الفصل الخامس

نسيج الحياة

إن الرجل الذي قال إن الأرض تحيا يعيش في بيئة رعوية في ريف إنجلترا. ثمة طاحونة قديمة بجوارها كوخ مسقوف بألواح الأردواز داخل زقاق ريفي صغير في قلب مقاطعة ديفون، وفيه يعيش جيمس لافلوك مع زوجته الثانية وأصغر أبنائه، المصاب بإعاقة معتدلة. من حولهم يمتد ٣٠ فدانًا تكسوها الأشجار. إنها الأرض في أقصى صورها الطبيعية.

حين كان لافلوك صغيرًا كان الريف مكانًا مقدسًا. لقد نشأ في أسرة فقيرة عاملة في جنوب لندن، وقضى والده ستة أشهر في السجن في شبابه لسرقته أرنبًا لتحسين نظامه الغذائي الفقير. كانت أمه من أوائل المناصرين لحقوق المرأة. وقام على تربيته جده وجدته. في المدرسة كان طالبًا شارد الذهن يعاني صعوبة القراءة ويهتم بالمزاح أكثر من الواجب المنزلي، وكان ينغمس لأيام متواصلة في العوالم الخيالية للكاتبَيْن جول فيرن وهربرت جورج ويلز، لكن حين اصطحبه والده في نزهات ريفية طويلة للهروب من سخام لندن ودخانها، بدلت هذه التجربة حاله؛ حينئذٍ قال إنه رأى وجه ربة الأرض «جايا» لأول مرة.

كان لافلوك واحدًا ممن بدءوا الحركة البيئية، وهو يعمل على طاولة المطبخ في منزله عام ١٩٥٧ اخترع جهازًا صغيرًا يمكنه أن يقيس التركيزات الدقيقة للمواد الكيميائية والمواد الملوثة في الهواء. وبعد مرور خمسة أعوام حذَّرت العالمة راشيل كارسون من الاستخدام الضار للمبيدات في كتابها الأول من نوعه الذي حمل عنوان «الربيع الصامت»، وسرعان ما اسْتُخْدِم جهاز لافلوك في توثيق ادعاءات كارسون بالبيانات الرقمية وإيضاح كيف يمكن مثلًا لأحد المصانع في اليابان أن يؤثر على جودة الهواء في أوروبا.

طرأت فكرة الربة جايا في ذهن لافلوك في أعقاب أزمة نفسية عاناها في منتصف عمره. كان في منتصف الأربعينيات يؤدي وظيفة راتبها يسدد له الفواتير، لكنها تشعره بالملل. كان له أربعة أبناء، يعاني أحدهم عيبًا خلقيًّا، وأم خَرِفة طاعنة في السن. كان يدخن ويشرب الكحوليات ولم يكن سعيدًا؛ لذا حين تلقى دعوة مفاجئة إلى مختبر الدفع النفَّاث في كاليفورنيا للعمل على مجسات كوكبية، قَبِل الدعوة بشغف.

كان العلماء في مختبر الدفع النفَّاث يصممون آلات من أجل مهام السفينتين «فايكنج» المقرر هبوطهما على كوكب المريخ والتحقق من وجود حياة عليه. كانت خطتهم هي حفر التربة والتحقق من احتوائها على بكتيريا، لكن ثمة فكرة راودت لافلوك، وهي: لِمَ لا يتم اختبار الغلاف الجوي بدلًا من ذلك؟ إن كانت هناك حياة، فستستخدم المواد الخام في الغلاف الجوي وتفرز مخلفاتها فيه مجددًا، كما هو الحال مع الحياة على سطح الأرض، ومن السهل التحقق من انعدام التوازن الناتج عن الحياة. إن وجهة النظر المختلفة هذه جعلته يفكر في الكوكب الذي يعيش عليه بطريقة جديدة، فحين يُنظر إلى سطح الأرض من بعيد يبدو مزخرفًا بالحياة، لكن الحياة تحقق توازنًا مع الغلاف الجوي. كانت رؤيته تتمثل في طرح أسئلة عن الغلاف الجوي لم يسبق لأحد أن طرحها.

نحن جميعًا نستنشق من الغلاف الجوي أول نفس لنا يبقينا على الحياة، ثم نعتبره أمرًا مسلمًا به بقية حياتنا. نحن نثق في أنه لن يتغير قدر ثقتنا في شروق الشمس وغروبها. إنه نافذة مثالية من الزجاج الملون نطل منها على العالم، لكنه أيضًا مزيج من الغازات غير المألوفة القابلة للاشتعال. إن الفكرة التي استنار بها ذهن لافلوك عام ١٩٦٥ هي أن الهواء الذي نتنفسه يحتفظ بنفس تركيبته، ومن ثم لا بد من وجود شيء ما يعمل على تنظيمه؛ وذلك الشيء هو الحياة.

***

(١) الأرض غير المستقرة

(١-١) كوكب يعجُّ بالنشاط

افترض أن حضارة غريبة من خارج الأرض تقوم بدوريات في منطقتنا في المجرة، مستعينة بمجسات حساسة مصمَّمة للتحقق من الحياة بأشكالها المتنوعة. ثمة آلاف من الحراس الآليين البالغي الصغر الذين يهيمون في المجموعة الشمسية ليهبطوا على كل هدف مقبول ظاهريًّا ثم يرسلوا تحليلهم مرة أخرى بسرعة الضوء. تخيل أن هناك مائة مجسٍّ بالضبط مستقرين في مواضع عشوائية على الأرض كمطر معدني خفيف، ما الذي سيعثرون عليه؟

حوالي ٧٠ منها ستهبط على المحيطات. قد تجد آلاتهم مليار خلية في كل لتر نموذجي من المياه المالحة يضم أكثر من ٢٠ ألف نوع من البكتيريا، وقد تحمل ملعقة المياه المالحة الصغيرة من الحمض النووي ما يزيد عن مجموع الجينوم البشري بأسره، وسيهبط تسعة منها تقريبًا على الأراضي العشبية وتأخذ عينات من مئات الأنواع من النبات والحيوان، وسبعة منها ستهبط في الصحاري التي تضم عددًا قليلًا من الحيوانات، لكنها تحوي عددًا هائلًا من النباتات ومئات الأنواع من البكتيريا. وقد يُدعى الحراس الستة الذين هبطوا في الغابة الاستوائية إلى وجبة من التنوع الحيوي: إذ سيرون ٥٠٪ من الأنواع الموجودة بالكوكب ومئات الأنواع المختلفة من الحيوانات والنباتات، وسيهبط أربعة منها في غطاء التندرا القطبي الذي يحوي عددًا قليلًا من الحيوانات لكنه يضم العديد من النباتات والأشنة والطحالب والبكتيريا، وسيهبط حوالي ثلاثة على الجليد أو في مناطق كساها الجليد، وحتى هناك قد يكشف المشهد المتجمد عن آثار لظواهر وعمليات بيولوجية؛ فالبكتيريا تكون نشطة في جليد القطب الجنوبي عند درجة حرارة −٢٠ مئوية (−٤ فهرنهايت).

قد تنجح المجسات في مهمتها سواء أتمكَّنتْ من رؤيتنا أم لا. في زمان شكسبير، كانت لندن المدينة الوحيدة التي تضم مليون نسمة؛ في حين يزيد عدد هذه المدن الآن عن ٤٠٠ مدينة، ونصف سكان العالم يعيشون في مناطق حضرية، ويشغل كل كيلومتر مربع منها أكثر من ٤٠ شخصًا، لكنهم يشغلون أقل من نسبة ٥٪ من مساحة اليابسة؛ لذا قد يستطيع مجسٌّ واحد من بين ١٠٠ مجس في المتوسط أن يرى أثرًا واضحًا لحياة ذكية. لا مشكلة في ذلك؛ فالمجسات الأخرى البالغ عددها ٩٩ مجسًّا قد تتحقق من وجود مخلوقات كبيرة وصغيرة ومجهرية؛ لأن الحياة تحكم قبضتها على الكوكب كالحمى.١

يدعم التاريخ المبكر للأرض فكرة استمرارية الحياة ودوامها. لقد محا النشاط البركاني وتكتونيات الصفائح معظم الأدلة المتبقية من أول ٧٠٠ مليون عام بعد تشكُّل الأرض؛ الفترة التي يطلق عليها دهر الهاديان، فالسخونة والضغط يغيِّران من طبيعة الصخور، وأيضًا يمحوان الدليل الدقيق على الحياة الميكروبية؛ لذا لم تخلِّف هذه المرحلة المبكرة من الأدلة سوى القليل للغاية. إن أمسكت بصخرة، بصرف النظر عن مكانك على الأرض، فالأغلب أن يبلغ عمرها على أكثر تقدير مائة أو مائتي مليون عام. يذهب علماء الجيولوجيا إلى أماكن قليلة خاصة للبحث عن صخور بدائية ثم يبحثون عن الحياة القديمة داخلها.

تأتي أقدم عينات صخرية لا جدال بشأن عمرها من تكوين بركاني بالقرب من نهر أكاستا في الأقاليم الشمالية الغربية بكندا، حيث يبلغ عمر النتوء الصخري ٤ مليارات عام، وعُثر حديثًا على صخور يصل عمرها إلى ٤٫٣ مليارات عام في منطقة قريبة بشمال كندا. وتأتي أقدم صخور تحمل دليلًا لا جدال بشأنه على الحياة من غربي أستراليا: من «جحور» حفريات الميكروبات التي تبلغ من العمر ٣٫٣٥ مليارات عام، ومستعمرات لحفريات الميكروبات يطلق عليها اسم الرقائق الكلسية الطحلبية ويبلغ عمرها ٣٫٥ مليارات عام.

قبل ذلك يكتنف الأمر الغموض، وذلك بسبب صعوبة تفسير الأدلة المادية المحدودة. كان من المعتقد أن دهر الهاديان يطابق الرؤية المسيحية للجحيم كمكان للنار وأحجار الكبريت الحارق، وكان من المعتقد أيضًا أن الماء ظهر بالأساس في نهاية حقبة القصف من قِبل الكويكبات والنيازك، وأن الحياة لم يكن بالإمكان أن تبدأ قبل انتهاء هذه الفوضى؛ أي منذ حوالي ٣٫٨ مليارات عام، لكن الأبحاث التي أُجريت حديثًا تشير إلى أن الأرض في المليار الأول لها كانت أشبه بالعالم السفلي في الأساطير الإغريقية: مكان بارد ضبابي كئيب. إليك ما نعتقد أننا نعلمه:

تشكَّلت الأرض منذ ٤٫٥٥ مليارات عام، وكان النشاط المبكر شديدًا؛ ففي غضون ٣٠ مليون عام — أي نسبة ٠٫٥٪ من حياة كوكبنا الناشئ — جرى تجميع كوكب الأرض بالكامل مثلما تتجمَّع حبيبات التراب لتشكل صخورًا صغيرة، ثم صخورًا بحجم الجبال، ثم تجمَّعت تلك الأجزاء الكبيرة بفعل الجاذبية في كوكب ضخم مصهور بالحرارة، ثم تمايزت الصخور إلى طبقات لتشكل الوشاح، ثم ارتطم جسم يماثل المريخ في حجمه بالكوكب الوليد لتنفصل عنه كتلة شكلت القمر. رائع!

حصلنا على رؤى مذهلة من أقدم المواد التي عُثر عليها على الأرض، ليس الصخور بل بلورات الزركون شديدة الصغر الآتية من غربي أستراليا. تبلغ أقدم عينة قرابة ٤٫٤ مليارات عام، والكثير منها يزيد في عمره عن ٤٫٢ مليارات عام. وتشير المعادن الموجودة داخل البلورات إلى عالم رطب ذي قشرة صلبة تحدث فيه عمليات إعادة تجميع للصخور.٢ ولأن الشمس كانت أكثر إعتامًا آنذاك بنسبة ٣٠٪ فالأرض كانت باردة، وربما كانت أجزاء منها مغطاة بالجليد. في ضوء هذه الصورة الجديدة، من المقنع أن تكون الحياة بدأت في غضون مائة مليون عام فحسب من التشكُّل؛ أي قبل مليار عام من عمر أول دليل متاح لنا.
لم تكن الرحلة سلسة بعد ذلك؛ فعبر النصف مليار عام التالي قابَل الكوكب مجموعة من الاصطدامات، وكانت الكواكب الخارجية تتخذ مواضعها الحالية مرسلة موجة من الكويكبات في مدارات متقاطعة مع الأرض. تشير العمليات الحسابية التي أجراها العالم الجيوفيزيائي نورم سليب بجامعة ستانفورد إلى أننا تعرضنا لاصطدام أكثر من عشرة أجرام، يبلغ قطر الواحد منها ١٥٠ كيلومترًا. بلغ قطر ثلاثة أو أربعة أجرام قرابة ٣٠٠ كيلومتر، وكانت الارتطامات عنيفة لدرجة تكفي للتسبب في غليان معظم المحيطات. بعد كل واحد من هذه الارتطامات الهائلة كان الغلاف الجوي يمتلئ بالضباب والأبخرة المتصاعدة من الصخور، وكانت عودة المحيطات إلى مستوياتها العادية تستغرق آلاف الأعوام (الشكل ٥-١). لا يتفق علماء الجيولوجيا على حجم الاصطدام «الماحي للحياة»، لكن حتى في أعمق أجزاء المحيط أو داخل القشرة الأرضية لم تكن الحياة لتبقى في وجه الدمار الذي جلبته الاصطدامات الأكبر حجمًا.

ما دامت الأرض تمتعت طيلة ٩٥٪ على الأقل من تاريخها بغلاف حيوي ينتشر في كل حدب وصوب، فيبدو إذن أن الحياة البيولوجية هي حالة طبيعية للكوكب. وهذا يقودنا إلى سؤال مهم: كيف بدأت الحياة؟

(١-٢) شيء نشأ من نذر يسير

تبدو آليات العمل الداخلية لأبسط الخلايا معقدة وعميقة للغاية؛ لذا لا عجب أن الأشخاص الذين لم يحظوا بتدريب في مجال علم الأحياء يركنون بسعادة إلى مدارس التصميم الذكي والمدارس الخلقوية. لم ينشأ المحيط الحيوي من العدم، بل خُلق من نذر يسير من أشكال بسيطة للمادة الجامدة. والسؤال: كيف بدأت الحياة؟ يستدعي أولًا طرح السؤال: ما الحياة؟ ثم سؤالًا أعمق يكمن وراءه هو: لِمَ الحياة؟

fig23
شكل ٥-١: معدل الاصطدام على مدار أول مليارَيْ عام من تاريخ الأرض. يوضح المنحنى المتقطع انخفاضًا أسيًّا في ثلاث مراحل، مع انخفاض معدل الاصطدام بنسبة ٥٠٪ (T1/2) منذ ١٠ و٢٢ و٨٠ مليون عام. يوضح المنحنى المتصل النموذج المفضل لانخفاض سريع للغاية تبعته حقبة القصف المتأخر. يدعم الدليل على وجود الماء في بلورات الزركون من تلال جاك في غربي أستراليا فكرة وجود مناخ بارد ملائم على كوكب الأرض بعد ٢٠٠ مليون عام على تشكله. الجزء السفلي من الرسم مقاس بمليارات الأعوام. (John Valley, University of Wisconsin-Madison)
آمن الناس طيلة ما يزيد عن ٢٠٠٠ عام بأن الحياة نشأت تلقائيًّا وبصورة روتينية من مادة جامدة. اعتقد أرسطو أنها حقيقة بديهية أن تنشأ اليرقات من اللحم الفاسد، والفئران من القش، والطيور من الأشجار، والقمل من العرق، والتماسيح من الأخشاب المتعفنة. كذَّبت التجارب البسيطة التي أُجريت في منتصف القرن السابع عشر وجهة النظر تلك، وفي النهاية جرى تفنيدها حين قدَّم باستير الدليل على النظرية الجرثومية وفكرة أن الكائنات الحية تنمو من كائنات حية أخرى. وفي منتصف القرن التاسع عشر فسَّر باستير عمليتَي توالد وتطور الكائنات الدقيقة، وفسَّر داروين عمليتَي التوالد والتطور المماثلتين لدى الكائنات الحية، لكن لا تزال هناك حاجة إلى التساؤل عن كيفية تحول المادة الجامدة إلى حياة في المقام الأول.٣

تُنسب الأبحاث المتعلقة بأصل الحياة للعلم التاريخي لا للعلم التجريبي. ثمة آثار مباشرة قليلة خلَّفها أول مليار عام من تطور الأرض، ومن الصعب الوصول إلى علامات بيولوجية دقيقة من صخور خضعت بالفعل للتشويه الكامل. ومن المدهش أن يكون لدينا نظريات قابلة للاختبار من الأساس في ضوء الأحداث المذهلة التي حوَّلت المعدن إلى عضلات، والطين إلى قناع تمويهي، والبكتيريا إلى تغريد للعصافير، والجزيئات البسيطة إلى السلم الحلزوني المرتفع للحمض النووي.

تحاشى داروين القضية في كتابه «أصل الأنواع»، لكن في خطاب أرسله إلى زميل له عام ١٨٧١ اقترح أن الحياة ربما بدأت «في بِركة صغيرة دافئة تحوي كل أنواع الأمونيا وأملاح الفوسفوريك والضوء والحرارة والكهرباء وغيرها، وهكذا تشكَّل مركب بروتيني كيميائي جاهز للخضوع لتغييرات أخرى أكثر تعقيدًا». وفي عشرينيات القرن العشرين طوَّر كل من عالم الكيمياء الحيوية الروسي ألكسندر أوبارين وعالم الأحياء التطورية البريطاني جون هالدين فكرة «الحساء البدائي»، وهي تذهب إلى أنه يمكن لجزيئات عضوية صغيرة أن تصير أكثر تعقيدًا في المحيطات البدائية دون توفر الأكسجين، لكن بمساعدة ضوء الشمس. اختبر الكيميائي الأمريكي هارولد يوري وتلميذه ستانلي ميلر فرضية أوبارين وهالدين عام ١٩٥٢ بواسطة التجربة التقليدية التي حملت اسم «الحياة في زجاجة»، وفيها تفاعلت المكونات الكيميائية وظروف الطاقة المميزة لأول مليار عام من عمر الأرض في قارورة مغلقة. لم تنتج أي حياة، لكن نتج الكثير من الوحدات البنائية الأساسية. وفي تطور حديث ممتع أعيد تحليل واحدة من تجاربهما التي لم تُنشر، ووُجد أن القارورة التي جرى فيها تصميم الظروف بحيث تحاكي انفجارًا بركانيًّا قد احتوت على نحو مفاجئ على ٢٢ حمضًا أمينيًّا.

متى بدأت الحياة؟ ربما بدأت الحياة على سطح الأرض منذ وقت بعيد يصل إلى ٤٫٢ أو حتى ٤٫٤ مليارات عام، لكنها كانت تختفي على الفور بسبب الارتطامات. ربما وقعت «الارتطامات المثبطة» للظواهر والعمليات البيولوجية عدة مرات. تُظهر الصخور الواردة من التكوين الصخري إيسوا في جرينلاند معدلَ امتصاص للكربون المشع يشير إلى وجود آلية أيض كانت قيد العمل منذ ٣٫٨٥ مليارات عام؛ أي بعد نهاية حقبة القصف الشديد مباشرة. ليس هذا الدليل حاسمًا. ومستعمرات البكتيريا المرصودة في سجل الحفريات لم تظهر إلا بعد مرور ٣٠٠ مليون عام على ذلك الوقت. كان بمقدور الحياة التي نشأت بالقرب من الشقوق البركانية في أعماق المحيطات أن تنجو من الارتطامات، لكن ثمة مشكلة في الاستمرارية؛ إذ إن الشقوق الحرارية المائية ليست بيئات مستقرة طويلة الأجل؛ فهي تظهر وتختفي، وليس بوسع الحياة أن تنتقل بسهولة من واحدة لأخرى.٤
قد لا يمثل الوقت مشكلةً؛ لأن الانتقال من الحساء البدائي إلى الكائنات البسيطة كان يمكن أن يحدث بصورة سريعة. أشارت دراسة أجراها كلٌّ من عالم الأحياء المكسيكي أنطونيو لازكانو وستانلي ميلر إلى أن النظم المتناسخة ذاتيًّا القادرة على التطور الدارويني يمكن أن تنشأ في أقل من مليون عام،٥ وربما تطورت البكتيريا الزرقاء البدائية بمعدل تضاعف جيني يبلغ واحدًا لكل ألف عام. يعني ذلك أن الانتقال من الحساء البدائي إلى الجراثيم قد يستغرق أقل من ١٠ ملايين عام.
ما من نظرية واحدة مقبولة تفسر كيف بدأت الحياة. انتهجت بعض المجموعات — كتلك التي يقودها كريج فينتر في «معهد أبحاث الجينوم» — منهجًا تنازليًّا على سبيل التجربة؛ إذ تجري هندسة الخلايا بدائية النوى لتحوي عددًا أقل وأقل من الجينات، حتى الوصول إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة.٦ تستخدم مجموعات أخرى — كتلك التي يقودها جاك زوستاك بجامعة هارفارد — منهجًا تصاعديًّا؛ بحيث تحاول تركيب خلايا بدائية من مكونات أبسط.

في الانتقال من انعدام الحياة إلى الحياة، يبدو أن أصعب خطوة هي تحويل الوحدات البنائية العضوية البسيطة إلى مركبات كيميائية (بوليمرات) ثم إلى بنى معقدة تتفاعل على نحو متسق كي تشكل خلية بدائية. كمثال على المشكلات التي قوبلت في هذا البحث، يعد الماء مادة مذيبة مفيدة؛ إذ يعمل على إذابة ونقل المواد الكيميائية التي تنفذ العديد من الوظائف البيولوجية. لكن الماء يعمل أيضًا على تفتيت البوليمرات بدلًا من بنائها، وهو ما يعيق تكوين البنى الأعقد. وثمة مسألة أخرى دائمة وهي أن الخلايا الحديثة تتطلب العمل التعاوني للبروتينات والأحماض النووية، ولا يمكنها أن تعمل دون أي منهما. كيف نعلم إذن أيًّا منهما جاء أولًا؟

يعتقد الكثير من علماء الأحياء أن جزيء الحمض الريبي النووي (الرنا) المرن والناقل للمعلومات سبق الحمض النووي (الدنا) في الوجود. نتيجة لذلك أجري بحث على ما يُطلق عليه اسم فرضية «عالم الحمض الريبي النووي»؛ المقصود به الوقت الافتراضي السابق على تكوُّن الخلايا الأولى حين عملت الخيوط القصيرة للحمض الريبي النووي (أو حتى لحمض ذي صلة أكثر بدائية) على تحفيز عملية تناسخها، فالنمو يمكن أن يحدث في الطمي أو أسطح معدن البيريت أو ضمن كريات ميكروية دهنية تتشكل تلقائيًّا. أظهرت الأبحاث أن الانتخاب الدارويني يعمل في البنى ذاتية التحفيز؛ بهدف التفوق على الجزيئات الأقل فائدة. فكِّر فيها وكأنها آلات مصنوعة من مكعبات الليجو وقادرة على أن تضيف إلى نفسها، ثم تتنافس الآلات الناتجة في حلبة واحدة ولا يظل منها على قيد الحياة سوى أكثرها كفاءة أو قوة.

الوقت وحده هو ما سيخبرنا هل قصة عالم الحمض الريبي النووي «خيالية» أم أنها سيناريو مقنع عن الكيفية التي بدأت بها الحياة؟ في تلك الأثناء ثمة أفكار أخرى جديدة مطروحة؛ ففرضية «عالم الحديد والكبريت» للعالم جونتر فاخترشاوسر تذهب إلى أن الأيض يسبق الوراثة في الوجود. الفكرة الأساسية في نموذجه هي أن التعقيد الكيميائي الحيوي لا يتزايد في المحيطات المفتوحة، وإنما في الشقوق الحرارية المائية. هل تريد أن تعرف وصفة للحياة؟ اغْلِ الماء، قلِّب فيه كبريتيد الحديد، أضف غاز أول أكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين، وانتظر حتى تتكون البروتينات والأحماض الأمينية.

حظي نموذجه حديثًا بقوة دافعة مصدرها الباحثون الذين يرون أن الخلايا الأولى لم تكن حية، وإنما كانت خلايا غير عضوية مكونة من كبريتيد الحديد الذي تشكَّل في الظلام الدامس لقاع المحيطات، فالتجويفات الصغيرة قرب الشقوق الحرارية المائية يمكن أن تعمل كحاويات للتفاعلات الكيميائية، بحيث تركز المكونات لكن مع تدفق ثابت للسائل الحراري المائي من خلالها. بالإضافة إلى ذلك توصَّل كلٌّ من روبرت هازين، عالم الجيولوجيا بمؤسسة كارنيجي، وديفيد ديمر، الكيميائي بجامعة كاليفورنيا بسانتا كروز، إلى أنه عند تعريض محلول البيروفات المائي لظروف مماثلة لتلك بالقرب من أحد الشقوق الحرارية المائية يمكن لحويصلات مشابهة للخلايا أن تتشكل تلقائيًّا (الشكل ٥-٢). والبيروفات مركَّب مهم في الكيمياء الحيوية؛ إذ يوجد عند تقاطع شبكة من المسارات الأيضية. ربما كانت الكائنات المتصاعدة من الفتحات البركانية «آخر أسلافنا المشتركين»، وهذا الغشاء مكَّن هذه الخلايا البدائية من أن تترك كهوفها.

(١-٣) الحياة على الحافة

تخيل أنك تقفز في حمام سباحة بارد لطيف في أحد أيام الصيف الدافئة، بعد ذلك تخيل أن هذا الحمام ممتلئ بماء يقترب من درجة الغليان أو يزيد بالكاد على درجة التجميد. الآن تخيل أن الحمام كان ممتلئًا بالخل أو غاز الأمونيا المخصص للاستخدام المنزلي أو أحد منظفات مصارف المياه أو حمض البطارية. في كل الحالات عدا الحالة الأولى ستكون في مأزق في غضون ثوانٍ، وستلقى حتفك بعد وقت قصير. لكن هناك كائنات دقيقة لا يمكنها فحسب أن تتحمل كل ظرف من هذه الظروف، وإنما يمكنها أيضًا أن تنمو بازدهار فيها. يُطلق على هذه الكائنات متناهية الصغر اسم «كائنات البيئات القاسية»، وقد تحدت هذه الكائنات افتراضاتنا بشأن الظروف التي يمكن للكائنات الحية أن تعيش فيها على سطح هذا الكوكب.

fig24
شكل ٥-٢: حين يتعرض محلول مائي يحوي مركب البيروفات — ذا الأهمية الكبيرة في الكيمياء الحيوية — لدرجة حرارة وضغط مرتفعين، كما هو معتاد في الشقوق الحرارية المائية، تتشكل أغشية وتنتظم تلقائيًّا على شكل حاويات تشبه الخلايا. (Robert Hazen and David Deamer, NASA Astrobiology Institute and Carnegie Institution of Washington)

يتسم كريس ماكاي بأنه شخص ودود واجتماعي، لكنه كل عام يغامر إلى أقصى درجة ممكنة بعيدًا عن أي بشر من أجل البحث عن الحياة في أبعد الأماكن المحتمل وجود حياة فيها، وملاذه المفضل كل من سيبيريا وصحراء أتاكاما في شيلي والأودية المرتفعة في القطب الجنوبي. هذا العالِم القوي البنية المتخصص في علم الأحياء الفلكي يبحث بعناد عن الحياة في الأماكن الباردة والقاحلة؛ لأنه يريد أن يجد صورًا مناظِرةً للمريخ على الأرض، فهو يريد أن يعرف ما تخبرنا به حدود الحياة على الأرض عن أفضل استراتيجيات العثور على أشكال الحياة على الكوكب الأحمر.

ينطلق الفريق الذي يعمل مع ماكاي سنويًّا إلى مدينة أنتوفاجاستا الساحلية شمال شيلي ويقودون سيارتهم لساعات عدة وصولًا إلى سهل مرتفع يحظى بحماية مزدوجة من المطر؛ إذ تحميه الجبال الساحلية الواقعة غربًا والقمم البركانية لجبال الأنديز شرقًا. وبعد مرورهم بقرية يانجاي المهجورة يبدو المشهد قاحلًا تمامًا، وأشعة الشمس تلفح الصخور الخشنة والأهوار الجافة. ثمة أماكن لم يُسجَّل بها أي سقوط للأمطار قط، ومع ذلك، لو نظرت عن كثب فستجد حياة؛ بقعًا من الأشنة ومناطق متفرقة تكسوها نباتات الصحراء، بل توجد حتى حشرات صغيرة تعدو مسرعة في الرمال. لكن بالمثابرة الكبيرة، توصل ماكاي إلى عدة أماكن قاحلة بحق. وعن هذا يعلق قائلًا: «في أكثر أجزاء صحراء أتاكاما جفافًا وجدنا أنه لو هبطت مركبة «فايكنج» هناك بدلًا من أن تهبط على كوكب المريخ وأجرت التجارب نفسها بالضبط لكان البحث قد توقف.»٧

في الوقت ذاته، تفضِّل ديانا نورثاب وفريقها البحث عن أشكال الحياة في الأماكن المظلمة والضيقة، وهم لا يمانعون التعرض للوحل اللزج والغازات السامة. تعمل ديانا إخصائية ميكروبيولوجي، وهي من مستكشفي الكهوف، وقد اكتشفت حياة وافرة على عمق ٣٠٠ متر تحت السطح في الظلام الدامس. شأن قاع المحيط، ليست الكهوف أماكن معزولة تمامًا؛ إذ تجد بعض المواد العضوية والمياه سبيلها إليها. والعديد من الجراثيم التي تجدها ديانا من العتائق، وهي أقرب الفروع إلى جذر شجرة الحياة. ذلك يجعلها من الأمثلة الحديثة لأول أشكال الحياة على كوكب الأرض.

في المكسيك، تدخل نورثاب وزملاؤها إلى عالم غريب تعيش فيه الكائنات على كبريتيد الهيدروجين والمواد الكيميائية المؤذية الأخرى. تقول: «بعض الكائنات التي أراها لها زوائد طويلة؛ تبدو كحيوانات منوية عملاقة، وبعضها يبدو كحبال مجدولة. إنها مثيرة للاهتمام حقًّا. والأشياء التي تنتجها مذهلة على نحو لا يصدق، يمكنني قول الكثير عن المادة اللزجة الزرقاء والكرات اللزجة و«مستعمرات كائنات البيئات القاسية»، وهي الرواسب الكلسية البكتيرية اللزجة الموجودة في كهف بيا لوث.» لكن الأمر لا يخلو من المخاطر؛ ففي حديثها عن هذا الكهف، وهو مكانها المفضل، تسترجع ذكرياتها قائلةً: «يوجد ثاني أكسيد الكربون بمستويات عالية، وهناك فورمالدهيد وثاني أكسيد الكبريت وأشياء أخرى لا تحمينا منها أقنعتنا. وبالطبع يمكن لكبريتيد الهيدروجين أن يفتك بك في ثوانٍ قليلة.»٨

تعيش كائنات البيئات القاسية في درجات حرارة أعلى من نقطة الغليان ودرجات أقل من درجة حرارة تجمد الماء، وفي ماء شديد الملوحة يترسب منه الملح، وتعيش في بيئات شديدة الحمضية وأخرى شديدة القاعدية. يمكن لهذه الميكروبات أن تعيش فوق قمة أكثر الجبال ارتفاعًا أو في أخدود في أعماق المحيط، وتتحمل ضغطًا مقداره ألف ضغط جوي. بعضها يمكنه أن يعيش داخل إحدى الصخور، والبعض الآخر يمكن أن يظل في حالة جفاف وتجمد لعشرات الآلاف من الأعوام. بل يوجد نوع من البكتيريا يمكنه تحمل جرعة إشعاع تفوق بألف ضعف الجرعة القادرة على الفتك بأي بشري سريعًا. بعض الميكروبات تحصد طاقتها من الميثان والكبريت والحديد والكادميوم وحتى الزرنيخ. وهي تقوم بذلك عن طريق تطوير استراتيجيات كيميائية حيوية لحماية آلية التكاثر وتخزين المعلومات في الخلية.

مثل هذه الكائنات الاستثنائية تخبرنا بأن المحيط الحيوي شديد التغلغل والقوة. وباكتشافنا أن الحياة «تملأ» الغطاء البيئي للأرض يمكننا أن نستنبط أنه لو جُعلت تلك الحدود المادية أكثر اتساعًا لأمكن للحياة أن تتكيف مع النطاق الجديد. وسيكون الاستنتاج التالي على هذا هو أن الحياة تشكَّلت، وأنها تزدهر حاليًّا، في مجموعة من البيئات المتنوعة والمتطرفة على نحو مماثل في جميع أنحاء الكون.

(١-٤) المحيط الحيوي الظلي

تفوق الميكروباتُ النباتاتِ والحيواناتِ ليس في عدد الأفراد وحسب، بل في عدد الأنواع أيضًا، وتبخس الأرقام بشدة قدر هيمنتها على المحيط الحيوي؛ لأن نسبة يسيرة للغاية منها فقط هي القادرة على أن تنمو في «الأسر». فنسبة ١٪ منها فقط هي التي يمكن استنباتها من الميكروبات في أي عينة من التربة أو الماء بواسطة التقنيات المعملية؛ بسبب ارتباطها الحميم بنظمها البيئية الفريدة، فالأمر كما لو أننا أخذنا أحد أفراد قبيلة البانتو أو صياد من الإسكيمو ثم ذهبنا به إلى مانهاتن وقلنا له: «اهتم بشئونك!»

رفعت التكنولوجيا حجاب الجهل عن الطبيعة الدقيقة لعالم الميكروبات. وقد تحايل ستيفن كويك، الباحث بمعهد هاوارد هيوز الطبي، على جمود التجهيزات المعملية القياسية بأن اختزل معملًا جينيًّا آليًّا كاملًا إلى حجم يماثل طابع البريد.٩ تقوم أساليبه المعتمدة على علم الموائع الدقيق بعزل الكائن في كمية من السائل تصل إلى نانولتر، وفي هذا المقدار الضئيل يُكبِّر المادة الوراثية لخلية واحدة ويحللها، وبهذا لا يحتاج إلى استخدام أساليب الاستنبات المعملية التقليدية. وفي غضون عامين فحسب جرى استخدام هذا الأسلوب لدراسة العديد من أنواع الميكروبات التي تعيش في أفواهنا البالغ عددها ٧٠٠ نوع. ثمة معمل مصغر آخر قادر على اختبار ٩ آلاف شكل متباين من جين واحد يظهر في كل أنواع البكتيريا، وقد اسْتُخدم ليوضِّح وجود ما يزيد عن ١٨٠٠ نوع من البكتيريا في الهواء. إن المحيط الحيوي يمتد لأعلى مثلما يمتد لأسفل.

نحن نعلم أن الحياة موزعة بسخاء على سطح القشرة الأرضية، وتمتد إلى أماكن تكون فيها القشرة الأرضية مغمورة بالماء، لكن ماذا عن أكثر الأماكن عمقًا؟ كانت كائنات البيئات القاسية التي تعيش داخل الصخور أو بين البلورات المعدنية معروفة لعقود. وهي تستخدم المصادر الكيميائية للطاقة؛ لذا لا تحتاج إلى ضوء الشمس. نحن نعلم القليل للغاية عن الحياة تحت القشرة الأرضية؛ لأن شق الحُفر صعب للغاية؛ استغرق الروس ١٥ عامًا للوصول فحسب إلى ٢٤ كيلومترًا تحت الأرض في مشروع بئر كولا العميق.

تعد بكتيريا ديسولفورودس أوداكسيفاتور مثالًا لما قد نجده بالأعماق (الشكل ٥-٣). اكتُشف هذا النوع من البكتيريا على عمق ٢٫٧٣ كيلومتر أسفل منجم للذهب في جنوب أفريقيا، وسمي باسم رسالةٍ فَكَّ شفرتها بطل إحدى الروايات الشهيرة لجول فيرن: «انزل، أيها المسافر المقدام، وابلغ مركز الأرض.» تستمد بكتيريا ديسولفورودس أوداكسيفاتور طاقتها من تحلل اليورانيوم، وهي تظل حية في الظلام الدامس دون أكسجين وعند درجة حرارة تبلغ ٦٠ درجة مئوية (١٤٠ فهرنهايت). هي الكائن الوحيد الذي عُثر عليه يعيش في عزلة تامة؛ إذ لديه كل ما يحتاج إليه لكي يأكل ويتحرك ويحمي نفسه من الفيروسات ويظل على قيد الحياة في ظروف سيئة التغذية، وكل هذا وعدد جيناته لا يتجاوز ٢٢٠٠ جين. إنه نظام بيئي لكائن وحيد مختفٍ عن ضجيج عالم السطح.
fig25
شكل ٥-٣: تعيش بكتيريا ديسولفورودس أوداكسيفاتور المذهلة عصوية الشكل على عمق أميال تحت الأرض في الظلام الدامس، وتستمد طاقتها من نواتج تحلل اليورانيوم، وتصنع المادة العضوية من الصخور المحيطة بها. وقد اصطفت جيناتها من العتائق القديمة لكي تحمي نفسها من الفيروسات. (NASA Astrobiology Institute and the Indiana-Princeton-Tennessee Team)

في عام ٢٠٠٢، أخذ عالم البيولوجيا الأرضية جون باركز عينات طينية من عمق مشابه أسفل قاع البحر عند ساحل نيوفاوندلاند. احتوت كل عينة على عدد من بدائيات النوى البسيطة. نصف هذه الخلايا كان حيًّا، لكن معدل انقسام خلاياها كان بطيئًا على نحو لا يصدق، وربما يحدث مرة واحدة كل قرن؛ ففي بيئة بها القليل من الحيوانات المفترسة والقليل من الغذاء تنخفض وتيرة الحياة. خمن جون أن عمر هذه الكائنات قد يبلغ ملايين الأعوام، بل ربما تمثل خطًّا متصلًا إلى بداية الحياة؛ لأن هذا المكان من الأماكن التي يمكنها الصمود أمام الارتطامات التي تُحدثها النيازك والكويكبات.

استخدم مشروعٌ آخر، أُطلق عليه اسم «برنامج حفر المحيطات»، عيناتٍ لُبيَّة من أعماق البحار من جميع أنحاء العالم للاستدلال على وجود كم مذهل يصل إلى ٨١ مليار طن متري من الكائنات الميكروبية في المحيط الحيوي العميق. توجد البكتيريا بالقرب من السطح، لكن حوالي ٩٠٪ من هذا المحيط الحيوي الخفي تتكون من العتائق والسلالات البدائية للأشكال الأولى للحياة. في هذه البيئة ثمة «جوعى» يعيشون على البقايا الحفرية للنباتات التي هضمتها أجيال من الكائنات المختلفة. والمنطقة الحيوية الداخلية تنافس المحيط الحيوي التقليدي للسطح في الحجم.

ليست كارول كليلاند قلقة بشأن الميكروبات التي يصعب الحفر للوصول إليها أو يصعب تعيين خرائطها الوراثية، لكنها قلقة بشأن أشكال الحياة التي هي غريبة للغاية لدرجة لا تتيح لنا إدراكها. ولأن كارول فيلسوفة بجامعة كولورادو فقد صاغت عبارة «المحيط الحيوي الظلي» في عام ٢٠٠٥، وألفت كتابًا عن مشكلة تحديد أشكال الحياة والتعرف عليها. إن الشغل الشاغل لها هو وجود «غلاف حيوي ميكروبي يختلف للغاية من حيث التركيب الكيميائي والجزيئي عن الحياة كما نعرفها، بما لا يجعله في وضع تنافس مباشر مع الحياة المألوفة؛ فلن تستطيع الحياة المألوفة إخضاعه لعملية الأيض، ويشغل عددًا من المكامن الإيكولوجية التي كان يأهلها عدد قليل للغاية من الكائنات المألوفة».١٠

يعد المحيط الحيوي الظلي فرضية مثيرة للجدل، لكن كليلاند جادة تمامًا حين تقول إننا قد نتشارك كوكبنا مع أشكال حياتية غريبة. إن الأساليب التي نتبعها مصمَّمة للتحقق من الحياة كما نعرفها، وليس الحياة كما «لا» نعرفها. على سبيل المثال، سوف يستخدم جهاز الاستشعار البيولوجي على الأرض (الذي سيُستخدم في نهاية المطاف على كوكب المريخ) تفاعل بلمرة تسلسليًّا، وهي الطريقة القياسية لتكبير الشذرات الصغيرة من الحمض النووي. ومن ثمَّ، لن يسجل هذا الجهاز الكائن الذي لا يستخدم الأحماض النووية لتخزين المعلومات ونقلها على أنه كائن حي. وقد تعجز معدات الاختبار القياسية أيضًا عن كشف الحياة البيولوجية التي لا تعتمد على الكربون أو الكائن الحي الذي يستخدم مصادر طاقة غريبة، فنحن نبحث عما نعلم فقط.

(٢) جايا

(٢-١) دوائر الحياة والصخور

الكثيرون يرون أن الصخرة ما هي إلا صخرة، لكن أي زائر لأحد متاحف المعادن رأى التنوع الأخاذ والجمال الملون للبيئة الأرضية. يبين بحث نُشر عام ٢٠٠٨ أن هذا التنوع يرتبط على نحو جوهري بوجود الحياة وتطورها، فثمة اثنا عشر معدنًا بدائيًّا فحسب في حبيبات الغبار النجمي التي اجتمعت معًا بفعل الجاذبية لتشكِّل الأرض والكواكب الداخلية الأخرى. وصور التنوع في درجة الحرارة والضغط مطلوبة لتشكيل أنواع إضافية من المعادن. تحوي الأجرام الصغيرة من المجموعة الشمسية، كالأقمار والكويكبات، حوالي ٦٠ معدنًا مختلفًا. وتشير التقديرات أيضًا إلى أن الكواكب ذات البراكين وتلك التي تحوي قدرًا من المياه أمثال كوكبي الزهرة والمريخ تشتمل على ٥٠٠ نوع من المعادن في الصخور الموجودة على سطحها. ويحتوي كوكب الأرض على مكون إضافي وهو تكتونيات الصفائح، حيث عملت الحرارة والحركة الدءوبة في «المطبخ» الداخلي على طهي إجمالي ١٤٠٠ نوع من المعادن تقريبًا.١١

مع ذلك، فكوكب الأرض هو الوحيد ضمن أجرام المجموعة الشمسية الذي يستضيف حياة، وقد أدت عملياته البيولوجية إلى زيادة المعادن الموجودة بثلاثة أضعاف ليصل عددها إلى ٤٣٠٠ معدن، فالطحالب المجهرية أنتجت الأكسجين في الغلاف الجوي، وتحلل الصخور المؤكسدة أنتج ركائز المعادن الفلزية كالحديد والنحاس وغيرها، وسهَّلت الميكروبات والنباتات من نشوء المعادن الصلصالية وحولت الهياكل العظمية والأصداف إلى معادن مثل الكالسيت الذي يندر وجوده على كوكب يفتقر إلى الحياة. وطيلة ٣ مليارات عام تقريبًا تطورت جيولوجيا الكوكب بالتوازي مع كائناته الحية، فتأثيرات الحياة على الصخور عميقة ومتغلغلة للغاية، حتى إن علماء الفلك يأملون في استخدام جهاز يعمل عن بعد لاستشعار المعادن على الأقمار والكواكب الأخرى لرصد الحياة البيولوجية خارج الأرض.

ثمة ارتباط متداخل بين الصخور والحياة، كنسيج القماش، لكن الجيولوجيا والأحياء مرتبطان على نطاق أوسع بكثير. يمكننا تبين هذا الارتباط عن طريق تتبع التفاعلات والمعاملات بين الأطراف الثلاثة الرئيسية: الأكسجين والكربون والنيتروجين. تحتل هذه العناصر المراتب الثالثة والرابعة والسادسة بين أكثر العناصر وفرةً في الكون، بعد كلٍّ من غاز الهيدروجين وغاز الهيليوم النبيل (يحتل النيون، ذلك المتطفل المضيء، المرتبة الخامسة). الكربون هو «روح» الحياة، وهو مكعب الليجو الكوني الذي يبني التعقيد، أما الأكسجين فهو الطرف المتفاعل والمتطاير، الذي يلتصق بالعناصر الأخرى ليكوِّن الصخور ويسبب صدأ المعادن ويسبب الإجهاد التأكسدي للكثير من الكائنات، أما النيتروجين فهو القريب اللامبالي للأكسجين، وهو ضروري للظواهر والعمليات البيولوجية، لكنه لا يشارك في اللعبة ما لم تتم رشوته بكم كبير من الطاقة.

يشارك الكربون في دورتين: دورة جيولوجية تمتد لملايين الأعوام ودورة بيولوجية يمكن أن تمتد إلى ما يصل إلى ألف عام، ويمكن أن تستغرق نذرًا يسيرًا من الوقت لا يتجاوز أيامًا قليلة. يذوب ثاني أكسيد الكربون في ماء البحر لتكوين حمض ضعيف يتحد مع الكالسيوم والماغنسيوم لتشكيل الكربونات، وهي عملية يطلق عليها اسم التجوية. تجرف التعرية الكربونات إلى المحيط حيث تستقر في القاع. تتسرب هذه المادة إلى وشاح القشرة مع انزلاق كل صفيحة صخرية تحت الأخرى. تكتمل الدورة حين يتحرر ثاني أكسيد الكربون في حرارة الوشاح ويُقذف به في الغلاف الجوي بفعل البراكين. ثمة مخزون هائل من الكربون في القشرة الأرضية والمحيطات، وهو ما يمنح استقرارًا طويل الأمد لمحتوى ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي. الأمر أشبه بمقامر لديه الكثير من «فيشات» الكربون، لكنه لا يستخدمها إلا قليلًا من حين لآخر (انظر أيضًا الشكل ٢-٦).

يزيد تركيز الكربون في الكائنات الحية مائة مرة عنه في قشرة الأرض، فالحياة تستخلص الكربون من البيئة وتستخدم النباتات والطحالب الطاقة الضوئية في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى كربوهيدرات. تستخلص النباتات والحيوانات الطاقة من «وقود» الكربوهيدرات وتزفر ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى إلى الغلاف الجوي. ثمة كمية إضافية من ثاني أكسيد الكربون تعود إلى الغلاف مرة أخرى بسبب الحرق والتحلل. إن كمية الكربون المشاركة في الدورة البيولوجية التي تتم كل عام تزيد ألف مرة عن تلك المشاركة في الدورة الجيولوجية. الأمر أشبه بمقامر يراهن بجزء كبير من فيشاته في كل مرة.

هناك أيضًا تخزين طويل الأجل للكربون عن طريق الحياة البيولوجية، فالحياة النباتية على اليابسة تستخلص ثاني أكسيد الكربون من الهواء حين تتعرض التربة للتجوية. وأثناء الأوقات التي تزيد فيها عملية التمثيل الضوئي عن عملية التنفس تتراكم المادة العضوية ببطء مكوِّنة مخزونًا من الغاز والبترول. وفي المحيطات، يمر بعض الكربون الذي تمتصه العوالق خلال السلسلة الغذائية إلى الأصداف البحرية التي تستقر في قاع المحيط لتشكِّل الرواسب.

إن مشكلتنا الحالية مع الاحترار العالمي تنبع من حقيقة أننا نعكس بسرعة أداء هاتين العمليتين عن طريق قطع أشجار الغابات وحرقها، علاوةً على أننا نستهلك مخزوننا من الوقود الحفري بنهم، فالدورة لا تسير بتوازن؛ لأن معدل عودة الكربون إلى الغلاف يزيد عن معدل امتصاصه. من المؤكد تقريبًا أن النشاط البشري تسبَّب في ازدياد مستوى ثاني أكسيد الكربون بنسبة ٢٠٪ في القرن الماضي، بحيث زادت النسبة عن أي وقت مضى طيلة النصف مليون عام الماضية. تفوق هذه الزيادة المعدل الطبيعي بعشرة آلاف ضعف، ولا يمكن لآلية ضبط الحرارة في كوكب الأرض أن تجاريها. وبالاستمرار في تشبيه المقامرة الذي بدأناه، فنحن نسحب من مدخراتنا من أجل اللعب، ونخسر منها الكثير، وننخرط في حالة من الهياج والضيق الشديد بشأن ذلك.

(٢-٢) الربة البدائية

جيمس لافلوك عالم مستقل خجول، لم يعتزم قط أن تأخذ فكرته طابعًا أسطوريًّا وتجد طريقها إلى الثقافة الشعبية. عندما كان يعيش في قرية صغيرة بمقاطعة ويلتشير كان من بين جيرانه الروائي ويليام جولدينج، صاحب رواية «أمير الذباب» الشهيرة. في إحدى مرات التنزه التي ذهبا فيها معًا إلى مكتب البريد، اقترح عليه جولدينج أن يُطلق اسم جايا على نظريته، وعلق هذا الاسم بذهنه. ورد في شعر هسيود المنظوم في القرن السابع قبل الميلاد اسم جايا بوصفها الربة الأولى؛ إذ إنها كانت أول مولود للربة كاوس، التي تجسد الفراغ الأصلي للفضاء. تجسد جايا الأرض. وفي اليونان القديمة كانت الأقسام التي يحلف فيها باسم جايا أكثر الأقسام إلزامًا.

يتجلى أفضل وصف موجز للربة جايا في كلمات لافلوك نفسه الواردة هنا والمأخوذة من مقالة نشرت في صحيفة «نيتشر» عام ٢٠٠٣: «تتطور الكائنات وبيئتها المادية كنظام واحد مقترن ينشأ منه التنظيم الذاتي المستدام للمناخ والكيمياء في حالة صالحة لمعيشة أي صورة من صور الحياة النباتية والحيوانية الحالية.» وما أثار ذهول لافلوك هو ثبات درجة حرارة الأرض على مدار مليارات الأعوام، على الرغم من ازدياد الطاقة الشمسية بنسبة ٢٥٪. وقد لاحظ أيضًا أن تركيب الغلاف الجوي لا يتغير، على الرغم من وجود كمية كبيرة من الأكسجين، وهو غاز غير مستقر يتحد بسرعة مع معادن القشرة الأرضية. وأخيرًا، شعر بالحيرة من ثبات مستوى ملوحة المحيطات وعدم تجاوزها النطاق الضيق المطلوب للخلايا كي تقوم بوظيفتها، مع أن مستوى المد النهري يجب أن يزيدها إلى مستويات أعلى بكثير. خمن لافلوك وجود نظام مراقبة عالمي يتسبب في هذا الاستقرار.

ينتج تعقيد المناخ جزئيًّا عن عمليات تغذية عكسية، ففي حالة التغذية السلبية، يُخفَّف التأثير المعاد إرساله إلى أحد النظم أو يُلغى بما يؤدي إلى تقليل التغير المناخي. يعد منظِّم الحرارة مثالًا على ذلك. وفي حالة التغذية الإيجابية، يُقوَّى التأثير المعاد إرساله إلى أحد النظم بما يؤدي إلى ازدياد التغير المناخي بسرعة، وقد يخرج عن السيطرة. من أمثلة ذلك؛ التفاعل النووي المتسلسل، أو التأثير الصوتي المدوي في مكبر الصوت.

إن الرابطة التي تجمع بين الأرض والماء والهواء تسبب عددًا من حلقات التغذية العكسية. إن ارتفعت درجة حرارة السطح يزداد قدر بخار الماء المنطلق في الهواء؛ مما يزيد من غطاء السحب المنخفضة الذي يعكس مزيدًا من ضوء الشمس، مسببًا انخفاض درجة الحرارة. على الجانب الآخر، إن انخفضت درجة الحرارة قلَّ قدر بخار الماء المنطلق في الهواء، وهو ما يقلل من غطاء السحب، ومن ثم يسبِّب ارتفاع درجة الحرارة. تلك تغذية سلبية. لكن ليس الأمر بهذه البساطة؛ لأن بخار الماء يحبس الحرارة؛ لذا يؤدي ازدياد بخار الماء في الهواء إلى ازدياد درجة الحرارة، التي تعمل على تبخير مزيد من الماء، الذي يزيد بدوره من درجة الحرارة على نحو أكبر. وتلك تغذية إيجابية (الشكل ٥-٤). أي منهما يفوز؟ الأمر كله يعتمد على غطاء السحب، وهو واحد من أكثر الأشياء التي يجد العلماء صعوبة في تضمينها بصورة واقعية في النماذج الحاسوبية.
fig26
شكل ٥-٤: المناخ العالمي محكوم بمجموعة معقدة من دورات التغذية العكسية، وبعضها يثبط أو يقلل من التغيرات (التغذية السلبية)، والبعض الآخر يزيد أو يضخم من حجم التغيرات (التغذية الإيجابية)، ومن الصعب التنبؤ بالتأثيرات الكلية بسبب التعقيد وبسبب صعوبة قياس مدخلات كالحياة النباتية وغطاء السحب والجليد البحري، أو تضمينها في نماذج. (Hugo Alhenius, UNEP/GRID-Arendal)

تقضي فرضية لافلوك، المؤكدة جزئيًّا وليس تفصيليًّا بالبيانات والنماذج، بأن الحياة تلعب دورًا جوهريًّا في هذه الدورات، وذلك على صورة تغذية سلبية أو اختزال لأشكال التباين. افترض أن الأرض تمر بمرحلة نشطة جيولوجيًّا تقذف فيها البراكين كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون. يُزال هذا المركَّب من الهواء عن طريق التجوية عندما يتفاعل مع المعادن في الصخور، وهي عملية تزداد سرعة بفعل حياة التربة. وحين يذوب ثاني أكسيد الكربون في ماء البحر يترسب بعضه في أصداف الكائنات الحية، ثم يُدفن في قاع البحر حين يموت الكائن. تستهلك الطحالب أيضًا ثاني أكسيد الكربون في الطبقة العلوية من المحيط وتطلق غازًا عندما تموت، وهذا الغاز يجمِّع قطرات المياه ويزيد من غطاء السحب. تلك أربع طرق مختلفة متاحة يمكن للحياة من خلالها أن تلطف من ازدياد معدل ثاني أكسيد الكربون بفعل النشاط البركاني.

حازت جايا قوة دافعة إضافية حين بدأ لافلوك العمل مع عالمة الميكروبيولوجي لين مارجوليس؛ صاحبة النظرية المقبولة على نطاق واسع التي تقضي بأن الخلية حقيقية النوى هي اتحاد تكافلي للخلايا الأولية بدائية النوى. ترى لين مارجوليس أننا إذا نظرنا لجايا من الفضاء، فسنرى أنها نظام تكافل حيوي، فالحياة توجد في علاقة تكافل مع البيئة، ونتيجة لذلك تعمل البيئة على التنظيم الذاتي لكي تبقي على الكائنات الحية. قوبلت فكرة جايا بالرفض من جانب العديد من علماء الأحياء والبيئة؛ لأن لافلوك أشار إلى الأرض على أنها كائن حي. لم يكن واضحًا قط كيف يمكن للانتخاب الطبيعي أن يقوم بوظيفته على مستوى أحد الكواكب؛ لذا ليس هذا النموذج «القوي» لجايا مقبولًا على نطاق واسع.

ماذا سيحدث حين تمارس التغذية الإيجابية عملها بصورة قوية للغاية بحيث تزيد درجات الحرارة لدرجة تتعطل معها أجهزة ضبط الحرارة الطبيعية؟ تتسم لين مارجوليس بأنها شخصية متفائلة، وفي ذلك تقول: «جايا قوية وصلبة.» أما لافلوك فهو، على النقيض، شخص متشائم مرح، ويقول: «استمتع بالحياة بينما يمكنك ذلك؛ لأنك إن كنت محظوظًا فسيمر عشرون عامًا قبل أن تصبح الحياة مشكلة مثار جدل عام.» وهو يعصف بأكثر الأفكار رواجًا لحماية البيئة والحفاظ عليها، واحدة تلو الأخرى. هل الحل في معادلة الكربون؟ إنها مجرد مزحة. هل الحل في دفع الأموال لزراعة المزيد من الأشجار؟ ربما يزيد هذا الأمور سوءًا. هل الحل في إعادة التدوير؟ من المؤكد أن في ذلك إهدارًا للوقت والطاقة. هل الحل في انتهاج أسلوب حياة يعتمد على الطبيعة؟ هذه عبارة جوفاء. يعتقد لافلوك أن الاحترار العالمي أمر لا سبيل إلى عكسه، وما من شيء يمكنه أن يمنع تحول أجزاء كبيرة من الكوكب إلى مناطق شديدة السخونة يستحيل العيش عليها، أو انغمار أجزاء أخرى تحت الماء، أو حدوث هجرات جماعية ومجاعات وأوبئة.١٢

(٢-٣) الأرض الباردة

في مواجهة هذا المشهد المظلم، يجدر بنا أن نتذكر أن الحياة استطاعت اجتياز مواقف أسوأ بكثير مما سنمر به، حتى في ظل أسوأ سيناريوهات الاحترار. ترجع شدة الاحترار العالمي الحالي إلى أنه ناتج عن عدة أنواع من التغذية العكسية الإيجابية، فهناك الجليد الذائب الذي يقلل من قدر ضوء الشمس المنعكس. وثمة قدر أكبر من بخار الماء منبعث من المحيطات مما يزيد من قدر الحرارة المحتبسة، يضاف إلى ذلك ذوبان غطاء التندرا الذي يسبب انبعاث الميثان، وهو غاز أساسي من غازات الدفيئة. وثمة عامل آخر وهو التصحر، الذي يقلل من حجم الحياة النباتية التي تختزن ثاني أكسيد الكربون.

لكن ما يرتفع يمكن أن ينخفض. تصور معي ما يأتي: صفحة بيضاء تمتد إلى الأفق فوق ما كان محيطًا في يوم من الأيام؛ كتلة جليدية يصل سمكها إلى ألف قدم وتسجل درجة الحرارة −٣٢ مئوية (−٢٥ فهرنهايت)، صفائح جليدية تلتقي معًا عند خط الاستواء، قارات تبخرت منها المياه والجليد، وتوقفت الأمطار وانخفض معدل التجوية إلى حدٍّ شديد. المشهد ككل مقفر؛ لا شيء على الإطلاق سوى صخرة قاحلة بنية اللون. هذا ما سنراه من حال الأرض لو سافرنا بالزمن ٧٠٠ مليون عام إلى الماضي.

يُطلَق على الأرض على هذا الحال اسم «الكرة الأرضية الثلجية»، ومع أن العلماء ليسوا على يقين تام مما أدى إلى حدوثه، ثمة سبل يمكن للتغذية السلبية من خلالها أن تدفع الكوكب إلى حالة من التجمد العميق. في ذلك الوقت، وقبل انفصال القارات، كانت الكتلة الاستوائية الكبيرة تمتص مزيدًا من ضوء الشمس، ويساهم معدل التجوية المرتفع في إزالة كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. ومع برودة الغطاء الجليدي ونمو الكتلة الجليدية، عكس الغطاء الجليدي المتزايد مزيدًا من ضوء الشمس، ليزيد من انخفاض درجة الحرارة. وردتنا الأدلة على وجود الكرة الأرضية الثلجية من الرواسب الجليدية التي شوهدت عند خطوط العرض الاستوائية ومجموعة من التكوينات الرسوبية المرتبطة عادة بالمحيطات المغطاة بالجليد.١٣ تعرضت الحياة لإجهاد شديد في هذه الفترة الزمنية الباردة؛ لأن سطح الأرض كان جافًّا وقاحلًا، وكانت حياة المحيطات محرومة في الأغلب من آلية التمثيل الضوئي.

كيف نجونا؟ مع أن الدورة المائية الطبيعية كانت تعمل على نحو هزيل، فالمحرك البركاني للأرض كان يعمل على نحو طبيعي. لقد زاد ثاني أكسيد الكربون الناتج من البراكين من درجة الحرارة على نحو يسمح بأن تنشأ الشقوق والصدوع في الكتلة الجليدية. أدى هذا إلى انبعاث غاز الميثان — أحد غازات الدفيئة الأساسية — الذي أنتجته الحياة الميكروبية في المحيطات. ومع تآكل الجليد ألقت التجوية في المحيط بشحنات من العناصر الغذائية كالفوسفور، لتتسبب في نمو متدفق للبكتيريا الزرقاء. بدأت المناطق المائية الجديدة المظلمة تمتص مزيدًا من ضوء الشمس، وازدادت سرعة آلية التسخين. وبواسطة كل هذا التعزيز الإيجابي تحررت الأرض من القبضة الجليدية خلال وقت قصير لا يتجاوز الألف عام.

أفسح الافتراض المبكر بأن الأرض كانت مغطاة بالجليد بأكملها ككرة بلياردو متجمدة المجال لصورة أكثر تعقيدًا. في هذه الصورة تظهر العصور الجليدية وموجات من التجلد في فترة تتراوح من ٧٩٠ إلى ٦٣٠ مليون عام، وفيها أدت أشد الأحداث الثلاثة وطأة إلى تغطية معظم الكوكب بالجليد. ثمة أدلة تشير إلى مرور الأرض بحالة «الكرة الأرضية الثلجية» منذ ٢٫٢ إلى ٢٫٣ مليار عام، أثناء حقبة بروترزويك القديمة حين تشكلت القارات لأول مرة. ومن المدهش أن هاتين المرحلتين الجليديتين — اللتين تعرضت فيهما الحياة البيولوجية لإجهاد شديد — تلاهما ارتفاع كبير في مستوى الأكسجين بالغلاف الجوي ثم ظهور الحياة المعقدة في المحيطات.

(٢-٤) المؤشرات الحيوية

إن النشاط البركاني وتكتونيات الصفائح هي القوى التي تبقي على الكوكب نشطًا، علاوة على أنها تساهم في التنوع المعدني كما سبق ورأينا، فالأقمار والكواكب الصغيرة ليست لها كتلة كافية تمكنها من الاحتفاظ بغلاف جوي أو الإبقاء على لب مصهور يمكنه أن يحرك قشرة متغيرة، لذا يشك علماء الفلك أن هذه الأقمار والكواكب ميتة من الناحية البيولوجية والجيولوجية على حدٍّ سواء. هنا نعود إلى نقطة الأصل التي طرحنا فيها رؤية جيمس لافلوك حين كان يعمل في مهمة المركبة «فايكنج». لقد توصل إلى أنه ليس من الضروري إرسال سفينة فضائية إلى المريخ، فكل ما عليك فعله هو معرفة هل الغلاف الجوي للمريخ يمر بحالة اتزان كيميائي أم لا. وقد كان كذلك؛ لذا استنتج لافلوك أن كوكب المريخ كوكب ميت، فالحراك الذي يشير إلى اقتران الأحياء والجيولوجيا مفقود.

ثمة طريقة مفيدة لاستيعاب مدى صمود الأغلفة الحيوية، وهي تخيُّل كوكب الأرض كما يُنظر إليه من بعيد. ما الإشارات التي تشير إلى أنه كوكب حي (بعيدًا عن إقحام البشر والحضارة الذي وقع حديثًا)؟ يُطلق علماء الفلك على هذه الإشارات المميزة اسم «المؤشرات الحيوية»، وهي جوهرية لتحديد أفضل استراتيجيات البحث عن الحياة في عدد الكواكب الهائل الموجود خارج المجموعة الشمسية.

حين كنت أبلغ من العمر ٢٥ عامًا وأؤدي دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة هاواي، تكلم معي معلمي على انفراد. كان مديرًا لأحد المراصد الفلكية، وضليعًا للغاية في مجاله، واستطاع أن يصل إلى أعلى المراتب الوظيفية. كان إريك أحد أفراد فريق العمل بمركبة الفضاء فايكنج، وله غرة شعر شقراء طويلة، وكان رجلًا أمينًا إلى أبعد حد. قال لي إنه يجدر بي أن أستمتع بحياتي. قال لي إنني، كطالب دراسات عليا، لم أتعلم الكثير، وثمة أطروحة عليَّ إعدادها، وإن حصلت على وظيفة بهيئة التدريس فسأنشغل بأعمال اللجان وسيكون عليَّ أن أكتب طلبات المنح لأحصل على تمويل لأبحاثي. وفي حياة العلم، هذا أقصى ما يمكن تحقيقه، حسب قوله.

تعيش ليزا كالتنيجر مرحلة ناجحة للغاية من حياتها؛ لقد حصلت على الدكتوراه من مرصد سميثونيان للفيزياء الفلكية، وتعمل محاضرة بقسم الفلك بجامعة هارفارد القريبة من المرصد. وهي تذهب إلى الاجتماعات وتلقي المحاضرات في جميع أنحاء العالم: أسبن وسانتا كلارا، وليس هوتشيس، وبرلين، وفراسكاتي، وفانكوفر، وسانتياجو. هي مواطنة نمساوية تتميز بطول القامة ومظهرها الأخاذ ولهجتها الرقيقة المميزة لسكان وسط أوروبا، وهي تحب الرقص وركوب الخيل متى أتيح لها وقت فراغ. عادةً ما تحب أن تفكر بعمق في كيفية التحقق من وجود كواكب في المجموعات الشمسية الأخرى، وكيف لنا أن نعرف إن كانت تحمل حياة أم لا.

حين يُنظر إلى أحد الكواكب من مسافة بعيدة للغاية، يصغر حجمه ليماثل النقطة، ولا بد من الاستدلال على الجوانب المعقدة للجيولوجيا وكيمياء الغلاف الجوي والأحياء من المعلومات القاصرة التي يحملها طيف هذا الكوكب. هذا المنهج يُنسب إلى كارل ساجان، الذي كتب بحثًا عام ١٩٩٣ وحلل فيه طيفًا للأرض سجله المسبار جاليليو خلال رحلته إلى الكواكب الخارجية (الشكل ٥-٥). آمن ساجان أن وجود الأكسجين والميثان بالإضافة إلى صبغة تمتص اللون الأحمر ليس لها أصل معدني قد يشير بشدة إلى وجود حياة بيولوجية. ونقَّحت كالتنيجر هذا العمل وتتبعت التغيرات الدقيقة التي تطرأ على المؤشرات الحيوية للأرض مع تطور الحياة.
fig27
شكل ٥-٥: طيف كوكب صالح للحياة. هذا ما يبدو عليه كوكب الأرض كما رصدته مركبة «مارس جلوبال سيرفيور» وهي تبتعد عنه. تظهر التركيزات الضئيلة من ثاني أكسيد الكربون بوضوح، وكذلك الماء، لكن أفضل مؤشر حيوي هو الأكسجين الذي يظهر في هذا الطيف للأشعة تحت الحمراء على صورة امتصاص قوي من الأوزون الموجود في الطبقة العلوية من الغلاف الجوي. (NASA/Jet Propulsion Laboratory)
أول صورة رسمتها لنا هي الحقبة صفر؛ التي ترجع إلى ٣٫٩ مليارات عام مضت، وهو الوقت الذي ربما ظهرت فيه الحياة للنور. فيها يتكون الغلاف الجوي المضطرب المشبع بالبخار من النيتروجين وكبريتيد الهيدروجين وكم هائل من ثاني أكسيد الكربون الذي يبقي على الكوكب دافئًا على الرغم من الشمس المعتمة. توجد الحياة في جيوب، لكن عليها أن تتحمل القصف الشديد، لذا فهي لا تخلِّف أي آثار واسعة النطاق. وتشهد الحقبة الأولى؛ منذ حوالي ٣٫٥ مليارات عام، ظهور البكتيريا بدائية النوى التي تبدأ في تغيير الغلاف الجوي عن طريق استهلاك ثاني أكسيد الكربون وإطلاق الميثان. وفي تلك الحقبة يوجد قدر هائل من الميثان يفوق ما في غلافنا الجوي اليوم بمئات المرات، وهذا يجعل من الميثان مؤشرًا حيويًّا ممتازًا للمرحلة الأولى من تطور أي كوكب مماثل للأرض.١٤

أما الحقبة الثانية؛ منذ ٢٫٤ مليار عام، ففيها تتعلم البكتيريا الزرقاء الحيلة المذهلة لتحويل الماء وثاني أكسيد الكربون والضوء إلى أكسجين وسكر. تتميز عملية التمثيل الضوئي بأنها فعالة للغاية، لكن لو تطورت على نحو سريع للغاية فقد تتسبب في تسمم الميكروبات التي تجريها. ولحسن الحظ هناك مخزون بسيط من الأكسجين ناتج عن تفاعل الأشعة فوق البنفسجية مع الثلج الجليدي، وهو ما يكفي لتسهيل تطور الإنزيمات التي تحمي من الغاز المسبب للتآكل. وهكذا تواصل «ثورة» الأكسجين مسيرتها، لكن الأمر لا يخلو من جانب سلبي؛ إذ يستهلك الأكسجين الميثان، ويدفعنا فَقْد هذا النوع من غازات الدفيئة نحو سيناريو «الكرة الأرضية الثلجية». وبعد التعافي، تشهد الحقبة الثالثة كلًّا من الكائنات متعددة الخلايا وظهور الخلايا القادرة على استنشاق الأكسجين كما نفعل.

أثناء الحقبة الرابعة؛ منذ ٨٠٠ مليون عام، يرتفع الأكسجين الموجود في الغلاف الجوي مرة أخرى ليصل إلى مستوياته الحالية، ويحدث انفجار العصر الكمبري للحياة في المحيطات بعد أن تكون سلسلة أحداث «الكرة الأرضية الثلجية» قد أفسحت المجال للعديد من المواضع البيئية الجديدة. تنخفض مستويات ثاني أكسيد الكربون. تظهر المستنقعات ويثور عدد قليل من البراكين، وتظهر اليابسة على صورة قارة كبرى واحدة تحيط بها البحار الضحلة. وأخيرًا في الحقبة الخامسة؛ منذ ٣٠٠ مليون عام، تنتقل الحياة إلى اليابسة ويصل الغلاف الجوي إلى تركيبه الحالي. وفي هذا الامتداد الزمني الأخير تنتشر الحياة النباتية الخضراء بدرجة تكفي للظهور على مقياس الطيف كعلامة دالة على وجود الكلوروفيل، لكن بخلاف ذلك يعد الأكسجين المؤشر الحيوي الرئيسي.

تعرف كالتنيجر أن البراعة التكنولوجية للبشر ما هي إلا لمحة عابرة عبر زمن ممتد لأربعة مليارات عام من التطور. تقول: «يؤسفني أن أذكر أن العلامات الأولى للحياة خارج الأرض لن تكون البث التليفزيوني أو الإذاعي. بدلًا من ذلك قد تكون انبعاث الأكسجين من الطحالب.» وهي تعرف أيضًا أنه يندر العثور على كوكب ككوكبنا بين الكواكب الأولى المعروفة الواقعة خارج المجموعة الشمسية والبالغ عددها ٤٠٠ كوكب. وتنبه قائلةً: «من الصعب العثور على كواكب جيدة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤