الفصل السابع

مستقبل السعادة

قدَّم هذا الكتاب استعراضًا عامًّا موجَزًا للمنظورات المعاصرة للسعادة. وفي هذا الفصل الأخير، سأُلخِّص الموضوعات التي ناقشناها من خلال التكوين التدريجي لخريطة مفاهيم تربط عناصرها المتنوعة معًا. ثم سيكون الختام باستعراض السبيل المنتظَر لأبحاث السعادة، متبيِّنين كيف يمكن للأبحاث المستقبلية معالجة المشكلات وأوجُه القصور الحالية.

خريطة السعادة

بدأ الكتاب بتعريف بعض المصطلحات الأساسية. أولًا، جُعِل الرفاه مفهومًا جامعًا، يشمل كل الطرق التي يمكن بها للبشر أن يكونوا على ما يُرام في كيانهم وأفعالهم وعملهم. ولمزيد من الدِّقة، حددت أربعة أبعاد رئيسية: الذهني والجسدي والاجتماعي و(بتردُّد أكثر) الروحاني. ثم صوَّر كلًّا من الأبعاد الأربعة بأنه يمتد على مقياس بين قطب سالب وقطب موجب، مع وَسْم الحيِّزَين باسم الاعتلال والصحة على الترتيب. غير أن الاستعارة غير دقيقة: إذ إن كل مقياس يحتوي عدة قِيَم متصلة — أشكال مختلفة من الاعتلال أو الصحة الذهنية، مثلًا — يكون الناس متدهورين في بعضها ومرتقين في بعضها، ربما في آنٍ واحد حتى. ورغم ذلك، فهو وسيلة إرشادية مفيدة.

مع ضمِّ هذه العناصر المتباينة معًا، عُرِّف الرفاه بمصطلحات متخصِّصة على أنه ظاهرة متعدِّدة الأبعاد، تمتد من الاعتلال إلى الصحة، وتشمل البُعد الجسدي والذهني والاجتماعي والروحاني للوجود. ثم وصف بلوغ الرفاه بأنه حالة حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بأي بُعد من أبعاد الوجود أو كلها في أفضل الحالات. وهكذا يشكِّل بلوغه حالة الصحة على أي طيف من أطياف الرفاه، مع استخدام مصطلحات من قبيل النمو والازدهار حين يرتقي الناس بدرجة كبيرة في تلك النواحي.

وتظهر هذه العلاقات في الشكل ٧-١. وهو يحاكي الشكل ١-١ في الفصل التمهيدي، لكن بتوزيع مختلف. فهو أولًا يضع الرفاه الذهني والجسدي والاجتماعي في شكل مثلث باعتباره الهيكل الرئيسي المترابط المعزز ذاتيًّا للرفاه إجمالًا. ثم يأتي الرفاه الروحاني خارج المثلث، لكونه قائمًا على التخمين أكثر، ولأن أهميته ربما أقل عالميًّا. كما أنه وُضِع متجهًا إلى أعلى، لأسباب رمزية واضحة. كما أن الشكل مقدَّم في صورة مبسَّطة أيضًا، بما أنه سيكون حجر الزاوية للخريطة التي سيكونها هذا الفصل شيئًا فشيئًا. ستتبيَّن الخريطة بواسمات من حروف وأرقام ستظل ثابتة. هكذا سيُشار للرفاه بالحرف ر، مع توضيح الأرقام التالية لأبعاده المختلفة:
  • ر١: الرفاه الذهني
  • ر٢: الاعتلال الذهني (الكرب)
  • ر٣: الصحة الذهنية (السعادة)
  • ر٤: الرفاه الجسدي
  • ر٥: الاعتلال الجسدي (الألم)
  • ر٦: الصحة الجسدية (الحيوية)
  • ر٧: الرفاه الاجتماعي
  • ر٨: الاعتلال الاجتماعي (النزاع)
  • ر٩: الصحة الاجتماعية (المؤانسة)
  • ر١٠: الرفاه الروحاني
  • ر١١: الاعتلال الروحاني (اللامعيارية)
  • ر١٢: الصحة الروحانية (التسامي)
fig9
شكل ٧-١: أبعاد الرفاه.

يمكننا الآن الإضافة إلى هذا الشكل، مُضمِّنين الموضوعات التي تناولناها على امتداد الكتاب. وبالطبع محور اهتمامنا هو السعادة، التي صوَّرناها على أنها تشمل الحيِّز الإيجابي من طيف الرفاه الذهني، وناقشها هذا الكتاب بتفصيل شديد. وهو ما شمل التفريق بين أشكال متنوِّعة من السعادة في الفصل الثالث. وذكرت أن أغلب الدراسات الحالية تركِّز على سعادة المتعة والسعادة التقديرية اللتين يُشار إليهما غالبًا، جملةً، بالرفاه الذاتي. وهناك اهتمام بقَدْر أقل باليودايمونيا، التي فكَّكتها إلى ثلاثة أشكال متباينة: سعادة اليودايمونيا (المتحوِّرة حول النمو الشخصي)، وسعادة المغزى، وسعادة الإنجاز. ولكنني ذكرت أيضًا الاعتراف الناشئ بأنه قد يكون ثمَّة أشكال أخرى وتستحق الإضافة إلى هذا التصنيف.

إجمالًا، حدَّدنا ١٤ شكلًا مختلفًا وناقشناها، إلا أنها، على سبيل التأكيد، ليست متنافية، ومن الجائز، لتجربةٍ ما، أن تشابك بين أكثر من واحدة منها في نفس الوقت. وقد أضفناها إلى الخريطة المتنامية في الشكل ٧-٢. إذ يُشار إلى السعادة بالحرف س، مع تمثيل الأشكال المختلفة بالرموز س١–س١٤ داخل الدائرة. وقد عملت على إدخال المزيد من التنظيم المفاهيمي على المشهد المتعدِّد للأشكال بتجميعها حسب ما إذا كانت متعلقة بشكل رئيسي بالشعور (أشكال السعادة من ١ إلى ٥)، أو متعلقة بالتفكير (أشكال السعادة من ٦ إلى ٩)، أو متعلقة بالفعل (أشكال السعادة من ١٠ إلى ١٤).
fig10
شكل ٧-٢: أبعاد الرفاه وأنواع السعادة.
  • س١: المتعة
  • س٢: الرضا
  • س٣: النضج
  • س٤: السكينة
  • س٥: الحيوية
  • س٦: التقديرية
  • س٧: المغزى
  • س٨: الفكرية
  • س٩: الاستغراق
  • س١٠: اليودايمونيا
  • س١١: الإنجاز
  • س١٢: الانسجام
  • س١٣: العلاقات
  • س١٤: النيرفانا
fig11
شكل ٧-٣: أبعاد الرفاه، وأنواع السعادة، والطبقات الشخصية.
هكذا صارت الخريطة بالفعل أدَق تفصيلًا وأشمَل. الخطوة التالية هي دَمْج تفاصيل عن البشر. قدَّم الفصل السابق نموذج المثال المتعدِّد الطبقات للإطار التكاملي (لايف)، الذي حدَّد خمس طبقات للشخص. فلْنَتخيلها خمس دوائر لها مركز واحد محيطة بأبعاد الرفاه، كما هو موضَّح في الشكل ٧-٣. علاوةً على ذلك، وإنْ كان غير موضَّح بالصورة هنا، فكل هذه الطبقات لها أبعاد ذاتية (مثل الكيفيات المحسوسة) وموضوعية (مثل الجوانب الفسيولوجية). ويُرمز لهذه الطبقات الشخصية بالحرف ش، مع تصنيفها على النحو التالي:
  • ش١: الوعي
  • ش٢: العواطف
  • ش٣: الإدراكات
  • ش٤: الجانب الجسدي
  • ش٥: السلوك
علاوةً على ذلك، يوجد الناس داخل بيئات اجتماعية ثقافية معقَّدة، قسَّمَها نموذج المثال المتعدِّد الطبقات للإطار التكاملي إلى خمس طبقات. لنتخيلها خمس دوائر تحيط بالشخص، كما هو موضَّح في الشكل ٧-٤. مجددًا، رغم أنه غير ظاهر هنا، فكل هذه الطبقات لديها أبعاد بين ذاتية (مثال: الثقافة) وبين موضوعية (مثال: المجتمع). يُرمز لهذه الطبقات البيئية بالحرف ب، وتنقسم على النحو التالي:
  • ب١: المنظومة المصغَّرة
  • ب٢: المنظومة الوسطى
  • ب٣: المنظومة الخارجية
  • ب٤: المنظومة الشاملة
  • ب٥: المنظومة البيئية
fig12
شكل ٧-٤: أبعاد الرفاه، وأنواع السعادة، وطبقات الشخص والبيئة.
تحتوي الخريطة الآن على صورة مفصَّلة للشخص وبيئته. يمكننا في هذه المرحلة أن نضمِّن العناصر المتعدِّدة التي تساعد بصور مختلفة على إثارة السعادة والتأثير عليها وتعزيزها، كما جاء في الفصول من الرابع إلى السادس. بعض العناصر أقرب إلى الفردية (مثال: الطبع)، والبعض الآخَر أقرب إلى الجماعية (مثال: الاقتصاد). لنبدأ بالعناصر الفردية. يوجد العديد منها — أكثر ممَّا يمكن مناقشته في هذا الكتاب — أدرجنا بعضًا من أهمها في الشكل ٧-٥. وهي مرتَّبة وكأنما تمرُّ من خلال طبقات الشخص (أي إن لها تجليات في الطبقات كلها). وتتخذ هذه العوامل الفردية رمزًا لها الحرف ف، بأنواعها المختلفة على النحو التالي:
  • ف١: الصحة/الجانب الفسيولوجي
  • ف٢: الطبع/الشخصية
  • ف٣: السن/النمو
  • ف٤: الجنس/الجندر
  • ف٥: العرق/الإثنية
  • ف٦: الإدراك/التفكير
  • ف٧: التحفيز/الإرادة
  • ف٨: السلوك/الفعل
  • ف٩: القِيَم/الاختيارات
  • ف١٠: الاعتقادات/الأفكار
fig13
شكل ٧-٥: أبعاد الرفاه، أنواع السعادة، طبقات الشخص والبيئة، العوامل الفردية.
يمكننا كذلك أن نضمن عوامل جماعية الآن. مجددًا، نذكر أن هناك فيضًا من العوامل في هذا الشأن، لكن يظهر بعض من أهمها في الشكل ٧-٦. وهي الأخرى تظهر كأنها تمرُّ من خلال الطبقات الاجتماعية الثقافية للبيئة (أي إن لها تجليات في كل الطبقات كلها).
يُرمَز لهذه العوامل الجماعية بالحرف ج، وتتعدَّد أنواعها على النحو التالي:
  • ج١: العلاقات
  • ج٢: المجتمع
  • ج٣: العوامل الديموغرافية
  • ج٤: الدين
  • ج٥: نظام الحُكم
  • ج٦: البنية التحتية
  • ج٧: الاقتصاد
  • ج٨: التراث
  • ج٩: الثقافة
  • ج١٠: اللغة
fig14
شكل ٧-٦: الخريطة المرنة للازدهار.

بذلك تكون الخريطة مكتملة بشكل أساسي. ويشير حرف أ أعلى اليسار إلى أنها خريطة عامة للازدهار. وهو مصطلح لم يكُن له ظهور بارز في الكتاب — إلا أحيانًا باعتباره مرادفًا تقريبيًّا للرفاه — لكن الآن يمكننا الاستفادة من الاختلاف المذكور بإيجاز في المقدمة. فقد زعمت هناك أننا سنستخدم الرفاه، والمصطلحات مثل الصحة والسعادة، مع الكائنات الحية المنفردة. ونويت عندئذٍ استخدام الازدهار بصورة أوسَع لتشمل الأنظمة التي يعيش فيها البشر، الحية منها (مثل المجتمع) وغير الحية (مثل الاقتصاد). لهذه الأنظمة تأثير عظيم على الرفاه؛ إذ تنطوي على العديد من العوامل التي تؤثِّر عليه. وبذلك، يشكِّل هذا المشهد الديناميكي بأسره — كل أبعاد الرفاه، والأنظمة والعوامل التي تؤثِّر عليه — الازدهار.

ومن ثَم فالخريطة تشكل مُلخَّصًا مُكثَّفًا لهذا الكتاب بأكمله. لكن قبل أن نستعرض الاتجاهات المستقبلية، ثمَّة نقطة أخيرة لنركِّز عليها بشأن هذه الخريطة — وفقًا للعنوان أعلاه — ألَا وهي مرونتها. فإن تشكيلها في مجمله مستقر من ناحية المفاهيم والمنطق؛ فمن المنطقي أن يُمثل الشخص مُحاطًا ببيئته، مع إحداث العوامل تأثيرها من خلال الطبقات الفردية والجماعية. إلا أن عناصرها الدقيقة قابلة للتكيُّف والتبديل، ويمكن تغييرها أو تبديلها مع أخرى حسب أولويات الشخص.

فعلى سبيل المثال، تسلط الخريطة الضوء على ٢٠ عاملًا — ١٠ فردية و١٠ جماعية — لكن هناك خيارات أخرى عديدة لا تظهر هنا. فمن الممكن مثلًا أن تشتمل العوامل الفردية على الذاكرة والانتباه أيضًا، ويجوز أن تمتد العوامل الجماعية إلى التعليم والقانون مثلًا. في الواقع، حسب درجة دقة التصنيف، يمكن تحديد مئات أو حتى آلاف العوامل المنفصلة. فعلى سبيل المثال، بدلًا من الاقتصار على إدراج المعتقدات والأفكار معًا كعامل واحد، يمكن سرد معتقدات وأفكار مُحدَّدة (بدءًا من الديمقراطية والتعاون، وصولًا إلى الحرية وحقوق الإنسان، على سبيل المثال). من ثَم، فمن الممكن تعديل الخريطة بسهولة لتُناسب الاستخدامات المختلفة وكذلك التطورات في مجال المعرفة (وهو ما سنناقشه بعد قليل).

من ناحية تلك التطورات، أحد جوانب المرونة الهامة الموجودة في الخريطة يتعلق بالاختلافات بين الثقافات. أحد تحديات إنشاء الإطارات أو النماذج التي تستهدف أن تكون قابلة للتطبيق عالميًّا هو كيفية الإقرار بالتنوُّع الثقافي مع ذلك. وتبتغي هذه الخريطة تلك العالَمية، خصوصًا من ناحية تكوينها، وربما أيضًا عناصرها (التي رغم مرونتها وقابليتها للتكيُّف، قد تكون مناسبة للناس جميعًا). رغم ذلك، فحتى الباحثون الذين ينزعون إلى العالَمية يُقرُّون بأن الثقافات تتباين، أحيانًا بدرجة كبيرة. ولا يشمل هذا التباين من ناحية العوامل فقط (مثال: الاختلافات الوطنية في الناتج المحلي الإجمالي)، لكن في طريقة تصوُّر الرفاه نفسه أيضًا. لنقارن مثلًا بين الثقافات التي تنزع إلى الفردية وتلك التي تنزع إلى الجماعية؛ تميل الأولى إلى إعطاء الأولوية للرفاه الشخصي، فيما تُثمِّن الأخيرة الأشكال القائمة على العلاقات.

من ثَم يمكن إضافة مستوًى آخَر للمعلومات الخاصة بالثقافة للخريطة، للدلالة على ما إذا كانت ثقافات مُعيَّنة تُعلي من أهمية عوامل بعينها أو تقلِّل من أهميتها. يمكن إجراء هذا ببساطة من خلال علامتَي زائد (+) وناقص (-)، كما يظهر في الشكل ٧-٧. فمن الممكن ضبطها مثلًا لتناسب السياقات الشرقية، بإبراز مكوناتها المختلفة الخاصة بالعلاقات، مثل الصحة الاجتماعية (ر٩)، وعامل العلاقات (ج١)، وسعادة العلاقات (س١٣). يمكن كذلك الإشارة إلى أشكال السعادة الأخرى ذات الأهمية في تلك الثقافات، مثل الرضا (س٢)، والانسجام (س١٢)، والنيرفانا (س١٤). أما الاستعارة التي ترِد على الذهن فهي استعارة موسيقية: فالعناصر مثل النغمات مُتاحة للناس جميعًا، لكن تؤلف الثقافات ألحانًا خاصة باختيار نغمات مختلفة أو التركيز عليها.
fig15
شكل ٧-٧: الخريطة المَرِنة للازدهار (مركِّزةً على الثقافة الشرقية).

كذلك فإنه مع تقدُّم فهمنا لديناميات الثقافات المختلفة، سيمكن إضافة تفاصيل أثرى بالمعلومات. فبدلًا من الاقتصار على الإشارة للاهتمام أو عدم الاهتمام (بعلامات زائد وناقص)، سيمكن إضافة درجة الاهتمام (أو عدمه)، ربما بأرقام علوية تتراوح من واحد لعشرة (من اهتمام ضعيف جدًّا إلى قوي جدًّا، على التوالي). وعلاوةً على ذلك، يمكن حتى تعديل الخريطة حسب الأفراد، بحيث تلائم شخصيتهم وبيئتهم. بهذا يمكننا بحقٍّ أن نمضي نحو الفهم الدقيق المحدَّد للسعادة الذي يحتاجه الناس والثقافات وتستحقه، بكل ما لها من تفرُّد ثري. وهنا سيُختتَم الكتاب ببعض الاقتراحات عن الطريقة التي يمكننا بها التقدُّم أكثر نحو هذا الهدف.

موجات المستقبل

قدَّم هذا الكتاب صورة حديثة للدراسات الجارية حاليًّا بشأن السعادة. غير أن فَهْمنا جزئي وقابل للتغيُّر، كما هو الحال مع أيٍّ من مجالات البحث، تكتنفه القيود والتحيُّزات. وقد لفت الانتباه لهذه المشكلات على امتداد الكتاب، وهو ما استحضر روح التفكير النقدي في الموضوع. وهذه الانتقادات غير موجَّهة بغرض الانتقاص بالتأكيد. فالدراسات المُشار إليها هنا ممتازة — دقيقة ومتمعِّنة ومدروسة وما إلى ذلك — وكذلك الباحثون المشاركون. لكن في أي مسعًى هناك دائمًا مجال للتحسين. وعادةً ما يكون الباحثون مُدركين لهذه المشكلات، وقد يعوقهم عن معالجتها عوامل خارجة عن سيطرتهم (مثل نقص التمويل). لكن ما لا يزال بإمكاننا هو التفكر في هذه المشكلات وبَذْل وسعنا لتذليلها في المستقبل.

والانتقادات كثيرة ومتنوعة، لكنها تنقسم غالبًا إلى فئتَين مرتبطتَين بموجات دراسات الرفاه التي ناقشناها في الفصل الثاني. فقد حددت هناك أربع موجات على مدار المائتَي عام الماضية، تعكس نشأة كلٍّ من علم النفس والعلاج النفسي (الموجة الأولى)، وعلم النفس الإنساني (الموجة الثانية)، وعلم النفس العلمي (الثالثة)، ودراسات أكثر عالمية حاليًّا (الموجة الرابعة). الفئتان الرئيسيتان من الانتقادات — وهي بذلك سُبل لتقدُّم المجال الأكاديمي — تختصان بالموجتَين الثالثة والرابعة. تتعلق الفئة الأولى بالموجة الثالثة، وتركز على الحاجة لتحسين منهجياتنا. وفيما يتصل بذلك، تتعلق الفئة الثانية بالموجة الرابعة، وتتمحور حول أهمية أن تكون الرؤية أكثر عالَمية. لنتناولهما واحدةً تلو الأخرى.

تتسم الموجة الثالثة بتركيزها على استخدام العلم لفَهْم الرفاه (على عكس الموجة الثانية، التي لم يكُن بها عناصر علمية، إنما كانت مَعنيَّة أكثر بالممارسة العلاجية). وقد قُطِعت خطوات واسعة في ذلك الصَّدَد. إلا أن هذه الجهود لا يزال بها أوجُه قصور، ممَّا يحدُّ من صحة النتائج، والاعتبار الذي يمكن أن نوليه للاستنتاجات وسلامة معرفتنا.

أبرز المشكلات هي الاعتماد المُفرِط على بيانات استقصاءات مقطعية لاستقصاء ديناميات السعادة. وهي تنطوي في الأساس على سؤال الناس عن رفاههم في وقت محدَّد باستخدام استبيانات مُصمَّمة لهذا الغرض. مثل تلك الأبحاث مفيدة جدًّا، ومن الممكن قطعًا أن تطلعنا على الكثير بخصوص الازدهار. إلا أن في اعتماد الباحثين المفرِط على تلك البيانات مُشكلتَين خطيرتَين على الأقل، تتعلق إحداهما بالجانب المقطعي، والأخرى بجانب الاستقصاء.

المشكلة الرئيسية في النوع المقطعي من الاستقصاءات هي أن هذه المنهجية يمكنها فقط تقييم الأنساق في لحظة مُعيَّنة. ومن ثَم فهي لا تستطيع أن تكشف عن السببية، وهي ما نحتاج بحقٍّ إلى معرفته لفهم الرفاه على نحو أعمَق. فمن الوارد، على سبيل المثال، أن نجد اقترانًا بين الدعم الاجتماعي والسعادة، وهي معلومة مهمة بلا شك. إلا أنه مع أن الدعم الاجتماعي قد يسبِّب السعادة، فمن الممكن أن يجري التأثير في الاتجاه المقابل كذلك، أو قد يؤثِّر عامل ثالث على النتيجتين.1 من ثَم فإنَّ فهمنا سيكون محدودًا ما لم نستطِع التوثق من هذه الديناميات.

حتى المنهجيات الطولية لا يمكنها تحديد السببية بصورة حاسمة إلا إذا تابعت نفس الناس على مدار الوقت — ما يُعرف باسم دراسة «المجموعة» (تجرى على مجموعة محدَّدة من الناس) — وهو ما لا يفعله كثير من تلك الجهود (خصوصًا لأن هذه التصميمات من الممكن أن تكون أكثر تعقيدًا وتكلفةً). فهذا ينطبق مثلًا على استطلاع جالوب العالَمي، الذي تشكل نتائجه الأساس لتقرير السعادة العالَمي. إن استطلاع جالوب العالَمي مسعًى بحثي مُذهِل — يشرِّفني المشاركة فيه من خلال مبادرة الرفاه العالَمي، التي قدمتُها في الفصل الثالث — مع ذلك فتصميمه يقوم على سؤال عيِّنة مختلفة من الناس كلَّ عام؛ ممَّا يحدُّ من الاستنتاجات السببية التي يمكن الخروج بها من البيانات.

ولمَّا كان الأمر كذلك، فإننا بحاجة إلى مزيد من الدراسات الطولية، لا سيَّما تلك التي تستعمل تصميم المجموعة، من أجل فَهْم أوضَح للسببية. وبالإضافة إلى ذلك، لا بد أن تقيس هذه الدراسات المتغيرات المُربِكة المحتملة وتضبطها على أفضل نحو (مثل الاعتبارات الاجتماعية الاقتصادية)، بحيث يمكن أن يمنحنا التحليل فهمًا دقيقًا ومصقولًا للديناميات السببية.2 وإنه لمن حُسن الحظ أن المساعي البحثية تتطوَّر الآن لتلبية هذه الحاجات.

خير مثال على ذلك «دراسة الازدهار العالَمي» — التي أمتنُّ كذلك للمشاركة فيها غاية الامتنان — بقيادة تايلر فاندرفيل، مدير برنامج الازدهار البشري في جامعة هارفارد، وبايرون جونسون، مدير معهد دراسات الدين في جامعة بيلر. فقد حصلا هما وفريقهما مؤخَّرًا على ما يقرب من ٤٥ مليون دولار — أغلبها من مؤسسة جون تمبلتون — للمشاركة مع جالوب في إجراء استقصاء مجموعة طُولي هائل عن الازدهار. من المتوقَّع للمشروع، الذي بدأ في ٢٠٢١، أن يستمر ٥ سنوات على الأقل (وربما أكثر)، وسيضم أكثر من ٢٤٠ ألف شخص من ٢٢ دولة. بدراسة مجموعة ثابتة من الناس كلَّ عام، سيتوفر لدينا تحليل للسببية أفضل من المنهجية المقطعية التقليدية التي تعتمدها أكثر المساعي البحثية الشبيهة (مثل استطلاع جالوب العالَمي).

المشكلة الثانية التي تعتور بيانات الاستقصاءات تتعلق بجانب الاستقصاء نفسه. رغم أن هذه المنهجية مفيدة جدًّا في تقييم أفكار الناس ومشاعرهم، فهناك على ذلك اعتبارات بشأن قدرة الناس على الإفادة بمثل تلك البيانات عن أنفسهم بحيث تكون دقيقة ويُعوَّل عليها وصادقة. رغم ذلك فإن التقارير الذاتية لا غنى عنها، لكننا بحاجة إلى أن نضع هذه المشكلات في الاعتبار عند تفسير مثل تلك البيانات. من ثَم، فبإمكاننا كحلٍّ أمثَل أن نسعى إلى إضافة منهجيات أخرى للاستقصاءات. لكن نظرًا للقيود الموجودة على أرض الواقع — على غرار الميزانيات المحدودة للأبحاث — من الوارد ألا يكون ذلك ممكنًا على الدوام. لكن من المهم على الأقل استهداف ذلك الاتجاه إذا أمكن.

فعلى سبيل المثال، ثمَّة إمكانات هائلة في تسخير تقنيات ديناميات الفسيولوجيا العصبية، مثل تخطيط كهربائية المخ والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لاستقصاء ديناميات السعادة، كما ذكرنا في الفصل الرابع. من المفترَض تعزيز هذه الدراسات بأبحاث نوعية، وفقًا لنموذج الظواهر العصبية. إذا كنا مهتمين بالارتباطات العصبية للحالات الذهنية، فسنحتاج كذلك لفهم مفصَّل لهذه الحالات نفسها، وهو شيء يمكن للأبحاث النوعية وحدها توفيره فعليًّا؛ فإذا كنت تريد أن تعرف فيما يفكر شخص ما أو بما يشعر، فعليك أن تسأله في المقام الأول. المناهج النوعية قيمة أيضًا في حد ذاتها، بما تمتاز به أساليبها المتنوِّعة القادرة على تسليط الضوء على الازدهار بأساليب متعدِّدة. وتتراوح الأمثلة من أبحاثي وحدها — المذكورة كذلك في الفصل الرابع — من تحليل الاستعارات في الخطاب الأكاديمي لاستكشاف الجانب الظواهري للسعادة، إلى تَقصِّي قصص حياة البوذيين لفَهْم تأثير التأمل على الجوانب المتنوِّعة للرفاه.

بعيدًا عن هذه المنهجيات الراسخة نسبيًّا، وإن كانت لا تزال غير موظَّفة بالقَدْر الكافي، فإننا مع تطوُّر التيارات التقنية والاجتماعية، نشهد ظهور نماذج أحدث على الساحة. من هذه النماذج التنقيب عن المعلومات في البيانات الضخمة — بمساعدة الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة — مثل استكشاف الأنساق اللغوية على منصة «تويتر» لتحليل مستويات السعادة في الدول.3 ونظرًا لقدرة الباحثين على الابتكار والوتيرة السريعة للتقدُّم التكنولوجي، فمن المؤكَّد أن تتحسَّن سريعًا تلك المنهجيات من حيث تيسُّرها وتوفُّرها خلال السنوات المقبلة، مع نماذج جديدة لا يمكننا حتى تخيلها الآن.

الدعوات لتحسين قائمة المنهجيات والتوسُّع بها تتداخل مع الفئة الثانية من الانتقادات والرد عليها، المتعلقة بالموجة الرابعة لدراسات الرفاه. الانتقاد الموجَّه هو أن أبحاث الرفاه، على مدار الجزء الأكبر من تاريخها، غلب عليها التمحور حول الغرب — وهو ما شددنا عليه على امتداد الكتاب — متأثرة خصوصًا بقِيَم الولايات المتحدة وتقاليدها. واستجابةً لذلك، تُنادي توصيات بدراسات أشمل وأكثر تنوُّعًا عالميًّا، دراسات تضع في اعتبارها التنوُّع بين الثقافات من ناحية كيفية الشعور بالسعادة وإدراكها وتصورها.

لحُسن الحظ، تلك التطورات جارية بالفعل، وهو ما ينعكس في ظهور هذه الموجة الرابعة الجديدة، التي تشكِّل مسعًى أكثر عالَمية. مبدئيًّا، يشتمل هذا الجهد على إجراء أبحاث الرفاه على مستوى العالَم باستخدام المقاييس المعتادة، وهو ما يفعله في الواقع استطلاع جالوب العالَمي منذ ٢٠٠٥. لكن التحوُّل الجذري بحقٍّ هو الجهود المبذولة لاستكشاف الاختلافات في طريقة فَهْم السعادة وتفسيرها. من الأمثلة عليها مبادرة الرفاه العالمي، المنطوية على استحداث نقاط جديدة لاستطلاع جالوب العالَمي، تعكس منظورات غير غربية للرفاه — مثل سعادة الرضا والانسجام والعلاقات — كما جاء في الفصل الثالث.

من المؤكَّد أن تلك المجهودات ستزيد خلال السنوات المقبلة، ولا شك أن ثمَّة مبادرات شبيهة بدأت تنشأ بالفعل في أنحاء العالَم. وفي واقع الأمر يجري حاليًّا تحوُّل سريع في ديناميات القوة العالَمية في العديد من المجالات المختلفة. فربما كان للولايات المتحدة السيادة في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما أثَّر بدوره على مجالات مثل علم النفس، إلا أن القرن الحادي والعشرين يشهد نشأة مراكز جديدة للقوة مثل الصين والهند. ويبدو أنه لا مفر من أن تؤثِّر هذه الديناميات أيضًا على دراسات الرفاه، لتبتعد بتركيزها — ولو إلى حدٍّ ما — من اتجاهاتها الحالية المتمحورة حول الغرب.

ثم إنه بعيدًا عن هذه التطورات الجارية بالفعل، فإننا لا يسعنا إلا أن نحاول التطلع إلى أُفق أبعَد حتى من ذلك لنتخيَّل كيف قد تبدو الموجات المستقبلية للدراسات. هل يُحتمل أن نشهد في يوم من الأيام موجة خامسة مثلًا، تتجاوز تركيز الموجة الرابعة المتمحور حول البشر لتتطرَّق للاحتمالات المذهلة بوجود أشكال غير بشرية من الرفاه؟ وهي من الممكن أن تمتد بدءًا من أشكال الحياة الطبيعية التي نتقاسم معها هذا الكوكب (لا يشمل ذلك الكائنات الواعية فحسب، وإنما كل أشكال المواد العضوية، وكذلك المحيط الحيوي إجمالًا)، مرورًا بالتطورات المقبلة في الذكاء الاصطناعي (حيث يتوقَّع بعض المراقبين ظهور أشكال من الوعي قائمة على السليكون)، ووصولًا حتى إلى الاحتمال المتطرِّف لوجود حياة واعية خارج الأرض (التي يرى العديد من المفكرين أن وجودها في الكون مُحتمَل جدًّا، حتى وإن لم تكُن تلك الكائنات قد زارت الأرض بعد). لكل هذه الاحتمالات تبعات على الدراسات، خصوصًا أن رفاهنا البشري سيتطلَّب التعايش على نحو مستدام وسالِم جنبًا إلى جنب مع هذه الأشكال غير البشرية من الحياة.

ينتهي الكتاب باستعراض المسارات المحتملة مستقبلًا لدراسات الرفاه، وبوجه خاص الحاجة إلى صياغة منظورات عن السعادة أشمَل وأكثر تنوعًا فيما يتعلق بمختلف الثقافات.

وعلى أيِّ حال، وبعيدًا عن هذه التكهنات، ما دمنا نتطلَّع إلى العقود القادمة مُخطِّطين لإحراز تقدُّم في العلم، ومقتربين من دراسات أكثر عالَمية، فمن المؤكَّد أن فَهْمنا للسعادة سيواصل التطوُّر. في الواقع، فإن وتيرة التغيير سريعة إلى حدِّ أنه سينبغي تحديث هذا الكتاب في وقت قريب نسبيًّا لمواكبتها. تلك هي طبيعة مجالٍ وعالَمٍ سريعَي التطوُّر. لكن نأمل أن يكون هذا الاستعراض الموجز قد قدَّم ولو لَمْحة دقيقة للوضع الحالي؛ ليُمثِّل بذلك علامة تقدُّم في رحلتنا الباسلة نحو سعادة أشمَل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤