الفصل الثاني عشر

اكتشاف الحلقات المفقودة

التطور الكبروي والحفريات الانتقالية

إنَّ الانتخاب الطبيعي يَفحص على مدار اليوم والساعة وفي جميع أنحاء العالم؛ التنويعاتِ كلها، حتى أدقها، نابذًا منها ما هو رديء ومبقيًا على ما هو جيد وجامعًا له، يعمل بصمت دون أن يشعر به أحد … ونحن لا نرى شيئًا من هذه التغيرات البطيئة بينما تحدث حتى تنقضي فترات طويلة من الزمن … فلماذا إذن لا يمتلئ كل تكوين جيولوجي وكل طبقة بهذه الحلقات الوسيطة؟ من المؤكد أن الجيولوجيا لا تكشف عن أي سلسلة عضوية متدرجة بدقة، وربما يكون هذا هو أخطر اعتراض يمكن أن يوجَّه ضد نظريتي.

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱۸٥۹)

من بين الاتهامات الرئيسية التي يوجهها نقاد التطور للعلماء هو هذا السؤال: «أين الحلقات المفقودة؟ أرِني حفرية توضح انتقال مجموعة رئيسية إلى أخرى». غالبًا ما يُقِر هؤلاء النقاد بأن التطور الصغروي يحدث بالفعل، من التغيرات الصغيرة في ذبابة الفاكهة، إلى مقاومة مبيدات الآفات في الحشرات، إلى التغيرات السريعة في الفيروسات والبكتيريا. هذه التغيرات تحدث في التجارب المختبرية آنيًّا؛ ومن ثَم لا يمكن إنكارها. لكن هذا لا يكفي في نظر نقاد التطور. فهم يرفضون فكرة أن المجموعات الرئيسية المتمايزة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا (مثل الطيور والزواحف)، ويدَّعون عدم وجود حلقات مفقودة توضح كيف يمكن أن يحدث هذا الانتقال. وعلى الرغم من اعترافهم بحدوث تغيرات على مستوى ذباب الفاكهة والميكروبات، فإنهم ينظرون إليها على أنها تطور صغروي فحسب. وهم يواصلون التأكيد على أن التغيرات الكبيرة بين المجموعات الرئيسية — أي التطور الكبروي — مستحيلة.

اسمحوا لي أولًا أن أوضح بعض المفاهيم الخاطئة. لا وجود لما يُدعى «الحلقات المفقودة»؛ لأن المفهوم بأكمله غير صحيح، وقد عفا عليه الزمن منذ ۱٦٠ سنة. تعود فكرة الحلقات المفقودة إلى تفكير أرسطو منذ أكثر من ٢٠٠٠ عام، حينما كان يُنظَر إلى الحياة على أنها «سلسلة الوجود العظمى»، أو «السُّلَّم الطبيعي». وُضِع كل صنف من الكائنات الحية على درجة منفصلة من السُّلم، حيث وُضِعت النباتات والإسفنج والشعاب المرجانية في الأسفل، والحشرات والأسماك بالقرب من المنتصف، والثدييات بالقرب من القمة، ووُضِع البشر بالطبع على القمة (الشكل ١٢-١). وفي بعض النسخ الدينية التي تُمثِّل هذا النمط من التفكير، كان الشيروبيم والسارافيم والملائكة الأدنى في الدرجة الأعلى من البشر، يليهم رؤساء الملائكة، ثم الإله في القمة. وهذا هو أصل مصطلحات قديمة مثل «الكائنات الدُّنيا» و«الكائنات العُليا». وبالمثل أيضًا، اعتقد بعض علماء الطبيعة أن الإسفنج والنباتات في أحد طرفَي سلسلة الوجود، بينما البشر على الطرف الآخر، ومتى جهلنا إذن الكائنات التي تكمل السلسلة أصبح لدينا حلقة مفقودة.
fig51
شكل ١٢-١: لا يتعلق التطور بتسلق الحياة ﻟ «سُلَّم الطبيعة»، أو إيجاد «الحلقات المفقودة» في «سلسلة الوجود العظمى»، بدايةً من الكائنات «الدنيا» إلى «العليا». وبدلًا من ذلك، التطور هو «شُجيرة» تتفرع فيها سلالات عديدة بعضها من بعض، ويعيش فيها الأسلاف جنبًا إلى جنب مع النسل. (رسم كارل بويل)
fig52
شكل ١٢-٢: (أ) إحدى النسخ العديدة ﻟ «مسيرة التقدم» الأيقونية من القرد إلى الإنسان، هذا الرسم من «أسترونومي إيفولوشن» لجيوسيبي دوناتيْيلو. (ب) الرسم التخطيطي الشهير من عام ۱۸٦۳ لتوماس هنري هكسلي، والذي يُظهِر أوجُه التشابه في الهيكل العظمي بين البشر والقردة، والذي كان الأساس للصورة الأيقونية الخاطئة: «من القرد للإنسان». ([أ] إهداء من «ويكيميديا كومنز»؛ [ب] توماس هنري هكسلي، «أدلة فيما يتعلق بموضع الإنسان في الطبيعة» [لندن: ويليامز آند نورجيت، ۱۸٦۳])
لكن هذا المفهوم عن الحياة قد اندثر بأكمله في عام ۱۸٥۹، عندما أظهر داروين أن تاريخ الحياة متفرعٌ وغزير، ولا يمثل اتجاهًا خطيًّا واحدًا عبر الزمن. فمعظم الكائنات الحية أجزاء من «شجرة عائلة» لها العديد من الفروع المختلفة، التي يتداخل بعضها مع الآخر في الزمان والمكان. ينطبق هذا تحديدًا على التفكير الخطي القديم فيما يتعلق بتطور الحصان (الفصل الرابع عشر)، وتطور البشر (الفصل الرابع والعشرين). ففي كلتا الحالتين، نجد أنَّ المخطط المألوف الذي يُظهِر «مسيرة التقدم» من الحصان البدائي إلى الخيل الحديث، أو من الشمبانزي إلى إنسان «الإنسان العاقل» الحديث، يُعطي الانطباع بوجود سلالةٍ واحدةٍ بدون تفرع. وقد كان مفهوم «سُلَّم الحياة» ممكنًا بالنسبة للخيول أو للبشر؛ إذ لم يتبقَّ على قيد الحياة اليوم من كلٍّ منهما سوى جنسٍ واحد من الخيول، ونوع واحد فقط من البشر؛ لذا يمكنك رسم خط مستقيم بين نقطتَي النهاية المعزولتين عبر أي عدد من الكائنات الوسيطة. وشكَّل هذا النموذج الخطي لتطور الحصان والإنسان صورًا أيقونية تكررت كثيرًا في المراجع العلمية ووسائل الإعلام (الشكل ١٢-٢(أ)؛ شكل ١٢-٢(ب)). وفي المقابل، يمكننا العثور على أنواعٍ كثيرةٍ من الحيوانات الحية في معظم المجموعات الحية اليوم، مما يجعل من المستحيل ضمَّ جميعِ هذه الأنواع الوسيطة في نموذجٍ خطيٍّ بسيطٍ يؤدي إلى سليل حي واحد. عندما يطلب مني شخصٌ ما أن أوضح له حلقةً مفقودة ما، أجيبه بأن هذا المفهوم عفا عليه الزمن، وأنه مضلِّل ولا معنى له، لكن أُخبِره أيضًا أنني سأسعد بأن أريه العديد من الحفريات الانتقالية التي تربط المجموعات الحية الرئيسية من الحيوانات بعضها ببعض.

ماذا إذن عن الحفريات الانتقالية؟ ألا توجد حفريات تثبت أصل مجموعة من أخرى كما يزعم كثيرٌ من منكري العلم؟ بل على النقيض من ذلك، فإن السجل الأحفوري مليءٌ بمثل هذه الأمثلة، وقد أوردتُ العديد منها في كتابي الصادر عام ٢٠۱۷؛ «التطور». وناقشتُ أيضًا بعض هذه الأمثلة بإسهاب في فصول أخرى من هذا الكتاب، مثل الحيتان (الفصل العاشر)، والانتقال للبرمائيات من الأسماك (الفصل الحادي عشر)، والانتقال للديناصورات من الطيور (الفصل الثالث عشر)، والخيول (الفصل الرابع عشر)، والزرافات (الفصل الخامس عشر)، والفيلة (الفصل السادس عشر). يمكن تقديم العديد من الأمثلة الإضافية، لكني سأقتصر في هذه المناقشة على عددٍ قليلٍ من الأمثلة اللافتة للنظر؛ لكي أوضِّح أنه لا يوجد أيُّ نقصٍ في الحفريات التي توضِّح كيفية تطور مجموعةٍ رئيسيةٍ من مجموعةٍ أخرى.

لنتناول الضفادع على سبيل المثال أولًا. جميعنا نعرف الضفادع من وسائل الإعلام، والأرجح أنَّ معظمنا رأى ضفدعًا ما في البرية، وربما قام البعض بتشريح ضفدع في صف علم الأحياء في وقت ما. يبدو الضفدع كائنًا متخصصًا بدرجة عالية نظرًا لفمه الواسع الضخم، ولسانه اللزج الطويل الناتئ، وعينَيه الكبيرتَين، وجذعه القصير، وأضلاعه الصغيرة، وعظام فخذه البالغة الطول، وساقَيه الخلفيتَين الطويلتَين للغاية، وعدم امتلاكه لذيل. لا تستطيع الضفادع استخدام أضلاعها للتنفس، وبدلًا من ذلك، يقوم الكيس القابل للنفخ الموجود في حلق الضفدع بضخ الهواء للداخل والخارج (يستخدم هذا الكيس أيضًا لإصدار مجموعة متنوعة من الأصوات). وتتنوع الضفادع تنوعًا كبيرًا في الحجم، من الضفدع الصغير في غينيا الجديدة (الذي يبلغ طوله ۷٫۷ ملِّيمترات فقط [٠٫۳ بوصة])، إلى الضفدع الجبار، الذي يزيد طوله عن ۳٠٠ ملِّيمتر (۱٢ بوصة)، ويزن ۳ كيلوجرامات (۷ أرطال). إنه كبير جدًّا لدرجة أنه يأكل الطيور والثدييات الصغيرة وكذلك الحشرات.

من الصعب تخيُّل حفرية وسيطة بين الضفدع وبين البرمائيات الأكثر شيوعًا، مثل السلمندر. وعلى الرغم من ذلك، يمكننا أن نرى هذا الانتقال بطريقتَين. أولًا: نحن نعلم أن الضفادع تقوم بهذا الانتقال خلال تكوُّنها أثناء نموها من مرحلة الشُّرْغوف إلى الضفدع البالغ. فعندما يحتفظ الشُّرْغوف بالذيل وينمي أطرافه في البداية، تكون أرجله متساوية نسبيًّا في الطول، ولا تكون النِّسَب المتفاوتة التي تظهر في الضفادع البالغة قد ظهرت بعد. قبل أن يمتص الشرغوف ذيله من جديد، يمر بمرحلة يكون فيها شبيهًا بالسلمندر.

والأكثر إثارة للدهشة هو السجل الأحفوري لهذا التحول. فمنذ عشرات السنين وعلماء الحفريات يعرفون سجلًّا أحفوريًّا ممتازًا للبرمائيات التي تشبه السلمندر، على الرغم من أن بعضها كان ضخمًا. كان أكبرها من الطبقات الحمراء التي تعود إلى العصر البرمي السفلي، وتوجد في شمال تكساس وجنوب أوكلاهوما، وخاصة حول بلدة سيمور الصغيرة في تكساس. أحد هذه البرمائيات الضخمة هو إريوبس؛ كائن أحفوري شبيه بالتمساح عُرِف من خلال العديد من الهياكل العظمية الكاملة. كان له جسد كبير يزيد طوله عن مترين (٦٫٥ أقدام)، وذيل وأطراف كلها قوي، وجمجمة يزيد طولها عن ٦٠ سنتيمترًا (٢ قدم) في بعض الأفراد! كان إريوبس أحد أكبر الحيوانات الأرضية التي كانت قادرة على صيد الفرائس في المياه وعلى اليابسة في العصر البرمي المبكر. والأكثر بدائية قليلًا من إريوبس هو إيدوبس المكتشَف من الطبقات الحمراء في تكساس، والتي تنتمي إلى العصر البرمي المبكر، وهو يمتلك جمجمة أطول، وكان سيتضح أنه أكبر من إريوبس إذا عُرِف هيكله العظمي الكامل. إن هذه الحفريات توجد بكثرة في الطبقات الحمراء للعصر البرمي المبكر، هي والعديد من المجموعات الغريبة الأخرى من البرمائيات، إضافةً إلى الزواحف الأولى، وأولى الكائنات المنتمية لسلالة الثدييات (مثل ديميترودون ذي الزعانف الظهرية، الذي يوجد في جميع مجموعات الألعاب وكتب الديناصورات الخاصة بالأطفال، لكنه قريب الصلة بنا وليس بالديناصورات). إن علماء الحفريات الذين يدرسون الزواحف المبكرة والبرمائيات يقضون وقتًا في تجميع العينات من الطبقات الحمراء للعصر البرمي في تكساس، مكتشفين في الغالب المزيد والمزيد من حفريات ديميترودون، وإريوبس، وحيوانات أخرى مألوفة.

كان أحد هؤلاء الجامعين صديقي الراحل نيك هوتون، الذي قضى معظم حياته المهنية في معهد سميثسونيان. في عام ۱۹۹٤، كان أحد أفراد طاقمه يقوم بالتجميع في منطقة تُسمى «دونز دامب فيش كواري». كان هناك العديد من حفريات الأسماك والبرمائيات، لكن وقت الباحثين آنذاك لم يكن يتسع إلا لجمع الحفريات بسرعة، ولم يُجروا دراسة ميدانية مفصلة. أدرك نيك هوتون أهمية حفرية معينة (اكتشفها بيتر كروهلر، مساعد أمين المتحف في معهد سميثسونيان). وضعها في جيبه مع قصاصة من الورق كتب عليها «فروجي» (بالإنجليزية: Froggie، من Frog، أي: ضفدع). وعندما تُوفي عام ۱۹۹۹، لم تكن قد أُتيحت له الفرصة بعدُ لدراسة هذه الحفرية. لذلك ظلت هذه العينة غير مدروسة لمدة ۱٤ عامًا، إلى أن أخذها جيل أصغر من علماء الحفريات بقيادة جيسون أندرسون من جامعة كالجاري، وروبرت ريش من جامعة تورنتو، وآخرين، وانتهَوا من تنظيف النسيج من عليها حتى أصبحت مكشوفةً بالكامل، ونشروا بحثًا عنها أخيرًا. أطلقوا عليها اسم جيروباتراكس هوتوني (ضفدع هوتون القديم)، وبعد أن ذاع خبر اكتشافها أطلقت الصحافة عليها اسم «فروجاماندر» (الشكل ١٢-٣(أ)؛ الشكل ١٢-٣(ب)).
fig53
شكل ١٢-٣: (أ) العينة الوحيدة من جيروباتراكس هوتوني. (ب) تصور لجيروباتراكس هوتوني في حياتها. ([أ] بتصريح من ديان سكوت وجيسون أندرسون؛ [ب] بتصريح من نوبوميتشي تامورا)

للوهلة الأولى، تبدو العينة غير مثيرة للإعجاب؛ هي تقريبًا مكتملة، ولكن طولها حوالي ۱۱ سنتيمترًا (٤٫۳ بوصات) فقط. وهي على ظهرها، ولم يُفقَد منها سوى جزء فقط من عظام الفخذ وعظام الكتف والذيل. وأكثر ما يثير الدهشة في هذه الحفرية هو أنها تجمع بين جسد السلمندر الطويل الذيل مع خَطْم الضفدع القصير والعريض والمستدير، مما يوضح إمكانية أن تكون الضفادع قد بدأت تتطور من أشكال تشبه السلمندر. وتتسم هذه الحفرية أيضًا ببعض صفات الضفادع الأخرى؛ طبلة الأذن الكبيرة، والأسنان المستقرة على دعائم صغيرة لها قاعدة منفصلة، وهي بنية تشريحية لا توجد إلا في البرمائيات الحية وأقرب أقربائها من الحفريات. وبخلاف ذلك، تتسم بجسد بدائي يشبه جسد السلمندر؛ لذلك فهو انتقال مثالي بين المجموعتين.

وبعد حفرية جيروباتراكس التي تنتمي إلى العصر البرمي المبكر، فإن الحفرية الجيدة التالية لضفدع ما هي تريادوباتراكوس، التي تعود إلى أوائل العصر الترياسي (٢٤٠ مليون سنة) في مدغشقر. لدى تريادوباتراكوس خطم ضفدعي نموذجي عريض، وأقدام طويلة وتراء، لكن منطقة الجذع لديه طويلة على عكس أي ضفدع حي؛ إذ توجد لديه ۱٤ فقرة في عموده الفقري، أما الضفادع الحية الآن فيتراوح عدد فقراتها من أربع إلى تسع. إضافةً إلى ذلك، يحتفظ هذا الضفدع بذيل قصير لا يفقده عندما ينمو الشرغوف إلى مرحلة البلوغ. كان لديه أرجل خلفية أطول من الأرجل الخلفية لدى أي سلمندر، لكنها ليست بالأرجل الضخمة القوية العضلات الموجودة في الضفادع الحية الآن؛ ومن ثَم كان يستطيع السباحة، لكنه لم يكن يستطيع القفز. وفي أوائل العصر الجوراسي (منذ حوالي ٢٠٠ مليون سنة)، نجد حفرية أول ضفدع حقيقي؛ فييرايلا من الأرجنتين. إنه كائن صغير لا يزيد طوله عن ٥ سنتيمترات فقط (٢ بوصة)، كانت جمجمته شبيهة بالضفدع تمامًا، وكان قادرًا على القفز بأطرافه الخلفية، لكنه يفتقر إلى الجذع القصير أو الوركين المعدَّلتَين للغاية، وهما صفتان تتسم بهما الضفادع الحديثة. في العصر الطباشيري، بدت البنية التشريحية للضفادع حديثةً تمامًا، وتفرَّعت إلى العديد من المجموعات التي لا تزال على قيد الحياة اليوم، والتي توجد بها عشرات العائلات التي تضم أكثر من ٥۷٠٠ نوع حي.

وماذا عن السلاحف كمثال ثانٍ؟ لقد سمعتُ مناهضي التطور يسخرون من فكرة إمكانية وجود حفرية وسيطة بين السلحفاة وأي زاحف آخر. يسألون بتهكم: ما فائدة سلحفاة لها نصف صدفة؟ هم ينظرون إلى صور جميع حفريات السلاحف التي كانت معروفة حتى وقتٍ قريب، ويقولون: «ليس هذا سوى صنفٍ آخر من السلاحف.» يبدو من الصعب بالفعل تخيل سلحفاةٍ بدون كلتا صدفتَيها. كيف ستقوم بوظائفها أصلًا؟ وهل سنسميها سلحفاة؟

يبدو أنَّ السلاحف وصدفات السلاحف توضع في صورة نمطية للغاية. ففور ظهور السلاحف ذات الأصداف الكاملة في السجل الأحفوري، كانت خطة جسد ناجحة للغاية؛ لذلك تطورت وتنوعت، لكنها دائمًا ما كانت تتضمن قُبة في الأعلى (الذَّبْل)، ودرعًا بطنيًّا. يوجد أكثر من ۱٢٠٠ نوع من السلاحف على قيد الحياة اليوم، ويمكن تتبُّع جذور المجموعات الحديثة إلى العصر الجوراسي. تُقسَّم معظمها بسهولة إلى فئتين؛ مخفيَّات الرقبة، وجانبيات الرقبة. تُعَد مخفيات الرقبة هي المجموعة الأكثر شيوعًا والأكثر تنوعًا من السلاحف على هذا الكوكب، وتشكِّل جميعَ أنواع السلاحف الحية باستثناء ۸٠ نوعًا تقريبًا. يشير اسم مخفيات الرقبة إلى «المفصل الخفي»، ويشير إلى حقيقة أن الرقبة تنثني على نفسها رأسيًّا على شكل حرف S داخل مقدمة الصدفة، عندما تسحب السلحفاة رأسها داخل صدفتها. وتقوم السلاحف الجانبيات الرقبة (المفصل الجانبي)، أو السلاحف ذات العنق الجانبي، وهي الأكثر ندرة والأقل تنوعًا، بطَيِّ رقبتها جانبًا، في حركة شبيهة بإغلاق سكين الجيب، وسحب رأسها جانبًا تحت الحافة المتدلية من الجزء الأمامي من الصدفة. ليست هذه السلاحف نادرة ومهدَّدة بالانقراض فحسب، بل إنها لا توجد اليوم إلا في القارات المتبقية من جندوانا في أستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا.
للوهلة الأولى، تبدو السلاحف وكأنها نوعٌ مميز من الحيوانات، محبوس في شكل نمطي للجسد لا يمكن أن يتطوَّر أبدًا من أي شيء آخر. غير أنَّ الحفريات الانتقالية تخبرنا بكيفية تطور السلاحف من زواحف لا تمتلك أصدافًا. كان أول ما اكتشفه العلماء حفرية غريبة تُعرَف باسم السلحفاة المبكرة Proganochelys، وقد اكتُشِفت من طبقات العصر الترياسي الأعلى (منذ ٢۱٠ ملايين سنة) في ألمانيا وجرينلاند وتايلاند (الشكل ١٢-٤). للوهلة الأولى، تبدو تمامًا كأي سلحفاة أخرى لها ذَبْل ودرع بطني. لكن نظرة فاحصة تُظهِر أنها أكثر بدائية، وأنها ليست عضوًا في أي مجموعة حية. فالذَّبْل مختلف تمامًا، وبه العديد من الصفائح الإضافية غير الموجودة في أي سلحفاة حية، خاصة حول حافة الصدفة ويحمي الساقين. إضافةً إلى ذلك، فإن ذيلها مغطًّى بغِمْد عَظمي شائك، مع ذيل شائك على شكل هِراوة. والأكثر بدائية هي الجمجمة التي تشبه جمجمة أحد زواحف العصر البرمي البدائية، أكثر مما تشبه جمجمة سلحفاة بتنظيمها المميز لعضلات الفك ولثقوب الجمجمة. على الرغم من أنها كانت تمتلك منقار سلحفاة فقد كان الحنك العلوي ما يزال به أسنان، فهي آخر السلاحف التي احتفظت بأسنانها. والأهم من ذلك كله أنها لم تستطع سحب رأسها الكبير داخل صدفتها، كما تفعل جميع السلاحف الحية الآن؛ لذا فإن الدروع والأشواك فوق رأسها كانت تحميها بدلًا من ذلك. إنها «سلحفاة فحسب» لغير المتخصص، لكنها تختلف تمامًا عن أي سلحفاة حية؛ لأن عنقها ورأسها غير قابلَين للسحب ولديها أسنان في فمها.
fig54
شكل ١٢-٤: السلحفاة المبكرة، وهي سلحفاة من العصر الترياسي، كان لها درع مكتمل التكوين وذَبْل يكوِّنان صدفة، لكنها لم تستطع سحب رأسها للداخل، وكان لا يزال لديها بعض أسنان الزواحف على حنكها. (تصوير المؤلف)
في عام ٢٠٠۸، أُعلنَ عن اكتشاف مجموعة مذهلة من حفريات السلاحف في الصين تعود إلى أواخر العصر الترياسي (٢۱٠ ملايين سنة)، (الشكل ١٢-٥(أ)؛ الشكل ١٢-٥(ب)). ومن خلال عشرات العينات المكتملة، أُطلقَ على هذه الحفرية الاسم العلمي الرسمي «أودونتوكيليس سيميتيستاشيا» (السلحفاة المسنَّنة ذات النصف صدفة). قدَّم هذا الاكتشاف حلًّا للُغز كيفيةِ حصول السلاحف على أصدافها. فليس للسلحفاة المسنَّنة صدفة أو ذَبْل على ظهرها (ضلوع سميكة وحسب)، لكن لديها درع بطني. إنها حرفيًّا «سلحفاة على نصف صدفة»، وهي شكل انتقالي بين السلاحف الحديثة ذات الصدفتين وأسلافها التي لا تمتلك قوقعة كاملة. ثمة صفة أخرى للسلحفاة المسنَّنة لا تتميز بها السلاحف، لكنها توجد لدى الزواحف، وهي امتلاكها لمجموعة كاملة من الأسنان على غرار أسلافها، ولكنها تختلف عن مناقير السلاحف الحديثة العديمة الأسنان.
fig55
شكل ١٢-٥: السلحفاة المسنَّنة (أ) أفضل العينات المعروفة من هذا الجنس، والتي تُظهِر ذَبلًا غير مكتمل على ظهرها (يسارًا)، ودرع بطني كامل على بطنها (يمينًا)؛ (ب) تصوُّر لمظهرها في أثناء حياتها. ([أ] بتصريح من لي تشون؛ [ب] بتصريح من نوبوميتشي تامورا)

إضافةً إلى ذلك، حسمت السلاحف المسنَّنة خلافًا آخر ظل قائمًا لفترة طويلة. فعلى مدار عقود من الزمان، زعم بعض علماء الحفريات أن ذَبْل السلاحف يأتي من صفائح عظمية صغيرة تنمو من جلدها (الجلد العظمي) وتندمج معًا، وزعم آخرون أن الذَّبْل نما في الغالب من امتدادات في أضلاعها الخلفية. وقد اتضح من السلاحف المسنَّنة أن الرأي الأخير هو الصحيح. فقد كان لها أضلاع خلفية ممتدة على وشك أن تبدأ في النمو والاتصال معًا لتكوين الصَّدَفة، ولا توجد جلود عظمية في الأعلى أو مدمَجة بين الضلوع. وتأكدتْ هذه المعلومات بالدراسات الجنينية التي تتبع نمو ذَبْل السلحفاة من تغيرات النمو التي تحدث في الأضلاع الخلفية، والنتيجة هي أنَّ الجلد العظمي لا يدخل في العملية على الإطلاق.

ومن خلال السلحفاة التي على نصف صَدَفة، يمكننا تتبُّع أسلاف السلاحف إلى أن نصل إلى الزواحف التي لا تحتوي إلا على عدد قليل من الصفات الشبيهة بالسلاحف. إحدى هذه السلاحف هي يونوتوساورس، التي تنتمي إلى طبقات العصر البرمي الأوسط (منذ ٢۷٠ مليون سنة تقريبًا) في جنوب أفريقيا (الشكل ١٢-٦(أ)). كانت تبدو بشكلٍ عام سحلية كبيرة الحجم وسمينة، باستثناء بعض الصفات الرئيسية للهيكل العظمي. وأكثر ما يلفت الانتباه فيها هي الأضلاع الخلفية المسطحة الواسعة الممتدة، التي تكاد أن يتصل بعضها ببعض لتشكيل صَدفةٍ كاملةٍ على الظهر. وفي عام ٢٠۱٥، أعلن صديقي هانز ديتر سوس من معهد سميثسونيان عن حفريةٍ بدائيةٍ أخرى. سُميت هذه الحفرية بابوكيليس (السلحفاة الجد)؛ فهي لا تمتلك على ظهرها أضلاعًا عريضةً مثل يونوتوساورس فحسب، بل تمتلك أيضًا أضلاع بطن عريض مُفلطَح (جاستراليا)، والتي ستندمج في نهاية المطاف لتكوِّن الدرع البطني أو لوحة البطن في السلاحف الأكثر تقدمًا. وبهذا، يصبح لدينا انتقال أنيق للغاية من يونوتوساورس المنتمي إلى الزواحف بأضلاعه الخلفية المسطحة فقط، إلى بابوكيليس الذي يتسم بظهره وأضلاع بطنه المفلطحَين، إلى أودونتوكيليس الذي يمتلك درعًا بطنيًّا، لكن أضلاعه الموجودة على الظهر مسطحة فقط، إلى بروجانوكيليس الذي يتميز بالصَّدفة السلحفية الكاملة (وإن كانت بدائية)، لكنه لا يزال محتفظًا ببعض الأسنان، وهو على نقيض السلاحف الحديثة في كونه لم يطور بعدُ القدرة على سحب رأسه داخلًا (الشكل ١٢-٦(ب)). الحق أنَّ المرء لم يكن ليتمنى مثالًا على انتقال نوع معين من الحيوانات إلى نوع آخر أفضل من ذلك المثال، الذي قدمَتْه لنا الحفريات التي لم يكن معظمنا يتوقع أن تؤدي إلى السلاحف.
fig56
شكل ١٢-٦: يونوتوساورس من زواحف العصر البرمي البدائية ذات الأضلاع المُفلَّجة، التي تُمثِّل المراحل الأولى من تطور صَدفة السلحفاة. (أ) عينة جزئية تُظهِر الأضلاع المميزة على شكل شفرات، والتي تُكوِّن صدفة جزئيًّا. (ب) علاقات يونوتوساورس والسلاحف البدائية الأخرى، والتي تُظهِر الانتقال من الزواحف البدائية إلى السلاحف. ([أ] بتصريح من بي روبيدج؛ [ب] أعيدَ رسمه من عدة مصادر)

ولنتناولْ مثالًا أخيرًا من الزواحف، وهو الثعابين. الثعابين مجموعة مميزة للغاية من الحيوانات، فأجسامها متخصصة إلى حد كبير وعديمة الأرجل، وتتكيف مع مختلف الوظائف بدايةً من الحفر إلى تسلُّق الأشجار. يحيط بالثعابين أيضًا قدر كبير من الرمزية، من أسطورة أفعى جنة عدن الواردة في الكتاب المقدس، إلى استخدامها الرمزي في العديد من الثقافات. في مصر القديمة كانت الكوبرا تُزيِّن تاج الفرعون، وفي الأساطير اليونانية كان لميدوسا في رأسها ثعابين بدلًا من الشعر. كان على هيراكليس (هرقل) أن يقتل الحية العدار بقطع رءوسها الثعبانية التسعة، وقد نما كلٌّ منها مجددًا فور قطعه. كان الإغريق أيضًا يبجلون الأفاعي في الطب؛ لذلك كان رمز الشفاء (عصا هيرميز) قضيبًا مع ثعبان متشابك حوله. وتُعبَد الثعابين في الديانتَين الهندوسية والبوذية؛ فعُنق الإله الهندوسي شيفا ملفوف بأفاعي الكوبرا، وقد صُوِّر فيشنو نائمًا على ثعبان ذي سبعة رءوس أو داخل لفائف ثعبان. كانت الثعابين أيضًا جزءًا مهمًّا من الأساطير والدين في أمريكا الوسطى. ولطالما عظَّم الصينيون من شأن الثعابين وتناولوها في مطبخهم كطعامٍ فاخر. علاوةً على ذلك، فأحد الأبراج الصينية الاثني عشر هو برج «الأفعى».

تثير الثعابين أيضًا مشاعر قوية لدى البشر، على الرغم من أن معظمها ليس أكثرَ خطورةً من أرنب أو سحلية. فالعديد من الأشخاص يجدون أنَّ تحديق الثعابين البارد بجفونها التي لا ترمش، وألسنتها المنتفضة، أو الطريقة المثيرة للأعصاب التي تسعى بها وتتحرَّك بدون أرجل، كلُّها أمور تبعث على القلق. إنَّ الجزء الأكبر من الخوف من الثعابين يعود إلى حقيقةِ أن بعضها سامٌّ. وعلى الرغم من ذلك، ففي بعض أجزاء من العالم، مثل الولايات المتحدة، لا يوجد سوى عددٍ قليلٍ من الثعابين السامة (الأفاعي الجرسية في الأساس)، لكن السكان يقتلون أي ثعبان فور رؤيته، على الرغم من أن الثعابين مفيدة للغاية في الحد من مشاكل الجرذان أو الفئران وآفات أخرى. أما في أستراليا، فأنواع الثعابين الأكثر شيوعًا، وعددها عشرة، شديدة السُّميَّة، والعديد من الثعابين الموجودة في أفريقيا سامٌّ أيضًا. ومن ثَمَّ فإن الخوف البدائي من الأفاعي (رُهاب الأفاعي) متجذِّر بعمق في طبقة دماغ الرئيسيات، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يمكن التغلب عليه مهما كان ثعبان الثور النموذجي آمنًا أو ثعبان الجوفر.

توجد أنواع عديدة من الثعابين، منها ٢۹٠٠ نوع على قيد الحياة اليوم، تتوزع على ٢۹ فصيلة، وعشرات الأجناس. تعيش الثعابين في جميع القارات وفي كل الموائل ما عدا المناطق الشديدة البرودة، مثل القطب الشمالي أو القطب الجنوبي، أو في الجزر المنعزلة للغاية لدرجة أنها لا تستقبل ثعابين من البر الرئيسي أبدًا (نيوزيلندا، أيرلندا، آيسلندا، هاواي، ومعظم جنوب المحيط الهادي). فأيرلندا تفتقر إلى الثعابين ليس لأن القديس باتريك طردها، ولكن لأنها كانت تحت الجليد خلال العصر الجليدي الأخير. وعندما تراجع الجليد وارتفع مستوى سطح البحر أصبحت أيرلندا جزيرة؛ لذلك لم تُتح الفرصة للثعابين للوصول إليها.

تتسم الثعابين بهذه الدرجة من التنوع؛ لأنها تستطيع التكيف مع مجموعةٍ متنوعةٍ من الموائل، من الأشجار إلى الأرض إلى الجحور التي حفرَتها فرائسها تحت الأرض. ولما كانت الثعابين عديمة الأطراف، فإنها تنتقل إلى مناطق (مثل الجحور) عن طريق الانزلاق، ويمكنها لفُّ أجسادها حول أطرافها (كما هو الحال في الثعابين المتسلقة للأشجار)، أو حتى السير عبر رمال الصحراء الساخنة باستخدام أسلوبها الفريد في الترحال المعروف باسم التموُّج الجانبي. ولا شك أنَّ عدم امتلاك أطرافٍ يفرض عليها قيودًا معينة؛ فهي لا تستطيع الإمساك بالفريسة؛ ولهذا يجب أن تلتفَّ حولها لكبح جماحها، فثَمة مجموعةٌ من الثعابين تُسمى العاصرة، تضغط على الفريسة إلى أن تتوقَّف عن التنفس وتموت. وبدون أطراف أو فكوك قوية كتلك التي تمتلكها التماسيح، لا تستطيع الثعابين تمزيق الفريسة، بل يجب عليها ابتلاعها بالكامل. وتتمتع الثعابين بجماجم عالية المرونة والقابلية للتمدد؛ إذ تقتصر معظم العظام على كونها شظايا صغيرة تتصل ببقية الجمجمة، وتُثبَّت معًا بأربطة مرنة حتى تتمكن الثعابين من التمدد ولف رأسها بالكامل حول فريسة أكبر منها؛ ومن ثم تبتلعها ببطء.

ويترتب على البنية التشريحية الفريدة للثعابين أن حفرياتها نادرة للغاية. فعظام جمجمتها الرقيقة تتحلل بسهولة، ولا يتبقى سوى فقرات متفرقة وأضلاع رقيقة من العمود الفقري لا يتحفر أي منها بسهولة. إن أغلب حفريات الثعابين تُعرَف من فقرات مميزة ولا شيء سوى ذلك. وربما يدفعك هذا إلى الاعتقاد أنه لا يمكن العثور على سجل أحفوري لكيفية تطور الثعابين من شيء آخر، فضلًا عن حفريةٍ انتقاليةٍ من امتلاك أطرافٍ وظيفيةٍ إلى فقدان هذه الأطراف. وعلى الرغم من هذه التحديات، لدينا سجل جيد لذلك الانتقال.

لدينا بالفعل عددٌ من مجموعات السحالي الوثيقة الصلة، خاصةً الورليات أو سحالي الورل (مثل تنين كومودو، والجوانا في أستراليا، والكثير غيرها)، وهي تتشابه مع الثعابين في العديد من الصفات من حيث جماجمها وهياكلها العظمية، لكن لديها أربعة أطراف قوية. وفي العشرين عامًا الماضية، ظهرت مجموعةٌ كاملةٌ من حفريات الثعابين التي تُظهِر كيف تقلَّصت تلك الأطراف تدريجيًّا حتى اختفَت تمامًا. أقل هذه الحفريات شبهًا بالثعبان هي أدريوساورس مايكروبراكيس، التي اكتُشِفت في سلوفينيا، وهي تعود إلى العصر الكريتاسي الأوسط (عمرها ۹٥ مليون سنة) (الشكل ١٢-٧(ﻫ)، الشكل ١٢-٧(و)). كانت حفرية بحرية تشبه السحلية، وجسدها طويل للغاية ونحيل مثل جسد الثعبان، لكن كان لديها أطراف صغيرة فقط في الأمام والخلف، ولم تكن تساعد في الدفع إلا بدرجة طفيفة. ولدينا حفرية ناجاش ريونيجرينا من العصر الكريتاسي الأوسط في الأرجنتين (يبلغ عمرها ۹٠ مليون سنة تقريبًا)، وهي لا تزال تحتفظ بعظام الأوراك، وأطراف خلفية أثرية مرتبطة بالأوراك تحتفظ بمعظم العناصر (عظم الفخذ، وعظم قصبة الساق، وبعض عناصر القدم)، ولكن لا توجد أطراف أمامية.
قدَّمت لنا الصخور البحرية من العصر الكريتاسي الأعلى في الشرق الأوسط (خاصة لبنان وإسرائيل) ثروة من الهياكل العظمية الكاملة لحفريات الثعابين الانتقالية. منها على سبيل المثال، هاسيوفيس تيراسانكتوس، الذي يبلغ عمره حوالي ۹٤ مليون سنة، ويمتلك جمجمة وفقرات شبيهة بما لدى الثعابين البدائية الأخرى، لكنه لم يكن يمتلك أي أطراف أمامية، وكانت عظام الورك لديه صغيرة للغاية، وعظام الفخذين لا تتصل إحداهما بالأخرى؛ لذا فهي أثرية حقًّا، ولم يكن من الممكن أن تعمل (الشكل ١٢-٧(ﺟ)؛ الشكل ١٢-٧(د)). من هذه الحفريات أيضًا، باكيراكيس، الذي كان يمتلك أطرافًا خلفية أثرية صغيرة بدون أطراف أمامية، ولديه عظام كثيفة سميكة في أضلاعه وفقراته من شأنها أن تساعد في الغوص. ولدينا حفرية يوبودوفيس ديسكوينسي، التي عثر عليها العلماء في صخور عمرها حوالي ۹٢ مليون سنة في لبنان، وهي لنوع كان يمتلك أطرافًا خلفية أثرية أصغر (الشكل ١٢-٧(أ)؛ الشكل ١٢-٧(ب)).
fig57
شكل ١٢-٧: عدد من حفريات الثعابين الانتقالية لها أرجل أثرية وعظام ورك، وهي معروفة من العصر الكريتاسي. (أ) يوبودوفيس ديسكونيسي، بأرجل خلفية أثرية صغيرة. (ب) تفاصيل عظام الساق في نفس العينة. (ﺟ) الهيكل العظمي المفصلي الكامل لثعبان العصر الكريتاسي ذي الأرجل، المعروف باسم هاسيوفيس. المكعبات البرتقالية الكبيرة هي فواصل من الفِلِّين لتمنع تلف الحفرية عند قلْبها رأسًا على عَقِب. (د) تفاصيل منطقة الورك، وتظهر فيها الأطراف الخلفية الأثرية. (ﻫ-و) الحفرية الانتقالية أدريوساورس، التي كان لها أطراف خلفية وظيفية، لكن أطرافها الأمامية أثرية، وجسمها طويل مثل جسم الثعبان. ([أ-ب] بتصريح من مايكل دبليو كالدويل؛ [ج-د] بتصريح من مايكل جيه بولسين؛ [ﻫ-و] «الأطراف الأمامية الأثرية، والاستطالة المحورية في حرشفي غير ثعباني من ۹٥ مليون عام»، لأليساندرو بالشي ومايكل دبليو كالدويل، مجلة فيرتيبرايت بالينتولوجي ٢۷، رقم ۱ [٢٠٠۷]: ۱-۷)

ثعابين بأرجل؟ إن سجل الحفريات يمدنا بوفرة منها، من أدريوساورس، آخِر قريب للثعابين كان يمتلك كلًّا من الأطراف الأمامية والخلفية الصغيرة؛ إلى ناجاش الذي لا يمتلك أطرافًا أمامية لكن أطرافه الخلفية كانت ما تزال تؤدي بعض الوظائف؛ إلى هاسيوفيس وباكيراكيس ويوبودوفيس، وكلٌّ منها كان يمتلك أطرافًا خلفيةً صغيرةً أثرية بالفعل وغير وظيفية على الإطلاق، بل هي محض شواهد صامتة على زمن كان لجميع الثعابين فيه أرجل.

إن امتلاك هذا السجل الأحفوري يقدم حقيقة مدهشة عن الثعابين الحية، وهي أنَّ بعضها (معظمها من البواء وأقاربها) لا يزال لديها بقايا صغيرة غير وظيفية من عظام الورك وعظام الفخذ مدفونة في أعماق أجسادها (انظر الشكل ١٠-١(أ)). في عدد قليل من الأنواع، تبرز عظام الفخذ الصغيرة هذه على هيئة «نتوء» قشري على جانب الجسد، لكن هذه العظام لم يعد لها أيُّ وظيفةٍ حقيقيةٍ الآن، بخلاف كونها دليلًا على أن الثعابين قد تطورت من أسلاف لها أرجل.
وأخيرًا، إن فقدان الساقَين ليس على هذا القدر من الأهمية. لقد حدث ذلك في العديد من المجموعات المختلفة من الحيوانات الرباعية الأرجل، وجميعها تطورت بشكل مستقل. إنَّ أمثلة فقدان الأطراف في رباعيات الأرجل لا تقتصر على الثعابين فحسب، بل تشمل أيضًا مجموعةً كاملة من الزواحف الحية تُسمى السحالي الدودية، إضافة إلى عدة مجموعاتٍ مختلفةٍ من السحالي العديمة الأرجل، بما في ذلك بعض السقنقوريات، والسحالي الأسترالية المسطحة القدم، و«الديدان البطيئة»، و«السحالي الزجاجية» وغيرها. ومن بين البرمائيات، طورت مجموعة كاملة (الضفادع الثعبانية أو الأبودان) أجسادًا شبيهةً بالديدان، وتمتلك مجموعة تُسمى الصفاريات أطرافًا أمامية متقزمة، وليس لديها أطراف خلفية. علاوةً على ذلك، ثمة مجموعتان على الأقل من البرمائيات المنقرضة، وهما أيستوبودس ولايسوروفيدس، بلا أطراف أيضًا. جميع هذه الأمثلة تقريبًا من حيوانات الجحور، ويبدو أن فقدان الأطراف يساعد على الحفر في الأرض أو في الطين الناعم. ثمة سببٌ بسيط يجعل فقدان جميع الأطراف أمرًا سهلًا للغاية. إنَّ كلًّا من نمو براعم الأطراف واكتمال نمو الأطراف في النهاية، يخضع لتحكُّم مجموعةٍ محددةٍ من جينات Hox وجينات Tbx، فكل ما يتطلبه الأمر هو أن تقوم تلك الجينات بإيقاف الأوامر لنمو الأطراف وسوف تختفي الأطراف.

في المرة القادمة التي ترى فيها سلحفاة أو ثعبانًا أو ضفدعًا، تأمَّل كيف أن أيًّا من هؤلاء لم يعد مجموعة معزولة وغير مترابطة في مملكة الحيوان. لقد عثرنا على السجل الأحفوري لنشأتها من أسلاف مختلفة تمامًا، وجميع الحفريات الانتقالية التي نحتاج إليها صارت في حوزتنا. فلم تعد هذه الكائنات جزءًا من «سلسلة ذات حلقات مفقودة».

قراءات إضافية

  • Anderson, Jason S., Robert R. Reisz, Diane Scott, Nadia B. Fröbisch, and Stuart S. Sumida, “A Stem Batrachian from the Early Permian of Texas and the Origin of Frogs and Salamanders,” Nature 453, no. 7194 (2008): 515–518.
  • Caldwell, Michael W. and Michael S. Y. Lee, “A Snake with Legs from the Marine Cretaceous of the Middle East,” Nature 386 (1997): 705–709.
  • Li, Chun, Xiao-Chun Wu, Olivier Rieppel, Li-Ting Wang, and Li-Jun Zhao, “An Ancestral Turtle from the Late Triassic of Southwestern China,” Nature 456 (2008): 497–501.
  • Gauther, J. A., A. G. Kluge, and T. Rowe, “The Early Evolution of the Amniota,” In The Phylogeny and Classification of the Tetrapods, vol. 1, Amphibians, Reptiles, Birds, ed. Michael J. Benton, 103–155, Oxford: Clarendon Press, 1988.
  • Held, Lewis I., Jr., How the Snake Lost Its Legs: Curious Tales from the Frontiers of Evo-Devo, Cambridge: Cambridge University Press, 2014.
  • Joyce, Walter G., “Phylogenetic Relationships of Mesozoic Turtles,” Bulletin of the Peabody Museum of Natural History 48, no. 1 (2007): 3–102.
  • Lyson, Tyler R., Gabe S. Bever, Bhart-Anjan S. Bhullar, Walter G. Joyce, and Jacques A. Gauthier, “Transitional Fossils and the Origin of Turtles,” Biology Letters 6, no. 6 (2010): 830–833.
  • Prothero, Donald, Evolution: What the Fossils Say and Why It Matters, 2nd ed., New York: Columbia University Press, 2017.
  • Rieppel, Olivier, “A Review of the Origin of Snakes,” Evolutionary Biology 25 (1988): 37–130.
  • Rieppel, Olivier, Hussam Zaher, Eltan Tchernov, and Michael J. Polcyn, “The Anatomy and Relationships of Haasiophis terrasanctus, a Fossil Snake with Well-Developed Hind Limbs from the Mid-Cretaceous of the Middle East,” Journal of Paleontology 77, no. 3 (2003): 536–558.
  • Rieppel, Olivier, and Michael deBraga, “Turtles as Diapsid Reptiles,” Nature 384 no. 6608 (1996): 453–455.
  • Schoch, Rainer R. and Hans-Dieter Sues, “A Middle Triassic Stem-Turtle and the Evolution of the Turtle Body Plan,” Nature 523, no. 7562 (2015): 584–587.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤