الفصل الثاني والعشرون

الشمبانزي الثالث

هل نحن فعلًا متشابهون بنسبة ٩٩ بالمائة؟

يبدو لي إذن أنَّه يجب علينا الاعتراف بأن الإنسان بما له من كل هذه الصفات النبيلة، لا يزال يحمل في هيئته الجسدية أثرًا لا يُمحَى يدل على أصله المتواضع.

تشارلز داروين، «أصل الإنسان» (١٨٧١)

في المرة القادمة التي تزور فيها حديقة حيوانات، احرص على المشي بجوار أقفاص القردة. تخيل أن القردة فقدت معظم شعرها، وتخيل قفصًا قريبًا به بعض الأشخاص التعساء العرايا الذين لا يستطيعون الكلام، لكنهم بخلاف ذلك طبيعيون. والآن حاول تخمين مدى تشابه هذه القردة معنا في جيناتها. هل ستُخمِّن على سبيل المثال أنَّ الشمبانزي يتشارك في برنامجه الجيني مع البشر بنسبة ١٠ بالمائة أم ٥٠ بالمائة أم ٩٩ بالمائة؟

جاريد دايموند، «الشمبانزي الثالث» (١٩٩٢)

أحد الاكتشافات الجوهرية عن البشر هو مدى ارتباطنا الوثيق بالقردة العليا الأخرى. فنجد أنَّ مؤسس التصنيف الحديث، كارولوس لينيوس، وضع البشر في فئة الرئيسيات مع القردة والسعادين والليمور منذ عام ١٧٣٥، وقد شخص جنسنا بالعبارة اليونانية القديمة «اعرف نفسك». وفي عام ١٧٦٦، كتب كونت بوفون في المجلد الرابع عشر من كتابه «التاريخ الطبيعي» أن القرد «ليس سوى حيوان، لكنه حيوان فريد جدًّا لا يمكن للإنسان مراقبته دون أن يرى فيه شبهًا من نفسه». وأشار علماء الطبيعة الفرنسيون الآخرون، ومنهم كوفييه وجوفروا، إلى التشابه التشريحي الشديد بين القردة والبشر، لكنهم رفضوا القول بأن البشر نوع من القردة. وقال عالم الأحياء الفرنسي الرائد لامارك صراحةً في كتاب «فلسفة علم الحيوان» عام ١٨٠٩:

من المؤكد أنه إذا اقتضت الظروف لسبب أو لآخر أن تفقد بعض سلالات القردة، وخاصة الأكثر كمالًا بينها، عادة تسلق الأشجار وإمساك الأغصان بالأقدام … وإذا أُرغمَ أفراد هذا الجنس على مر أجيال على استخدام الأقدام للمشي فقط وتوقفت عن استخدام أيديها كأرجل … فستتحول هذه القرود إلى كائنات ذات يدين … ولن يكون لأقدامها أي غرض آخر سوى المشي.

لا شك أن تشارلز داروين أدرك التشابه الوثيق بين القردة والبشر، وكان يتفاعل مع الأورانجوتان الصغيرة «جيني» بعد عام واحد فقط من عودته من رحلة البيجل (انظر الفصل الثالث والعشرين). وعلى الرغم من ذلك، عندما حان الوقت لينشر داروين أفكاره، كان يعلم أن معظم الناس لن يكونوا مستعدين لقبول فكرة أننا نرتبط بالقردة ارتباطًا وثيقًا، أو الأسوأ من ذلك، أننا ننحدر من سلف يشبه القرد. الْتفَّ داروين حول المشكلة في كتابه الثوري «أصل الأنواع» الصادر عام ١٨٥٩، مكتفيًا بالقول: «سنسلِّط الضوء على أصل الإنسان». لم ينطلِ ذلك على الناس حينها بالطبع، وأدانوا أفكاره القائلة بأن «البشر انحدروا من القرود»، واتهموه بالإلحاد والهرطقة. لم يعالج داروين المسألة بشكل مباشر حتى عام ١٨٧١، وكان ذلك في كتابه «أصل الإنسان». أما نصيره ومؤيده، توماس هنري هكسلي، فلم يكن مواربًا مثله. فمنذ فترة مبكرة في عام ١٨٦٣، عرض هكسلي بجرأة في كتابه «أدلة علم الحيوان على موضع الإنسان في الطبيعة» أوجه التشابه الشديدة بين الهياكل العظمية للإنسان وللقردة، والتي لا تختلف إلا في النِّسب بين الأطراف وفي شكل الجمجمة (انظر الشكل ١٢-٢(ب)). فعظام البشر تتطابق عظمة بعظمة مع عظام بقية القردة العليا، ولا تختلف إلا في الحجم والنِّسب. فالقردة التي تتأرجح بين الأشجار بأذرعها، وتستخدم التحرك التعلقي (الجيبون والأورانجوتان) لديها أذرع أطول بكثير مقارنة بالبشر، ويمتلك البشر أطول السيقان من بين جميع القردة العليا.

لقد ضاقت الهُوة بين البشر وبقية القردة إلى حد كبير على مر السنين. فبدلًا من الصورة النمطية القديمة ﻟ «القرد الصاخب الصائح»، اكتشفنا مدى التشابه الكبير بين القردة والبشر. فقد أدت عقود من البحث الميداني الذي أجراه الرواد من علماء الأنثروبولوجيا — جين جودال مع الشمبانزي، وبيروت جالديكاس مع الأورانجوتان، والراحلة ديان فوسي مع الغوريلا الجبلية — إلى إزالة الغموض عن هذه المخلوقات المهيبة، وفاجأتنا نتائج هذه الأبحاث بأوجه التشابه السلوكية المذهلة مع البشر (انظر الفصل الثالث والعشرين). يستطيع كلٌّ من الشمبانزي والغوريلا تعلم لغة الإشارة والتواصل بجمل بسيطة، وصنع أدوات بسيطة واستخدامها. ثم إن مجتمعات هذه الكائنات متطورة للغاية مقارنة بأي حيوان آخر، وهي تسلط الضوء على تعقيدات المجتمعات البشرية أيضًا. لقد وثَّقت الأبحاث التي أجراها مئات من علماء الأنثروبولوجيا خلال ما يزيد عن قرنٍ، المزيدَ والمزيد من الروابط بين القردة العليا والبشر. اختفى الحد الفاصل بين «الإنسان» و«الحيوان»؛ ففي كل مرة كان شخص ما يحاول فيها إثبات أننا أكثر «تميزًا» عن أي حيوان، يُظهِر الدليل التشريحي أو السلوكي أن بعض الحيوانات على الأقل تتمتع بتلك الصفة أيضًا. ونتيجة لذلك، صار المجتمع العلمي بأكمله وأصحاب التعليم الجيد يتقبلون الآن أن البشر جزء من الطبيعة، وتربطهم بالحيوانات الأخرى الكثير من الصلات العميقة.

إذا لم يكن السجل الأحفوري للتطور البشري دليلًا كافيًا (انظر الفصل الرابع والعشرين)، فإن الحجة الحاسمة موجودة في كل خلية في جسدك. ثمة مصدر آخر للبيانات يثبت بوضوح علاقتنا بالقردة العليا وببقية المملكة الحيوانية، ولم يكن داروين ولا أي عالم أحياء آخر قبل ستينيات القرن الماضي على دراية بهذا المصدر؛ إنه بنية الحمض النووي والجزيئات الحيوية الأخرى لدينا، مثل البروتينات. فحتى التقنيات الجزيئية الأولى أظهرت أن حمضنا النووي متشابه للغاية مع الحمض النووي للشمبانزي والغوريلا. عندما تضع أمصالًا من الأجسام المضادة لدى الإنسان والقردة في نفس المحلول، تكون التفاعلات أقوى بكثير من تلك الموجودة بين البشر وأي حيوان آخر، مما يشير إلى أن جينات المناعة لدى البشر والقردة هي الأكثر تشابهًا. ويُسمَّى هذا الأسلوب في تقدير مدى قرابتنا بالكائنات الحية الأخرى بطريقة المسافة المناعية. بعد ذلك، في أواخر الستينيات، أظهرت تقنية تسمَّى تهجين الحمض النووي أن الحمض النووي للشمبانزي يكاد يكون متطابقًا مع حمضنا النووي.

في الثلاثين عامًا الماضية، أتاحت القفزات التكنولوجية، ومنها تقنية تفاعل البوليميراز المتسلسل (بي سي آر)، إجراء تسلسل مباشر للحمض النووي للبشر، إضافةً إلى العديد من الحيوانات الأخرى والنباتات. استخدم علماء الوراثة هذه التقنية وتوصلوا إلى تسلسل الحمض النووي للإنسان بالكامل أولًا في عام ٢٠٠٠، ثم تسلسل الحمض النووي للشمبانزي في عام ٢٠٠٥. وعند المقارنة بينهما، حصلنا على النتيجة نفسها؛ إذ يتشارك البشر والشمبانزي في حمضهم النووي بنسبة تتراوح بين ٩٨-٩٩ بالمائة. إنَّ ما يميزنا عن الشمبانزي وعن الغوريلا أيضًا أقل من ٢ بالمائة من حمضنا النووي. تذكر أن نسبة تتراوح من ٦٠ إلى ٩٠ في المائة من حمضنا النووي غير مُشفِّر (يشار إليه أحيانًا باسم مخلفات الحمض النووي)، وهو لا يُقرأ أو يُستخدَم على الإطلاق، بل يُنقَل سلبيًّا من جيل إلى جيل (انظر الفصل الثامن عشر). ومن هذا الحمض النووي الذي يُعد بمثابة المخلفات الفيروساتُ الراجعة الداخلية، وهي بقايا حمض نووي فيروسي أُدخِلت في جيناتنا عندما أصيب أحد الأسلاف البعيدة بالفيروس، ولا تزال موجودة على الرغم من أنها لم تعد تُشفِّر أي شيء.

أحد الجينات الزائفة التي يمتلكها البشر هو نسخةٌ غير نشطةٍ من جين GULO، الذي يقوم بتصنيع فيتامين ج. يبدو أنَّ أسلافنا من الرئيسيات كانوا يأكلون الكثير من الفاكهة، فلم يعودوا بحاجة إلى صنع فيتامين ج الخاص بهم، وتعطل هذا الجين لديهم دون أن يصابوا بضرر. (المجموعة الأخرى الوحيدة التي تعيش دون أن تصنع فيتامين ج الخاص بها هي خفافيش الفاكهة.) عندما لا يحصل البشر على ما يكفي من فيتامين ج، يمكن أن يصابوا بمرض بشع يسمَّى الأسقربوط. وقد كان البحارة يعانون من نزيف اللثة، وفقدان الأسنان، والعديد من أعراض الأسقربوط بشكل منتظم؛ بسبب نظامهم الغذائي المحدود في البحر الذي لم يكن يشمل الفاكهة الطازجة أو الخضراوات. اكتشفت البحرية الملكية البريطانية في النهاية أن ثمار الحمضيات، مثل الليمون الحامض، توفر هذا الفيتامين الأساسي، وأصبحت تضيفه بانتظام إلى وجبات البحارة (وهذا هو السبب في أن البحارة البريطانيين يطلَق عليهم اسم «لايمي» (بالإنجليزية limey، مشتقة من lime، ومعناها حامض)). فبالنسبة إلينا نحن البشر، لا بد لنا من أكل الكثير من الفاكهة، أو تناول حبوب الفيتامينات لتحل محل هذا الفيتامين الأساسي؛ لأن جين فيتامين ج لدينا لم يعد يعمل حتى نتمكن من تصنيعه بأنفسنا.

والواقع أنَّ أجسادنا لم تعد قادرة على تصنيع مجموعة كاملة من «العناصر الغذائية الأساسية»، ونحن بحاجة إلى استهلاكها في نظامنا الغذائي لدرء المعاناة من نقص الفيتامينات المختلفة. على سبيل المثال، يتسبب نقص فيتامينات ب في مجموعة من الأمراض لدى البشر لا تعاني منها أي حيوانات برية تقريبًا. يتسبب نقص فيتامين «ب١» (الثيامين) في مرض البري بري ويتسبب نقص فيتامين «ب٣» (النياسين) في البلاجرا، ويتسبب نقص فيتامين «ب٦» (البيريدوكسين) في اضطرابات عصبية، ويؤدي غياب فيتامين «ب٩» (حمض الفوليك) إلى حدوث عيوب خلقية وفقر الدم، ويؤدي نقص فيتامين «ب١٢» (كوبالامين) إلى فقر الدم الكبير الكريات. إن العديد من الحيوانات تمتلك الجينات لصنع هذه العناصر الغذائية بنفسها أو تحصل عليها من غذائها، أما نحن فلا نستطيع إنتاج هذه العناصر، وإذا كان نظامنا الغذائي يفتقر لأيٍّ من هذه العناصر، فسوف نعاني من العواقب.

إلى جانب مخلفات الحمض النووي الفعلية، تتكون نسبة أصغر من الجينوم من جينات بنيوية تُشفِّر جميعَ البروتينات والبنى الموجودة في أجسادنا، بما في ذلك الجينات التي لم نعد نستخدمها. إن نسبة الواحد إلى اثنين بالمائة التي تميزنا عن الشمبانزي هي في الغالب جينات تنظيمية، أي مفاتيح «تشغيل/إيقاف» التي تعطي الأمر لبقية الجينوم بالتعبير عن جين معين أو عدم التعبير عنه. هذه الجينات هي السبب الذي يجعل البشر مختلفين تمامًا عن القردة الأخرى، على الرغم من أن جيناتنا تكاد تكون متطابقة.

ماذا نجد إذن عندما نمحِّص في نسبة الواحد إلى اثنين بالمائة المتبقية التي تميزنا عن الشمبانزي؟ مثلما أشار عالم الأعصاب والأنثروبولوجيا البيولوجية، روبرت سابولسكي، فإن ما يقرب من نصف هذا الحمض النووي المختلف مخصَّص لمنطقة الشم؛ فالشمبانزي يتمتع بحاسة شم أقوى منا بكثير. لقد تعطل العديدُ من الجينات الخاصة بحاسة الشم لدينا وأصبحت جينات زائفة. ثمة اختلاف آخر في الجينات الخاصة بتطور عظام الورك والفخذ، مما يسمح لنا بالمشي منتصبين بسهولة، في حين أن الشمبانزي لديه مشية غريبة. هذه هي الجينات التي تُحدِث الفارق الأكبر في هيكلنا العظمي وفي وضعية جسدنا. يوجد عدد قليل من الجينات التي تُشفِّر شعر الجسد، والذي يمتلكه الشمبانزي في جميع أنحاء جسده على عكس معظم البشر. وتوجد جينات أخرى تُشفِّر الاستجابات المتباينة للأمراض؛ فنحن نتمكن من النجاة من مرض السل، الذي يؤدي إلى الوفاة سريعًا في الشمبانزي، بينما يقاوم الشمبانزي إيدز السعليات، أما نظيره البشري (الذي انتقل في الأصل من القردة إلى البشر) فهو قاتل للإنسان. يكمن الاختلاف الجيني الأكبر بين البشر والشمبانزي والقردة في الجينات التي تُشفِّر تكوين الخلايا العصبية. إن بنية أدمغتنا هي في الأساس نفس بنية أدمغة الشمبانزي ومعظم الثدييات، لكن نمو الخلايا العصبية في دماغ الشمبانزي يتوقف عند مستوًى معين، بينما تسمح الجينات البشرية بجولات إضافية من نمو الخلايا العصبية، مما يُنتِج أدمغتنا الكبيرة بشكل غير عادي. من هذا الجزء الصغير من جينومنا، ننتج آلاف الخلايا العصبية الإضافية مقارنة بالحيوانات الأخرى، ومنه أيضًا ننتج كل شيء من الموسيقى إلى الفن إلى الفلسفة إلى العلم إلى الدين، إضافة إلى كل ما ينتجه دماغ الإنسان ولا يمكن لأي دماغ حيواني آخر أن يتخيله.

إنَّ هذا التشابه الشديد بين جيناتنا وجينات نوعَي الشمبانزي (الشمبانزي الشائع، بان تروجلودايتس، والشمبانزي القزم أو البونوبو، بان بانيسكس) ينبغي أن يكون في حد ذاته دليلًا دامغًا ومقنعًا على علاقتنا الوثيقة. وعلى الرغم من نفور بعض الناس من هذه الفكرة، فإننا في الواقع انعكاس للقرد. يضع عالم الأحياء جاريد دايموند الأمر على هذا النحو: تخيلْ أن بعض علماء الأحياء الفضائيين أتَوا إلى الأرض، وأن العينات الوحيدة التي تمكنوا من الحصول عليها هي عينات من الحمض النووي. وقاموا بإجراء تسلسل الحمض النووي للعديد من الحيوانات المختلفة، بما في ذلك البشر ونوعا الشمبانزي الآخران. بناءً على هذه البيانات وحدها، سوف يستنتجون أن البشر ليسوا سوى نوع ثالث من الشمبانزي. ذلك أنَّ حمضنا يتشابه مع نوعَي الشمبانزي الآخرَين أكثر من تشابه الحمض النووي لمعظم أنواع الضفادع بعضها ببعض. ونتشابه نحن ونوعا الشمبانزي الآخران أكثر من تشابه الأسود والنمور بعضها ببعض، رغم أنها تشترك في حوالي ٩٥ بالمائة من حمضها النووي، ويمكنها التزاوج فيما بينها في حدائق الحيوان. إن الاختلافات في المظهر بين القردة والبشر ناتجة عن تغييرات طفيفة في الجينات التنظيمية، والتي تؤدي إلى نتائج هائلة. إن الأدلة المستقاة من جيناتنا، وكذلك من بنيتنا التشريحية، ساحقة. فالحمض النووي في كل خلية من خلايا جسدك شاهدٌ على علاقتك الوثيقة بالشمبانزي.

إن نسبة الواحد إلى اثنين بالمائة من الجينوم التي تميزنا عن الشمبانزي، هي نتيجة جيناتٍ تنظيميةٍ تعمل على تشغيل الجينات البنيوية وإيقافها (والتي تشكِّل معظم الجينوم المتشابه الذي تبلغ نسبته ٩٨ بالمائة). نحن لا نزال نمتلك الجينات لمعظم أجزاء جسد القرد، وجسد السعدان أيضًا، ومن حين لآخر يحدث خطأ وراثي، أو تأسل، فيعبِّر حمضنا النووي عن جينات مكبوتة منذ فترة طويلة لا نزال نحملها (كأن ينمو لأحد البشر ذيل على سبيل المثال، انظر الفصل الحادي والعشرين).

منذ عشرينيات القرن الماضي، يزعم العديد من علماء الأحياء والأنثروبولوجيا أن الكثير مما يميزنا عن الشمبانزي هو ظاهرةٌ معروفةٌ في الطبيعة تُسمَّى استدامة مرحلة الطفولة (بالإنجليزية neoteny، وتعني حرفيًّا «التمسك بالشباب»). فالعديد من الحيوانات في الطبيعة تجد طرقًا للتكاثر وإنجاب ذرية، بينما لا تزال أجسادها في بنيتها اليافعة. بعض أنواع السلمندر المعروف باسم عفريت الماء على سبيل المثال (جنس سلمندر الخُلد)، الذي يعيش في بحيرات المكسيك؛ تستطيع التكاثر بينما لا تزال لديها الخياشيم التي تتنفس بها وهي يافعة. لكن إذا فسدت مياه البحيرة أو جفت، يُكمِل هذا النوع نموه ليصل إلى مرحلة البلوغ، وتفقد السلمندرات خياشيمها وتطور رئتين، ثم تزحف إلى أي بركةٍ أخرى. إن القدرة على تغيير توقيت التكاثر بالنسبة للنماء تمنح الحيوانات مرونةً كبيرةً للاستفادة من تعليماتها الجينية الحالية، دون الحاجة إلى إجراء تغيير جيني أو تطوري جذري.
إذا نظرت إلى شمبانزي يافع (الشكل ٢٢-١(أ))، فستجد أن جمجمته شديدة الشبه بجمجمة الإنسان، حيث يمتلك دماغًا كبيرًا، وأقواسًا حاجبية صغيرة، وخطمًا قصيرًا، ووضعية منتصبة. وفي أثناء نموه إلى فرد بالغ (شكل ٢٢-١(ب))، ينمو للشمبانزي خطم أكبر بأنياب طويلة، وأقواس حاجبية كبيرة، ووضعية للرأس متراخية للأمام. إذا قامت الجينات التنظيمية بتعديل نمونا الجنيني قليلًا، فإن معظم الخصائص التي تميزنا كبشر يمكن التعبير عنها فقط بأن نبقى قردة يافعة، نصل إلى مرحلة النضج الجنسي دون أن نكبر حقًّا.
fig104
شكل ٢٢-١: استدامة المرحلة الطفولية في القردة والبشر. (أ) لدى الشمبانزي اليافع العديد من الخصائص الموجودة في البشر البالغين، بما في ذلك الوضعية المنتصبة، والدماغ الكبير نسبيًّا، والأقواس الحاجبية الصغيرة، والخطم الأقصر. (ب) خلال نمو الشمبانزيات، تصبح هذه الصفات أكثر شبهًا بصفات القردة. منذ عشرينيات القرن الماضي، ذهب العديد من علماء الأنثروبولوجيا إلى أن الكثير مما يجعلنا بشرًا هو الاحتفاظ بخصائص القرد اليافع إلى البلوغ. (من أدولف نايف، «عن أنماط الجسد البشري وتاريخ تطور السلالات للجمجمة البشرية»، «ناتورفيسينشافتن» ١٤، [١٩٢٦]: ٤٤٥–٤٥٢)

ربما اطَّلعت على بعض الكتب الرائعة التي كتبها ألدوس هكسلي، الروائي ومؤلف رواية الديستوبيا الكلاسيكية «عالم جديد شجاع». لقد كان شقيقه عالم الأحياء التطوري الشهير جوليان هكسلي، وكلاهما حفيدا أكبر مناصري داروين، توماس هنري هكسلي. متأثرًا بأخيه، كان ألدوس على دراية جيدة بهذه الأفكار المتعلقة باستدامة المرحلة الطفولية للإنسان. وفي عام ١٩٣٩ في روايته «بعد عدد فصول صيف عديدة تموت البجعة»، استكشف ألدوس هكسلي فكرة الخلود والرغبة البشرية في إيجاد طريقة لإطالة الحياة إلى ما هو أبعد مما اعتزمته الطبيعة. الشخصية الرئيسية في هذه الرواية هي المليونير جو ستويت (مستوحًى من إمبراطور الصحافة الأسطوري ويليام راندولف هيرست، الذي الْتقى به هكسلي عندما كان كاتب سيناريو في هوليوود في عشرينيات القرن الماضي)، الذي يحاول شراء الحياة الأبدية من خلال توظيف شخصية «العالم المجنون» الكلاسيكية، دكتور أوبيسبو، لإجراء أبحاث عن تأخير الشيخوخة وإطالة العمر. يكتشف أوبيسبو أن إيرل جونيستر الثالث في إنجلترا قد عاش عدة قرون، دون أي علامات على تقدم في العمر، على ما يبدو عن طريق تناول أحشاء سمك الشبوط. وقد أظهرت السجلات الأرشيفية أنه أنجب أطفالًا عندما كان عمره أكثر من ١٠٠ عام. يحدث تغير مفاجئ في حبكة القصة، ويغتصب أوبيسبو عشيقة المليونير (على غرار عشيقة هيرست الحقيقية، الممثلة ماريون ديفيز)، وقتل المليونير مساعد أوبيسبو العلمي بالخطأ في فورة من غضب الغيرة. تعيَّن على ستويت وأوبيسبو الفرار من العدالة؛ لذلك هربوا إلى إنجلترا محاولين اكتشاف ما حدث لإيرل جونيستر الثالث. وأخيرًا، اقتحموا قلعته ووجدوه في القبو، وهو لا يزال على قيد الحياة ويبلغ من العمر ٢٠١ عام، وقد أصبح قردًا بالغًا.

قراءات إضافية

  • Diamond, Jared, The Third Chimpanzee: The Evolution and Future of the Human Animal, New York: HarperCollins, 1992.
  • Harris, Eugene E., Ancestors in Our Genome: The New Science of Human Evolution, Oxford: Oxford University Press, 2015.
  • Jurmain, Robert, Lynn Kilgore, Wenda Trevathan, Russell L. Ciochon, and Eric Bartelink, Introduction to Physical Anthropology, 15th ed., New York: Cengage Learning, 2017.
  • Lewin, Roger and Robert A. Foley, Principles of Human Evolution, 2nd ed., Malden, Mass.: Wiley-Blackwell, 2003.
  • Marks, Jonathan, Human Biodiversity: Genes, Race, and History, London: Routledge, 2017.
  • ______, What It Means to Be 98 percent Chimpanzee: Apes, People, and Their Genes, Berkeley: University of California Press, 2002.
  • Potts, Richard, and Christopher Sloan, What Does It Mean to Be Human? Washington, D.C.: National Geographic, 2010.
  • Reich, David, Who We Are and How We Got Here: Ancient DNA and the New Science of theHuman Past, New York: Pantheon, 2018.
  • Roberts, Alice, Evolution: The Human Story, London: DK Books, 2018.
  • Rutherford, Adam, A Brief History of Everyone Who Ever Lived: The Human Story Retold through Our Genes, New York: The Experiment LLC, 2016.
  • Shipman, Pat, The Animal Connection: A New Perspective on What Makes Us Human, New York: Norton, 2011.
  • Sibley, Charles G., and Jon E. Ahlquist, “The Phylogeny of Hominoid Primates, as Indicated by DNA-DNA Hybridization,” Journal of Molecular Evolution 20 (1984): 2–15.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤