يمكن أن نكون أعضاء في فئات مختلفة منها في أوقات مختلفة. لكن يتعيَّن على الصحافة أن تتصل بهذه الفئات إن كان مقدرًا لها النجاح. إن إدماج «الجمهور السابق» من خلال عملية الصحافة الشبكية له ثلاث منافع:
  • (١)

    إعادة دمج الجمهور في العملية.

  • (٢)

    جلب محتوًى إلى العملية.

  • (٣)

    إضفاء قيمة أخلاقية وسياسية على العملية.

تحتاج وسائل الإعلام الإخبارية إلى هذه الجموع الغفيرة من الناس. تحتاج إلى أن تبذل جهدًا من أجل الوصول إلى المجالات غير المطروقة أيًّا كان موقعها من أجل الإبقاء على مجالها. يمكنها أن تحقق ذلك نوعًا ما عبر البراعة في التسويق والبحث، ويمكنها المضي أبعد من ذلك من خلال تفصيل منتجاتها على حسب متطلبات هؤلاء الجماهير الذين يصعب الوصول إليهم. لكن تلك المهمة ستصبح أسهل كثيرًا لو أنها جعلت الجمهور جزءًا من العملية، وسمحت له بالاشتراك في المساعدة في تشكيل وسائل الإعلام الإخباري التي نتوقع منه متابعتها. الصحافة الشبكية هي مفهوم استراتيجي وأيضًا تخطيطي، وهي ليست مجرد إدماج لمجموعات نقاش مركزة؛ فمن خلال دمج المدوِّنين على سبيل المثال، يخلق الإعلام التقليدي شبكة ذاتية الانتقاء على نحو فعال، وهي قطعًا حلم كل أخصائي تسويق. يقدِّم الجمهور الشبكي محتوًى بطريقة شديدة الكفاءة. معظم المحتوى الذي يُعدُّه المستخدمون غير مدفوع الأجر، وحتى عندما يقتضي مقابلًا ماديًّا فإنه عادة ما يكون مقابلًا زهيدًا لأن الجماهير تقدِّر المشاركة بنفس قدر تقديرها للنقود. الصحافة الشبكية هي منفعة اجتماعية.51

إن إدارة التفاعل مع الجمهور السابق لا تُنفَّذ دومًا بكفاءة. لا بد من إبقاء تكاليف المعاملات تحت السيطرة، ويُعزى هذا في جزء منه إلى أن معظم المؤسسات الإعلامية لا تزال تعمل بطريقة فصل محتوى «المهنيين» عن محتوى «الهواة»، ويعود هذا أيضًا إلى أنهم لم يطوروا بعد التقنيات اللازمة لمعالجة حجم المحتوى الذي يُعدُّه المستخدم أو التفاعلات التي تأتيهم في بعض الأحيان. يقول ستيف هيرمان الذي يعمل بموقع بي بي سي أونلاين إنه انهال عليهم كمٌّ هائل من المحتوى الذي أعدَّه المستخدمون يوم تفجيرات لندن، والآن صار لديهم مركز ممنهج للمحتوى الذي يُعدُّه المستخدمون وبرنامج خاص من شأنه فرز الأعداد الهائلة من الرسائل الإلكترونية التي تبعث بها الجماهير واستخراج الصور وإعدادها للمشاهدة كأيقونات صغيرة بحيث يستعرضها صحفيو البي بي سي. لكن يمكن تطوير ذلك إلى حدود أبعد بكثير؛ فعلى سبيل المثال لم يتعمق مركز البي بي سي بعدُ في هذا المجال؛ لأنه يواصل فصل الجماهير عن عملية النشر، وهو يصرُّ أيضًا على استخدام إجراءات رقابة صارمة بدلًا من السماح بنشر المحتوى مع تنبيه القارئ بطبيعته.

تضفي الصحافة الشبكية قيمة أخلاقية وسياسية على العملية من أجل الجمهور؛ لأنها تضعف قوة الإعلام أو تشاركها بنجاح مع الجمهور، وهي تشجِّع الجمهور على المشاركة في تحمُّل مسئولية التغطية الصحفية وتعزز قدرًا أكبر من الثقافة الإعلامية. إن كنت جزءًا من عملية فإنك حتمًا ستشعر بالملكية. يتعيَّن على وسائل الإعلام الإخباري إنشاء أنظمة تتيح التفاعل المباشر أكثر مع الجمهور. لا بد أن يكون هناك المزيد من الانفتاح على الموارد، وتسهيلات أكبر للوصول إلى تدفقات المعلومات والمواد الخام، وشفافية أكبر. لا بد أن يُظهر الإعلام الثقة ليحصل عليها في المقابل.

(٦) قطاع الصحافة الشبكية

نحن مراقِبون مستقلُّون للعالم، نذهب إلى حيث لا تستطيع جماهيرنا الذهاب، وننبش حيث لا تستطيع الجماهير النبش، ونمحِّص ونفسِّر ما لا تملك جماهيرنا متسعًا من الوقت لتمحيصه وتفسيره حتى تتمكن جماهيرنا من فهم العالم بشكل أفضل. (مايكل أورسكس، إنترناشونال هيرالد تريبيون)52

إن وصف مايكل أورسكس للصحافة لا يزال المكوِّن الجوهري لما يقدِّمه القطاع الصحفي لعالَمٍ يشهد إصدار الويب ٢,٠ أو حتى إصدار الويب ٣,٠. تتمحور الصحافة الشبكية حول الصحفيَّين: الهواة والمحترفين، باعتبارهما جزأين في عملية يتمم أحدهما الآخر وتتزايد قابلية تبادل الأدوار بينهما. تُحرر الديناميكيات الجديدة التي لخَّصْتُها أعلاهُ الصحافةَ لتقومَ بأُمور لم يكن بمقدورها أن تقومَ بها في الماضي. قطعًا هذا لبُّ تعريف الفرصة، أليس كذلك؟ وهي فرصة للإعلام الإخباري التِّجاري وفرصة للقطاع العام كذلك. ولكوني شخصًا عَمِلَ في قطاعَي الإعلام الإخباري العام والخاص، أتفهَّم أهمية أحدهما للآخر.

من الضروري لبقاء الصحافة أن تحتفظ الصحافة الإلكترونية على الإنترنت بما يقدره الأفراد في الإعلام التقليدي. تخبرنا جميع استطلاعات الرأي أن الشباب لا يكتسبون عادة متابعة النشرات الإخبارية، وإن كانت إحدى الدراسات53 الشائقة قد أظهرت أن الجيل الأول الذي تبنَّى التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي لا يزال يثق أكثر في وسائل الإعلام التقليدي، كل ما هنالك أنه لا يستخدمها؛ وعليه واحدة من المهام الرئيسية وهي العُثور على طرقٍ لإيصال قيمة الإعلام التقليدي وثماره إليهم، ولجعلها جزءًا من حياتهم مرة أخرى.
على أي شخص في العصر الرقمي يفكر في دعم أو إطلاق مشروع إعلام إخباري أن يطرح على نفسه بضعة أسئلة أساسية للغاية:
  • ما مجال العمل الذي أمارسه؟

  • ماذا أقصد بالصحافة؟

  • ما المحتوى الذي لديَّ؟

  • كيف سأقدمه؟

  • من يريده؟

  • لماذا يريدونه؟

  • ماذا سيفعلون به؟

هذه هي كل الأسئلة التي غالبًا ما كان الإعلام القديم يراها أسئلة بديهية، لكنها أسئلة في غاية الأهمية لأي شخص يسعى إلى تحقيق تقدُّم في مجال الإعلام الجديد. حتى الآن كثير من مشروعات الإعلام الجديد لم يكن النجاح دومًا حليفها؛ فرغم النجاح المبدئي لآلاف منها فإن قليلًا فقط تأصَّل وثبت، ولم يُجرَ سوى تحليلات قليلة جدًّا لمعرفة أيها ينجح وأيها لا ينجح، على الرغم من أن هناك أشخاصًا كثيرين يدَّعون القدرة على تقديم نصائح ثمينة. سوف يساعد السوق في فصل الغث عن السمين. لكني أعتقد أن أستاذ الإعلام أدريان مونك بجامعة سيتي بلندن على حق في تعريفه المشكلة بأنها مشكلة «اختلاف الذوق الصحفي». كثيرون من رواد الأعمال الصحفية على الإنترنت منغمسون في إنتاج الصحافة التي يجدونها ممتعة بدلًا من أن يقدموا للجماهير ما يريدونه أو ما يحتاجونه. يُنتج الصحفيون الشبكيون محتوًى صحفيًّا راقيًا في حين يفضِّل الناس ما يلبي احتياجاتهم.
و«نصيحتي» إلى أولئك الذين يسعَون إلى تأسيس صحافة جيدة تتلخص في ثلاثة مبادئ أساسية:
  • (١)

    صُبَّ تركيزَك على إنشاء صحافة شبكية جيدة؛ فأي منتَج هو ثمرة جهد جماهيري لا بد أن يكون له مستقبل.

  • (٢)

    أمعِن في التفكير أكثر فيما يدور في مجال الإعلام الجديد وفكِّر على الإطار المفاهيمي؛ فالجهل ليس نعمة، والخيال مطلوب.

  • (٣)

    لقد أصبحت جزءًا من المجال الآن، أحسنت. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنك تعرف كيف ستحافظ على مكانك غدًا.

(٦-١) حرية السوق، حرية التعبير

ثمة العديد من النماذج المتاحة، لكن الأهم هو المفاهيم الرئيسية في المشهد الإعلامي. بعض من نماذج العمل يكون عبارة عن أساليب مألوفة ودفاعية وذات دوافع مالية مثل دمج المؤسسات الإعلامية، وهي تبدو منطقية في أعين أصحاب الأسهم على المدى القصير، لكنها ليست حلًّا لأولئك الذين يقدِّرون التنوع أو النمو. إن دمج الشركات يمكن أن يكون نافعًا في الأسواق سريعة النمو حيث يمكن استنساخ طرق الإنتاج نفسها مع وجود وفرة من المنافسين. أما في السوق المنكمشة فيمكنه أيضًا أن ينقذ الشركات التي لا تتوافر لها مقومات البقاء بشكل مستقل.

لكن الصحافة تختلف في هذا؛ فمؤسسة واحدة مثل نيوز إنترناشونال في المملكة المتحدة تضم مجموعة منوعة من المنتجات ما بين قنوات سكاي نيوز إلى جريدة ذا صن والملحق الأدبي ذا تايمز ليتراري صابلمنت. لا أرى خطرًا جسيمًا في حقيقة ارتباط كل هذه المنافذ الإعلامية. لكن الخطر يظهر عندما تتمكن إحدى المؤسسات من امتلاك حصة كبيرة من السوق، وبالأخص عندما تنقل تلك الهيمنة إلى منصات إعلامية أخرى. ينطبق هذا بشدة على البي بي سي تمامًا مثلما ينطبق على رجل الإعلام روبرت مردوخ. ما نشهده حتى الآن هو أن كليهما ينقل قوة سوقه إلى الإنترنت.

إن التنوع السياسي والاقتصادي هو المسبب الرئيسي للتنوع الصحفي الحقيقي. في سوق الأفكار أنت بحاجة إلى عدد كبير من الأشخاص العازمين على النجاح. لكن عليك تقبل أننا نعيش في عصر يشهد ظهور واختفاء الشركات الإعلامية بمعدل أسرع كثيرًا. شهد مطلع القرن العشرين فناءً هائلًا لمؤسسات العصر الفيكتوري حيث حلَّ محلها حشدٌ من الشركات الإعلامية الجديدة، وتضمن ذلك أيضًا ظهور القطاع العام، وها نحن في انتظار رؤية مدى استمرارية فيسبوك أو حتى جوجل مقارنة بوكالة رويترز التي بلغ عمرها قرنًا من الزمان، لكن ما من شركة لديها حق أبدي في الوجود.

(٦-٢) حرية السوق – حيادية الإنترنت

بينما يتجه ممارسو الإعلام القديم إلى الإنترنت فإنهم يلتقون شركات مثل جوجل التي تملك هيمنة هائلة على الإنترنت. رأينا بالفعل كيف اقتحمت جوجل عالم الأخبار مباشرة عبر مجمع الأخبار جوجل نيوز. لكن جوجل ستكون قوة من القوى المهمة المحركة للسوق والمؤثرة على الصحافة من خلال طريقة تصميمها لخدمات البحث الخاصة بها.

ومن ثم تكون فكرة حيادية الإنترنت54 في غاية الضرورة من أجل الحفاظ على سوق حرٍّ في الإعلام، حرٍّ بالمعنى التجاري أو بالمعنى المتعلق بحرية التعبير. هذه هي فكرة أنه من المفترض تحديد روابط مواقع الإنترنت على حسب شعبيتها وصلتها بموضوع البحث وليس بِناءً على المال المدفوع لمحركات البحث. يقول الرأي المخالف إن البحث هو الطريقة الوحيدة لجني المال على الإنترنت ولا بد من إدرار العوائد بطريقة ما لتمويل المزيد من الخدمات وللتطوير المستقبلي لنطاق الإنترنت العريض.

في ضوء الصحافة الشبكية هذه معضلة كبيرة بشكل خاص. نحن نقدر شفافية حيادية الإنترنت، وهي ستكون ضرورية لدعم إتاحة إمكانية الدخول على الإنترنت للجماهير على مستوى العالم، وهي أيضًا مهمة كطريقة لضمان الثقة والمساءلة؛ وعليه، فإما أنك تسعى إلى الحفاظ على حيادية الإنترنت وإما ستشرع في إنشاء مجموعة من الضوابط والتوازنات والرقابة تبدو على نحو خطير كتنظيم مبالغ فيه للإنترنت، وإما أن تسمح لكبرى المؤسسات بأن تضع هياكل تسعيرية تقيِّد الدخول إلى الأسواق وتحرم الجماهير من الاختيار والمعلومات.

(٦-٣) الصحافة الشبكية تملأ الفجوة

على مدار عشر سنوات على الأقل سنُضْطَرُّ إلى التصرف دون ضمان النتائج وضخ أموال في الأسواق الرقمية دون الحصول على عائد معتبَر … وسوف نفعل هذا متوقعين تبدل الأمور. (آلان رسبريدجر، رئيس تحرير الجارديان)55
ثمة بعض الآثار العملية المترتبة على ما عرضتُه. الأمر الصعب على المنظمات الإعلامية التي بدأت تغيير هيكلها هو إعادة ترتيب الأولويات دون فقد القيمة الأساسية. وبالنسبة للمؤسسات الإعلامية الجديدة يكمن التحدي في تكوين تلك الثقافة العامَّة أو السياسية التي سوف تمنحهم قيمة أطول عمرًا. كما يشير رسبريدجر، هذا أمر له ثمن؛ فشركات الإعلام الجديد ليست معفاة من الحاجة إلى التغيير والتطور أيضًا. تمر جوجل بهذه المرحلة؛ إذ عليها أن تدرك أنها لم تَعُدْ شركة «مفعمة بالأمل»، وإنما هي الآن شركة «على أرض الواقع». عليها أن تقرَّ بأنها توجد في عالم السياسة؛ ويعدُّ ما حدث مع الصين مثالًا على ذلك عندما اضْطُرَّتْ جوجل أن تصل إلى تسوية معها.56 ما يثير اهتمامي ليس مجرد التوازن الأخلاقي للتسوية التي تمت ولكن أين ستطبق جوجل الدروس المستفادة، فما مدى ارتباط مبدأ جوجل التأسيسي «لا تؤذِ أحدًا» وإرشاداتها التوجيهية المثالية بأرض الواقع؟ إذ ليست الصحافة — وجوجل الآن أصبحت جزءًا مهمًّا من الصحافة — إلا سوقًا أخلاقيًّا قوامه الثقة والأصالة، وفي حالة الصحافة الشبكية قوامه الشفافية والتعاون.

يمكن للصحافة الشبكية أن تملأ الفجوات؛ إذ يمكنها من خلال شفافيتها وتحملها للمسئولية أن تعيد بناء الثقة. لكن هذا يعني مشاركة كلٍّ من «المهنيين» و«الهواة» في تحمُّل المسئولية. هذه طريقة أيضًا لتقليل الحاجة إلى قانون تنظيمي خارجي.

يمكن للصحافة الشبكية أيضًا أن تملأ فجوة التمويل؛ فعلى مدار السنوات الخمس القادمة تقريبًا ستكون هناك أزمة تدفق نقدي بينما تستبدل المؤسسات الإعلامية تجهيزاتها لتواكب العصر الرقمي؛ إذ تستثمر أكثر في العمليات الإخبارية بالإضافة إلى التكنولوجيا الحديثة والأنشطة التجريبية. في الوقت نفسه يواجه الكثير من المؤسسات انهيارات كارثية في العوائد. تساعد المدوَّنات أو المحتوى الذي يعدُّه المستخدم والتعاون في ملء هذه الفجوة. لكن الأهم من ذلك على الأجل المتوسط أنها تبني المجتمعات الإلكترونية على الإنترنت التي ستكون ميالة إلى الاستثمار في منتج تلعب فيه دورًا. أَشْرِكِ الجماهير وستجدهم غالبًا يستثمرون في مشروعك. قد يتخذ هذا الاستثمار فعليًّا شكل شراء أسهم الشركة، لكن الاحتمال الأكبر أن يتخذ شكلًا من أشكال الاشتراكات، وهذا المجتمع هو مورد يمكن بدوره أن يُحوَّل إلى قيمة نقدية كشبكة وليس كمشترين أفراد.

(٦-٤) الصحافة الشبكية – مجال عمل مختلف

يستبدُّ الرعبُ بكبرى المؤسسات الأمريكية. الأمور تتبدل سريعًا جدًّا؛ فالمستهلكون في غاية القوة، والتسويق أصبح مشتتًا للغاية، وصار الصوت الواحد لأي مؤسسة ملزمًا الآن بالتحدث برسائل متعددة من أجل رغبات لا حصر لها، ممتدة عبر خطوط تدرس شخصيات وميول الأفراد وتوجهاتهم في منصات إعلامية متنوعة. التسويق اليوم أفضل؛ بسبب توافر فرصة إجراء حوارات وإقامة علاقات حقيقية مع المستهلكين، وأيضًا من الأسهل كثيرًا الآن أن تجد الأشخاص الذين تود الوصول إليهم. لكن التسويق أصعب أيضًا اليوم؛ فهو يقتضي التحلي بالصبر وشيء من بُعد النظر والكثير من المشاركة، وهو يتطلب معايير قياس جديدة، وبكل تأكيد يستدعي خوض زمام المخاطرة ورؤية طويلة المدى. (جاري جولدهامر، معلق إعلامي)57
الصحافة الشبكية هي طريقة لتأسيس تلك الرؤية «طويلة المدى» لمجال العمل، لكنها ليست طريق مختصرة. عندما ننظر إلى بعض من الأولويات التي تقدِّمها لا بد أن ندرك أيضًا أنها تقوم على ما يخدم العامَّة ثم حمَلة الأسهم، وليس العكس. قطعًا ليس هناك ما يمنع مشروعات الصحافة الشبكية من البدء من الصفر، ولا يتعيَّن عليها البدء مع منظمة إعلامية تقليدية في طريقها للتغيير كما أنها ليست مضطرة إلى البدء مع مدوَّنة إعلام جديد أو موقع إلكتروني على الإنترنت. إن موقع نيوأسَينمنت دوت نت NewAssignment.net58 الذي أنشأه جاي روزن هو محاولة تجريبية لبدء مشروعات صحافة شبكية. سوف يحاول الجمع ما بين موارد المهنيين و«الهواة». يرغب روزن أن يقترح المواطنون أفكارًا لتغطيات إخبارية ويقدمون التبرعات لتمويل أخبارهم التي يَرَوْنَ أنه ينبغي تغطيتها. سوف يظل محررو نيوأسينمنت دوت نت يتصرفون كالحراس الذين سينتقون المراسلين لتنفيذ المهمة، لكن سيظل الصحفيون المواطنون مشتركين:
لو كان بمقدوري تحسين الموقع، وجلب التمويل، والعثور على أشخاص يعرفون كيف يشتغلون وفقًا لنمط أكثر انفتاحًا، لكانت نيوأسينمنت دوت نت نموذجًا للصحافة بدون وسائل الإعلام. هذا هو الجزء الرائع. إذا توافر لديك مراسل + هاتف ذكي + محرر بحوزته تمويل، ستحصل على خبر لم تقدِّمه الزمرة الصحفية أو لا ترغب أو لا تستطيع تقديمه. (جاي روزن، نيوأسينمنت دوت نت)59

لم يتوقع روزن أن يتحدى مشروعُه كبرى المنافذ الإعلامية. يقول إنها محاولة «متواضعة» لرؤية أي شكل من أشكال تعهيد الجماهير وجمع التبرعات البديل هو الذي سينجح. لكن بغضِّ النظر عن المصدر، فيما يلي بعض من المبادئ أو نماذج العمل التي سوف تستخدمها الصحافة الشبكية.

التسليم بالتقادم

ليس هناك ما يفسر احتياجنا إلى الكثير من الصحف أو القنوات التليفزيونية؛ فالعديد من الأفراد لا يملكون سوى عدد محدود من الساعات في اليوم. تؤدي المنصات الإعلامية الرقمية إلى توفر عدد هائل من الاختيارات، لكنها ليست وفرة غير مشروطة. ذُكِرَتْ أسباب كثيرة توضح لماذا سيزيد الطلب على الصحافة، لكن ثمة أسباب وجيهة تبرر شغل الأفراد وقتهم بممارسة أنشطة أفضل. لطالما كان المستهلك ملكًا، لكن بمقدوره الآن اختيار مملكته أيضًا.

اجتذاب المجتمعات

لا يوجد مكان لن تطوله يد الصحافة الشبكية. بالقرب من مكاتبي في لندن، تجد شارع فليت خاليًا الآن من الصحف؛ فقد انتقلَتْ إلى مكان آخر الآن للاستفادة من التكنولوجيا الجديدة، وإذا سِرت مسيرة خمس دقائق في الاتجاه المعاكس نحو حي كوفنت جاردن أتعثَّر في المكاتب الأنيقة لمجلة ذا ليدي التي لم تنتقل من مكانها منذ تأسيسها عام ١٨٨٥.60 إنها بقايا عصر مضى، بما تتضمنه من إعلانات مبوَّبة عن مربيات أطفال يُخصَّص ما تجلبه من أموال لدعم افتتاحيات المجلة عن البستانيين العاملين في الحدائق الملكية، ولها جمهور من القرَّاء الميسوري الحال من النساء في أواخر مرحلة منتصف العمر بجنوب شرق إنجلترا. هي مجلة كلاسيكية موجَّهة لقطاع معين من السكان وغير متصلة بالإنترنت، وهي توشك على الاندثار في هذا العالم الرقمي. وتؤكد رئيسة تحريرها أرلين يوسدن على أن معدل التغير بطيء قائلة:
إن إدارة المجلة متحفظة التوجهات؛ لذا كنا على الأرجح آخر مجلة في بريطانيا تستخدم الكمبيوترات في الإنتاج. عندما التحقت بالمجلة أول ما التحقت منذ ١٦ عامًا للعمل رئيسة تحرير، لم يكن لدى القسم التحريري حتى جهاز فاكس. قبلت المجلة الدفع عن طريق بطاقات الائتمان مؤخرًا من أجل الإعلانات فحسب. (أرلين يوسدن، رئيسة تحرير، ذا ليدي)61

لكن توجد الآن نسخة إلكترونية من ذا ليدي على الإنترنت، بل ويوجد عليها مقطع الفيديو الأصلي لآخر حدث أقامته لقرَّائها بفندق هيلتون والدورف. على الرغم من نهجها التحفُّظي وثقافتها العتيقة الطراز، فإنه يبدو في نظري أن مجلة ذا ليدي جاهزة للصحافة الشبكية؛ فهي فعليًّا تدعو قرَّاءها بالفعل لتناول الغداء ومناقشة موضوعات أدبية وتقدِّم لهم خدمة العثور على مربيات من خلال إعلاناتها المبوبة، ولها مجتمع يتألف من ٤٠ ألف شخص مخلص لها يشاركها قيمها. هؤلاء هم الأشخاص الذين يُمضون حياتهم في تواصل، وهم يتمتعون بفصاحة وثقافة تكفي لإنتاج محتوًى، فأولًا وأخيرًا، أوائل المستهلكين للإنترنت اليوم سيصبحون غدًا المستخدمين المنتظمين للإنترنت من كبار السن.

التنويع

تتيح الصحافة الشبكية لشركات الإعلام الدخول في أنشطة أخرى على الإنترنت مثل السفر والبيع بالتجزئة. ولطالما كانت المؤسسات الإعلامية الموثوق فيها تفعل هذا إلى حد ما، عبر أنشطة مثل نوادي المسافرين في الصحف المحلية، وأرى أنه ليس هناك ما يمنع استغلال الإعلام الإلكتروني على الإنترنت لقاعدته من العملاء/المساهمين. أرى أن هذا مشابه لنظام المتاجر الكبرى متعددة الطوابق؛ فمن الممكن أن تباع الصحافة في أحد الطوابق لبعض الأشخاص دون أن يؤدي بيع منتجات أخرى للأشخاص أنفسهم في أماكن أخرى من المتجر إلى إضعاف قيمها الأساسية بالضرورة. يبدو المجتمع الذي تبنيه الصحافة مهدورًا بشدة إذا قدَّم له خدمة واحدة فقط.

التخصص

تخلق المجالات غير المطروقة أملًا للأقلية من الشركات الإخبارية، ومثالي المفضل على هذا هو ريك واجهورن.62 كان واجهورن كاتبًا في قسم الرياضة في جريدة محلية وقد اتجه إلى الإنترنت عندما بدأت الصحيفة التي كان يعمل بها في تسريح الصحفيين. أنشأ ريك موقعًا على الإنترنت مخصصًا لنادي نورويتش سيتي، وهو نادي كرة قدم محلي متواضع المستوى لكن له عشرات الآلاف من المعجبين، فبمساعدة مندوب دعاية وإعلان سابق في الصحيفة أنشأ ريك نشاطًا تجاريًّا من خلال الإعلانات على الموقع، والآن جدد ريك الموقع ويبيع حق امتياز الموقع في أنحاء المنطقة. لم يَصِرْ ريك من أغنى الأغنياء، لكنه أنشأ موقعًا رائعًا، مكَّنه من كسب الدخل اللازم للمعيشة. هو دخيل على عالم الإعلام يستغل وضعه على الإنترنت ليسبق وسائل الإعلام التقليدية في تقديم الأحداث وللتفاعل مع قرَّائه. لكنه أيضًا صحفي مهني يدفع المال من أجل الحصول على تصريح صحفي للدخول إلى النادي:
في هذه المرحلة من حياتي الناشئة على الإنترنت، لا أستطيع الزعم أنني أحقق أرباحًا هائلة من هذا النوع من العمل الصحفي؛ ومع ذلك فبتوالي الأشهر أُدرك أننا نسير في الاتجاه الصحيح. وقد أفادني أنني لست مضطرًا إلى تحمل تكاليف فريق عمل في الصحافة المطبوعة، ولا رواتب سائق عربة التصوير والصبي الذي يوصل الصحف إلى المنازل. لكنْ هناك أمران مؤكدان: لا يزال لدى القرَّاء نَهَمٌ كبير لقراءة تعليق جيد موثوق المصدر عن أي موضوع يمس شَغَفهم؛ وإن أفضل صديق للصحفي في أي مكتب إعلامي هو مندوب الدعاية. (ريك واجهورن)63

إن معرفة واجهورن الوثيقة بمجال معين، وموقعه الممتاز، ومدونته الرائعة، وما كوَّنه من مجتمع متفانٍ، يجعلون منه صحفيًّا شبكيًّا.

توجه شديد المحلية

مع أن الإنترنت قد يكون عالميًّا من حيث الوصول إلى الناس، فإنه يمكن أن يكون أيضًا «شديد المحلية». غير أن تجارب أخبار الإنترنت المركزة في مستوًى شديد المحلية لم تكن كلها ناجحة. في الولايات المتحدة أُغلق مشروع باكفينس64 وهو دليل على الإنترنت لمواقع خاصة بالمجتمعات المحلية على رغم من استثمار ٣ ملايين دولار فيه. ثمة مشكلة واضحة تتلخص في أنه إذا استهدفْتَ بضعةَ شوارعَ أو حتى جزءًا من مدينةٍ، فإنك بذلك تحدُّ نفسك بجمهور ضئيل قد لا يستطيع أن يدعم ولو موقعًا على الإنترنت. لكن هناك أيضًا مشكلة أن الأشخاص قد لا يَرَوْنَ أنفسهم جزءًا من مجتمع جغرافي يسهل تعريفه، فكما يشير المدوِّن والمحاضر جيف جارفيس:
بعد تجريب جانب من كل شيء في المجال شديد المحلية، صرت مقتنعًا بأن هذا لن يحدث إلا في حال الجمع ما بين تلك النماذج المتعددة؛ حتى يمكن للأشخاص الانضمام إلى ما يريدون الانضمامَ إليه أيًّا كان، وبالإجابة على الأسئلة الآتية: ما مقدار الأخبار التي سوف يعدُّها أعضاء من المجتمع ويشاركونها؟ ماذا يحتاجون ليفعلوا هذا؟ ماذا يحفزهم؟ كيف يمكن للمؤسسات الإخبارية المحلية أن تمكِّنهم وتشجعهم؟ … يقوم التوجه المحلي على الأشخاص، ووظيفتنا ليست أن نقدم محتوًى أو منتجًا، وإنما أن نساعدهم على الاتصال بالمعلومات وببعضهم بعضًا. (جيف جارفيس)65
واحدة من المحاولات التي أُجريت في لندن هي سازرك نيوز التي تجمع ما بين صحيفة محلية أسبوعية غير مجانية وموقع ويب. أخبرني مؤسسها ورئيس تحريرها كريس مولاني أنهم يكافحون للبقاء في واحدة من أكثر الأسواق الإعلامية تنافسية في العالم، لكن ما أذهله هو من أين تأتيه المنافسة:
نحن صحيفة محلية يُوزع منها ١٠ آلاف نسخة في واحدة من المقاطعات الإدارية بمدينة لندن التي تأوي مجموعة منوعة من الناس في مناطق مختلفة من جسر لندن ومقاطعة سازرك إلى أحياء بيرمندزي وبيكام ودوليتش، وقد ظننت أننا شديدو المحلية. لكن تبيَّن أن هناك محلية أكثر من ذلك في منتديات ومدوَّنات رسائل المجتمع، وهي تهديد حقيقي ومفاجأة لي؛ ففي مجالس ومنتديات رسائل المجتمع هذه يروق لكثير من الناس القراءة عن أخبار مجتمعاتهم ومشاركتها. (كريس مولاني، رئيس تحرير سازرك نيوز)66

يشير هذا على ما يبدو إلى أنه مع كل المنافسة الآتية من الصحف الحرة بالمدينة، فإن السوق المحلي أو شديد المحلية سيكون مكتظًّا بنفس قدر المشهد الوطني. إن كان مقدرًا للصحافة النجاة على هذا المستوى، إذن فهي تحتاج أن تكون متعددة المنصات وكاملة الاتصال؛ تحتاج أن تكون شبكية.

التواصل الاجتماعي

أدرك القائمون على الإعلانات بالفعل أنه يتعيَّن عليهم إقحام أنفسهم في محادثات وعلاقات مع الأشخاص على الإنترنت. هذا هو ما يطلِق عليه طارق كريم مؤسس موقع نتفايبز67 «التنقيب عن الانتباه». إعلانات الفيديو التي تنتشر سريعًا هي أكثر نجاحًا من إعلانات اللافتات لأنها تدمج المستهلك في نشاط بمقدورهم مشاركته، ويبدو مثل كل الأشياء النافعة الأخرى على الإنترنت. لطالما اجتهد الإعلام الإخباري في وضع حواجز غير مرئية بينه وبين بقية وسائل الإعلام. لكن هذا غير قابل للاستمرار على الإنترنت فهو لا يملك — باستثناء العلامات التجارية العملاقة في عالم الأخبار مثل البي بي سي ونيويورك تايمز — الحضور الذي يؤهله لجذب مستخدمين كافِين. لا أرى هنا أية صراعات صحفية. معظم المؤسسات الإعلامية الإخبارية توسعت بالفعل لتشمل صحافة الفنون والرياضة ونمط الحياة. هي مسألة ربط نمط الحياة بالصحافة. هناك دائمًا تكنولوجيات جديدة على الإنترنت مثل «الأدوات الذكية»68 التي تعزز هذا النوع من الاتصالية مما يتيح للصحافة أن تُقحم نفسها كنوع من الوصلات التشعبية في كل أشكال الحوارات الأخرى على الإنترنت. على سبيل المثال، تستطيع الصحف المحلية أن تقدِّم أدوات ذكية تقدِّم صورًا تغطي أحداثًا تُقام بالأحياء السكنية. حينئذٍ إذا حضر الأشخاص الحدث وكتبوا عنه على مدونتهم أو صفحتهم الشخصية على ماي سبيس أو فيسبوك، فبإمكانهم الاستعانة بمجموعة من الصور التي التقطتها الصحيفة وتتصل بموقعها الإلكتروني على الإنترنت بحيث يتمكن الأفراد من ابتياع نسختها المطبوعة أو تنزيل ملفات الصور.69 لدى فيسبوك فعليًّا فريق «قضايا» الذي يساعد في تيسير عمل الأشخاص الذين يديرون حملات، إذن لماذا لا يملك فريق «صحافة» يسهل الصحافة الشبكية؟

(٧) الصحافة الشبكية والخدمة العامَّة

إذن هل تضطلع وسائل الإعلام بمسئولية توعية جمهور الناخبين في عصر فيض المعلومات؟ الجواب نعم بلا ريب، مثلما تَضْطَلِع المدارس والاتحادات والكنائس والأحزاب السياسية وكل مؤسسة أخرى في المجتمع بمثل هذه المسئولية … ومثلما يَضْطَلِع كل مواطن بمثل هذه المسئولية نحو نفسه ونحو أخيه المواطن. إلا أن الإعلام يَضْطَلِع بمسئولية عاجلة وأكثر إلحاحًا … هذه المهمة هي تجديد العمل الإعلامي بحيث يمكنه الاستمرار في دعم الصحافة عالية الجودة الضرورية للغاية لعملية توعية الناخبين. كل شخص له مصلحة في هذه المهمة … لأنه إن أخفقنا فيها، فإن أي نقاش حول مسئولية الإعلام في توعية أي شخص لن يتعدى كونه جدلًا أكاديميًّا. (مايكل أورسكس، رئيس تحرير إنترناشونال هيرالد تريبيون)70

رأينا بالفعل الكيفية التي تهدد بها التطورات الرقمية صحافة الخدمة العامَّة. إن الصحافة الشبكية هي طريقة للحفاظ على بقائها في العصر الجديد، وأورسكس محقٌّ في تعريفه للمبرر السياسي؛ ففي نهاية المطاف الأشخاص لديهم اختيارات فيما يتعلق بالطريقة التي يُدار بها المجتمع، وبإمكانهم اختيار وسائل إعلام أفضل إن شاءوا. لم تكن الصحافة بارعة بما يكفي في توضيح تلك الأسباب من قبل، ويتعيَّن عليها بذل المزيد من الجهد للتسويق لدورها في المجتمع لدى العامَّة.

لكنه محقٌّ أيضًا في قول إنه يتعيَّن على العمل الإعلامي تجديد نفسه. ثمة نوعان من صحافة الخدمة العامَّة. أولًا، الهيئات المستفيدة مباشرة من الدعم العام مثل الإذاعة الوطنية العامة بأمريكا أو البي بي سي. ثانيًا، هيئات خاصة تقدِّم محتوى خدمة عامَّة. وكلا النوعين في حاجة إلى تبنِّي النموذج الشبكي إن كانا سيتحملان نوع المسئولية الأخلاقية التي يراها أورسكس وظيفة أساسية للإعلام في المجتمع المتحضر.

البي بي سي هي أكبر مثال في العالم على الصحافة التي تموِّلها الجماهير، وهي الأكثر تمتعًا بالحماية. اتجهت البي بي سي إلى الإنترنت بثقة كبيرة بل وتمكنت من توصيل محتواها إلى قاعدة أكبر من الناس على مستوى العالم، وتتمتع خدماتها الإخبارية بمستقبل مزدهر على المدى المتوسط بفضل اتفاق التمويل مع الحكومة البريطانية الذي أصبح موضع حسد شركات الإعلام التجارية في كل أنحاء العالم. يعني هذا أنه يتعيَّن عليها اتباع سياسة الترشيد بالاستخدام الأمثل للموارد لكن هذه مسألة تخص إدارة مضطرة إلى تحديد أولوياتها.

تملك البي بي سي بالفعل واحدة من أكثر عمليات الصحافة الشبكية تطورًا ونجاحًا في قلب غرفة أخبارها العملاقة بغرب لندن. بعيدًا عن الأعين وخلف المكاتب المكشوفة الشاسعة والاستوديوهات التي تئوي عملية البث الرئيسية يقع مركز المحتوى الذي يُعدُّه المستخدم، ويضم فريقًا مكونًا من ١٥ صحفيًّا يتولَّون معالجة الكم الهائل من المواد التي يرسلها الجماهير إلى البي بي سي. معظم هذه المواد يجري ترشيحها عبر موقع البي بي سي «أَدْلِ برأيك» Have Your Say. بدأ كل هذا بالتسونامي الآسيوي في ديسمبر عام ٢٠٠٤ حيث انهالت عليهم الرسائل الإلكترونية والصور من الأشخاص الذين شهِدوا الكارثة، واستخدمت قناة البي بي سي نيوز مؤخرًا محتوًى من إعداد المستخدمين في نشراتها عن حادث إطلاق النار بجامعة فيرجينيا، ومحاولات تفجير مطاري هيثرو وجلاسجو، والفيضان الذي حدث مؤخرًا في أنحاء كثيرة من إنجلترا، بل وتعاونت مع جوجل في تقديم خريطة تفاعلية أتاحت لقرَّائها النقر عليها من أجل تتبُّع الصور ومقاطع الفيديو التي يرسلها المواطنون الذين تأثروا سلبًا بالفيضان.
يجمع المركز المعلومات ويتحقق منها من خلال الممارسة الصحفية المألوفة المتمثلة في الاتصال وتقصِّي الحقائق. يُسفر هذا عن إيجاد شهود أحيانًا ما تستخدمهم البي بي سي في بقية تغطيتها الصحفية. كما يؤدي إلى اكتشاف أخبار جديدة. في المملكة المتحدة عام ٢٠٠٦ وصل خبر عن بنزين مغشوش من خلال مركز المحتوى الذي يعدُّه المستخدمون. نفى بائعو البنزين وجود أية مشكلات، بَيْد أن مركز المحتوى الذي يُعدُّه المستخدمون استطاع العثور على عدد كافٍ من السائقين الذين تعطلت محركات سياراتهم لإثبات صحة الاتهامات. يسهِّل مركز المحتوى الذي يعدُّه المستخدمون للبي بي سي الاتصال بمجموعات يصعب الوصول إليها مثل الأعضاء السابقين في القوات المسلحة. أُلحق بتحقيق عن جنود سابقين عانَوا من أمراض عقلية بعض الشهادات التي حركت المشاعر على موقع «أدلِ برأيك»، والجماهير تبادر من تلقاء نفسها بالتفاعل مع الموقع، كما توضح رئيسة تحرير قسم الصحافة التفاعلية بالبي بي سي فيكي تايلور:
عندما وقع الهجوم الإرهابي في مطار جلاسجو، وصلت الصور من المتفرجين إلى مركز المحتوى الذي يُعدُّه المستخدمون الخاص بالبي بي سي بعد وقوع الحادث بثلاثين دقيقة وظهرت على البث المباشر للبي بي سي أو مواقعها بعدها بفترة وجيزة. نحن نتسلم نحو ٢٠٠ ألف رسالة شهريًّا ويصلنا نحو ١٢ مليون صفحة شهريًّا تعجُّ بالانطباعات حول المناقشات الدائرة. (فيكي تايلور، رئيسة تحرير، قسم الصحافة التفاعلية بالبي بي سي)71

قاد هذا إلى إدخال تكنولوجيا جديدة مثل البرامج التي تجلب كل المحتوى إلى بقعة واحدة؛ حيث يُعرض في صورة أيقونات صغيرة وتُفصل مقاطع الفيديو الصوتية والصور إلى مكانين منفصلين، ثم تُوضع في ملفات وتُعلم من أجل الاستخدام المستقبلي. على أن ماثيو إلترينجهام، مساعد رئيس التحرير بالمركز، كان واضحًا بشأن أن البي بي سي هي اسم صحفي موثوق فيه وأن بثَّ المحتوى الذي يُعدُّه المستخدمون على الهواء مباشرة لا يعني أن هذا المحتوى يُفلت من الرقابة الصحفية.

يظل يتعيَّن علينا أن نتحقق من كل شيء نستخدمه بنفس الطريقة التي يتعيَّن بها على الصحفيين التحقق من الشهادات أو المواد التقليدية. نحن نتحدث إلى الأشخاص الذين يتصلون بنا ونتأكد مما يقولونه. يلجأ الأشخاص إلينا لأننا البي بي سي ونحن موضع ثقة؛ ومن ثم لن نتنازل عن معاييرنا. (ماثيو إلترينجهام، مساعد رئيس التحرير بقسم الصحافة التفاعلية بالبي بي سي)72

بعض من الموالين بشدة لشبكة الإنترنت سينتقدون البي بي سي على هذه الرغبة في فرض الرقابة، لكن من الواضح أن البي بي سي تتيح فرصًا هائلة للجماهير ليكونوا جزءًا من البث ويضيفوا قيمة كبيرة للعملية الصحفية بالبي بي سي. عن قريب جدًّا سيتعَيَّن على البي بي سي إعادة النظر في التفرقة بين المواطن والصحفي.

انتهجت البي بي سي بالفعل عمليات الصحافة التفاعلية والأخبار الشبكية. غير أنها يمكن أن تكون أكثر نجاحًا بأن تتحدى ثقافتها دون أن تفقد قيمها. في سياق التاريخ، تبنَّت البي بي سي الرؤية المؤسسية لريث التي تجسد مفهوم بثِّ الخدمة العامَّة وفي الوقت نفسه تقاوم أي محاولة لتعميمه، فعلى الرغم من الجهود القصوى التي يبذلها مديرون ذوو نوايا حسنة، فإنها لا تزال تتبع نظامًا منغلقًا على ذاته. وتتيح الصحافة الشبكية للبي بي سي فرصة لمشاركة مواردها بطريقة أكثر انفتاحًا، وخليق بها أن تصير منسقةً ورائدةً لصحافة المواطن وإعلام المجتمع. سيعني هذا فقدان بعضٍ من سطوتها، إلا أنه لا يوجد ما يمنعها من مواصلة وظائفها الأساسية من تنقيةٍ وتنقيحٍ وإنتاجٍ، وفي الوقت نفسه التنازل عن بعضٍ من الرقابة الإدارية على كل الأنشطة التي تدعمها. قد يتضمن التنازل أيضًا انتقال بعض أموال دعم البي بي سي على إثر ذلك إلى المجتمعات المحلية أو المتخصصة. سيشبه هذا النموذج عملية إنتاج برامج البث الخاصة بالأحزاب السياسية الآن، لكن على مستوًى أكبر وأكثر نظامية. من النماذج الأخرى صندوق الإنماء العالمي التابع لإذاعة البي بي سي الذي ينتفع بالمهارات الإعلامية للمؤسسة بهدف دعم التطور الإعلامي حول العالم. تقدِّم البي بي سي الموارد التقنية لكن المُنتِج أو العميل يساعد في تحديد المحتوى، وأي ثمن يُدفع لتخفيف ثانوي للرقابة الصحفية ستعوض عنه بسخاء القيمة طويلة الأجل التي يولدها الاندماج. لطالما تميزت البي بي سي في الاتصال بجمهورها في دوره كجمهور، لكن عليها الآن أن تدعوه إلى غرفة الأخبار. البي بي سي محظوظة في أنها تمتلك موارد هائلة لفعل هذا. غير أن جهات بثِّ الخدمة العامَّة الأخرى لديها دافع أكبر لفعل ذلك؛ لأنها لا تتمتع بالدعم المالي الناتج عن رسوم الترخيص؛ وبذلك فإن لديها دافعًا اقتصاديًّا إلى جانب الدافع الأخلاقي لتعزيز دورها الاجتماعي.

(٧-١) الخدمة العامَّة/القطاع الخاص

في بريطانيا يدور الآن جدلٌ حامي الْوَطِيس حولَ صميم طبيعة صحافة الخدمة العامَّة، فمع إيقاف تشغيل البث التناظري عام ٢٠١٢ سيتعيَّن على هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية (أوفكوم) اقتراح طريقة مختلفة لتقديم الدعم المالي لوسائل الإعلام الإخبارية، وهو جدل له عواقب على المجال الإعلامي بأسره. تقدِّم أوفكوم ثلاثة أسباب رئيسية تدفعها للتفكير في إحداث ثورة في تمويل بثِّ الخدمة العامَّة:
  • يقلل التحول السريع نحو استخدام التليفزيون الرقمي نسبة المشاهدة التي تحصل عليها جهات بثِّ الخدمة العامَّة التقليدية؛ ومن ثم تقل قيمة الطيف الترددي التناظري.

  • يشاهد المتفرجون — ولا سيما الجماهير الأصغر سنًّا منهم — المحتوى بشكل متزايد على الإنترنت وبرامج الهواتف المحمولة، وقد بدءوا في الابتعاد عن التليفزيون التقليدي.

  • سوف تؤثر التغيرات التي طرأت على سياسة الطيف الترددي على طريقة التمويل التي تتطلَّبها أهداف الخدمة العامَّة في المستقبل. (تقرير بثِّ الخدمة العامَّة الصادر عن أوفكوم.)73
قطعًا ينطبق أول سببين على العالم بأسره، وفي رأيي سينطبق هذا الرأي على كل الهيئات الإعلامية الإخبارية لسببين؛ أولهما، أنه مع حدوث تقارب بين وسائل التكنولوجية سنصبح كلنا بدرجات متقاربة جهات بثٍّ من نوع ما. وثانيهما، أنه في المشهد الإعلامي الجديد من المفترض أن يدرك المجتمع قيمة صحافة الخدمة العامَّة من خلال الإعلام؛ ففي عالم الويب ٢,٠ فإن ما نقرؤه ونسمعه يحظَى بنفس أهمية ما نشاهده.
في المملكة المتحدة، الحل الذي تقدِّمه أوفكوم هو وجود «مقدِّم خدمة عامَّة»؛ فهي تُجري مشاورات حاليًّا حول أي شكل ينبغي أن يتخذَه مقدِّم الخدمة العامَّة، وتعدُ بأنه لن يكون أبدًا نقاشًا دمثًا؛ فالجميع في القطاع الخاص، بدءًا من قناة ديسكفري ووصولًا إلى ديلي تلغراف سيزعم أنه يسهم في بثِّ الخدمة العامَّة. إن كنت ستعرِّف الخدمة العامَّة على أنها تنوُّع ومصداقية في الأخبار، إذن فبكل تأكيد سيكون لسكاي نيوز الحق في ادعاء أنها تسهم في الخدمة العامَّة، وإن كنت ستعرِّفها على أنها رعاية للفنون في المجتمع، إذن فموقع الصحيفة المحلية الرائع نيوبيري توداي74 الذي يقدِّم تقارير بالفيديو عن مهرجانات موسيقى الروك في القرى ينبغي أن يكون أهلًا لهذا الزعم! أيجب أن تكون الخدمة العامَّة إعلامًا إخباريًّا من الأساس؟
بعض من خدمات مقدِّم الخدمة العامَّة لن تشبه البرامج أحادية الاتجاه على الإطلاق. على سبيل المثال، يستطيع مقدِّم الخدمة العامَّة تسخير الدروس المستفادة من الألعاب الإلكترونية في تطوير نماذج لتفاعل الجماهير الناجح؛ على سبيل المثال نظر قضايا متعلقة بالصحة والرفاهة الاجتماعية والانخراط السياسي والسياسة الاقتصادية. (تقرير بثِّ الخدمة العامَّة أوفكوم)75

أرى أنه في عصر الصحافة الشبكية يتعيَّن علينا التفكير على نطاق واسع في الخدمة العامَّة. لطالما كان التعريف الأساسي للخدمة العامَّة يشير إلى كونها تملأ الفجوات الناتجة عن فشل السوق. غير أن هذا تعريف سلبي في الأساس يبدو مفرط التبسيط في ظل ديمقراطية رقمية. الإنترنت في حد ذاته خدمة عامَّة؛ لأنه من حيث المبدأ هو هيكل مجاني للاتصال. علينا أن نقرر أيَّ نوع من الصحافة نريد، فسيظل السوق يقدِّم معظم المحتوى الصحفي. لكن حيثما لا يقدِّم السوق الصحافة، ينبغي أن تُؤسَّس الحجج الداعمة للخدمة العامَّة على الخدمات لا المؤسسات.

(٧-٢) الخدمة العامَّة، ديمقراطية شبكية

لقد بدأنا نرى إمكانية حدوث ثورة حقيقية في تقديم الخدمات العامَّة من خلال تسخير الإعلام التفاعلي. كثير من الخدمات الحكومية تنزح إلى الإنترنت، وتتطبع في تلك الأثناء ببعض من السمات التي ربما كانت في وقت مضى حكرًا على بثِّ الخدمة العامَّة. ينطبق هذا بالأكثر على الأنشطة الثقافية؛ مثل قطاع الفنون والمتاحف والمعارض التي تتخطى في كثير من الأحوال كونها مجرد منفذ للأعمال الفنية الثقافية لتنتقل إلى إطار ترى فيه الكثير من المؤسسات أن تيسير التعلم والفهم والمشاركة هي مهام من صميم مهامها أكثر من أي وقت مضى. تقدِّم تلك النماذج وغيرها أسبابًا قوية تُبرر رغبتنا في تقديم المزيد من الحجج الداعمة لبث الخدمة العامَّة وإعادة تقييمها في ضوء الظروف المتغيرة من خلال تناولها في السياق الأكبر لعملية تقديم الخدمات العامَّة ككل، وتقليل المكانة المميزة التي منحناها لوسائل الإعلام العامَّة فيما مضى. (أنطوني ليلي، شركة استشارات ماجيك لانترن)76

على صحافة الخدمة العامَّة الجديدة أن تكون جزءًا من اتفاق ديمقراطي جديد بين الدولة والمواطن. يتضمن هذا إدراكَ أن الصحافة أو وسائل الإعلام الإخبارية على مشارف إدراك الإمكانيات التي ينطوي عليها التعريف بوسائط الإعلام على نطاق أوسع، وسأتناول هذا في فصل لاحق. لكن كما يقول ليلي، إن صميم طبيعة إعلام الخدمات العامَّة آخذ في التغيير. الحوكمة ذاتها بدأت تنتقل إلى شبكة الإنترنت، والثقافة والتعليم العامَّان يتوجهان إلى الإنترنت. نرى الكثير من هذه التحولات في المستويات الدنيا من البناء الهرمي الإعلامي، وهي تتحرك من القاعدة إلى أعلى. الصحافة الشبكية هي أكثر ديمقراطية بطبيعتها، وهي طريقة لقياس الخدمة العامَّة وتقديمها أينما ظهرت حاجة إليها، فبدلًا من تقديم دعم مالي للمهنيين والمؤسسات الإعلامية، يمكن للمجتمع أن يصرَّ على مشاركة الجمهور في هذه العملية.

ثمة فوائد أخرى لصحافة الخدمة العامَّة الشبكية:
  • تسمح للجمهور بالمشاركة في العملية؛ فإن لديه حصة جزئية من الملكية؛ ومن ثم سوف يتحمَّل المسئولية.

  • يمكن تقديم صحافة الخدمة العامَّة بتكلفة أرخص. سوف تقدِّم الجماهير محتوًى لكن سيكون من الأسهل أيضًا توجيه المحتوى نحو مجتمعات معينة في حاجة إليه.

  • ستكون أكثر انفتاحًا لتلقِّي التمويل من مصادر الأخرى مثل المؤسسات، وخطط المسئولية الاجتماعية للشركات، وأجهزة الحكم المحلي لأن هناك اشتراكًا مباشرًا للعامة.

تنزح صحافة الخدمة العامَّة بالفعل بعيدًا عن مواقعها التقليدية، وبالفعل ستجد أن الصحافة الجادَّة المطوَّلة بدأت في التوسع إذا وضعت في حسبانك السوق النامية للكتب غير الروائية التي تعالج موضوعات محددة؛ ففيما مضى كان الصحفي الجاد يقضي شهورًا في بعض الأحيان في بحث وكتابة مقال سوف يشغل جزءًا من مجلة، أو فيلم تسجيلي مدته نصف ساعة، والآن هو يكتب كتابًا، وفيما مضى كانت الجمعيات الخيرية تنفق المال على العلاقات العامَّة، والآن تتطلع المؤسسات باطِّراد نحو تمويل الصحافة مباشرةً لتعزيز المعرفة حول قضيةٍ ما أو تعزيز المعرفة بصفة عامَّة. هكذا يجري دعم موقع الصحافة شبه الأكاديمية أوبن ديموكراسي دوت نت  Opendemocracy.net. أخبرني المدير التنفيذي لهذا الموقع الصحفي توني كيرزون برايز أنهم شركة تعمل في مجال الخدمة العامَّة:
لدينا ٣ ملايين مستخدم مختلف في العام، وما ينشده هؤلاء المستخدمون هو الأصالة. أحد أكثر الأمور إثارة هو أنه عندما يقدِّم الناس لنا المال يقولون «يتم التلاعب بالإعلام؛ ومن ثم نحتاج أن نقدم لكم المال.» أفضل تعليق سمعته كان من شخص قدَّم لنا ٥٠ دولارًا زاعمًا أننا «الموقع المجاني الوحيد الذي يستحق أن ندفع له المال». لدينا أشخاص مطلعون في جميع أنحاء الموقع ممن لديهم أفكار وآراء، ولدينا ٣ ملايين عقل مفكر يهتم بما نقدمه. يتمثل نموذج العمل في أننا نُوصِلُ هذه الأفكارَ لتلك العقول. هؤلاء الثلاثة الملايين شخص هم المكافئ للمعلنين وسوف يدفعون أموالًا أكثر. يغطي ١٠ «أفراد» ٩٠٪ من نفقاتنا؛ هم في الأساس مؤسسات بالولايات المتحدة. هذا نموذج تجاري؛ لأنه يوفر رواتبنا أنا وآخرين كثيرين، بل ويغلب عليه الطابع التجاري بشدة لأننا نبيع العقول للمؤسسات. (توني كيرزون برايز، المدير التنفيذي لأوبن ديموكراسي دوت نت)77

هذه ليست سوى إحدى سبل المضيِّ قدمًا نحو إعادة تعريف إعلام الخدمات العامَّة من خلال نموذج الصحافة الشبكية. لكني أزعم أن الصحافة ككل هي خدمة عامَّة. تتيح الصحافة الشبكية لوسائل الإعلام الإخبارية كافة التأكيد على دورها الاجتماعي حتى عندما لا تحلُّ منتجاتها صراحة مشكلة قصور السوق. لكن الصحافة الشبكية بإمكانها أن تفعل ما هو أكثر من ذلك بكثير.

رأينا أن الصحافة الشبكية هي طريقة لتعريف الشكل الأحدث لوسائل الإعلام الإخباري في التاريخ، ورأينا الكيفية التي تختلف بها عما مضى، وأوضحت أنها يمكن أن تكون مربحة وأن تولِّد قيمة للعامة؛ ولهذا السبب أرى أننا يمكن أن نكون متفائلين ونزعم أننا على وشك أن نشهد ما يشبه الإعلام الخارق، ولهذا السبب تستحق الصحافة الإنقاذ. في الأقسام التالية من الكتاب أود تناول كيف يمكن أن تنقذ الصحافة العالم؟ وماذا تستطيع أن تفعل الصحافة من أجل السياسة في عصر يكون فيه الإرهاب والمجتمع في غاية الأهمية؟ أود أيضًا استطلاع الكيفية التي لا بد أن يتغير بها فهمنا للتنوع والوعي الصحفيين كي ندرك النموذج التقدُّمي لصحافة أكثر اتصالًا وشمولية وعالمية.

ملخص الفصل

• الصحافة الشبكية هي مزيج من صحافة المواطن والصحافة «المهنية» التقليدية.

• تستخدم الصحافة الشبكية تكنولوجيا الإعلام الجديد على حدَة أو بمعيَّة الممارسات التقليدية.

• تتمحور الصحافة الشبكية حول عملية أكثر انفتاحًا ومشاركة أكثر مما تتمحور حول المنتج النهائي.

• تُبقي الصحافة الشبكية على الوظائف الصحفية الجوهرية من تنقية وتنقيح وإنتاج، وتؤدي الأدوار الصحفية الرئيسية من مراسلة وتحليل وتعليق.

• تستعيض الصحافة الشبكية عن الأنماط الهرمية والخطِّية للإنتاج والاستهلاك بتفاعل متعدد الأبعاد.

• تستخدم مجالات الاتصال المتعددة مثل مواقع الويكي والمدوَّنات وشبكات التواصل الاجتماعي.

• تمكن الصحافة من تخطي الحدود القديمة للزمان والمسافة.

• تمكن الصحفي من التفاعل الكامل مع كلٍّ من الجمهور والموضوع.

• تزيد الثقة والشفافية.

• تتيح للسوق الحر تطوير طرق مختلفة لممارسة الأنشطة الإعلامية.

• تطرح شكلًا جديدًا من صحافة الخدمة العامَّة التي يتم تعريفها وتطبيقها على نطاق أوسع؛ مما يؤدي إلى وضع اتفاق جديد بين المجتمع والصحافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤